«إسلامستان... وجوه الأصولية»
مَفهوم الأدْبَنَة، الذي نَقترضه من جون كوهان في كتابِه «أبْنية النصّ الشعري»، يَعني إضفاءَ طابَعٍ أدبي - تَخييلي على وقائع التاريخ وأحداثهِ المادية، إضفاءً جَماليًّا، إلى دَرجة تفقد معها تلكَ الوقائعُ المصوَّرة تاريخيَّتَها، وتصير مجرّد ثيمة (موضوعاً) أدبيةٍ، ذات خصائص أسلوبية ووظائف سرديَّة، ضمن نسيج النص الشاعري.
هذا التحويل النصي هو عينُ ما يقوم به الروائيون والشعراء مع تفاوت في الكيفيات السردية التي يوظفونها لاستِعادَة الواقِع وتَمثيلهِ. ولكن أنْ يَقوم بهذا التحويل مُحلل للرهانات الجيو-استراتيجية أو مؤرخ سياسي، أو دارس للظواهر الاجتماعية، فذلك يلغي الوعي الصحيح بالظاهرة المدروسة، ويخلطَ أجناسَ الكتابة ضمن الخطاب المُنجزِ عنها. وهذا ما يشرِّع لسؤال فلسفيّ حول تَبعات التداخل بَين الأدبي والتحليلي في الخطابات الفرنسية الراهنة التي تتخذ من الظاهرة الإسلامية موضوعاً لها، ولاسيما إذا تناولت معضلة التَّشدد.
وللإجابة عن هذا الإشكال في عجالةٍ، نُجري هذا التحليل لِكتاب «إسلامستان... وجوهُ الأصولية»، الذي صَدَرَ في باريس، في شهر أبريل 2016 للصحفية الفرنسية كلود غيبال (عن دار ستوك للنشر). وفيه تَعرض هذه الصحفية، من خلال الفصول الثلاثة عَشَرَ للكتاب، سلسلةً من البورتريهات Portrait لطائفة من الشابات والشبان المسلمين الذين انجرُّوا - في مرحلة ماً من حياتهم - إلى تيارات التشدد الإسلامي والأصولية الدينية. كما تُصَوِّر من خلال متابعاتها التفصيلية لمسيرة هؤلاء الأشخاص والبيئات السياسية والفكرية التي تحدروا منها ومظاهرَ التطرُّف والانكفاء التي باتت تَطول المجتمعات العربية الإسلامية الراهنة. وتشمل سردياتها كلَّ الفئات العمرية، مع التركيز على فئة الشباب، كما تُعنى بالجِنسَيْن مع التأكيد على المرأة العربية في توجهاتها الحديثة للتحرر من ربقة الماضي، أو في نُزوعها إلى الالتزام بالشعائر والممارسات الماضويَّة.
دلالات إيحائية
لقد سعت الكاتبة إلى تَغطية أحداثِ عديد من البلدان الإسلامية، المتباعدة ثقافاتُها، المتباينة أنظمتها السياسية والرمزية، مثلَ مصر والسعودية واليَمن وتونس وإيران، وطبعاً فَرنسا التي صارت - بسبب جالياتها المسلمة - جزءاً لا يَتَجَزَّأُ من هذا الفضاء الدلالي الكبير الذي يغطيه عنوان الكتاب المثير «إسلامستان»، وهو اسمٌ جارٍ على النحت، أيْ الجمع بين كلمتَين، وهما «إسلام» واللاحقة الفارسية «استان» التي تعتبرُ حرفَ مَوضعٍ بمعنى: محافظة أو مقاطعة أو إقليم، يُضاف عادةً إلى أسماء القبائل والجماعات والقوميات لتخصيصها، ولاسيما في منطقة آسيا الوسطى وجنوبها. وتحمل الكلمة - من جرَّاء تلازمها في المخيال العربي الحديث بأفغانستان الطالبانية - معاني شديدة السلبية، أرادت الكاتبة غيبال استذكارَها وتوظيفها في الدلالة على انتماء شخوصها إلى هذا الفَضاء المترامي، الذي لا يتقيد بحدودٍ جغرافية، وإنما بِدلالات إيحائية، يتصل فيها مُتَخَيَّلُ الإسلام بالممارسات الظلامية التي تعيد الأذهان إلى القرون الوسطى.
