ديوان جديد للشاعرة سعاد الصباح الحزن والحب جناحان للخروج من متاهة الوجود

ديوان جديد للشاعرة سعاد الصباح الحزن والحب جناحان للخروج  من متاهة الوجود

في ذاكرتي النقدية للشعر، تحتل الشاعرة د.سعاد الصباح مساحة واسعة لأكثر من سبب، أولها أنني عملت في «دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع» نائباً للمدير العام الراحل محمد خالد القطمة سنوات طويلة، واقتضى عملي في دارها العامرة أن أقرأ كل طبعات دواوين د. سعاد الصباح الشعرية، وكل الدراسات النقدية التي تناولت تجربتها الشعرية المديدة، وما يكتب عنها بالصحف، فضلاً عن الصلة الشخصية والإنسانية والمعنوية بصاحبة الدار، ولذا تبدو شهادتي هنا بكتابها الجديد مجروحة، لكنني أزعم أنها شهادة عارفة بأجواء ومناخ وقاموس الشاعرة، ولا أخال يوماً أن قلمي سيغادر الحس المسؤول والالتزام بصدق الكلمة وموضوعيتها.

مسيرة الشاعرة وكتاباتها وكل ما كتب عنها حين كنت في «الدار» في تسعينيات القرن الماضي كانت في متناول يدي واهتمامي الحثيث، وتابعتُ فيما بعد ولم أنقطع. وفوجئتُ، وربما القراء أيضاً، حين صدر ديوانها «والورود... تعرف الغضب» عام 2005 وإذا بالفنانة التشكيلية سعاد الصباح تطل علينا بخمس وعشرين لوحة يضمها الديوان، وكلها تستقي حضورها من الورد والزهور، وقد أشرت إلى ذلك في الصفحة الثقافية لجريدة «النهار» الكويتية التي كنت أشرف عليها، ويومها كتب لي الشاعر نزيه أبوعفش الذي لا يجامل أبداً، وهو فنان تشكيلي أيضاً، أن لوحات سعاد الصباح تنبئ بشكل صارخ عن وجود موهبة أصيلة في أعماقها. وعلى مستوى النصوص، اختزل الديوان كثيراً من سمات تجربتها الشعرية التي تطورت بشكل مذهل وصريح، ونحو الأعمق والأفضل بكل تأكيد.
وكان آخر ما قرأت للدكتورة سعاد الصباح كتابها النثري «كلمات خارج حدود الزمن» الذي صدرت طبعته الأولى عام 2008، وهو عبارة عن تأملات وخواطر وأفكار في الإنسان والمجتمع والسياسة، بعضها نشر في الصحف ولم تشأ الكاتبة أن يطويها الزمن، فكان هذا الكتاب. لكن جعبة هذه السيدة، كما يبدو، لا تفرغ، ونبع عطائها لا ينقطع، ومصدر إلهامها لا يغيب، ولذا لم يفاجئني جديدها، حين وصلنا إلى مجلة العربي ديوانها الذي صدر في شهر نوفمبر عام 2016، وإذا بقوس قزح من الكلمات، ودموع حزن وجودي عميق، وظلال أمل، وينابيع عشق لا تجف ولا يشيخ، وضجيج ذكريات، تنفرش كلها على سطح مكتبي وأنا أقلب صفحات الديوان بيد اللهفة، فتخطر على بالي عناوين دواوينها: في البدء كانت الأنثى، فتافيت امرأة، أمنية، إليك يا ولدي، برقيات عاجلة إلى وطني، آخر السيوف، قصائد حب، امرأة بلا سواحل، خذني إلى حدود الشمس، وكل ما اشتغلت عليه في مملكة السيدة صاحبة الدار، وهي أمور لا تنسى!

