«زووم» على المطبخ الصحراوي النسق الغذائي عند مجتمع البيضان

«زووم» على المطبخ الصحراوي النسق الغذائي عند مجتمع البيضان

يتعلَّق موضوع هذ المقال بالبيضان Maures، وهم الناطقون بالعربية (اللهجة الحسَّانية)، الذين يعيشون داخل مجال جغرافي واسع يُسَمَّى بـ«تْرَابْ البِيظَانْ»، يمتد من وادي نون إلى نهر السنغال جنوباً، ومن المحيط الأطلسي غرباً إلى مالي شرقاً. كما يتناول النسق الغذائي وآداب المائدة عند هذا المجتمع العشائري الذي أسس حياته على تدبير الندرة والتكيف مع البيئة الصحراوية واعتماد البداوة والترحال نمط عيش رئيس. 

يَلْعَبُ الطعام في عُرْفِ وثقافة البيضان دوراً رئيساً في نسج وتطوير العلاقات الاجتماعية، ويظهر ذلك جلياً من خلال الولائم (لْعَرْظَاتْ) التي تقام أساساً بمناسبة عديد من الاحتفاليات الاجتماعية والدينية وغيرهما.
اهتم بدو الصحراء كثيراً بثقافة المطبخ وصنعوا عديداً من الأكلات والوجبات (اظْوَاگْ) التي تلاءمت مع ظروف ونمط عيشهم البدوي ومناخات الحياة بالبوادي الخاضعة لسلطة الطبيعة ولحجم الموجودات، اعتماداً على العلاقة بالبيئة والفهم الجيِّد لخصوصياتها والقدرة على استغلال خاماتها وجني ثمارها. وتتشكَّل أطعمة مجتمع البيضان عموماً من أغذية نباتية وأخرى حيوانية (أهلية أليفة وبرية متوحشة) وطائرة (أو مجنَّحة) وسابحة.
في صحراء البيضان، ووفقاً للعادات الغذائية الشائعة، تتبارى الطاهيات في مهارة مع احترام كامل للتقاليد البيضانية: الكسكس الخماسي، بأنواع دقيق حبوبه الخمسة والمرشوش بالدهن والعسل. مارُو، الطبق القائم على الأرز والسمك الذي تحتفظ بسرِّ إعداده قلة من الخبيرات. أما تحت الخيام، فيجري ارتشاف كؤوس الشاي الساخن والمعطر بأعشاب الصحراء في جرعات مدوية، كما تقول الباحثة الفرنسية أوديت دو بيغودو.
إن مطبخ البيضان يتميَّز بالبساطة وعدم التعقيد بالنظر إلى الظروف البيئية الصحراوية الموسومة بقساوة المناخ والشُّح والندرة في العيش، لكن ذلك لم يمنع من تفرُّد طرق الطبخ وثراء المائدة الصحراوية المكوَّنة أساساً من الألبان واللحوم ودقيق الشعير، إلى جانب استعمال أوانٍ وأدوات مطبخية مناسبة لنمط العيش في بادية الصحراء.

اللبن... أساس الغذاء 
يلعب اللبن دوراً رئيساً في تغذية بدو الصحراء، البيضان على وجه التحديد. فشرابهم اللبن قد غنوا به عن الماء، يبقى الرجل منهم لأشهر يشرب الماء ما دام عندهم لبن النُّوق. ينقل علي صل A. Sall عن بعض البيضان:
«إنهم يقضون أحياناً فصل الأمطار كله من دون أن يوقدوا النار للطبخ، مكتفين باللبن». ويعزِّز ذلك ملاحظة صوليي Soleillet الذي أبرز أهمية اللبن في حياة البيضان: «إذ قد يغنيهم عن بقية أنواع التغذية أيّاماً وأسابيع»، فالبيضان يُفضلون الناقة الوَارِيَّة، أي السمينة. فلا حاجة للبيضان إلى الماء, خصوصاً في فصل الربيع، حيث تعوَّدوا أن يشربوا في الصباح ملء إناء كبير من اللبن الساخن فور ما يحلب «وقْتْ لْعَتْمَ». فاللاَّبنون من البدو إذا أخصبوا لا يختارون غير اللبن قوتاً ولا يفضلون عليه تمراً ولا حَبّاً ولا يوقدون ناراً ولا يختبزون. ويرتبط اللبن والحليب في عرفهم بالخير والتفاؤل.

