سوق الطعام بالقاهرة في عصر سلاطين المماليك

سوق الطعام بالقاهرة  في عصر سلاطين المماليك

مما لا شك فيه أن سوق الطعام يمثل مدخلاً حقيقيّاً لمعرفة الأوضاع الاقتصادية - الاجتماعية، بل والسياسية أيضاً، التي عاشها المجتمع المصري عصر سلاطين المماليك، حيث اهتمت الدولة إبان تلك الحقبة بتوفير شروط تنمية السوق من التأمينات حماية للتجارة والتجار القادمين للاتجار بالسوق من أعمال النهب. ولا غرو أن تهتم الدول في عهود قوتها بتوفير التجهيزات اللازمة لتطوير وإنعاش الأسواق التجارية / الغذائية؛ لهذا أقدمت على بناء وإعداد دكاكين وحوانيت تؤجر للتجار إلى جانب بناء وترميم الأسواق والفنادق والقيساريات في مصر خلال العصر المملوكي. 

يذكر أن هذا الاهتمام الذي حظيت به الأسواق والتجارة ككل في تلك الفترة لا يبتعد عن رغبة الأجهزة الحاكمة في تطعيم بيت المال بموارد جبائية جديدة تُضاف إلى المغارم المفروضة على الفلاحة والحرف لتلبية نفقات الحروب والترف الكاسحة, الشيء الذي لاحظه ابن خلدون وقرره في شبه قاعدة تعتمد في تحليل أهم قسط من إيرادات الدول ومداخيلها المالية، فقال: «إن معظم الجباية إنما هي من الفلاحين والتجار».
وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه من مغزى الاهتمام المملوكي بالأسواق؛ الذي انعكست آثاره فيما شهدته البلاد من رواج اقتصادي تمثلت دلائله في الأسواق الغذائية التي كان عددها كبيراً من ناحية، كما صارت تموج بالحركة والنشاط وتزدحم بأصناف البضائع من ناحية أخرى؛ لذلك عرفت الأسواق في ذلك العصر نوعاً من التخصص في نوع البضائع التي يبيعها كل منها، وهو ما يتفق مع طبيعة الحياة الاجتماعية في ذلك العصر, وتخصصنا هنا هو أسواق الطعام التي كان بعضها محلياً دائماً، وبعضها قائم على أساس السلعة التي يبيعها، والبعض الآخر أقيم وفق دوريته، وهناك إشارات على إقامتها في أماكن تجمع الناس في المناسبات والاحتفالات، ووجدت أسواق غذائية وفق الحجم السكاني للمحلة العمرانية التي يُعقد بها السوق، وأخرى أقيمت وفق مواسمها السنوية، ولا شك في أن هذه الأسواق كانت منتشرة في جميع أنحاء البلاد، وإن كانت ثمة اختلافات طفيفة فإن الشكل العام للأسواق كان واحداً. 
وقد كانت كل طائفة من التجار أو أصحاب الحرف تتجمع في مكان واحد تتسمى به وتعرف به صناعتهم، ولها حارتها وسوقها الذي كان في الغالب حول المسجد، كما كان هناك كثير من الحوانيت المنفردة في الحارات والدروب الخارجة عن الأسواق، وكان المحتسب يشرف عليها، ويتابع أصحابها وموازينهم وبضائعهم في كل أسبوع على حين غفلة منهم.
وفي ذلك يقول سعيد عاشور «إنه من محاسن هذا النظام أن التاجر لا يستطيع أن يشذ عن جيرانه أو أن يرفع أسعار السلعة التي يتجر فيها, لأن منافسه على مقربة منه؛ كما أن المشتري إن لم يعجبه نوع السلعة أو ثمنها فإنه يستطيع أن ينتقل في سهولة من متجر إلى آخر دون أدنى مشقة، أما عيوب هذا النظام فأهمها، أن الفرد إذا أراد شراء أصناف عدة مختلفة من البضائع فعليه أن يقطع المدينة كلها طولاً وعرضاً حتى يقضي حاجاته؛ لأنه لن يجد في السوق الواحد سوى نوع واحد من البضائع».
وفي هذا الإطار، كانت توجد الأسواق الدائمة، وهي داخلية محلية يقصد بها أماكن محددة داخل المدن توجد فيها الحوانيت التجارية، وفي هذه الأماكن يتخذ البائعون مواقع لعرض بضائعهم ويجتمع فيها الناس، وقد يأتي بعضهم من القرى المجاورة لعدم توافر سلع معينة في قراهم، وعادة كانت تتخذ شكل قطاعٍ سكني يسمى الحارة، أعلاه البيوت وأسفله الحوانيت، وقد انتشرت تلك الأسواق في جميع أنحاء البلاد، وهو أمر يتماشى بالضرورة مع توزيع التجمعات السكانية.

