أن تعشـق العزلـة إدوارد هوبر... الواقعي حد الكآبة

أن تعشـق العزلـة إدوارد هوبر... الواقعي حد الكآبة

في عمر العشرين أنجز أعمالاً مبتكرة أضحت بعد سنوات قليلة أعمالاً ذات صبغةٍ مختلفة وإحساسٍ جديد، عبَّرت بعمق عن الحياة الأمريكية الحديثة. تبدو مواضيعه مناظر مألوفة لكنها فريدة في عزلتها وغموضها، الذي يتمثل في أغلب لوحاته إلى واقعٍ موازٍ لما يعيشه الفنان ويفرضه الواقع.

 يكمن سر خصوصية هوبر في توظيفه المتقن للعادي والمعيش واليومي، ومزجه بصبغة المشاعر والأحاسيس الجياشة للعزلة والوحدة والسكون، وقدرته على مناجاة الروح، ومن أهم سماته الفنية معالجته الدقيقة والمــعبرة للضوء.
تقول الكاتبة والمسرحية الأمريكية مايا أنجلـو: «الناس ينسون ما قلت وما فعلت، لكنهم لن ينسوا كيف جعلتهم يشعرون». هذه المقولة تنطبق تماماً على أعمال فنان أمريكي معاصر، حيث يعد واحداً من أهم وأصدق رواد المدرسة الواقعية في الفن الأمريكي الحديث، إذ يلعب الخيال والشعور النفسي المتفاوت والرموز العاطفية المؤثرة مكاناً مناسباً للركض في لوحة إدوارد هوبر Edward Hopper الواقعي حد الكآبة، الأسطوري في بساطته.
قد تكون مواضيعه عاديةً وقد تبدو للوهلة الأولى مناظر مألوفة، لكنها فريدة في عزلتها وغموضها الساكن/ المتحرك، الذي يتمثل في أغلب لوحاته إلى واقعٍ موازٍ لما يعيشه الفنان ويفرضه الواقع المعيش الجديد للحياة الأمريكية الجافة في ذلك الوقت، فكل أعمال هوبر لوحة واحدة وفكرةً واحدة، لكنها ذات إطارٍ متعددٍ ومتشابك مع ذوات الآخرين وأدوارهم الثابتة والمعبرة بعمق وسكون.
تعدد القراءات لهذه اللوحة يكمن في تعدد إيحاءاتها ودلالاتها الرمزية برغم واقعيتها وإسقاطاتها، بل بتداخلها مع أنساق مختلفة من التعبير الفني الذي يُعبئ الشعور بالعزلة والغربة والغيبية في صمتٍ مميت، «فإن تعشق العزلة فهذا يعني أن العالم لم يعد مكاناً مناسباً بما فيه الكفاية بالنسبة لك»، على حد تعبير هوبر نفسه. 
ولد الرسام إدوارد هوبر عام ١٨٨٢ في إحدى المناطق المجاورة لمدينة نيويورك، ما مكنه من الالتحاق بمدرسة نيويورك للفنون والتصميم، التي التقى خلالها ويليام ميريت تشيس وأستاذه الأول الفنان روبرت هنري، وهو أحد آباء المدرسة الواقعية الأمريكية، بينما أثَّرت بعض نظرات أقرانه له في بداية ممارسته للفن حيث اختلاف لوحته، مما طبع صورة من السخرية والتهكم جعلته ينزوي بعيداً داخل أعماله الفنية، مفضلاً العزلة كأعمق وأمهر تفصيل لما تعبر عنه، الذات ليقول: «لا أعتقد أنني تعمدت في وقتٍ ما أن أرسم المشهد الأمريكي، إنني أحاول رسم نفسي»، ولم تعرف صالات العرض الفنية الكبيرة في نيويورك وأوربا إدوارد هوبر، ولم يكن اسماً معروفاً حتى العقد الرابع من عمره، ولم تكن لوحاته تباع إلى أن أقام معرضاً فنياً في صالة «رين» بنيويورك عام 1924، ولم يتوقع هوبر نفسه أن تباع في هذا المعرض كل لوحاته.
اضطر هوبر للعمل قبل ذلك لكسب عيشه، كما يقول، مما حدا به إلى الرسم التجاري في مجلات عدة، إلا أن ما عبرت عنه رسومات تلك المرحلة تكرر في أعماله الفنية فيما بعد، كما أن ثمة نحاتاً ماهراً ترك منحوتات غاية في الجمال والروعة والحرفية الفنية بين عامي 1918 و1928، صوَّرت وجوهاً وتشكيلاتٍ وتفاصيلَ عميقةً ومتباينة في أكثر من عشرين منحوتة، لاعباً على فكرة العتمة والنور ومتأثراً بذلك العصر الجديد في أمريكا، عصر ناطحات السحاب التي هندست السماء بسرعة، إلى جانب ذلك قدم هوبر رسومات مائية هائلة حتى عام 1939.

