قراءة في أعمال والتر بنيامين وحنة أرندت الضمير الأخلاقي والأدب

قراءة في أعمال والتر بنيامين وحنة أرندت الضمير الأخلاقي والأدب

ما جدوى الشعراء في هذا الزمن العصيب؟ تساءل الشاعر الألماني هولدرلين في مراثيه وقصائده المؤثرة. كصدى لبيت هولدرلين الشعري الذي يعود لعام 1800، يتساءل والتر بنيامين عن الوظيفة الاجتماعية للذكاء، والكُتّاب الفرنسيين على وجه الخصوص بمناسبة تنامي الأخطار الرهيبة بين عامي 1937 و1940. خلال منفاه في باريس، بما أنه يهودي، أغلق النظام النازي منذ عام 1933 في وجهه كل إمكان للعمل والنشر، فكتب في فرنسا هذه الرسائل السبع حول الأدب بطلب من ماكس هوركهايمر مدير معهد البحوث الاجتماعية في نيويورك. 

ليس ثمة وجود لأعمال صغيرة في نتاج والتر بنيامين. إذا كانت مشاريع ثقافية كبيرة مثل «باريس عاصمة القرن التاسع عشر» و«بودلير هي الأشجار التي تخفي الغابة»، فإن هذه الرسائل حول الأدب هي على نحو ما شكل آخر لإنتاج عمل أدبي آخر متميز بعنوان «أفرغ مكتبتي»، حيث تشهد هذه الأعمال جميعها على ضرورة البقاء الحتمي للأدب في منظور هذا الكاتب - الفيلسوف الذي أشادت به حنة أرندت وحيّت نتاجه الفكري والأدبي.
من المؤكد أن الأمر يتعلق بعمل عدائي، لأن والتر بنيامين لم يكن يملك أي مورد مادي بسبب ظروفه كمنفي في باريس. هذه الرسائل حول الأدب دفع مستحقاتها المادية لوالتر بنيامين أبرز ممثلي مدرسة فرانكفورت، الذين كانوا هم أيضاً منفيين في نيويورك. وتتمثل مهمة بنيامين في هذه الرسائل في تقديم تقرير عن النشاط الأدبي في فرنسا. وعلى الرغم من علاقاته مع كلية علم الاجتماع، ومع مجلة أوربا التي نشرت إحدى مقالاته، وعلى الرغم من صداقته مع كُتّاب مثل أندريه جيد وبول فاليري وجون بولان الذين دعموا طلبه عام 1939 للحصول على الجنسية الفرنسية، فإنه لم يكن محاطاً سوى بوجوه متذبذبة ومترددة. بقي والتر بنيامين في الواقع يهودياً ألمانياً ماركسياً في زمن استبداد الفاشيين في المعسكر الفرنسي. كان الهدف من هذه الرسائل حول الأدب هو تحقيق أعلى درجة من البحث والوصف الدقيق لمواقف المثقفين الفرنسيين في مرحلة نقدية خطيرة، برع والتر بنيامين في إبرازها في قراءته للأعمال الأدبية والفكرية في تلك المرحلة الحساسة من تاريخ فرنسا. إن ما صدم والتر بنيامين، وكان في نظره سبباً كفيلاً بإثارة الرعب، وسط الزهرة الأدبية الباريسية الرائدة، ووسط عملية الاضمحلال هذه، ووسط هذا الضمير الأخلاقي الضعيف، هو رد الفعل الباهت ضد الفاشية الألمانية، بل أيضاً ضد إرهاصات الفاشية الفرنسية.
تميز النقد الأدبي في هذه الرسائل بلهجة فظة ونبرة لاذعة، وشجب والتر بنيامين امتثالية الكُتّاب، ومواقفهم الانتهازية، والتزامهم السطحي، وكانت هذه جراح المثقفين وأهل الفكر الفرنسيين.
تفنن بنيامين في رسم صورة كاريكاتورية للمثقفين الفرنسيين، وهكذا سخر من جون كوكتو بسبب فكره السطحي. أما كلوديل فقدمه على أنه يحب أن «يبيع للقراء أمثال يسوع». كان كاتبنا المترسل، والتر بنيامين، أقل حدة في نقده تجاه برنانوس، ودوهاميل، وليريس وباشلار أو نيزان. لكن بالمقابل، تعرض فرديناند سيلين في هذه الرسائل للسخرية بلا هوادة بسبب نثره البليد وكتاباته المترعة بسيل من الإهانات وعدميته الطبية: كتابه الموسوم بـ «تفاهات من أجل مذبحة» شكل في ذلك الوقت رسالة هجاء حارقة في معاداتها للسامية، وكان هذا الكتاب الأكثر انتشاراً والأكثر إهانة في النتاج الأدبي الفرنسي. 
