رواية تعالج متاهة الإنسان الافتراضي «قطط إنستجرام»

رواية تعالج متاهة الإنسان الافتراضي «قطط إنستجرام»

تسعى الرواية العربية الجديدة إلى مواكبة الأسئلة المحايثة للتغيرات المتسارعة التي تطول العالم، ولعل من أبرزها الفجوة الرقمية أو هيمنة الوسيط الشبكي، والإقبال المتزايد عليه، وما يستتبع ذلك من انعكاسات على الإنسان العربي في شتى تجلياته النفسية، الاجتماعية، الثقافية، والاقتصادية، والذي يعتبر، في الغالب، مستهلكاً سلبياً لهذا المنتوج التكنولوجي الشبكي المتطور بوتيرة سريعة، 
لا تترك له فرصة لاستيعابها، أو التفكير في غاياتها البعيدة، وإدراك فلسفتها المؤطرة، مما يزيد من مسافة التوتر، ويعقد وضع الإنسان في متاهة الافتراض التي تتلولب حوله، وتضيِّق الخناق عليه كلما توغل فيها أكثر. 

نوّع الروائيون العرب، وبخاصة الشباب منهم، من طرق وأساليب مساجلة هذا الوضع الأنطولوجي الجديد للإنسان، وما يرتبط به من مفردات، ولغات جديدة ميزت الجيل الجديد، وظواهر إنسانية واجتماعية ونفسية محايثة لهاته التحولات السريعة، فالبعض منها تناول لغة الشباب الجديدة المهجنة، والبعض الآخر عالج العلاقات الافتراضية المضللة، وبعضها الآخر سعى إلى ابتكار شكل رقمي يساير الصيغ التفاعلية الجديدة التي يقترحها الوسيط الجديد، والبعض الآخر كشف الغطاء عن أنواع السلوكيات المنحرفة التي تولدت مع هيمنة الوسيط الرقمي التي لا تصد ولا تحدّ. 
وبقدر ما تعددت هاته المقاربات، فإنها لاتزال متواضعة وخجولة بالمقارنة مع نظيراتها في الغرب، خاصة على مستوى أشكال هاته المقاربات التي لا تختلف في جوهرها عن مقاربة بقية الـموضوعات المتقادمة. فالتفكير في موضوعات جديدة، لابدّ أن يرافقه، بالضرورة، التفكير في تقنيات وقوالب سردية جديدة، تسكب فيها السيولة المضمونية المحدثة. 
1 - مواقع التواصل الاجتماعي ... امتلاء أم فراغ؟
تكشف رواية «قطط إنستجرام» العوالم الغريبة للتواصل الاجتماعي الرقمي الذي يتم بشكل افتراضي عبر مجموعة من المواقع التي نالت وتنال شهرة عالمية متزايدة، بفضل اكتساحها المتواصل لأعداد كبيرة من البشر، حتى باتت غرفا سرية تكاد تفضي على الغرف الحقيقية في الحياة الواقعية، موضحة أن العرب انخرطوا في هاته المتاهة بإقبال قل نظيره، وبات بريق المواقع التواصلية الاجتماعية يستقطب الأجيال المتعاقبة، موظفة إياه في ما ينفع وما لا ينفع، دون معرفة خلفيات هذا الاكتساح، وانعكاسات هذا الاستهلاك غير الواعي.
الرواية تعرض حالات هذا الذوبان في الوسائط التفاعلية، وتنقل شخوصها بين العالمين الافتراضي والحقيقي، وكأنها تقارن بين فعالية الحياتين معا في نفوس الناس وسلوكياتهم وتصرفاتهم مع ذواتهم، ومع الآخرين، ومع المحيط الذي يأويهم، لتشخص برؤية برانية واعية، وحسّ سوسيولوجي، العلاقات الملتبسة بين الناس التي أفرزها الاقتحام السريع للوسيط الرقمي الجديد لعوالم الناس وحيواتهم العامة والخاصة، محدثا زلزلة في القيم، والعوائد، والمفاهيم، ومعاني الحياة.
وتتساءل الرواية بسخرية تارة، وبجد جارح أحيانا أخرى، عن الآفاق المستقبلية للعلاقات الإنسانية، ومدى قدرة الثوابت على الصمود في وجه هذا السعار الرقمي والشبكي المعقد، الذي ارتمى العرب في حضنه مثلما أغرتهم المنتجات الغربية الأخرى؛ دونما تأمل في طبيعة هذا التحول، وتفَكّر في خلفياته الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، ودون إجراءات وقائية تحمي للفرد جوهره الإنساني، وخصوصياته الاجتماعية.
 إن الرواية تستدرج قارئها بحياد نحو اكتشاف المتاهة الرقمية، وتفكيك كثير من الظواهر المحايثة لها، والمرافقة للانخراط فيها. وبقدر ما تعدد الميزات الكثيرة لهاته العوالم التي لا يمكن نكرانها فقد قلّصت المسافات، وقرّبت بين الناس في جغرافيات متباعدة، وعرّفت البشر على عوالم وحضارات وثقافات كانت مجهولة، فإنّ هناك سلبيات كثيرة تتستّر وراء هذا البريق الآسر الذي يحجب ما وراءه، وهو الأخطر، لأن المستهلك البسيط لا يرى هاته القيم المتخفية، بل يرى الواجهة المتاحة للكل. فقد تزايدت إمكانات النصب على الفرد، واستغلال ذائقته، وتفريغ طاقاته الكامنة، وخلق بدائل وقيم أخرى تعويضية تهدم كيانه الوجودي، واعتباره المعنوي. 