أسواق الفسطاط والقاهرة
وقد تركزت أعداد كبيرة من هذه الأسواق في مدينتي الفسطاط والقاهرة في العصر المملوكي. ويشير العبدري إلى أن باعة الطعام في هذا السوق كانوا يبيعون طوال الليل؛ لأنه قلما يكون طعام الشريف والوضيع إلا من السوق والضغط على ذلك والزحام متصل, والطرق غاصة بالخلق، حتى ترى الماشي فيها ما له هم سوى التحفظ من دوس الدواب إياه، ولا يمكنه تأمل شيء في السوق؛ لأن الخلق يندفعون فيها مثل اندفاع السيل. ويذكر أن كل رواد الأسواق لم يخرجوا من ديارهم، «إلا لشراء عشائهم من السوق، ولو كان في ديارهم طعام لاستغنوا عنه، ولو تعذر السوق عليهم لماتوا جميعاً من الجوع».
وفي نص العبدري دلالة على كثافة السكان من ناحية، كما يدل على كفاية الأسواق لغذاء هذه الكثافة من ناحية ثانية، ومن ناحية ثالثة يدل على كثرتها وكثرة ما بها من سلع وصناعات غذائية، كما يدل على أهمية الأسواق الغذائية للشعب المصري الذي كان معظم طعامه من ذلك السوق، وفي ذلك يقول المقريزي: «وحدثني الفاضل الرئيس تقي الدين عبدالوهاب ناظر الخواص الشريفة ابن الوزير الصاحب فخر الدين عبدالله ابن شاكر، أنه كان يشتري في كل ليلة من بين القصرين بعد العشاء برسم الوزير الصاحب فخر الدين بن خصيب من الدجاج المطجن والفطائر وفراخ الحمام والعصافير المقلاة بمبلغ مائتي درهم وخمسين درهما فضة يكون عنها يومئذ من اثني عشر مثقالا من الذهب، وأن هذا كان دأبه في كل ليلة ولا يكاد مثل هذا مع كثرته لرخاء الأسعار». وهذا يؤكد كلام العبدري؛ إذ إن ذلك كان مسلك الوزير الذي يملك كثيراً من عوامل الرفاهية في مسكنه، فما بالك بالرعية الكادحة؟
وقد لاحظ بعض الرحالة أن: «نساء القاهرة لا توجد واحدة منهن تقبل أن تطهو الطعام؛ ولهذا يجب على الزوج أن يشتري من الخارج الطعام الحاضر المطبوخ من محلات الطباخين والشوائين، والقليل من الناس هم الذين يصنعون طعامهم في بيوتهم».
وعلى الرغم من أن ذلك يعد تجنِّياً على النساء، فإنه بالتأكيد فيه جزء من الصواب وهو عدم الطهي لدى البعض، وربما ذلك راجع لارتفاع تكاليف إعداد الأطعمة في منازل الشرائح الفقيرة، مما كان له أكبر الأثر على نشاط الأسواق وحركة التجارة الداخلية.
وقد عبر المقريزي عن ذلك النشاط للأسواق ورواج الحركة التجارية بقوله: «كان بمدينة القاهرة ومصر وظواهرها من الأسواق شيء كثير جداً، وكفاك دليلاً على كثرة عددها أن الذي خرب من الأسواق فيما بين أراضي الوراق إلى باب البحر بالمقس اثنان وخمسون سوقاً أدركنا عامرة بها ما يبلغ حوانيته نحو الستين حانوتاً، وهذه من جملة ظاهر القاهرة الغربي، فكيف ببقية الجهات الثلاث مع القاهرة ومصر؟».
ويروي الصباح أن مدينة مصر أسواقها لا تنحصر إلا بالزمام – السجل – ويذكر أيضاً أنه لم ير في بلاد العالم الأخرى التي زارها مثل أسواق مصر «لا في البيع ولا في الشراء، ولا في الأخذ والعطاء». 
وهكذا يتضح مدى كثرة الأسواق وكثافتها في ذلك الوقت، مما يكشف عن كثرة النشاط التجاري وكثافة السكان؛ لذلك سوف تكون إشارتنا مقصورة على الأسواق الغذائية التي تشير المصادر إلى وجودها صراحة في العصر المملوكي. 
