الجزائر العاصمة المدينة المحروسة
الجمال والرهبة، صفتان لا تجتمعان في شخص أو مكان بسهولة، لكن مدينة الجزائر العاصمة تجتمع فيها الصفتان معاً، جميع من رأوا الجزائر عبر البحر، وشاهدوا تدرج جبالها ومساكنها وهي تحتضن أشعة الشمس، وتدرج المساكن البيضاء وهي تعكس أشعة الشمس، هذا التدرج الذي تطوقه الأشجار والنباتات، من هنا أطلق على هذه المدينة الساحرة «الجزائر البيضاء».
البداية جزر متناثرة، تذكر الأساطير أن عشرين من رفقاء هرقل شيدوا في هذا الموقع أسوارًا ومدينة وأسموها «ايكوسيم» أي مدينة العشرين، وهم عدد من أسسوها، هذا ما يرجح معه تأسيس المدينة في الفترة بين 70 و79 قبل الميلاد. وهناك عديد من آثار هذه المدينة القديمة، منها عملات عثر عليها في شارع نوفمبر، وحجر كتابي به اسم المدينة عثر عليه بشارع باب عزون، وتماثيل، فضلًا عما أورده المؤرخون العرب من شواهد وصفوا فيها أطلال المدينة القديمة.
تراوحت المدينة بين النسيان والذكر هنا في مصدر تاريخي أو رحلة رحالة، إلى عام 950 ميلادية، إلى أن أسس الأمير بولوغين بن زيري بن مناد جزائر بني مزغني، البكري الجغرافي العربي الشهير قدم لنا وصفًا لهذه المدينة بعد 118 عامًا من تأسيسها، أي سنة 1068م بقوله «.... ومنها إلى مدينة جزائر بني مزغني، وهي مدينة جليلة قديمة البنيان فيها آثار للأول وأزاج محكمة تدل على أنها كانت دار مملكة لسالف الأمم، وصحن دار الملعب فيها قد فرش بحجارة ملونة صغيرة مثل الفسيفساء، فيها صور الحيوان بأحكم عمل وأبدع صناعة، ولم يغيرها تقادم الزمان ولا تعاقب القرون، ولها أسواق ومسجد جامع، وكانت بمدينة بني مزغني كنيسة عظيمة بقي منها جدار مدير من الشرق إلى الغرب، وهو اليوم قبلة الشريعة للعيدين، ومرساها مأمون له عين عذبة تقصد إليه السفن من إفريقيا والأندلس وغيرهما».
أحد التجار البغداديين سافر إلى الجزائر في نهاية القرن العاشر ميلادية، حيث يقول: «المدينة مبنية فوق خليج ومحاطة بالأسوار وهي تحتضن عددًا كبيرًا من الأسواق وعيونًا قريبة من البحر». في عهد المرابطين أسس يوسف بن تاشفين في نهاية القرن 11م الجامع الكبير، وتعطينا سجلات برشلونة قوائم لصادرات الجزائر لها، لكن كان سقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس سنة 1492م، لتستقبل الجزائر الأندلسيين، لتنال عقابًا بمحاصرة الإسبان واحتلال جزرها، وتدخل البحار العثماني عروج لإنقاذ الجزائر، ليخلفه بعد استشهاده أخوه خير الدين الذي تمكن في سنة 1529م من إجلاء الإسبان، وليربط الجزر أمام المدينة معها، فكان مولد ميناء الجزائر، ليزدهر لثلاثة قرون، وليطلق على المدينة «الجزائر المحروسة»، وكان يتم الدخول للجزائر عبر خمسة أبواب: باب الواد شمالًا، باب عزون جنوبًا، باب البحرية أو باب الجزيرة، وهو الذي يشرف على الميناء، وباب الترسانة أو باب الصيادين، الذي كان يؤدي إلى دار الصناعة، حيث كانت تبنى السفن الشراعية، باب جديد يؤدي إلى قلعة القصبة هذه القلعة الضخمة الواقعة في قمة المدينة.
