ثيمتا عرضين مسرحيين في لبنان تحرر المرأة وتعنيفها... رؤية سنوية

ثيمتا عرضين مسرحيين في لبنان تحرر المرأة وتعنيفها... رؤية سنوية

 شاءت المخرجتان اللبنانيتان لينا أبيض في عرض «بس أنا بحبك»، وعلية الخالدي في عرض «عنبرة»، أن تكشفا عن أحوال النساء على هذه الخشبة، فيجسد الأول سير النساء، ويكشف عن مسار حياتهن وهن يعانين التعرض لتعنيف السلطة الذكورية، ومازلن يدرن في دائرة مغلقة، ويجسد الثاني سيرة امرأة لبنانية رائدة ومناضلة.

قدمت المخرجة المسرحية اللبنانية لينا أبيض عرضاً مسرحياً قاسياً، وموجعاً، هو عرض نساء يسردن سير حياتهن في علاقاتهن مع السلطة الذكورية، وعذاباتهن وعجزهن أمام هذه السلطة. في هذه المسرحية شاهدنا كيف تتعرض المرأة للتعنيف من قبل الزوج، وكيف تستدرك وتغفر له، لأنه يردد على مسامعها «بس أنا بحبك». بدأ التعبير عن تفاصيل المعاناة، من عبارات كتبت بالطبشور الأبيض على حوائط صالة العرض السوداء، فنقرأ بعضها، ثم نسمع بعضها الآخر بصوت الممثلات، حتى لا يفوتنا شيء من هذه التعابير المرئية المسموعة.
جمعت لينا أبيض نصها من حكايات نساء معنفات، وجسّدتها الممثلات بأداء سردي تنوع بتنوع قصص العنف الممارس على المرأة: فالأولى سردت معاناتها من حجز حريتها ومنعها من الخروج من المنزل، وحكت عن الحب الذي كانت تكنه لزوجها، وعبَّرت عن تعرضها للضرب والتعنيف من زوجها قبل أن تتزوج منه، ولكنها تزوجت منه، وفيما بعد، ندمت على هذا الزواج.
 والثانية استغلها زوجها اقتصاديا، فاضطرت لبيع أواني المطبخ لتؤمِّن طعام عائلتها. والثالثة التي تقيم في كندا كان زوجها يعاقبها ويصفعها لأنها تهمل طلباته ولا تنفذها. والرابعة تسرد كيف كان زوجها يضربها، ثم يسترخي على كرسي، ويدخن «النارجيلة».
أدت الممثلات الأربع أدوار هذه النساء عبر سردية مؤلمة تقارب العنف اللفظي الذي أحسسنا به ونحن نستمع إليهن، ونشاهد تعابير وجوههن التي أتقنت التعبير عن الوجع عبر أداء الجسد الباكي من ألم العنف الممارس عليه، من قبل هذه السلطة الذكورية الغائبة بكينونتها، والحاضرة بفعلها. كما أدتها الممثلات من خلال حركة دائرية تتكرر وتتواكب مع فعل السرد في هذه الدوائر المشظاة، والتكرار هو سمة من سمات مسرح العبث التي تدل على عبثية الحركة، والتي تشير إلى الدوران في الفراغ، واللاجدوى.
تحركت هؤلاء الممثلات على الخشبة بمشهدية سينوغرافية لافتة، صنعت لينا أبيض أدواتها من شظايا صحون صُفت بأشكال هندسية جميلة ولكن مسننة ومؤذية، وشكلت أربع دوائر مقفلة، يختلف قطر كل منها باختلاف حجم حالة العنف الممارسة على كل امرأة تدور في هذه الدائرة: فمنها الضيقة ومنها الأكثر اتساعاً. والثلاثة بقين يتحركن ضمن الدائرة المقفلة باستثناء الرابعة، فقد خرجت منها لأن زوجها قد توفاه الله.
«بس أنا بحبك» عرض جسدت فيه لينا أبيض والممثلات مي أوغدن ودارين سميث وديمة شمس الدين قضية النساء، فسردت كل منهن حكاية معاناة وتعنيف وأدتها بأداء واقعي، ينقل إلينا الحالة فنعايشها من دون أن نندمج بها، وكعادتها تجعلنا لينا أبيض نعبر إلى العرض ونخرج منه، ونحن نفكر.