ومن أسواق الطعام الدائمة والمشهورة في مصر عصر سلاطين المماليك «سوق القصبة» الذي كان يعد من أكبر أسواق مصر الغذائية, حيث قدرت عدد حوانيته باثني عشر ألف حانوت أدركها المقريزي عامرة غاصة بأنواع المآكل والمشارب والأمتعة تبهج رؤيتها ويعجب الناظر هيئتها ويعجز العاد عن إحصاء ما فيها من الأنواع، فضلاً عن إحصاء ما فيها من الأشخاص. وكان أهل مصر من المتعاملين في السوق يتفاخرون بأنهم يلقون في كل يوم ألف دينار ذهباً على المزابل، أي الأواني والقراطيس وغيرها من الأشياء التي يقدم فيها الطعام للمستهلكين، وهذا يبرهن على التقدم الحضاري والترف الشديد والاقتصاد المتين الذي يجعل الناس يستعملون الأواني مرة واحدة «ومن أدرك الناس قبل هذه المحن فيما كانوا عليه من أنواع الحضارة لم يستكثر ما ذكرناه».

الحوانيت وأصحاب المقاعد!
ونستطيع من خلال المعلومات التي أوردها المقريزي عن هذا السوق أن نتعرف على بعض التطورات التي لحقت بالحياة الاجتماعية في مصر آنذاك، فمع سعة هذا السوق آنذاك، فإنها كانت تضيق بالباعة فيجلسون على الأرض أمام الحوانيت في طول القصبة بأطباق الخبز وأصناف المعايش ويقال لهم «أصحاب المقاعد»، ويبدو أن هؤلاء الباعة كانوا مصدر قلق وإزعاج لأصحاب الحوانيت التي يقفون أمامها أو قريباً منها، علاوة على تضييق الشوارع وقلة بيع أصحاب الحوانيت؛ لأنهم قد يبيعون الأصناف نفسها من البضائع التي يبيعها أصحاب الحوانيت، ومن الطبيعي تساهلهم في الأسعار لجذب المشترين؛ لأنهم لا يتكبدون نفقات امتلاك حانوت أو استئجاره مما تسبب «كل قليل في تعرض الحكام لمنع إقامتهم في السوق». 
وكان «سوق باب الفتوح» واحداً من أشهر أسواق الطعام في مصر عصر سلاطين المماليك، فقد كان معمور الجانبين بحوانيت اللحامين والخضريين والشرايحية وغيرهم، وهو من أجل أسواق القاهرة وأعمرها، وكان «يقصده الناس من أقطار البلاد لشراء أنواع اللحمان الضأن والبقر والماعز ولشراء أصناف الخضراوات». 
وفضلاً عن هذا, كان سوق حارة برجوان من أعمر أسواق القاهرة الغذائية الدائمة في الفترة قيد الدراسة، وكان من الضخامة والتنوع من أنواع البضائع والأطعمة بحيث «لا يحتاج ساكنها إلى غيره»، ويمكن الاعتماد عليها في سد حاجة الناس من كل أصناف المتاجر, وكان هذا السوق «معمور الجانبين بالعدة الوافرة من بائعي لحم الضأن السليخ وبائعي اللحم السميط وبائعي اللحم البقري، وبه عدة من الزياتين وكثير من الجبانين والخبازين واللبانين والطباخين والشوائين والبواردية والعطارين والخضريين، حتى أنه كان به حانوت لا يباع فيه إلا حوائج المائدة من البقل والكراث». وكان الناس يمرون بتلك السوق بمشقة بسبب الزحام الشديد، ويبدو أنه كان مميزاً عن غيره من الأسواق، إذ يقول فيه المقريزي: «وأدركت سوق حارة برجوان أعظم أسواق القاهرة ما برحنا ونحن شباب نفاخر بحارة برجوان جميع حارات القاهرة».