مأكولات شعبية صحراوية 
في ما يأتي، أبرز المأكولات الشعبية التي تشكِّل السند الغذائي لعوائل البيضان في الصحراء: 

المشوي أو الشَّيْ  
يُعَدُّ اللحم مادة الشواء الأولى. فقد بيَّن الرازي أن اللحم طعام كثير التغذية جيِّد يولِّد دماً متيناً صحيحاً كثيراً وجعله غذاءً للأقوياء والأصحاء والكادحين لا يتحمَّل إدمانه غيرهم. يأكل البيضان اللحم طريّاً ومجفَّفاً، يشرحونه طوالاً فيكون قديداً «تِيشْطَارْ».
يجلس رب الأسرة إلى المائدة ليجزِّئ اللحم المشوي Grillé على الجمر إلى قطع (گَرْعَاتْ)، مفردها «گَرْعَة» Part، ويوزِّعها على الحاضرين من العيَّال مع الخبز الدافئ تساعده في ذلك زوجته. أما في الوقت الحالي، فصار الشواء يتمُّ بواسطة قضبان Brochettes، واستعمال شوَّاية تقليدية أو كهربائية. ويشمل الشواء أيضاً الكبد، وهي أفضل أجزاء الحيوان طعماً.

اتْبِيخَة
أكلة مغذية يتمُّ تحضيرها بلحم الإبل المطهو في الماء، مع إضافة القليل من الملح والسمن فقط، ومن دون توابل. وتُعَدُّ اتْبِيخَة، أو أَفَشَايْ (حصيلة الكبدة والرِيَّة وأفَدَانْ «شحم الدوراة الرقيق»).

تِيدْگِيتْ
وجبة شعبية مرتبطة بالتجفيف والتقديد لمقاومة التعفُّن. ويُفسِّر النمط البدوي عادة تجفيف اللحم، إذ تحتاج القبائل المنتجعة إلى زاد لا يتعفن وإلى طعام جاهز تأكل منه جامداً أو ذائباً على أقراص.
يتطلَّب إعداد وجبة تِيدْگِيتْ تجفيف لحم الإبل بعد تقطيعه في شكل حبال قصيرة ومتوسطة تبسط على «اصْدَرْ» (الشجر).
هكذا، وبعد أن يتم تقطيع اللحم (اللحم المشطَّر) قطعاً صغيرة يُدَقُّ جيِّداً ويمزج مع «لُودَكْ» ويطبخ الجميع من دون إضافات باستثناء القليل من الملح، وبعد تناول هذه الوجبة يتم شرب الشاي الساخن أو اللبن، مما يمنح متناوليها مزيداً من القوة والصلابة والمناعة. ولا يتمُّ الشكل النهائي لـ«تِيدْگِيتْ» سوى بعد طبخ اللحم المجفَّف على نار هادئة مع القليل من الماء، ثم طحنه حتى يُقارب شكل العجين ويُضاف إليه المرق الذي طبخ فيه، وهناك من يزيد عليه الدسم. 

زَينَابَة 
زَيْنَابَة، بتغليظ حرف الزاي، وجبة صحراوية تتمُّ بقطع الذَّبيحة كلها وتُجْعَلُ في معدتها في هيئة كيس بفتحة واحدة تُشَدُّ على قطعة عظم السَّاق المفتوح من رأسيه على شكل قصبة هوائية، ثم يُدفن الكيس في الرَّمال الحرَّة الملتهبة من جرَّاء ما أوقد عليها من حطب، ورأس العظم (عظم الساق) إلى الأعلى مفتوح من الرأسين ويُعَدُّ المتنفَّس الوحيد لها.

بَلْغْمَانْ
يسمَّى البَلْغْمَان أيضاً في الصحراء بـ«لُوْكِيلْ لَكْحَلْ» (الأكل الأسود)، وهو من أشهر الأكلات وأيسرها لدى البيضان إعداداً وتهييئاً، حيث تقوم النساء بتنظيف الشعير من الشوائب (إنَگُّو ازْرَعْ)، وبعد أن ينتهين من هذه العملية يقمن بطحنه في الرحي وغربلته، ليتحوَّل من شعير إلى دقيق يسمَّى (لْمَگْلِي، أو أَمَگْلِي). ومن أجل أن يتحوَّل لْمَگْلِي إلى بَلَغْمَانْ (الأكلة)، يقمن بتحضير كمية مختارة من دقيق الشعير وخلطها مع قدر ملائم من الماء المغليّ جيَّداً والمحلَّى بقليل من السكر، وقد تتم عملية الخلط والمزج عن طريق عود سميك في شكل دبوس «لْمَصْعَادْ»، سواء بإزالة أو عدم إزالة الماعون/إناء الطبخ من فوق النار. بعد ذلك، يُقدَّم البَلَغْمَانْ في إناء خاص يُسمَّى «الگَدْحَة» توضع في وسطه «نَگْعَة» الزبدة أو الدهن، حسب ما هو متوفِّر.

