الغذاء والمناخ في الثقافة المغربية

الغذاء والمناخ في الثقافة المغربية

هناك موضوعات يستحسن ولوجها انطلاقاً من الأسئلة الأكثر بساطة. ولنبدأ بسؤال من صميم حياتنا اليومية: ألا يختلف ما نستهلكه من وجبات وأطعمة شتاءً عن أطباق الصيف؟ يمكن أن نفكر في القطاني (البقول كالفول والحمص والفاصولياء والعدس...) مثلاً كيف نقبل عليها أيام البرد، بينما غالبية الناس يستثقلونها أيام الحر؟ طبعاً ما يسري على الطعام يسري على اللباس. فظاهرة انبعاث الغازات المسبّبة للاحتباس الحراري ساهمت بشكل ملحوظ في ارتفاع متوسط درجات الحرارة العالمية، والدليل أن أغلب دول العالم عاشت ارتفاعاً استثنائياً لدرجات الحرارة خلال شهري سبتمبر  وأكتوبر من العام الماضي، ما جعل الصيف يتوسّع ليسطو على جزء من الخريف.

إن تأثير المناخ على الإنسان لا يبقى بالطبع في حدود طعامه ولباسه، بل يطول أعمق من ذلك: لون بشرته أيضاً. ويشير عبدالهادي البياض في كتابه «المناخ والمجتمع» إلى أن التفكير السابق على العلم كان ينسب السُّود إلى حام بن نوح ويعدُّهم من سلالته قبل أن يصحح ابن خلدون هذا التصور ليردّ سواد البشرة أو بياضها إلى المميزات المناخية لهذا الجزء أو ذاك من العالم.
وبما أن تأثير المناخ على طبائع الناس وألوانهم وأشكالهم وهيئاتهم وملابسهم وكذا أكلهم وشرابهم ثابت، فمن الطبيعي أن تكون علاقة المناخ بالنظام الغذائي وطيدة. فالغذاء ليس أكلاً وطعاماً فقط، ولكنه ثقافة وسلوك، لهذا نتحدث عن السلوك الغذائي للأفراد والجماعات. 
ولأن تاريخ الطبيعة كان دائماً في حوار متواصل مع تاريخ الإنسان، فمن الطبيعي أن يكون للمناخ دور أساسي في تحديد سلوك الإنسان بشكل عام، وسلوكه الغذائي على وجه الخصوص.

الجدل المستمر بين الإنسان والطبيعة
لقد كان المغرب عبر تاريخه عُرضَة للتقلبات المناخية، فالجفاف مثلاً يُعتبر ظاهرة بنيوية للبيئة المغربية، حيث ظلت القحوط والمجاعات وجوائح الجراد تتكرر على المغرب بتواتر على امتداد الألف سنة الماضية، ما جعل المغاربة يحاولون التكيف والتعايش معها وتطوير أساليب مقاومتها. من ذلك مثلاً بذْلُهم مجهوداً كبيراً في تطوير أساليب التخزين وسلوك الادخار، حيث تفنن مهندسو الأهراء والمطامير ودنانات التمر في الصحراء، وكذا مخازن الغلال، في تطوير مخازنهم واختيار الأماكن المناسبة لها. كما طوّروا معارفهم في مجال تعقيم المستودعات. يشير ابن حجاج مثلاً في كتابه «المقنع في الفلاحة» إلى أن المغاربة والأندلسيين اهتدوا إلى بعض المستحضرات الطبيعية لتعقيم المستودعات من الآفات، منها «تحضير طلاء مكون من الطين والكبريت والرماد تطلى به جدران الأهراء فيمنع قمحها من السوس». في المقابل، حتى السيول والفيضانات كان لها تأثير، ويكفي أن نذكر كيف أن فيضان وادي تانسيفت هو الذي جعل أمير المؤمنين يوسف بن عبدالمؤمن الموحدي يأمر ببناء قنطرة تانسيفت سنة 1172م. مع العلم بأنه إلى جانب سنوات الجفاف، عرف المغرب عبر التاريخ، ومراكش بالذات، عديداً من السيول الجارفة والأمطار العاصفية.
ويورد عبدالهادي البياض في كتابه (الكوارث الطبيعية وأثرها في سلوك وذهنيات الإنسان في المغرب والأندلس)، أن مراكش شهدت سنة 1130م مطراً وابلاً حكى عنه ابن القطان في «نظم الجمان»، وسنة 1137م تسببت أمطار عاصفية في مراكش دامت أربعين يوماً في سيول طامية خربت المحاصيل وجرفت التربة، وهو ما دفع المغاربة إلى الاجتهاد في بناء القناطر والصهاريج والسدود والخطّارات.