السريالية لا فضل لها إطلاقاً في نظر والتر بنيامين. والأسوأ من ذلك، أنه نظر إلى كلية علم الاجتماع باعتبارها متاهة فكرية وعرين الفاشيين، حين دافع جورج باتاي عن نيتشه في مجلته «عديم الرأس»، وحين نُظر إلى روجر كايوا، وفقاً لمراسلنا والتر بنيامين، على أنه شبيه لطغمة غوبلز. نخمن أنه على الرغم من ذكائه، ولاعتبارات أيديولوجية، لم يتمكن والتر بنيامين من تقديم صورة للمشهد الثقافي في فرنسا بشكل محايد ونزيه. في الواقع، يجب قراءة هذه الرسائل حول الأدب في هامش التوجه الماركسي الثابت لمدرسة فرانكفورت، وخاصة معهد البحوث الاجتماعية في نيويورك برئاسة ماكس هوركهايمر، الذي وجه إليه والتر بنيامين هذه الرسائل. هل المقصود هو شجب امتثالية معينة للاصطفاف في خندق امتثالية أخرى؟ في ومضة من الوضوح الثاقب، لم يغفل بنيامين التقارب الأصلي بين الفاشية والشيوعية، كما يلاحظ في قراءته للكاتب هنري روجمونت. لكن بنيامين كان حذراً ومتحفظاً إزاء المادية الجدلية المقدسة وديكتاتورية الانغراس في الوقائع السوسيو - اقتصادية. 
نعرف أنه حتى إزاء هوركهايمر، انتقد بنيامين بطريقة غير مباشرة الواقعية الاشتراكية. يفضل بنيامين التجربة المعيشة والشخصية، وحين كان متسكعاً في الأوساط الباريسية وقارئاً لأعمال بودلير، اكتسب استقلاليته الفكرية، كما تلاحظ ذلك ببصيرة وألمعية ثاقبة حنة أرندت. يتذكر بنيامين بحنين جارف وبشكل نوستالجي في هذه الرسائل العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تقنياً، والمرتبط بأفول وتراجع هالة الأدب. يتعرض العمل الفني والأدب من جهة أخرى إلى المصير نفسه: إذا كان الفن السردي يميل إلى الضياع، فذلك لأن هذا الجانب الملحمي من الحقيقة، الذي هو الحكمة يموت أيضاً. لكن إيماناً راسخاً في الأدب يبعث الحياة في أعماق بنيامين حين يشرح أعمال الكاتب ليسكوف قائلاً: وهكذا فإن معنى الرواية لا يكمن في ما تقدمه لنا، في صيغة تعليمية، عن مصير شخص غريب، بل في هذا المصير نفسه، من خلال الشعلة التي تستنفد قواه، فتوقظ فينا الدفء الذي لا يمكن أبداً الاغتراف منه في مصيرنا الشخصي. 
حتى في رسائله حول الأدب، التي يعود تاريخ آخر رسالة إلى مارس 1940، وبعد أن تم إطلاق سراحه من معسكر فرنيش، وقبل بضعة أشهر من انتحاره، كانت مكتبته هي شغله الشاغل. كتبه البالغ عددها 2000، بالإضافة إلى كتب الأطفال، يجب أن تعود، كما يأمل، إلى برتولد بريخت في الدنمارك. ميله للسفر، وتجوله الاضطراري لم يبعداه عن الفيروس الممتع كهاوٍ لجمع الكتب. كتابه الموسوم بـ «أفرغ مكتبتي... ممارسة في جمع سلسلة كتب» ليس إلا بحثاً وجيزاً ولكنه ثري ومؤثر. «شغف الهاوي الجامع للكتب ... يتاخم حدود فوضى الذكريات».
 إذا كان هذا النص يعني نظام الحقيقة العامة، فهو أيضاً اعتراف بالعطاء ولا يمكن أن يكون أكثر من سيرة ذاتية لأصدقائه من الشخصيات الروائية: «بالنسبة للهاوي الحقيقي الجامع للكتب، فإن الحصول على كتاب قديم يعادل ولادة جديدة له». يقدم بنيامين نفسه باعتباره ممثلاً لحركة إحياء الفنون والآداب من خلال الاحتفاء بالكتب في مرحلة لا تتفق مع الأيديولوجيا الجماعية ذات المبدأ الاشتراكي القائل بسيطرة الدولة على جميع وسائل الإنتاج والنشاطات الاقتصادية. إذا كان من الممكن أن المجموعات العامة من المختارات الثقافية تكون أقل صدمة في الجانب الاجتماعي ومفيدة جداً في الجانب العلمي، وهو ما تفتقر إليه المجموعات الخاصة، فإن هذه الأخيرة وحدها الكفيلة بأن تنصف الأشياء نفسها. يبقى أن من بين كل الطرق للحصول على الكتب، والطريقة الأكثر مجداً، التي تحظى بالتقدير، هي أن يكتب المرء بنفسه هذه الكتب.
كان والتر بنيامين هاوياً بائساً لجمع الكتب، وأيضا كان متعطشاً للعملة الورقية، لأنه في نصوص أخرى مرفقة لحسن الحظ مع هذه الرسائل، يقدم لنا كتباً عن المرضى العقليين وروايات عن الخادمات وكتباً هجائية وكذلك كتب الأطفال، وهو الدليل على أن فضوله كان إنسانياً بقدر ما كان مسلياً، فضول طفولي وسوسيولوجي في الآن نفسه. إن الباحث والهاوي لقوائم المراجع سيكتشفان سلسلة من الكتب التي قرأها بنيامين، سواء تفاهة 1712 عنواناً، التي يشك المرء في أنها غير مكتملة. من الواضح بالتالي أن بنيامين كان مولعاً بالكتب النفيسة والنادرة وليس مهووساً بالكتب وفقاً للتمييز الذي حدده أمبرتو إيكو بخصوص هذا الموضوع «عاشق ينقل شغفه على نقيض الشخص الذي يسرق ويخفي سراً موضوع جنونه». 