في عمر العشرين
في عمر العشرين أنجز هوبر أعمالاً مبتكرة ومختلفة، أضحت بعد سنوات قليلة أعمالاً ذات صبغةٍ مختلفة وإحساسٍ جديد، عبَّرت بعمق عن الحياة الأمريكية الحديثة، وربما عبرت بواقعيةٍ شديدة عما يجيش بصدر الرسام من غربة يشعر بها أكثر الأمريكيين في ظل مجتمع مادي استهلاكي جاف، كما في لوحته الأشهر «صقور الليل» التي تعد واحدة من أهم أعمال العشرينيين والأكثر تعبيراً عن خصوصية هوبر الفنية، التي راح البعض يشبهها بـ«طرقات» دي كيريكو الشهيرة، و«المقهى الليلي» للعالمي أيضاً فان جوخ.
لا شك في أن هوبر تأثر بعموم التجربة الفنية الإبداعية الكبيرة في أوربا، خصوصاً في فرنسا، التي عاش فيها بعض سنوات عمره، وإن كان قد قلل من شأن تأثير هذه السنوات، فإن تلك الطريقة التي اعتمدها هوبر في إعادة تقديم المشهد الأمريكي كانت واضحةً في ارتباطه ومقاربته لتصوير الحياة الحديثة في أعمال إدوارد مانيه ودييجو فيلازكيز وفرانشيسكو غويا، بالإضافة إلى تأثير الأدب الفرنسي واحتكاكه بأعمال المدرسة الانطباعية، وإن لم تجذبه أعمال التجريبيين والتكعيبيين التي تأثر بها معظم أبناء جيله.
يرى الباحث والمحلل الأمريكي جي إيى وارد أنّ لوحات إدوارد هوبر إيجابية الإحساس الطبيعي بصمت غير طبيعي، إذ لا مجال للضوضاء في هذه اللوحات، فهو ينجح كثيراً في استنطاق اللون وإعادة إنتاج الحالة الشعورية للمشهد الطبيعي الواحد، والتي تفتح باب التأويل على مصراعيه أمام الخطوط والأشكال العريضة والباهتة التي تتخلل الإيقاع بشاعرية ومكر، وكأنه يتجسس على حياة الآخرين من بعيد دون أن ينتبهوا ليرسمهم في لوحته شخصيات مبتورة وصادمة وبائسة.