وقد استحضرت الصحفية - من خلال السرد الوصفي والحِواري لسِيَر الشخوص وأشكالهم وأعماقهم السيكولوجية - العديد من الظواهر الاجتماعية والسياسية الراهنة، مثل الربيع العربي والثورة السورية ومؤسسة إسلام أون لاين، وتأثير يوسف القرضاوي، والتحولات الاجتماعية في المملكة العربية السعودية، وحمل الحِجاب/النقاب في المجتمعين المصري والتونسي، وهيمنة رجال الدين في إيران وعلاقات العرب بالغرب... بطريقةٍ تضيء من خلالها سلوكَ شخصياتها وتربطه بمؤثرات أيديولوجية وثقافية متداخلة.
وقد أجادت الكاتبة في توظيف آليات القصّ وأساليبه ونَوَّعت منها حتى كانت فصول الكتاب بمنزلة أقاصيص قصيرة ممتعةٍ، تُذَكِّر إلى حدٍ بعيد بالحكايات القصيرة التي كتبها نجيب محفوظ في مَرحلة الإنتاج الروائي الواقعي. كتابةٌ تعتمد الوصف التفصيلي والومضات الوَرائية استرجاعاً أو استشرافاً، والاستبطان النفسي والحوار والتداخل بين القِصص والمصائر. وقد صيغَ كلُّ ذلك في لغة فرنسية جَزْلةٍ يغلب عليها أسلوب السجلّات الاستعارية الراقي. ومن هنا انبثق إشكالُ التمثيل الأدبي للواقع الذي يَغيب تدريجياً في ثنايا الصور البيانية الحاجبة للطبيعة المادية لمراجع النص، إذ يَتلاشى الامتداد الواقعي للحدث أمامَ تتابع الصور والاستعارات التي تُمَيَّعه، فيضيعَ أثناءه الفهم العميق بالظاهرة قيدَ الدرس.
خلط الأجناس ونفي الحقيقة
وعلى ما تنتجه قراءة هذا النص ذي الطبيعة الروائية من لذةٍ أدبية، ومع ما تَحمله من إضاءات مفيدةٍ حول مسارات أناسٍ عاديين، التحمت مصائرهم في وقتٍ ما بمَجرى التاريخ الكبير، فحاولوا التأثير فيه أو التأثر بتياراته الجارفة، تغييراً وتجذيراً، فإنَّ ملاحظاتٍ عديدة تتصل بِتبعات الخلط بين الجنس التحليلي والأدبي تَفرض نفسها على المراقب للمشهد الثقافي الفرنسي، وهي ملاحظات نود أن تساهمَ في تغذية النقاش حولَ الخطاب الصحفي الغربي عن الظاهرة الأصولية في العالم الإسلامي عموماً.
ومن الواضح أوَّلاً أنَّ العينَ الخِطابية Focus التي أبصرت من خلالها كلود غيبال الأحداث هي عينُ الأديب، الناقل للأشياء البسيطة للحياة اليومية، وهذا توجه أدبِي عريق اشتَهر به الأديب الفرنسي بَلزاك. ولكنها ليست عَينَ المحلل المؤرخ، الذي يشرِّحُ الأحداث ويُعطيها دلالتها الحقيقية بإدماجها في سياقها الجيو - ستراتيجي الإقليمي الكامل. فَالكاتبة لا تستعيد من التفاصيل إلاَّ تلك التي تَتماشى مع خطتها في السرد الروائي، فالمُهمُّ لديها هو بناء مشهد متخيَّلٍ، تَتَكامل فيه عناصر القصّ أكثر من تقديم تحليلات معمقة للحدث وعوامِله ونتائجه، ومن ذلك تركيزها المفرط على مظاهر الشخصيات، وملامحها الجسدية، والديكورات التي يتحركون فيها، وألوان الملابس التي يرتدون، وطريقة المشي والحَديث... حتى صارَ النص برمته مُجرَّد استعراضٍ سطحي خَطّي لمسيرة أشخاص لا رابطَ بينهم سوى حمل هذه البذور المزعومة من التطرف، تكمن بالقوة في كل واحدٍ منهم.
ولعل الملمح الأخطر في هذا التَّمشي هو خلط الأجناس، فيتداخلُ الأدب والفكر، الوَصف والتخيل، لدى تناولِ ظَواهر اجتماعية مُعقدة، فَلا يَظهرُ من تَعقدها إلا الشيء القليل الذي لا يَسمح بفهمها. ذلك أنَّ التمثيل السردي للمنحى الأصولي يعرقل إدراك ماهيته، ويجعله ضبابيًّا غائماً، بل قد يخلق تعاطفاً معه فيجعل من العسير اتخاذ مسافة نقدية منه لاستيعابه، والوقوف على مسبباته وأعراضه وكيفيات التصدي له، هذا علاوةً على كونه ينقلُ طبيعتَه من موضوعٍ أنثروبولوجي إلى صورةٍ ورقية، لا وجودَ له خارجَ النص، ينشأ ويتلاشى خلالَ القراءة، في حين أنه في الواقع ينشأ في بيئة مادية يغذيها نظام أيديولوجي وتخضع أساساً لإكراهات العولمة.