  في مجلة «نيوريوركر» ، قدمت حنة أرندت، سنة 1968 هذا التكريم الرائع لشخصية ثقافية رحلت بشكل سابق لأوانه: والتر بنيامين (1892-1940). على شاكلة كافكا، وحده المجد بعد الوفاة هو ما حدث مع هذا الهامشي بسبب الصهيونية والشيوعية. يُعتبر بنيامين ناقداً أدبياً غير قابل للتصنيف، ودون أن يكون شاعراً، كان يفكر بطريقة شاعرية كما تحلل بشكل دقيق حنة أرندت. الشغل الشاغل لهذا النيزك في الآداب الألمانية والفرنسية، هذا المولع بفسيفساء الاقتباسات والأمثال، هو حقيقة العمل الفني، وأيضاً حقيقة التاريخ، الذي كان ملاكه الذي ينظر فقط إلى مجال حطام الماضي وأنقاضه، ملاك يتطلع إلى المستقبل بروح تهب من ورائه مع عاصفة التقدم. علينا أن نتذكر أن بنيامين كان يرى هذا الملاك في اللوحة الفنية الملاك الجديد التي رسمها بول كلي بألوان مائية سنة 1920.
مع الأسف، هذا الشخص الذي وصفته حنة أرندت بـ «الأحدب»، في إشارة إلى تلك القصائد الطفولية، حيث ترتبط هذه الصورة بالحماقة والحيل، عاش أوقاتاً عصيبة وكالحة حتى لحظة انتحاره، عالقاً بين حدود استبدادية لدولتين في ميناء «بو» على الحدود الإسبانية - الفرنسية، بينما كان يحاول الهرب من النازيين في يوم 27 سبتمبر 1940. إذاً استطاع والتر بنيامين تجسيد النموذج المثالي للمتسكع الباريسي، الموروث من القرن التاسع عشر، إلى حد الكتابة باللغة الفرنسية لنصوص أدبية كبيرة، فإنه كان محكوماً عليه بالترحال الافتتاحي في معظم مقالاته، لاسيما أن نصوصه نُشرت وهو على قيد الحياة حتى دون الانتهاء التام من كتابتها أو العمل على فصلها عن التوأم الغريب في إنتاجه الفكري: «بودلير» و«باريس عاصمة القرن التاسع عشر»، حيث تظهر باستمرار مجموعة من الاقتباسات. هذه المجموعة كانت بالطبع صدى لمجموعة غريبة أحياناً وغير مجدية بشكل مثير للشفقة لمتحمس مولع بالكتب وذي حس فضولي.
إن كتاب أرندت الموسوم بـ «والتر بنيامين: 1892 - 1940» هو رثاء جميل، واعتراف بارع، لاسيما حين تقارنه بكافكا، منارة غريبة أخرى، في مرحلة ما بعد اليهودية. لقد كان بنيامين مفلساً، عاش على نفقة والديه حتى عام 1930، كان نوعاً من الأبطال الذين عانوا سوء الفهم في الثقافة الفلسفية والأدبية، وفي وقت متأخر «وبعد الوفاة»، أصبح معشوق المثقفين وأهل الفكر عامة. وهذا بسبب عبقريته الأكيدة، كما توضح ذلك بحماس حنة أرندت، وأيضاً للسبب الأسوأ: كونه وريثاً متميزاً للماركسية، «على الرغم من نزعته الأرثوذكسية» حيث يستحق الاحترام والتقدير اللذين لم يحظ بهما وهو على قيد الحياة. 
لم يكن بنيامين في نهاية المطاف لغزاً، مادام عديد من المقالات والكتب المهمة تطرقت بالنقد الحصيف لكتابيه بودلير وباريس. أما النصوص التي تبدو للوهلة الأولى صغيرة، مثل «هذه الرسائل حول الأدب» و«أفرغ مكتبتي»، فهما من بين «الجواهر» التي تكفلت أرندت بقراءتها بشكل نقدي بناء. لنتأمل بالتالي عمله الموسوم بـ «الخطر الوشيك الذي يمثله لفرنسا الصمت عن شرور الاشتراكية القومية». بخصوص  الكلمة الفرنسية nationaI التي تعني الوطني «على الرغم من...» مثل هذا التحذير في عام 1939 مازال إلى يومنا هذا يمثل تياراً خطيراً، ولا يمكن للمرء بهذا الضمير الأخلاقي الضعيف أن يضيف إليها لاحقة isme لتصبح  nationalisme النزعة القومية التي كانت كفيلة بأن تغرق بنيامين لو بقي حياً إلى يومنا هذا في رهاب آخر. رهاب الهويات 
القاتلة.