سوق بين القصرين
ويعدد المقريزي مزايا خط بين القصرين، واصفاً سوقه الغذائية قائلاً: «ولقد أدركنا في كل ليلة من بعد العصر يجلس الباعة بصنف لحمان الطيور التي تقلى صفاً من باب المدرسة الكاملية إلى باب المدرسة الناصرية؛ وذلك قبل بناء المدرسة الظاهرية المستجدة, فيباع لحم الدجاج المطجن ولحم الإوز المطجن كل رطل بدرهم وتارة بدرهم ورُبع الدرهم, وتباع العصافير المقلية كل عصفور بفلس حساباً عن كل أربعة وعشرين بدرهم، والمشيخة تقول أنا حينئذ في غلاء، لكثرة ما تصف من سعة الأرزاق ورخاء الأسعار في الزمن الذي أدركوه قبل الفناء الكبير. ويدلل على استمرار الرواج الاقتصادي في تلك السوق بواقعة فعلها شخصان عام 786هـ، مفادها أنهما قاما بسرقة عشرين بطيخة خضراء وبضع وثلاثين شقفة جبن، والشقفة تتراوح بين نصف رطل ورطل، وبعد أن أبدى تعجبه قال: فانظر أعزك الله إلى بضاعة يسرق منها مثل هذا القدر ولا يفطن به من كثرة ما هنالك من البضائع ولعظم الخلق...».
وهو هنا يشير إلى سمة أخرى من السمات الوظيفية لسوق الطعام آنذاك، ألا وهي أن بعض الأسواق كانت تشرع في إعداد الطعام بعد منتصف النهار؛ لتستعد لعودة الناس من عملهم، وشراء ما يحتاجون إليه من جميع أنواع الطعام المعد للبيع. وكان سوق البندقانيين كبيراً معمور الجانبين بالحوانيت وفيه كثير من أرباب المعايش المعدين لبيع المأكولات من الشواء والطعام المطبوخ وأنواع الأجبان والألبان والبوارد والخبز والفواكه، وكثير من بياعي الفقاع, والقول نفسه يقال على الحسينية التي كانت تضم ثماني حارات «وبها أسواق عدة».
وقد وجدت أسواق غذائية اشتق اسمها من نوع الحرفة أو السلعة التي تباع فيها, مثل: سوق الشوائين الذي كان يسمى قبل العصر المملوكي سوق الشرايحيين ومازال يعرف بذلك حتى سكن فيه في العصر المملوكي بالتحديد في حدود سنة 700هـ عدد من بائعي الشواء، فنسب إليهم وعرف بالشوائين، ويضيف ابن دقماق إلى ذلك أن هذا السوق كان فيه مطابخ الرواسين ومسلخ الغنم الذي يستخدم في سد حاجة أصحاب الحوانيت وروادها من لحوم الشواء والرؤوس.
وهنا يجب أن نشير إلى حقيقة مهمة وهي أن التخصص في ذكر الاسم لا يعني أن ذلك الاسم جامع مانع، بمعنى أن سوق الشوائين مثلاً كان لا يباع فيه غير الشواء، أو لا يوجد بيع للشواء في مكان غيره؛ فقد تكون هناك حوانيت للشوائين في أسواق أخرى، وقس على ذلك, ولكن يغلب على سوق الشوائين كثرة حوانيت الشواء فيه، ويؤكد هذا المعنى ما ذكرناه عن شمول بعض الأسواق الدائمة لتلك الحرفة, وهناك أيضاً نص معاصر لعصر السلاطين المماليك يثبت ما تناولناه في هذه النقطة، إذ يقول المقريزي إنه شاهد في السوق المذكور «كثيرا من الحوانيت يجلس ببعضها عدد من الجبانين لبيع أنواع الجبن المجلوب من البلاد الشامية، وأدركنا هناك من ذلك شيئاً كثيراً يتجاوز الحد في الكثرة».
وعند حديثه عن سوق السلاح قال: «إنه كان يختص ببيع السلاح وعلى بابه من الناحيتين حوانيت تجلس فيها الصيارف طوال النهار، فإذا كان عصريات كل يوم جلس أرباب المقاعد تجاه حوانيت الصيارف لبيع أنواع من المأكل»، وهذا أمر طبيعي، وهو وجود الطعام في الأماكن التي يوجد فيها الناس أينما كانوا. 
وكما يبدو ففي القاهرة سوق مركزي للفاكهة وهو «دار الفاكهة» أو «دار التفاح» الذي كانت ترد إليه الفاكهة التي تنتجها البساتين المصرية والفواكه المستوردة من بلاد الشام، ومن هذا السوق المركزي يتم توزيع الفاكهة على أسواق القاهرة وضواحيها, وقد بُني هذا السوق بعد سنة 740هـ ثم بنيت حوله حوانيت عدة لبيع الفاكهة التي كان الباعة يبيعونها في شكل بديع وحولها الزهور، وخارج باب النصر من ظاهر القاهرة تقع «سويقة اللفت» التي كانت تشتمل على حوانيت عدة يباع فيها اللفت والكرنب ويحصل منها إلى سائر أسواق القاهرة، وكان «سوق الزياتين» مخصصاً لبيع مختلف أنواع الزيوت التي يحتاجها أهل المدينة.