كانت الجزائر العثمانية تحت حكم الديات مدينة عظيمة بأسواقها ومساجدها وعلمائها وتجارتها، وصمدت أمام هجمات الأساطيل الأوربية إلى أن احتلها الفرنسيون سنة 1830، ويذكر المؤرخ روزيه أن مدينة الجزائر تعرضت لتحطيم قنواتها المائية من قبل جنود الاحتلال بقصد توفير المياه لخيولهم، واقتلعت الأشجار من بيوت كثيرة استعملها الجنود الفرنسيون في طهي طعامهم. ويذكر الألماني سيمون بفايفر في مذكراته عن احتلال مدينة الجزائر أن هناك 128 مسجدا من جملة 176 مسجدا هُدمت وأُحرقت، وبعض المساجد استخدمت كمخازن وثكنات للجنود، كما هدمت حصون وحدائق وجزء من قصبة المدينة. لكن المؤرخ الجزائري حمدان بن عثمان خوجة يشير إلى فظائع التخريب التي كانت بأمر الجنرال كلوزيل الذي دمر القيسرية المختصة بنسج وبيع الكتب وسوق الحدادين، ومعامل الكتان والنسيج، ومصانع الحرير التي اشتهرت بها مدينة الجزائر على الساحة الدولية.
المدينة الأوربية
قام المهندسون الفرنسيون بواريل، وساسيريو، وبوبار، عام 1837م، بإعداد تصاميم للمدينة الأوربية البديلة للعربية، وأسكن الفرنسيون بها المستوطنين من بني جلدتهم، وفي عام 1864م تم تغيير أسماء الشوارع العربية بأخرى فرنسية، ليشهد عام 1929م، تصميم المهندس لوكوربييزيه مخططاً لطمس هوية مدينة الجزائر، لتتحول المدينة التاريخية إلى كيان صغير في وسط محيط عمراني أوربي.
اكتشاف الجزائر
بالرغم مما سبق فإن المدينة التاريخية احتفظت بعديد من معالمها، التي درسها أثريون جزائريون وأعادوا تقديمها للعرب وللعالم مرة أخرى، منهم: عبدالعزيز لعرج، مصطفى بن حموش، محمد الطيب عقاب، نجاة عروة، فضيلة كريم، عائشة كردون، رشيد بوريبه وغيرهم، حتى أصبحت المكتبة العربية الجزائرية تزخر بدراستهم، التي أعادت اكتشاف تراث مدينة الجزائر مرة أخرى، ومن أبرز معالمه:
• مسجد سيدي رمضان: شيد هذا المسجد سنة 362هـ/973م، وكان يعرف آنذاك بجامع القصبة، إلا أنه من القرن 13هـ/18م، عرف باسم الولي رمضان المدفون في بيت صغير محاذ للمسجد، وهو مستطيل الشكل ومغطى بقبة صغيرة وسقف من القرميد الأحمر، وبداخله مقصورة من الخشب مخصصة لصلاة النساء، وكانت دروس العلم تعقد في هذا المسجد، ومنها دروس التوحيد والحساب والتوقيت.
• الجامع الكبير: كان يعرف بالجامع الأعظم، شيده أمير المسلمين يوسف بن تاشفين في عام 409هـ/1018م، ومئذنته الحالية شيدت بعد ذلك في القرن الثامن الهجري، والمسجد مستطيل الشكل ذو دعائم من الحجر والآجر تحمل السقف، جداره مكسو بالقاشاني ومزخرف بالجص.
• جامع كتشاوه: شيد هذا الجامع في العصر العثماني، وكتشاوه هي العنزة بالعثمانية، وهو اسم الحي الذي يقع به المسجد، بناه الداي حسين باشا سنة 1209هـ/1794م، ومدخل المسجد يعلوه نص تأسيسي، وهو نص طريف، يقرأ:
حيذا جمع يرام بالمني من مبلغ القصد وتبسم
بروق الختام من أفق العهد بناه سلطاننا الرضي عظيم القدر
حسن باشا يالبهاء عديم المثل والند
قد أفنى لتشييد أساسه على التقى ثقل
فخاره من مال تجل عن العد وحاز بهجة لدى الناظرين ورخ
لما كملت كالسعد وباليمن سنة 1209
بجامع كتشاوة قاعة صلاة واسعة، ومنبر المسجد من الرخام له زخارف بديعة، ومئذنته تستطيع أن تميزها عن بقية مآذن مساجد الجزائر، حُوّلَ هذا المسجد إلى كنيسة في عام 1832م، لكنه عاد مسجدا بعد تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي.