يجب الاعتراف بأن سلوك الإنسان يتغير بتغير الظروف المناخية، خصوصاً حينما يضيق العيش. هكذا مثلاً في سنوات القحط والجفاف تكثر النزاعات بين الأفراد، والصراعات بين القبائل المتجاورة، والنزاعات حول الماء، أو حول المخازن والمطامر ومحتوياتها. وهنا نجد مادة مهمة ليس فقط في كتب التاريخ، ولكن أيضاً في كتب النوازل والعقود.
أيضاً في سنوات الجفاف تكثر أعمال السلب والنهب والسطو والغصب، بل حتى أجهزة السلطة تحترف السطو في كثير من الأحيان. أحيل هنا على «روض القرطاس» حيث يحكي ابن أبي زرع كيف أن المجاعة الشديدة التي شهدتها «فاس» أواخر أيام مغراوة، دفعت أجهزة المخزن إلى اقتحام الدور والمنازل ونهب ما بحوزة أهلها من أقوات. فيما يسجل ابن عبدالملك صاحب «الذيل والتكملة» أن التواطؤ كان مكشوفاً بين وزراء المستنصر الموحدي وبعض العصابات من أجل السطو على ممتلكات الناس. 
ومع تكاثر نوازل الغصب في المال والطعام والأرض والماء، يتطور فقه الغصب الذي أنتج فيه الفقهاء المغاربة عدداً مهماً من التآليف، أستحضر منها هنا على سبيل المثال «كتاب الغصب» لابن رشد. فقه الغصب يبقى مجرد جانب فقط من الجوانب التي ألّف فيها المغاربة في ارتباط غير مباشر بالتغيرات المناخية، وإلا فهناك أيضاً ما ألفوه في مجال الفلاحة، أو فيما كان يسمى أدب الفلاحة كـ«كتاب الفلاحة» لابن العوام.
أما العلوم المرتبطة بشكل مباشر بالأرصاد الجوية وتغيرات الطقس والأحوال المناخية فقد أفرد لها المغاربة، والعرب عموماً، علماً خاصاً وهو «علم الأنواء»، وهناك عدد من الكتب والرسائل صدرت تحت هذا العنوان نذكر من بينها «الأنواء والبوارح» للفضل بن سلمة و«كتاب الأنواء» لابن البنا المراكشي.

جدل الجوع والشبع
لكن، ماذا كان المغاربة يأكلون أيام المجاعات والقحوط؟
يحكي أحمد التوفيق في كتابه «المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر» كيف أن نساء وأطفال إنولتان في منطقة دمنات كانوا يخرجون أيام المجاعة من القرى حاملين فؤوساً صغيرة ذاهبين إلى الخلاء للبحث عن عروق الدغفل (المعروف لدى المغاربة باسم: إيرني). فيما يقدم الأستاذ محمد الأمين البزاز في كتابه «تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب» لائحة لما يسميه أطعمة الجوع. وتضم اللائحة إضافة إلى إيرني الذي كانت عروقه تُسلق ثم تجفف وتطحن لتعطي دقيقاً يصنع منه خبز أبيض، الخروب والنبق والبلوط والخبّيزة والدّوم والجراد.
فحين كان يكتسح الجراد البلاد ويأتي على الأخضر واليابس، لم يكن الفقراء يجدون أمامهم طعاماً غيره. هكذا كانوا ينتقمون منه فيصطادونه ويسلقونه في القدور ويأكلونه بعد أن يضيفوا إليه الملح والفلفل والخل.
بل إن الناس في سنوات المجاعة لم يكونوا يترددون في افتراس الحيوانات الأليفة من قطط وكلاب، إضافة إلى أكلهم الخنازير البرية. بل لقد أكل الناس بعضهم بعضاً في بعض الحالات.
يحكي صاحب «الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية» عن قحط 1146م بمراكش، حينما اجتمعت على المراكشيين المجاعة والحرب بين المرابطين والموحدين، أن أهل مراكش «نفِد طعامهم وفنيت مخازنهم حتى أكلوا دوابهم ومات منهم بالجوع ما ينيف على مائة وعشرين ألفا. ولما طال عليهم الحصار واشتدت أحوالهم هلكوا جوعا حتى أكلوا الجيف، وأكل أهل السجن بعضهم بعضا».
وإذا كان أكل لحم الخنزير المحرّم شرعاً قد تمّ السماح به في القحوط والمجاعات انطلاقاً من مبدأ «الضرورات تبيح المحظورات»، فقد تمّ السماح - مثلاً - زمن المرابطين بشرب الخمور لمقاومة البرد, خصوصاً في جبال الأطلس المحيطة بمراكش. 