سمات فنية
يكمن سر خصوصية هوبر في توظيفه المتقن للعادي والمعيش واليومي، ومزجه بصبغة المشاعر والأحاسيس الجياشة للعزلة والوحدة والسكون، وقدرته على مناجاة الروح بأسلوب فني بسيط ومتعمق يتجاوز فيه الفنان حدود الحيز أو المكان الجغرافي على حدود اللوحة لما هو أبعد، ومن أهم سماته الفنية معالجته الدقيقة والمعبرة للضوء، حيث تبهرك مشاهد الضوء الصارخة كما في لوحته سالفة الذكر «صقور الليل»، التي تصور مطعماً ليلياً في أحد شوارع نيويورك، وليس ثمة عتمةٍ وشعور بالعزلة أكثر مما توحيه تلك التفاصيل الداخلية التي تبدو كخلفية عريضة للأحداث البسيطة، فضلاً عن علاقة اللوحة بفكرة «الضوء والنور»، التي تبدو جلية وشاسعة الرؤية، وكذلك علاقة الشخوص في صمت مطبق مـــــع ذواتها المتشظية والمتكورة على نفسها دون أدنى علاقة تربطهم بشخوص الآخرين المنشغلين أيضاً بأنفسهم فقط عن اللوحة، والسقف المثلث شديد الإيحاء، والنافذة التي يطل منها الجميع لما هو أبعد من النافذة بالدرجة نفسها، وكأن أمراً لن يكون أو شيئاً لم يحدث ينتظره الجميع كما في مسرحية «في انتظار جودو» لصمويل بيكيت.
 لقد صوَّر إدوارد هوبر الإحساس بالحياة في المدن الكبرى، حيث لا يجمع الشخوص الأربعة سوى المكان الذي يبدو وكأن هوبر انتزعه انتزاعاً أو خلقه فجأة، وهي رؤية أو هي تلك المسؤولية الفنية الكبيرة التي ينتهجها الفنان الحقيقي لخلق عالم موازٍ لرؤاه على أرض الواقع بعمقٍ وبصيرة صادقة تخترق قلوب وعقول الآخرين بشكلٍ أو بآخر... هي الفراغ الشاسع الذي تنظر فيه «امرأة» ساكنة في غرفة غسل الملابس في إحدى لوحاته، أو زوجة الفنان التي تجلس على السرير في لوحة «شمس الصباح» (1951)، نرى المرأة هي زوجة الفنان - لم تسمح له أبداً أن يرسم سواها - تجلس هذه المرأة على جانب السرير، تثني يديها حول ساقيها، ترتدي تنورة ذات لون برتقالي جذَّاب، فيما راحت تحدّق بوجهها المعبر في ما هو أبعد من النافذة التي تطل على الفراغ، بينما يتسلّل الضوء من خلال النافذة ليستقر على يديّ المرأة المنثنيتين ووجهها اللامع بلون أرجواني أكثر عمقاً وجاذبية.
 كذلك في لوحته الشهيرة «المنزل المحاذي لسكة الحديد» (1925)، التي تصور منزلاً ناعساً في وحدته وعزلته الأبدية المخيفة التي تبدو خالية الجوار من البيوت أو البشر باستثناء قضبان لسكة حديد تشي بالوحدة وتؤكدها على اللوحة، بجانب ظلال كثيفة تخيِّم على العمل بتغطية معظم الواجهة الأمامية للمنزل، ما يجعل من البيت مكاناً للفقد الصامت لا العيش والحياة المتحركة.
 وهذه اللوحة وإن كانت بسيطة في ظاهرها، فإنها ذات رؤية عريضة وتعبير كبير، وقد ألهمت هذه الرؤية البعض من مخرجي السينما ورسامي الكاريكاتير، وتم تحديث هذا المنزل في أفلام سينمائية عدة. إنها قمة اليأس والعزلة والفتور في لوحته الشهيرة أيضاً «غرفة في فندق»، نجد تلك المرأة الوحيدة المتشظية وهي تجلس منكفئة على ذاتها في غرفتها البائسة بكتفيها المنحنيتين تمسكُ بكتاب، وفي لوحة «يوم الأحد»، نرى المتاجر المغلقة في صمت ذريع كخلفية للأحداث التي يطل على واجهتها رجل يجلس في سكون وحده على كرسي دون أي تفاصيل.
 أما في لوحته «حجرة في نيويورك» (1932)، فنرى رجلاً وزوجته من نافذة كبيرة، في منزل يظهر جزء منه أسفل اللوحة والجزء الأيسر منها، الزوجة التي تعزف على البيانو بشكل انسيابي هادئ، فيما يجلس الزوج مستغرقاً في قراءة الصحيفة التي بين يديه لا يعيرها أي اهتمام، ورغم أنها تعزف، فإن انتباهها واتجاهها بجزء جسدها الأسفل موجهان للزوج الذي يبدو قاتماً بلباسه الغامق الذي يستنطق الصمت والإحساس بالفقد، إذ يوظف هوبر عنصري الضوء والظلام وفقاً لخصوصية هندسية فرضها العصر الذي عاش فيه، فيبدو عنصر الضوء معزولاً ومنتظماً على اللوحة كما في لوحته «السهارى» (1942)، ثلاثة زبائن في المقهى، رجلان وامرأة ومقهى صارخ الضوء وشديد، في ليل وسط المدينة في شارعٍ خالٍ من الناس، ولا شيء يدل على حركة أو حياة عبر نافذة زجاجية متسعة أضحت إحدى أدواته الرئيسة في عديد من أعماله، لنتأمل صوت العتمة والفراغ والفقد الذي يشعر به ثلاثتهم في ظلمة الليل برغم الإنارة الصاخبة، وكأن كل واحدٍ منهم يحاول الهرب من شيءٍ ما ينتظره في الخارج.
 كذلك لوحة «الشمس في حجرة فارغة» (1963)، حيث الغرفة الساكنة والنافذة الأشد سكوناً وفراغاً، والعتمة التي يكشفها ضوء صامت وشديد، والطبيعة/ الغابة التي تبدو وكأنها اجتثت من مكانها لتبقى على أرض اللوحة.
إنها لوحات مربكة وصادمة ومتخمة بتفاصيل وآليات مختلفة للحظات خاطفة وسريعة تشحذ المشاعر والأحاسيس بكم وافر من الجمال الذي يبدو مختلفاً وعميقاً في قمة العزلة والفقد والصمت، وإعادة صوغ المشهد كمتلصصٍ في عتمة منعزلين ومفقودين ومأسويين في بورتريهات عظيمة استطاعت أن تترك أثراً واضحاً في الحركة الفنية في أمريكا، وفي الثقافة الشعبية آنذاك، فقد كانت المدينة الحديثة بتأثيراتها وتعقيداتها وقيمها هي الأرضية التي تتشكل عليها تفاصيل لوحته، التي وإن لوَّحت بالعزلة والفقد، فإنها لم تتخل أبداً عن الأمل الذي يبدو من خلال نوافذ هوبر أبعد منها.
 لقد قدم هوبر كثيراً من أعماله الفنية التي استطاع من خلالها أن يحفر اسمه الكبير كأحد رواد الواقعية الجديدة التي كرَّس لها جل حياته، ولم يتخل عن فكرته العميقة للرسم، ما دفع زوجته الرسامة جوزفــــــين نيفيسون، إلى إهداء أعماله الكبيرة بعد وفاته في مايو 1967 إلى متحف الفن الحديــــث في نيويورك، ومتحفي ويتني للفن الأمريكي، ومعهــد شيكاغو للفنون.