من مآثر الحكمة الشعبية: مواجهة الموت والحياة
ليست المعرفة حكراً على الأزمنة المعاصرة, ولا حكراً على المجتمعات الحديثة الغزيرة الإنتاج، وبخاصة في الغرب (أوربا) وغرب الغرب (أمريكا). هذا ما يمكن أن نستشفه من أخبار بالغة الدلالة عاشتها الشعوب العربية في ما مضى ولم يتوقف أحد عندها في حينه، كما لم يكترث لها أحد لاحقاً.
ومن هذه الأخبار التي لايزال مغزاها ينبض حياً حتى اليوم قصة واقعية تتعلق بما حصل على متن السفينة تايتانيك وبعدها في إحدى قرى لبنان الشمالي الجبلية.
في قرية حردين (قضاء البترون) كانت سبل العيش تضيق بأبناء وبنات أسر زراعية تعيش على سفوح جبال تربتها ضعيفة ومراعيها محدودة. لذلك كان الفقر منتشراً وحلم الهجرة في كل الأذهان.
لم يكن النظام الضريبي الذي كانــــت تعتــــمده السلطنة العثمانية يسمح بعمليات الادّخار، وبالتالي كان التراكم المالي مستحيلاً، وحياة الكفاف البيولوجي مسموحة بحدّها الأدنى، كي تبقى اليد العاملة على قيد الحياة دون أن تتمكّن من أن تثرى وتخرج من دوّامة الفقر.
لذلك سافر على متن التايتانيك، في أبريل 1912، تسعة عشر رجلاً وامرأة وطفلاً، غرق منهم اثنا عشر شخصاً، فيما بقي سبعة على قيد الحياة.
لكن القصة ليست هنا، حيث إن هذه المأساة تشبه إلى حدّ ما مآسي مشابهة أخرى حصلت في جميع البلدان التي سافر منها أناس يحلمون بحياة جديدة في أمريكا، حيث وعود العيش الرغيد والآمن. القصّة هي في ما سبق غرق هذه السفينة المفترض بها ألا تغرق وما تبع مأساتها.
قبل شهرين من موعد السفر، كان شباب قرية حَردين يسهرون، كما هي العادة، في منزل أحد الشباب في كل ليلة. وكانت بطبيعة الحال المجموعات الشبابية الصغيرة في تواصل مع بعضها البعض، في العمل والحقول، خلال اليوم التالي. فانتشر خبر رغبة إحدى مجموعات الشباب في الهجرة إلى أمريكا، وسرعان ما غزت عدوى السفر جميع المجموعات الأخرى.
غير أن السفر كان يحتاج إلى «ناولون»، أي إلى ثمن تذكرة سفر من بيروت إلى مرسيليا بحراً، ثم براً في القطار عبر فرنسا إلى مرفأ شيربور، ثم بحراً إلى القارة الأمريكية. وقد استعصى هذا الأمر على عديد من الشباب، فتراجعوا عن الفكرة.
بقيت، بعد شهر، مجموعتان من الشباب تنويان خوض المغامرة الكبرى. وكانت المجموعة الأولى تتبع شيخ شباب، والأخرى شيخ شباب آخر. علماً بأن هذا اللقب هو الذي كان يعطى في حينه لمتزعم مجموعة شبابية في القرى الجبلية اللبنانية ذات الكثافة السكانية اللافتة.
إلا أنه، خلال الأسبوع الذي سبق موعد النزول إلى مرفأ بيروت والشروع في السفر، مرض شيخ شباب المجموعة الثانية، حيث أصيب بالدوسنتاريا، وهو داء يشلّ نشاط صاحبه عملياً، إذ يقتضي ملازمة الفراش والمداواة. وحيث إن المداواة التقليدية لم تكن ناجعة بما فيه الكفاية، ولم تكن المضادات الحيوية قد اكتشفت بعد، اضطر شيخ الشباب المصاب إلى المكوث مطولاً في الفراش معدلا عن فكرة السفر مكرهاً.
وعدلت معه عن السفر أيضاً مجموعة شبابه التي تضامنت معه وقالت له: «لن نتركك. سنبقى معك. ثم سنلحق بالمجموعة لاحقاً، عند موعد السفر الجديد، في الشهر القادم، أو بعد حصاد القمح في حزيران (يونيو)».