بين القديم والجديد وجدلية التطور
قبل أن أدلف إلى ديوان الشاعرة سعاد الصباح الجديد «الشعر والنثر لكَ وحدَك» أود الوقوف أمام نقطتين اثنتين مهمتين:
الأولى أن علاقة الشاعرة بالحروف والكتابة ترقى إلى سنين مراهقتها الأولى في مرحلة الدراسة الإعدادية، وهذا الأمر نابع من طبيعتها وفطرتها البكر، وليس مقحماً على شخصيتها، وقد هيأ زواجها من الشيخ عبدالله المبارك لهذه العلاقة بالشعر والعلم والفكر كل شروط النماء والتفتح والازدهار. 
أكثر من نصف قرن وقلمها وعقلها وشعورها في حالة استنفار وهي تواجه صوت الحياة وأصداءها.
الثانية أن الكتب التي صدرت لسبر تجربة الشاعرة الإبداعية وفهم تلاوينها كثيرة ومتنوعة، وفي زاوية صغيرة من رفوف مكتبتي المتواضعة في الكويت حوالي عشرة كتب لنقاد معروفين منهم عبدالملك مرتاض وفاضل خلف ونبيل راغب وإسماعيل مروة وعبداللطيف أرناؤوط ومحمود حيدر، وترجمات لدواوينها، ومئات الشهادات الأدبية والصحفية حول علو مقامها الشعري، ولن تضيف شهادتي إلى هذا الحشد سوى إضافة زهرة إلى البستان الظليل الذي سيّج حياة وإبداع د. سعاد الصباح.
هاتان النقطتان، وصبر سعاد الصباح وعملها الدؤوب، وما حباها الله بحياةٍ أسريةٍ شكّلت القاعدة الصلبة لاكتمال حضورها على خريطة الشعر العربي المعاصر، وإسهامها في ملامح الغد الشعري، بعد أن نَهَلت هي من الأمس الشعري، وشاركت في مخاض الحاضر. 
والمراقب لهذه المسيرة يرى بوضوح أن النقلة الشعرية عند سعاد الصباح بين البدايات والراهن تصب في مصلحة الجمال المطلق للحداثة الشعرية. بكلمة أخرى، لقد أدارت سعاد الصباح ظهرها للبدايات التقليدية والمدرسية في الكتابة الشعرية المنصاعة لمنطق العروض الموروث والإيقاع الصوتي اللفظي، ويممت وجهها نحو الطلاقة وحرية القول الشعري الصادح بمكنون النفس وانفعالاتها العميقة. 
أجزم بأن الشاعرة انحازت إلى جدلية التطور حين اختارت لديوانها الجديد عنواناً يقرن الشعر بالنثر، ولا يقيم حاجزاً بينهما، ويطلق القصيدة من عقالها، لتسرح في مراعي الجمال من دون قيود. لقد انتقلت من قصيدة الأبيات إلى البيت الواحد/ القصيدة، ومن المظهر الشعري إلى الجوهر.