مسرحية «عنبرة»
إزاء سير هؤلاء النساء المعنفات، نتناول عرضا قدمته المخرجة المسرحية علية الخالدي لكي تمسرح سيرة امرأة لبنانية، هي من السيدات المناضلات اجتماعياً وسياسياً وفكرياً، اللاتي برزن في بدايات القرن العشرين. وتعتبر رائدة من رائدات دعاة تحرر المرأة في العالم العربي. ولدت في بيروت، في بيت سياسي متنور، دعم هذه المرأة. تتلمذت على يد الرائدة النهضوية جوليا طعمة دمشقية. كتبت مقالاتها السياسية وهي في السادسة عشرة من عمرها، ترجمت «الإلياذة» إلى العربية، ثم انصرفت إلى العمل الاجتماعي التوعوي للمرأة من خلال ترؤسها لنادي الفتيات المسلمات. تزوجت من شاب فلسطيني آمن بفكرها، ودعمها بمطالبتها بحرية المرأة. عاشت في القدس ثم انتقلت إلى لبنان سنة 1948. 
من هذه السيرة بنت عليّة الخالدي نصها «عنبرة»، مستندة إلى دراماتورجيا قامت بها المخرجة نورا السقاف. وقد تمكنتا من أن تستلا من هذه السيرة ما يحتمل أن يشكل حدثاً درامياً. سعت علية ونورا إلى أن تنأيا بالدراماتورجيا عن الاستغراق في السردية، بل وعملتا على الكشف عن كل ما هو متغير وتطويري في مسيرة هذه المرأة التي سعت إلى تغيير واقعها وواقع النساء في ذلك الزمن. كما كشف النص عن البيئة الاجتماعية وبعض العادات والتقاليد التي كانت تمارس خلال تلك المرحلة في بدايات القرن العشرين.
عالجت علية الخالدي إخراج السيرة بما يتلاءم ورؤيتها الفكرية، استعانت بممثلين منهم من يخوض تجربته الأولى في التمثيل، مثل نزهة حرب التي كشفت عن قدرة أدائية لافتة، وكان لحضورها على الخشبة وحركتها تجسيد ممتع ينسجم مع حراك عنبرة الشخصية المتحركة الديناميكية التي لا تكل ولا تتعب. كذلك فادية التنير، الممثلة صاحبة التجربة الأدائية الغنية في مسرح الدمى، كان أداؤها دور الأم يدل على قدرة لافتة في تنويع الأداء بين الكوميدي والتراجيدي والموقف الصامت. 
وتمكنت كذلك علية من تحويل قدرة عبدالرحيم العوجي الأدائية من النوع الأدائي الكوميدي إلى الأداء المتمكن في المواقف الجادة التي يجب أن يعبر عنها، وإن استعاد في بعض المشاهد اعتياده على الأداء الكوميدي.
 ثم اعتمدت المخرجة على الشاشة لتعبر من خلالها عن مسار أحداث توازي الأحداث التي تتم على الخشبة، ولتشكل حيزاً مشهدياً يكشف عن قلق عنبرة وتمردها وكلامها عن الحجاب ورفضها له، ولتظهر الجرأة التي تتمتع بها عنبرة حين قابلت حبيبها عبدالغني العريس، التي تدل على تحديها  للتقاليد، وإن كان ذلك يجري في السر ويتم خلف الكواليس على الشاشة. 
كما استخدمتها للتعبير عن مناقشات الرجال التي تدور حول حجاب المرأة، ولكي تمنح ردات فعل المجتمع الذكوري الرافضة لتطور المرأة ولمطالبتها بحريتها حيزاً كبيراً. وعلى حيز الخشبة المخصص للعرض اشتغلت أحداث متوازية عدة، هـــــنا الأم التي تشكو من رفض ابنتها للزواج، وفي الزاوية اليمنى من الخشبة استخدمت عنبرة الحيز لتختلي بنفسها، وتسرُّ ببعض أسرارها لصديقتها، وفي هذه الزاوية تكتب وتقرأ من كتاب قاسم أمين «تحرير المرأة». كل هذه الأحداث جرت بإيقاع سريع، لأن علية أرادت أن تعـــــرض أمامنا محطات مهمة عدة من حــــياة هذه المناضلة، والمحرضة على الوعي، والداعية لتحرر المرأة، وإن كانت قد فوتت بعض المحطات المهمة أيضاً من حياتها.
يكشف هذا العرض عن الرؤية الفكرية التي تسعى إلى تجسيدها كل من علية الخالدي ونورا السقاف، وقد انحازت نحو إبراز جانب مهم من حياة عنبرة سلام الخالدي (1897-1986)، هو اهتمامها بالشأن العام، ولكن هذا الكشف عن مسيرتها لم يقتصر فقط على اهتمامها بالشأن العام على حساب وضعها الخاص، فعنبرة سلام الخالدي، لم تسع فقط  إلى تحدي التقاليد بالعمل على توعية المرأة والاهتمام بالشأن السياسي والمطلبي، ولكنها بادرت إلى تعزيز كيانها كامرأة تحب وتعشق، فتقابل حبيبها في زمن كانت المرأة فيه تختبئ وراء المشربية، حيث كانت ترى ولا تُرى بضم التاء، وبلغت جرأتها وقناعتها بضرورة التمتع بالحرية، أن خلعت الحجاب في مؤتمر بالجامعة الأمريكية أمام كل الحضور، في مشهد مسرحي جميل امتلكت فيه نزهة/عنبرة الخشبة.
في الختام، أقول إني اخترت هذين العرضين لأشير إلى معاناة المرأة التي حاصرتها الدوائر المقفلة كما في عرض «بس أنا بحبك»، وإلى واقع المرأة ودورها في توعية الذات والتحرر من القمع كما في عرض «عنبرة». ففي العرض الأول «بس أنا بحبك» تتحمل المرأة وتتعرض للتعنيف، وتعجز عن اتخاذ قرار يحررها من السلطة الذكورية، وتستسلم لدى سماعها كلمته «بس أنا بحبك»، عبرت عنها لينا من خلال هذه الدوائر المشظاة المقفلة من خلال سرديات حية وموجعة. بينما عملت عنبرة سلام الخالدي ابنة أوائل القرن العشرين على تحدي عادات وتقاليد اجتماعية قاسية وقامعة للمرأة، فتواعد حبيبها وتخلع النقاب، ونعزو هذا الموقف لسببين: أولهما، لوعيها بكينونتها وإيمانها بذاتها، وثانيهما لدعم السلطة الذكورية لها، أي دعم الأب لمواقف ابنته. لقد عبرت علية الخالدي ونورا السقاف عن حياة امرأة حفرت عميقاً في الوعي وفي الثقافة وفي الصحافة وفي الترجمة، وفي التعبير عن حبها من خلال أدوات مسرحية متناغمة مع الموسيقى والغناء والأداء.