وهكذا كان. سافرت المجموعة الأولى بعدما ودّع أهل القرية المسافرين بسهرة طويلة سادتها البهجة، في ساحة القرية العامة، الكائنة أمام كنيسة البلدة.
ثم سافر مَن سافر وبقي من بقي، والكل راض بحاله.
لم يمض أسبوعان ونيف على مغادرة مجموعة المسافرين من أهل حَردين إلى أمريكا حتى جاء الخبر الأسود: غرقت التايتانيك وغرق مَن فيها، ما عدا الرجال والنساء.
وقع الخبر كالصاعقة على أهل عبرين وحردين وسرعل وزغرتا وجميع قرى الجبال اللبنانية التي سافر منها أفراد. غير أن وقع الخبر كان أكثر إيلاماً بالنسبة إلى حَردين، حيث كان منها عدد الضحايا الأكبر بين القرى. كانت الكارثة التي حلّت بحردين جماعية بكل معنى الكلمة. ولذلك تعامل معها أهل القرية جماعياً.
فبعدما تأكد الخبر تداعى أعيان حَردين وتداولوا في ما ينبغي القيام به محلياً، إلا أنهم كانوا في حيرة من أمرهم. فهل يكتفون بالحزن على شباب المجموعة الأولى الذين غرقوا جميعاً في هذا المحيط البارد والبعيد؟ وفي هذه الحال، ما الموقف الذي ينبغي اتخاذه من شباب المجموعة الثانية الذين نجوا؟
هل نحزن؟ هل نفرح؟
بعد مداولات طويلة بين وجهاء القرية الذين ضمّوا مختار القرية وكاهنها، ومن منطلق الحكمة الشعبية التي لا تحتاج إلى علماء اجتماع أو أنثروبولوجيا، بل إلى بساطة التفكير الاجتماعي والمعنوي العام، تقرّر ما يلي:
لمدة ثلاثة أيام متتالية ستُعتمد شــــعائر الحزن الأقصى في البلدة، حداداً على أرواح الشباب الاثني عشر الذين ماتــــوا، لمـــــدّة ثـــــلاثة أيام متتالية. ثم تقام بعدها ثلاثــــة أيام متتالية من الفرح العارم في القرية، احتفاء بنجاة وسلامة مجموعة الشباب التي بقيت في حردين.
كان الجميع يردّد: «كما أراد الله لنا أن يموت من بيننا اثنا عشر شاباً، أراد الله أيضاً أن ينعم علينا بحياة عشرة آخرين».
هكذا عُلّقت البرادي السود على جميع شبابيك بيوت حردين ودُهِنت عتبات الأبواب باللون الأسود. ثم استمر الجرس يدقّ حزناً طوال ثلاثة أيام متتالية مع مراسم الصلاة على مَن غابوا، واعتماد اللون الأسود حصراً في اللباس، مع انقطاع الأصوات المرتفعة والأغاني ودقّ الكبّة في الجرن وتعزية أهالي المفقودين والبكاء على ذكراهم، والأسف على شبابهم المهدور.
ثم، بعد ثلاثة أيام، تغيّر النهج بالكامل، حيث فُكّت شعائر الحزن وخُلعت الملابس السوداء، وتحوّلت القرية بأمها وأبيها إلى البهجة. فدُقّت الطبول وعلا المزمار فرحاً، ودُقّت أجراس الكنيسة ابتهاجاً بفرح نجاة الذين نجوا. وأقيمت سهرات تشبه سهرات الأعراس للشباب الذين شاءت المشيئة الإلهية أن يبقوا على قيد الحياة.
وبذلك ابتدعت الحكمة الشعبية عند هؤلاء القرويين اللبنانيين الأمّيين معادلة غير مسبوقة، جعلت الحزن يأخذ موقع الصدارة، إكراماً لذكرى الأموات، غير أنها أضافت إلى الحزن الاحتفاء بفرح الحياة لمدّة مساوية من الزمن.
ثلاثة أيام من الحزن الغامر، تلتها ثلاثة أيام من الفرح العارم، كانت كفيلة بجعل حسّ الحياة يغلب حسّ الموت.