هكذا أجاز المرابطون شرب الرُّب الذي لم يكن مصامدة الجبال يستغنون عنه، بل يعتبرونه ضرورياً لمقاومة برد الجبل القارس, خصوصاً مع تساقط الثلوج. بل إن المرابطين، كما يؤكد ابن فضل الله العمري في «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار»، اعتبروه «شراباً حلالاً بدليل أنهم ضربوا رقابة على غيره من المسكرات وعينوا باباً خاصاً لدخوله إلى مراكش، وهو باب الرُّب لا يدخل هذا النوع إلّا منه». 
ويمكن اعتماد مثال أكل لحم الخنزير في المجاعات وشرب خمر (الرُّب) أيام البرد دليلاً على أن  قساوة المناخ وتقلباته عُدّت لدى المغاربة من الضرورات التي تبيح المحظورات.
وإذا كانت قساوة الظروف المناخية قد أباحت حتى المحظور من الطعام، وقادت الأهالي والحكّام أحياناً إلى عدد من التجاوزات مثل ما ذكرناه آنفاً من انتشار السلب والنهب، فإنها أيضاً كانت وراء تكريس ثقافة التكافل داخل المجتمع، وهذا ما اضطلعت به عن جدارة نسبة معدودة من الزوايا ورباطات الصوفية.
ويعتبر أبو العباس السبتي، الذي كان منهجه يقوم على الصدقة، مرجعاً في هذا الباب. فهذا القطب الصوفي كان بارعاً في التفاوض مع السلطة بل وحتى مساومتها، إذ كان يشترط على الحكّام في سنوات الجفاف فتح مخازنهم في وجه عامة الناس والفقراء قبل أن يستسقي لهم. وينقل عبدالهادي البياض عن صاحب  «الإعلام بمن حلّ بمراكش وأغمات من الأعلام» كيف أن يعقوب المنصور الموحدي، بعدما طال الجفاف مرة، اضطرّ إلى النزول عند طلب السبتي «وأمر الوكلاء على بيت المال أن يعطوه كل ما يحتاج، فصار يفرّق المال على الفقراء والمساكين والضعفاء ويقول: لا يرحم الله من عباده إلا الرحماء مدة ثلاثة أيام حتى لم يبق مسكين ولا مسكينة إلا ورضي» ثم نزل الغيث.
وحينما أخذ أبو الوليد ابن رشد علماً بكرامات أبي العباس الذي كان بالصدقة والإحسان يغيّر مزاج الطبيعة ويجعل المناخ يغير رأيه والسماء تتراجع عن إمساكها فتمطر، قال عنه قولته البليغة: «هذا رجل مذهبه أنّ الوجود ينفعل بالجود».
ولأنه يحدث في المواسم العادية أن يصفو الجو بعد أمطار الخير وتزهو مراكش بربيعها الفاتن، فإن المناخ المعتدل كان يفتح أهالي مراكش على طقس «النزاهة» الذي يقودهم إلى عرصات المدينة وبساتينها. لكن النزاهة لا تكتمل إلا بالطنجية المراكشية، وهي طبق ذكوري يحضّره الرجال في الغالب من اللحم والسمن والليمون المصبّر، يُطهى على رماد ساخن في «الفرناتشي» لساعات طويلة قبل أن يحمل إلى مجالس النزاهة في حدائق المنارة وأكدال وغيرها. وعلى الرغم من أن المغاربة يعتبرون الأكل طقساً حميماً يمارس داخل البيوت وفي الأماكن المغلقة، ويستهجنون الأكل على ناصية الشوارع وفي الأماكن العامة، فإن طقوس النزاهة ظلت تشكّل استثناءات.
ويمكن اعتماد طقس النزاهة المراكشي نقطة عبور سلسة باتجاه علاقة الطعام بالشعر والأدب في الثقافة المغربية. ذاك أن النزاهة لا تقتصر فقط على أكل الطنجية وشرب الشاي المنعنع، بل تتجاوز ذلك إلى السمر والتغنّي الجماعي بقصائد الملحون. بل إن الشاي بالذات، هذا المشروب السحري الذي لم يدخل المغرب إلا مع بداية القرن الثامن عشر, ومع ذلك اعتمده المغاربة مشروباً وطنياً رسمياً، يبقى الأكثر حضورا في الأدب من خلال عديد من الأشعار الفصيحة والمقامات وقصائد الملحون وفي الشعر الحساني أيضاً.