ويشير ابن دقماق إلى «سوق السماكين» بأنه يقع ما بين سوق سويقة المغاربة ومربعة الفاكهين، وتباع فيه الأسماك الطازجة والمملحة وكانت تصله أسماك البحر المالح في فصل الشتاء، وتجهز وترسل إلى الأسواق من هناك. ومن الأسواق الغذائية التي اشتق اسمها من نوع السلعة أيضاً سوق خان الرواسين الذي عرف بهذا الاسم نتيجة وجود خانٍ به يعمل فيه الرؤوس المنمورة وكان فيه 20 حانوتاً مليئة بأصناف الأطعمة. و«سوق الدجاجين» وكان مكانه مما يلي سوق الشماعين إلى سوق قبو الخرشتف، وكان يباع فيه من الدجاج والإوز «كثير جليل إلى الغاية»، كانت تباع فيه بحراج، أي عن طريق المزايدة والدلالة، وهو ما يعكس ازدهار صناعة التفريخ التي كانت تمد تلك الأسواق بكميات كبيرة من مختلف أنواع الطيور. و«سوق الغلال» ببولاق الذي كان يوجد فيه جمع غفير من الناس يتناقشون في الأسعار بقرب البواخر المحملة، التي كانت متلاحمة بعضها بجانب بعض. ويقول جستيل «إنها مليئة بجميع السلع على أنواعها التي يمكن أن تتخيلها، فهي مجمع السلع التي تأتي بها المراكب والسفن من جميع نواحي البلاد».
وقد اكتسب السوق الغذائي الذي عرف باسم «سوق الحلاويين» اسمه من الحلوى المصنوعة من السكر, وكان لهذا السوق مواسم يزدهر فيها مما يلقي بعض الضوء على جوانب الحياة الاجتماعية آنذاك, ففي موسم شهر رجب ونصف شعبان وموسم عيد الفطر، الذي كان الاستعداد يبدأ له من منتصف شهر رمضان, كانت تصنع تماثيل من الحلوى على هيئة الحيوانات المختلفة عرفت باسم العلاليق مفردها علاقة؛ «لأنها تعلق بخيوط على أبواب الحوانيت», وفي هذه المواسم كانت أسواق القاهرة والأقاليم تمتلئ بهذا الصنف من الحلوى.

أسواق مؤقتة
وفي جانب آخر، أقيمت بعض أسواق الطعام تبعاً لمواقعها النسبية بصورة مؤقتة في أماكن تجمعات الناس في مواقع العمل من أجل بناء جسر على نهر النيل أو شق ترعة أو بناء جامع أو مدرسة أو في ميادين الحروب، وكانت مهمة هذه الأسواق الثانوية إمداد من في مواقع العمل بما يحتاجونه من الطعام, حيث يفترش الباعة الأرض ليعرضوا بضائعهم من مأكولات ومشروبات للعاملين في مواقع عملهم، وينتهي السوق بانتهاء الغرض الذي يقام من أجله, ففي سنة 723هـ، على سبيل المثال، ارتفع منسوب الفيضان وأغرق بعض الأراضي بسبب تقطع الجسور، فرسم السلطان بعمل جسر يحجز الماء عن القاهرة لئلا تغرق في نيل آخر، فاستدعى الأمراء فلاحيهم من النواحي ونصب كل أمير خيمة وخرج برجاله للعمل، فكان لزاماً توفير الطعام للعمال وغيرهم، فنصبت «لهم الأسواق حتى اكتمل الجسر في عشرين يوماً».
وفي صفر سنة 818 هـ كثر النداء في كل يوم على أصناف الناس بخروجهم لعمل جسر لمنع الماء فخرج الناس للعمل تباعاً, والمنادي في كل يوم ينادي على العامة بالعمل فخرجوا وخلت أسواق القاهرة وظواهرها من الباعة، فغلقت القياسر ونصبت أسواق الطعام في مواقع العمل وعملت المأكولات لتكفي حاجة الناس من الطعام.