2 - دردشات الافتراض واجهة لنقد الواقع المعيش
تعرّي الرواية الدوامة الفظيعة التي يصرف فيها الشباب جل أوقاتهم، منخرطين في ملهاة درامية يكونون ضحاياها، وممثلين وهميين في إدارتها بوعي أو بغير وعي منهم. فإذا كان العالم الشبكيّ يضع أمام هذا الجيل من الشباب، إمكانات هائلة لتطوير ملكاتهم وتشييد معرفتهم العلمية واللّغوية، وهي إمكانات لم تكن متاحة للأجيال التي سبقتهم، فإن الشباب ينصرفون عن هاته الغنائم الموضوعة أمامهم بالمجان؛ وينصرفون عنها صوب متاهات مغرية، تؤجّجها سرّية التّواصل، وقدرتها على تلبيّة حاجات نفسية واجتماعية.
ويوظف المحكيّ الروائي هنا، هاته التفاصيل المتعلقة بالتواصل الوهميّ بين كائنات بشرية تستلف لها أسماء مستعارة، وتلبسها بروفايلات جديدة مصطنعة تراوغ بها مخاطبيها، وتراهن على جرهم إلى سخافات وحوارات فارغة ليصبح الشاب عرضة لإدمان شبكي لا يقل سلبية عن بقية أنواع الإدمان الأخرى المخربة للعقل. تقول الساردة معبرة عن هذا الوضع: «كلمة السر – مفتاح نزهتنا - كانت أشهر كلمات العولمة (سوشيل ميديا)، حيث يصافح كل منا رفيقه في الغرفة الزجاجية الأخرى في متتالية تشبه صفاً طويلاً من قطع الدومينو المستندة إلى رقائق الذاكرة المعدنية. نحاول ردم وحدتنا عبر التواصل العشوائي والمكثف بالآخرين، متسلقين جدار الفاصل الزمني والجغرافي، محملين بلذة اكتشاف جديدة لعوالم من الزجاج الذي تتكثف على سطحه ثرثرات عابرة، من ذوات تحاول ملء فراغها عبر تسويق نفسها للآخرين! أصبحت واحدة منهم، ساكني موقع إنستجرام، تسعون مليون مستخدم يدخلون بوابته كل نهار بكل ود ولهفة، وأحيانا بدافع الملل، وبتحريض عنصر الفضول، يسيرون وحدهم محاطين بعزلتهم في الوقت الذي يحاولون فيه مد جسور ضوئية مع القريب والبعيد، المعروف والمجهول، الواضح بصورته واسمه الحقيقي، والغامض بأيقونته واسمه المستعار» (إنستجرام، ص 22-23 ). 
تختار الروائـية لعالمها المتأرجح بين الافتراض والواقع، شخصيات منزوعة من واقع ما بعد الأزمة الاقتصادية التي انهارت معها القيم الإنسانية وتبدلت بفعلها التوازنات، لتزج بها في عالم غميس بالتناقضات والمفارقات، محاولة خلق بدائل وهمية.
ويتجسد ذلك في الشخصيات المهيمنة على مستوى السرد؛ ومنها شخصية الساردة التي تلفي نفسها في متاهة نفسية واجتماعية بعد تسريحها من عملها، فتلوذ بالعالم الافتراضيّ الذي يقحهما في علاقات غامضة، ويكشف لها عن عوالم شديدة التعقيد، وينبهها الفراغ إلى تأمل مستديم في التحولات البراقة التي تقع في عالم شديد التغير، كانت تصرفها عنه التزاماتها العملية. تقول على لسان السارد: «هل جال في بال خريجي ستانفورد «كيفن سيستروم» و«مايك كرايجر» قبل بضعة أعوام أن مشروعهما «إنستجرام» سيلقى هذه الشعبية الكاسحة؟ وأن إنشاء وسيط إلكتروني بصري بين الفرد والآخر سيتجاوز حدود التوقعات في زمن تتعمق فيه عزلتنا، وتزداد فيه رغبتنا بالتعبير عما يدور في أذهاننا؟ وأن كل دقيقة من اليوم هناك 215 ألف صورة ومقطع فيديو يتم عرضها عبر برنامجهما لأناس من مختلف أنحاء العالم؟!». (قطط إنستجرام، ص 28).