• قصر الأميرة عزيزة: يقع هذا القصر بساحة الشيخ ابن باديس، هذه الدار أهديت لابنة الداي وزوجة باي قسنطنية، واستعمل هذا القصر لإقامة كبار ضيوف الدولة، وذكر حمدان بن عثمان في كتابه «المرأة» أنه كان بالقصر في سنة 1830م ملابس فخمة وأثاث نفيس وأدوات فضية لا تقدر بثمن، نهبت عند احتلال الفرنسيين المدينة، وهذا البناء بناء يدهش من يزوره بزخارفه المذهبة وبلاطات الزليج والرخام.
• دار مصطفى باشا: بنى هذا القصر الداي مصطفى باشا الذي تولى الحكم في عام 1798م، بلاطات الزليج به تحمل رسوم سفن مختلفة لا تشبه إحداها الأخرى، كان الداي يقيم في هذا القصر يوم الخميس ويغادره يوم الجمعة من كل أسبوع.
والفناء به فوارة رائعة من الرخام، وهو يعد مثالًا جيدًا لقصور الجزائر العثمانية، وفي عام 1863م وحتى عام 1950م كان مقراً للمكتبة الوطنية والمتحف الوطني.
• المتحف الوطني: أقدم متاحف الجزائر، أسس عام 1897م، عرف بعدة مسميات، أولها «متحف الآثار القديمة والفنون الإسلامية»، ثم متحف «ستيفان زال»، وبعد الاستقلال «المتحف الوطني للآثار القديمة». قسم كبير من المتحف يحكي قصة مدينة الجزائر، ويتميز المتحف بقسم خاص بالفنون والحرف التقليدية وزخرفتها، أو بالنسيج أو بالحلي، ومن لم يزر هذا المتحف فاته الكثير من تراث الجزائر، فهو متحف ثري يصنف من متاحف الحضارة، إذ إن شموليته امتدت لعرض لوحات لفنانين تشكيليين مثل ابن عبان ومحمد تمام.
• متحف الجهاد: افتتح هذا المتحف عام 1984م، وهو متحف عصري، إذ يقوم بأنشطة وفعاليات عديدة مرتبطة بتاريخ وكفاح الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي، وبالمتحف قاعة للأمير عبدالقادر الجزائري، إضافة إلى غيره من شخصيات المقاومة، مثل أبو عمامة والشيخ المقراني.
كما يقدم المتحف بعض الشخصيات المجاهدة مثل مصطفى بولعيد والعقيد عميروش، وأحمد زبانة.
لأهل الجزائر العاصمة دلال لغوي، يتجلى في التصغير، فهم يصغرون كل شيء تقريبا، فالشمس على كبر حجمها تصبح لديهم «شميسة»، وعلى المنوال ذاته ينطقون اللبن «لبينة» والخبز «خبيزة» وخديجة «خداوج» وأحمد «حميمد»، وللطرب في الجزائر العاصمة لونه الخاص المستوحى من الطرب الأندلسي، وكان من أشهر أقطابه مريزق والعنقاء، وعشاق المدينة يحبون هذا اللون من الغناء.
الأدب والثقافة والفكر والفلسفة والتدين والأريحية وحب الوطن، كلها صفات تجدها في أهل الجزائر العاصمة الذين تعرفت على عدد كبير منهم في القاهرة، وتوطدت علاقتي بهم في الجزائر العاصمة التي زرتها مرتين، مرة لحضور مؤتمر مخبر التراث عن المخطوطات، والثانية للمشاركة في فاعليات معرض الجزائر للكتاب، وفي كل مرة كنت أعيد اكتشاف هذه المدينة ■
مقام الشهيد (رياض الفتح) النصب التذكاري للحرب الجزائرية
جامع كتشاوة في قلب قصبة الجزائر... من أقدم المساجد في العاصمة
قصر داي مصطفى باشا بالقصبة