لَبْسِيسْ
هناك في الصحراء من يسمِّي هذه الأكلة بالزَّمِّيتْ، وهي وجبة لا تبعد طريقةُ تحضيرها عن طريقةِ تحضير البَلَغْمَانْ، إنما الفرق بينهما يتمثل في تضاؤل كمية الماء المستعملة في لَبْسِيسْ (الزَّمِّيتْ)، حيث يظهر بعد إعداده جافّاً وقابلاً للتفتُت. والبَسِيسُ المراد منه القليل من الطعام. والبَسِيسَةُ: التَّسويق أو الدَّقيق يُلَثُّ بزيت أو سمن أو نحوهما، ثم يؤكل غير مطبوخ، ويُراد بها كذلك الخبز الجاف الذي يُدَقُّ ويمزج بالماء ثم يُشرب.

امْرَيْفِيسَة
امْرَيْفِيسَة وجبة شعبية مكوَّنة من قطع الخبز الفطير (من دون خميرة) التي تُسقى بمرق لحم الإبل المحتفظ به بعد تناول أطباق رئيسة من اللحوم. 

مَارُو الوَداعْ... زادُ المُسافر
مَارُو أو الرَّوْزْ، هو الأُرز، وهناك طريقتان لتحضير أكلة مَارُو، إحداهما يتمُّ فيها مزج الأُرز وطهيه بالحليب أو اللَّبن (على الأرجح)، وهذا النوع يقترن بالبَهط، وهو طعام من أصل هندي في شكل أرز يطبخ باللبن والسمن. والأخرى هي الأكثر شهرة من غيرها، تتسم بطهي الأُرز مع اللحم (أو تِّيشْطَارْ في حالات كثيرة) مع التوابل إن وجدت.

العيش... طعامُ الفقراء
يُعَدُّ العيش أو العصيدة، أو العيش -التي اعتبرها الحسن الوزَّان طعاماً خشناً - من الأطعمة التي كانت منذ العصر القديم، وأكثرها انتشاراً وحضوراً في البوادي عصيدة الشعير، طعام الفقراء، وبعض أهل الزُّهد والتصوُّف. والعصيدة «أُمُّ الطبيخ»، استناداً إلى اللسان، وهي التي تعصدها بالمِسْوَاطِ فتمدُّها به فتنقلب ولا يبقى في الإناء منها شيء إلاَّ انقلب، وهي دقيق يُلَثُّ بالسمن ويطبخ. والعصيدة، أو العيش في الصحراء نوعان: عَيْشْ ادْگِيگْ (الدقيق) وخاصة الشعير، أو الدْشِيشَة، ومن أجل تحضيره تقوم النساء بوضع لتر من الماء في آنية (مَرْجَنْ) فوق النار حتى يغلي (يْفِيظْ)، ثم يضعن فيه ادْگِيگْ أو الدْشِيشَة، بعد ذلك يقمن بتحريك هذا الخليط بعود خشبي يسمَّى «لْمَصْعَادْ» وتستمر عملية التحريك إلى أن يصبح العيش جاهزاً، وبعد طهيه يوضع العيش في وعاء كبير.

الكسكس وأنواعه
طريقة إعداد وتحضير الكسكس تختلف عند فئات المجتمع البيضاني. ففي موريتانيا، مثلاً، يتكوَّن الكسكس من حبيبات السميد التي يُضاف إليها مسحوق ورق الملوخية المعروف بـ«التَّغْيَة» (التقية) بصرف النظر عن نوع المرق الذي سيضاف إليه. وإذا كان الكسكس يُعَدُّ عموماً من أطباق المناسبات الخاصة (الأعياد، حفلات الزواج) - لاسيما في منطقة البراكنة الموريتانية- فإنه يُعتبر الطبق الأكثر انتشاراً لدى غالبية بدو الصحراء، وقد لاحظ المستكشف علي صل أن بيضان المناطق الوسطى والشرقية في موريتانيا يحضرون الكسكس مع اللحم أو الدهن أو معهما معاً، وقد يجعلون معه اللبن أو اللوبيا، بالإضافة إلى عدد آخر من أنواع الكسكس. وهناك بعض الوجبات الأخرى التي لا تتسع المساحة لها.

الشاي وطقوسه في الصحراء
من طقوس الشاي في صحراء البيضان أنه لا يصلح إلاَّ بتوفُّر ثَلاَثْ جِيمَاتٍ:
- أجْمَرْ: أي مادة الفحم الخشبي.
- اجَّرْ: أي إطالة مدَّة إعداده. يسمِّيه البعض بـ«جَرْ لَبْرُودْ»، وهو التَّراخي في تحضير براريد وحالته الشاي. والمُراد به نصب الشاي على النار وجرِّه، وهو التمهُّل في إعداده وتحضيره.

اجْمَاعَ
 أي جماعة من الناس الجالسين والمتحلِّقين حول الطبلة لشُرب الشاي، وتبادل الأحاديث والمشاركة في النقاش الذي يدور في مجلس الشاي ومائدته، وطبيعة المجلس وشكله.