3 - السخرية ومفارقات الخطاب
تشيد الرواية بلاغتها وفق أسلوب متناغم، وترفع إيقاع لغتها الشعرية لتعبر عن واقع شديد الكثافة والانتحال والمسخ والزئبقية، مثلما تلوذ بمفارقات خطابية تبطن طبقات المعنى بالشفرات والرسائل الضمنية التي تنقض وتكشف وتنتقد وتؤسس في آن واحد. ويبدو ذلك، منذ عتبة العنوان الفارقة «قطط إنستجرام» التي تستعير دالا مخصوصا هو «القطط» للتدليل على كائنات بشرية، وجه الشبه المشترك بينها هو المخاتلة، والتحايل، والكمون، والتلصص.
يعادل الكشف السردي للتفاصيل المتعلقة بشخصيات تفرق بينها الاهتمامات والنزوعات الحياتية، ويجمع بينها الموقع الاجتماعي «إنستجرام»، مسألة التشخيص المفارق لدواليب التصحر الوجداني وتصلّب المشاعر والقيم الإنسانية التي تغرق فيها هاته الشخصيات منصرفة خلف بريق جذاب يأسرها ويقودها من ناصية عقلها صوب متاهات تبدو في كثير من الأحيان، غير مجدية، كما تصوّرها المتتاليات السردية التعاقبية التي تضع بين يدي القارئ بيانات وسير لشخصيات من هذا العالم الافتراضي، وكيف تضطر لتبديل أقنعتها باستمرار لتسوق نفسها في ملامح وهيئات ومظاهر جديدة، وتخلق علاقات افتراضية متجددة، تتوسع تدريجياً، في وقت تنافس فيه مواقع التواصل الاجتماعي على استقطاب أكبر عدد ممكن من المرتادين.
وتعقد الرواية من حبكاتها؛ حينما تبدّل الشخصية الساردة بروفايلها الشخصيّ، وتكشف القناع، مبرزة المسافة التي تتخذها الشخصيّتان، ومدى انعكاس ذلك على صورة الشخصية نفسها في المجتمع الواقعيّ، بعد إزاحة ستار الوجه الافتراضيّ.
تتشابك العلائق بين شخصيات الرواية المزدوجة التي تحيا بقناعين، واحد مستعار تهيم به في غرف الدردشة، وآخر حقيقيّ تعيش فيه بين الناس: أحلام، منصور, لافي، علياء، حامد، سميرة، مضاوي، سلمى، طلحة، زيد، أم جراح، خالقة مسارات متشعبة تتأرجح بين الهزل والجد، فاضحة مستوى الانهيار الذي طال المواقف والتصرفات، وتتأزم الحبكات بينها قبل أن تعرف نهايات غير متوقعة بزواج أحلام من منصور، وفوزه بالانتخابات بعد حملة دعائية سوق لها الملايين من المبحرين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، موت القط سبايس الذي قاد بشكل مستعار، أكبر حملة دعائية ضد رموز الفساد. وكأن الرواية هنا، تعلن أن منطق التحول طال التقنية والآلة دون أن يطول العقول ومستويات الوعي التي باتت تشتغل بالأساليب التقليدية نفسها، دون أن تستطيع الوسائط الحديثة تعديلها إلا على مستوى الشكل الظاهري البسيط، تاركة النزوعات والأهواء والغرائز والرغبات تتحكم في العلاقات وتهندسها على المقاس من منظور تفاعلي جديد مهدت له الوسائط، وزادت من حدته، وسخرت له طاقاتها التشعبية.