ويسوق لنا ابن إياس في حوادث سنة 922هـ مثالاً على أسواق الطعام التي كانت تقام في ميادين الحروب، إذ يروي أنه وردت الأخبار في ثاني عشر ذي الحجة من العام المذكور بأن ابن عثمان وصل بمعسكره إلى العريش، فرسم السلطان بحفر خندق من الجبل الأحمر إلى آخر غيطان المطرية وزوده بالمدافع، ثم إن السلطان رسم للمحتسب  بأن «ينادي في القاهرة للسوقة وأرباب البضائع من الزياتين والخبازين والجبانين واللحامين بأن يتحولوا ببضائعهم وينشئوا هناك سوقاً ويبيعوا على العسكر الذي هناك».
كما أقيم سوق موسمي بشكل مؤقت مستغلاً تجمع الناس لمناسبة معينة مثل الاحتفال بالموالد، مثل مولد إسماعيل الإنباتي ومولد الشيخ سويدان المجذوب، ويقول ابن إياس إنه في مثل هذه الموالد تضرب الخيام أسواقاً بدكاكين ويخرج الناس في الفرحة عن الحد، ويظل المولد ليالي متوالية يعظم فيها البيع والشراء.
جدير بالذكر هنا الإشارة إلى وجود أسواق سنوية أقيمت في مصر دعمت حركة التجارة الداخلية المتمثلة في أسواق البلاد وما حوت، وكانت تلك الأسواق السنوية تعقد للتجارة العالمية الآتية من بلاد الشرق إلى أسواق أوربا، وظفرت برواج واسع وحققت أرباحاً خيالية للمشتغلين بها منذ شحنها في موانئ التصدير الآسيوية والإفريقية المطلة على المحيط الهندي حتى يتم توزيعها في أسواق أوربا.
وكانت التجارة العالمية في العصر المملوكي تسلك طرقاً برية وبحرية عدة من مصادرها الأصلية في بلاد الشرق حتى تصل إلى الأسواق الأوربية عبر محورين رئيسين يتمثلان في سواحل مصر الشمالية والشام، وكان الحجم الأكبر من هذه التجارة التي تعقد لها الأسواق السنوية يسير عبر طريقين يؤديان إليهما: طريق البحر الأحمر إلى السويس ومنها للقاهرة بالقوافل، ثم تنقل على ظهر السفن بين فرعي النيل إلى رشيد ودمياط وإلى الإسكندرية، إما بالملاحة في ترعة كانت تصل ما بين فرعي النيل، وإما على ظهور الدواب. والطريق الثاني من الخليج العربي والفرات إلى حلب ومنها لموانئ الشام المطلة على شرق المتوسط، وكانت سلع التجارة متعددة ومهمة بالنسبة للأوربيين.

بياض العامة!
ولم تكن فائدة مصر من مرور التجارة الشرقية بأراضيها مقصورة على الضرائب الفادحة، التي كان المماليك يجبونها عليها، بل إنها كانت تعمر الأسواق في القاهرة والإسكندرية ودمياط ورشيد والبلاد الأخرى التي تمر عليها، فتنشط حركة البيع والشراء ويثري التجار بدورهم، وقد نعم هؤلاء بالغنى والثروة أيضا، حتى أصبح لهم مركز ممتاز بين طبقات الشعب، وبطبيعة الحال لم تصل مكانتهم تلك إلى مكانة جندي من جنود المماليك مهما بلغوا من الثراء، حتى كان كبار تجارهم يطلق عليهم «بياض العامة» تميزاً لهم عن فئات الرعية الأخرى، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية وفرت تلك الأسواق التي كانت تعقد في بلاد السلطنة المملوكية ما تحتاجه أسواق البلاد الأساسية من سلع ومتاجر البلاد الأخرى، ونتج عن كل ذلك تفاقم حركة النشاط التجاري من بناء الخانات والفنادق والأسواق من ناحية ثالثة. ففي الخانات والفنادق ينزل التجار ببضائعهم وسلعهم ودوابهم ويخزنون بضائعهم في المخازن والحواصل، وتؤدى لهم الأعمال المصرفية، ويفد عليهم تجار التجزئة لشراء حاجياتهم من البضائع التي يعرضونها للبيع في حوانيتهم، مما زاد من نشاط التجارة الداخلية وتدعيمها بمورد نقدي وآخر عيني.
ومما سبق يتضح أن سوق الطعام مؤشر مهم وصادق على مدى تقدم المجتمع ودرجة ما يتمتع به من استقرار اقتصادي وسياسي واجتماعي, حيث ينشط السوق بكامل وجوه نشاطه ويصير كخلية النحل كلها حركة دائمة في جميع الاتجاهات والجوانب.