ويورد الباحثان عبدالأحد السبتي وعبدالرحمان لخصاصي في كتابهما «من الشاي إلى الأتاي: العادة والتاريخ» عدداً من النصوص الأدبية الرفيعة، نذكر من بينها قصيدة بلحاج المراكشي «الزّهو ف الطبلا حسن»، التي يقول فيها:
الزّهو ف الطبلا حسْن
البرارد زُوج وكيســـان
والبرارد يا فهيم أوزاني
محزمين بهْمام السلطان
والبقارج مثلْ الفرسان
والزّنابل مثل البيزان
والمراشّْ نحكي غزلان
بارزين ف الطبلا
والعود ف المبخْرا فاني
ولقد أبدع شعراء الصحراء بدورهم في التغنّي بالشاي ومجالسه في شعرهم الحساني وحتى الفصيح. من ذلك هذان البيتان للشاعر الأمين ولد الشيخ المعلوم:
سقانا كريمٌ من كرامٍ أكارمِ
كؤوساً كعين الديك بيض العمائمِ
أقيمت بمفتولٍ وأفضل سكّرٍ
وأظرف جُلاس وأقيَمِ قائم
وإذا كان للشاي في مجالس علية القوم طقوس معينة، فإنه بالنسبة لعيش الفقراء لا يستطيع الاستغناء عن رفيقه الخبز خصوصاً في المواسم المجدبة، حيث تنتشر ثقافة «الخبز وأتاي».
لذا من الطبيعي أن يحتفي الشعر المغربي بالخبز أيضا. وهنا نكتفي بإيراد هذين البيتين للشاعر عبدالرحمان المجذوب يلخص فيهما بإيجاز بليغ محورية الخبز في حياة المغاربة، يقول:
الخبز يا الخبز
والخبز هو الإفادة
لو ما كان الخبز
ما يكون دين ولا عبادة
ولقد ظل احتفاء الأدب المغربي بطعام المغاربة وأكلهم متواصلاً حتى اليوم. وفي أدبنا الحديث نماذج عدة نذكر من بينها «ديوان المائدة» لسعد سرحان، وهو كتاب قارب بلغة أدبية رفيعة عدداً من الأطباق المغربية، من الكسكس والمروزية والجلبانة والقوق وكعب غزال حتى باولو وحساء الحلزون.
وعلى ذكر حساء الحلزون، فقد توقفت شخصياً في روايتي «هوت ماروك» عند معركة انتخابية خاضها حزب الناقة الإسلامي ضد حزب الأخطوط المحسوب على السلطة من أجل شوربة الحلزون. فبعدما وزّع حزب الأخطبوط عدداً من العربات الجديدة على باعة الحلزون في مراكش في مبادرة تحفّظ عنها حزب الناقة واعتبرها رشوة انتخابية سافرة يجب الاحتجاج عليها، قام هذا الأخير باستصدار فتوى شرعية تحرِّم أكل الحلزون من الأصل. هكذا جاء الحزب بفتوى لشيخ الاسلام ابن تيمية يجزم فيها بأن «أكل الخبائث وأكل الحيّاتِ والعقارب حرامٌ بإجماع المسلمين. فمن أكلها مستحِلّا لذلك فإنه يُسْتَتاب وإلّا قُتِل»، قبل أن يعزِّز حُجَّتهُ بفتوى أكثر وضوحاً للإمام ابن حزم يقول فيها: «ولا يحِلُّ أكل الحلزون البرّي ولا شيء من الحشرات كلها كالوزغ والخنافس والنمل والنحل والذباب والدّبور والدّود كله والقمل والبراغيث والبق والبعوض»، ثم ختم الحزب فتواه بتحريم الشافعية الصريح لهذه الدُّودة, بعلّة إنّها مُستخْبَثة. وكلام الله واضحٌ في هذا الشأن. فقد حرّم على عباده الخبائث بنصٍّ صريح.
أما حزب الأخطبوط، فيرد على غريمه من داخل المذهب الرسمي للمملكة بفتوى الإمام مالك: «فقد سُئِل مالك عن شيء يكون في المغرب يُقال له الحلزون يعيش في الصحارى يتعلَّق بالشّجر، أَيُؤْكَل؟ فأجاب: أراهُ مثل الجراد ما أُخِذَ منه حيًّا فسُلِق أو شُوِيَ، فلا أرى بأكله بأساً». هكذا صار حساء الحلزون الذي يعشقه المراكشيون خصوصا في الليالي الباردة قضية سياسية. إنما من قال إن الطعام ليس شأناً سياسياً كذلك؟.