المركزية الأوربية
من جهةٍ ثانية، يلاحظُ أنَّ الصحفية قد اعتمدت مفهوم التشدّد أو الأصولية radicalisation مع ما فيه من العمومية والغُموض، ورغمَ نقدها، هي نفسها، لهذا المصطلح الذي اعتبرته (fourre-tout)، وهذه اللفظة استعارةٌ فرنسية تدلُّ على ظرفٍ تُحشى فيه كل العناصر المتباينة دونَ ترتيب، فإنها جَمعت في كتابها ذكريات رحلاتها ولقاءاتها وتقاريرها عن أفرادٍ من العالم العربي، جمعاً بين متناقضات لا رابط بيْنها سوى تطرف مزعوم يمكن أن يحمله كلُّ عربي-مسلم، مهما كانت درجته الثقافية أو مستواه الاجتماعي. وبالتدقيق في هذا المفهوم الذي قاد كتابَتها واختياراتِها، يتضحُ أنَّ المقصود به الانتماء إلى كُلّ سلوكٍ يخالف القيم الجمهورية الفرنسية المبنية على مبدَأ العَلمانية، أي الإقصاء التام لكل مظاهر التدين من الفضاء العام. فكل انحرافٍ عن هذا التمشي وإقبالٍ على البعد التديُّني، أيًّا كانت أشكاله داخلية أو خارجية، يمكن أن يتحول إلى أصولية، وهذه تقود حتماً إلى التشدد، وربما إلى الإرهاب! الصحفية تقرأ الظاهرة من خلال شبكة تأويليَّة ضيقة: كلَّ ما لا يتطابق مع النمط الغربي في التفكير أو الوجدان يمكن أن ينحدر نحو الأصولية.
والنتيجة المترتبة عن خلط الأجناس الأدبية - الخطابية هي تداخل المفاهيم والخطابات وتشويه التصورات عن الوقائع مما يُفضي إلى تخطئة الوعي بالظاهرة المدروسة، وابتسار معرفتنا به، فيغدو كلُّ مسلمٍ إسلامياً وكل إسلامي إرْهابياً وكل ما ليس جارياً على النسق الفرنسي أصوليًّاً. ومع افتراض حسن النية لدى الكاتبة، فمن الواضح أنها مالت إلى انتقاء الثيمات والمواضيع المُربِحة، أي التي تروج بسهولة في أسواق الكتب ولها جمهور قراءٍ مضمون، فقد صار أفق انتظار القارئ الفرنسي الراهن - الذي شكلته الآلة الإعلامية السطحية والتكرارية - يجد في مثل هذا النوع من «الوجوه الأصولية» إرضاءً لحساسيته اللاواعية التي تربط الإسلام بالتشدد واحتمالية انجرار أيِّ مسلمٍ إلى الأصولية، وهو ما يتجلى في هذه القراءة السريعة السطحية لوقائع شديدة التعقيد، أعْيت كبار المحلّلين السياسيين والباحثين، وهي هنا تُقدَّم في شكل أقاصيص تُقرأ لتزجية الوقت في قطارات الأنفاق الباريسية.
وحين تُصبح الكتابة عن التشدد مجرَّدَ تمرين أسلوبي، يُنجزه حتى أولئك الذين يفتقرون إلى آليات العلوم الاجتماعية (مثل اللسانيات والأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها)، قد تصير تلك الكتابة هي الأخرى مَظهراً للأصولية ووجهاً آخر من وجوهها، لأنها تقدم صورة فَضفاضة عن واقعٍ صعبِ المراس، فَيُكتفى فيها بمعانقة الأعراض الظاهرة. مواجهة الواقع بالأدبِ قد تنتجُ متعةً عابرة ولكنها قد تحملُ على الاكتفاء بالقليل في استيعاب تضاريس الموضوع المُحَلَّلِ، الذي يتحول بفعل الطابع الاستعاري للخطاب السردي إلى مجرد عناصر في المقطع السردي. «إسلامستان» تنضيدٌ لِوجوهٍ وتقاسيم يفترض أنها انساقت إلى التشدد، ولكنه لا يشير إلى أيِّ دورٍ للقوى الخارجية التي صَنعت بعض مظاهره ودعمته فجعلت من تلك الوجوه أقنعةً تشفُّ عما تحتها من المركزية الأوربية.