ما لم تقله الدراسات النقدية لشعر سعاد الصباح
في آخر صفحة من ديوانها الجديد، قبل صفحة المحتويات التي هي خاتمة الديوان تكتب الشاعرة هذه الجملة الواخزة للقارئ: «اقرأ النصوص مرَّةً أخرى حتى تستوعبَ حُزني..». أنا شخصياً لم أكن بحاجة إلى هذا التوضيح، لأنني أعرف أن الخزّاف الحقيقي الذي صنع خوابي شعر سعاد الصباح وجرارها وفخّار قصائدها هو الحزن (أصابعي شمعٌ... ولغتي خزف ص125). مسكونة بحزنٍ شخصي إذ انكسر جناحها لوفاة ابنها في ظروف درامية جارحة، وانكسر جناحها الآخر لوفاة زوجها فيما بعد، وهو نور حياتها، وحين أنشب الموت مخالبه في الجناحين ضاقت السماء عليها، وارتدى طائر الشعر السواد، وتسربل بالدمع والبكاء، وتحول حزنها الشخصي إلى فاجعة إنسانية وجودية لا خلاص من أسرها.
معظم ما كتبت من شعر موشح بهذا الحزن الوجودي العميق، ومعظم شعرها يرتل مراثي الوفاء لأميرها وأبيها ورفيقها ومعلمها وملهمها وزوجها الشيخ عبدالله المبارك. وأكاد أقول إنها نذرت مسيرة حروفها الطافحة بالخصب لذكرى الرجل الذي أسمته «صقر الخليج» في كتابها عنه الذي حمل هذا العنوان. كل كلمة في الكتاب مشحونة بالعرفان، ولمست ذلك حين كتبت عنه حلقات مطولة في مجلة «الشراع» اللبنانية بعد صدوره بقليل.
ديوانها الجديد «الشعر والنثر...لكَ وَحْدك» لا يشذ عن القاعدة. هو مثل قصائد كثيرة في ديوان «والورود... تعرف الغضب» ترى أن تاريخها الشخصي ملك للرجل الذي أعطاها مفاتيح المدن وبايعها على إمارة قلبه. لكن هذه التجربة الذاتية المحض، في علاقة الحب والوفاء بينها وبين سيد العالم كما تراه، وهو الرجل الأسطوري الذي (تهطل من فمه الأمطار) والذي (يخرج من معطفه القمح)، ليست مسألة عائلية، بل هي حين انكتبت شعراً صارت دليلاً إنسانياً هادياً لثراء الشعور ومجد قيم الحياة العليا، وصارت أيقونة ومأثرة لكيفية استعادة الصحو حين يحاصرنا المطر وتضربنا العواصف. 
ديوانها الجديد ليس ذاتياً، هو ينطلق من الذاتي والخاص ليصنع عالماً من الحب والتسامح والسلام والسكينة، ومفردات شعرها في الديوان محاولة لتطريز سجادة أيامنا التي يأكلها عث الهجر والحقد والأمية وظلام الظلم (متى يغيبُ ظلامُ الظُّلم؟..متى يبدأ نهار العرب؟ ص87) بخيوط حرير الحرية، بحثاً عن يقين ضائع وتاريخ يترنّح ويسقط على أرض الواقع كثمار فاسدة:
(تائهةٌ أنا في أرض الخَرَاب../ أتخطَّى عالماً أحرَقه الحسد../ وأفرِشُ سجَّادة الشِّعر لأنام / أنا لا أُحَاكِمُ الأيَّام../ فالتاريخُ يسقُطُ في يدي../ كما تسقُطُ الثمار... ص90-91).
لغة موجوعة وتئن حروفها من الضجر والقلق والجنون وجيش الملل والفراغ. لغة في ظاهرها استكانة نفس وضراعة شكوى، لكنها في جوهرها لغة متمردة. 
التمرد عند د. سعاد الصباح مثل شمعة لا يخبو نورها، بل يضيء فتيلها كلما اشتدت العتمة، ولولا خصلة التمرد الراقدة كبركان صامت في أعماقها لما أعلنت بكل هذه الصراحة عن ينابيع عشقها وغزلها الواضح كنهار الحقيقة.
 فالذي تحبه وتتغزل به هو سيد الضوء الذي تقرأ في عينيه كتاب الظلام، وهو سيد الأمكنة، لكنه يسكن بين ذراعيها تحت الإقامة الجبرية داخل أسوار قلبها، وهو الطيف الذي يتجول في صحارى روحها كقبيلة من العشاق، وهو الصباح المشرق حين تتملّى بقايا لون البن في فنجان قهوتها، وهو سيد المحيطات في مرافئ انتظارها، والذي حين تتغرغر باسمه ينمو العشب على شواطئ فمها، والذي - أبد الدهر - يطغى حضوره الدائم على غيابه الطارئ.
من الحزن المشرش في قلب د. سعاد الصباح، ومن صهوة يأسها، ومن قسوة الظل الذي يكسر بهاء الأشجار في حياتها، ومن شقاء الفراق الذي يدق أوتاد خيمته في بوادي روحها، تنطلق زغردات عشقها الخرافي، وتراودها نزوة هجر مملكة التراب، والرغبة العارمة للرحيل والسفر في البحر والسماء وإلى حدود المستحيل لتبني مملكة من الكلام لا حدود لها لفارسها وأميرها الذي غاب، ولتبني له (عرشاً... من ريش العصافير... ولؤلؤ المحار... ص102). والمملكة الحلم كانت هذا الديوان، والذي استعارت لغتي في هذه المقالة كثيراً من غنائيته ومفرداته. لقد أيقظ الديوان لغتي من بلادتها. 

خاتمة
تسع قصائد طويلة تسرح وتمرح في بساتين اللغة وتضج بسحر المفردات التي انبنى منها قاموس سعاد الصباح الشعري على مدى عقود والكثير من الدواوين، وتشكل هذه الدواوين تجربة لها خصوصيتها وفرادتها، وكل جديد في التجربة ينهل معينه من مفردتي الحب والحزن، والتبدل الذي دهمني وأربك معرفتي بتفاصيل هذه التجربة الثرية، هو اللوحات التشكيلية التي تحتاج وحدها إلى قراءة مختلفة. 
غادرت د. سعاد الصباح حفاوتها السابقة بالطبيعة الصامتة والنزعة الانطباعية في ممارستها التشكيلية، إلى فضاء يحتفي بالمنمنمات والزخرفة العشوائية غير المنضبطة، وربما نحو لغة تجريدية تستعير من المدرسة «الجشطلتية» مداراتها التي تلجأ إلى الشكل وتحتكم إليه طريقاً للاستبصار. لوحات الديوان تنبئ عن حضور المتاهة في بصيرة سعاد الصباح الشعرية، وأكاد أجزم أن الرغبة في الخروج من المتاهة تتملك الشاعرة، ولهذا السبب كَتَبَتْ وَرَسَمَتْ. الحب والحزن حالة ذهنية راسخة في كينونة د. سعاد الصباح جعلت منها «فتافيت امرأة»، وهذا عنوان أحد دواوينها تلَبّسها في لحظة وَجْدٍ صوفية. روح صوفية جعلتها تذهب كثيراً ومن دون تقييد لسطوة الزمن لتجاور في مكة المكرمة والانزواء هناك مستسلمة لمعضلة الخروج من المتاهة.