الشاعر خليل حاوي

الشاعر خليل حاوي

ثلاثة أحداث بارزة أثرت في تفكير  الشاعر  خليل حاوي وفي وجدانه وشعره، هي: نكبة فلسطين سنة 1948، وإعدام الزعيم أنطون سعادة سنة 1949، وهزيمة حرب سنة 1967.
بدأ خليل ينظم شعر  الزجل وينشره في مجلة «العرائس»  في مجلة «الدبور»، وقد جمعتُ عدداً من قصائده المنشورة في بداية أربعينيات القرن العشرين. وهو الشاعر اللبناني الوحيد الذي بدأ ينظم الشعر  العامي فتنكّر له وأخذ ينظم الشعر بالفصحى خلافاً لسعيد عقل وجوزف حرب وإلياس لحود وسواهم، الذين بدأوا ينظمون الشعر  الفصيح فانتقلوا إلى العامي كذلك.

كان خليل حاوي صريحاً حدّ الوقاحة، لم يكن متكبّراً على الرغم من أنه كان معتدّاً بنفسه ومعجباً بشعره حدّ الغرور، لا يطيق أن يسمع فيه أي نقد أو انتقاد، ولا أن يؤخذ عليه فيه أي مأخذ.
وكان ناقماً على بعض الأدباء والشعراء، ونقمته ليست صادرة عن حقد أو حسد، بل بسبب مواقفهم السياسية المتذبذبة والنفعيّة. فكان يرى في ذلك تدنيساً للأدب وللشعر ولمكانة الأديب والشاعر.
في جواب عن سؤال حول تجربته الشعرية والرؤية في شعره يعترف خليل في إحدى المقابلات التي أجريت معه بأن همّه هو إحداث نهضة عامة، وإرساء الشعر على قواعد رحبة تستطيع الأجيال اللاحقة أن تبني عليها مذاهب متعددة متباينة.
والانبعاث الحضاري هو ولادة ثانية تعانيها الأمة لتولد من جديد، فالشاعر في مفهوم خليل هو ضمير الأمة. والشعر الحق هو الذي يتضمن الحدس والرؤية المستقبلية. لذلك نجد في شعره أكثر مما نجد عند سواه من الشعراء العرب المعاصرين الحدس والرؤية.
سوف أقف عند قصيدتين، الأولى عنوانها «في بلادهم» المنشورة في مجلة «الآداب» في يناير 1957 - وهي غير منشورة في دواوينه - يتناول فيها حرب السويس سنة 1956 بين مصر من جهة وإسرائيل وفرنسا وبريطانيا من جهة أخرى، وفيها يتنبأ بما سوف يحلّ في لبنان سنة 1975 من حرب أهلية، فيقول:
وغداً يندكُ لبنانُ،
ويُنفَى شعبُ لبنانَ، ويستعطي الشعوبْ.
غيرَ أنَّ الأعينَ الصمَّاءَ لا تحكي،
وتحكي: أنتَ منبوذٌ غريبْ
سوفَ تستعطي الشعوبّْ!!
وهو يقول حول قصيدته هذه التي يسميها «الرؤيا» عن حرب السويس في كتاب «رسائل الحب والحياة»، وهي رسائل خليل إلى الأديبة ديزي الأمير عندما كان يدرس في إنجلترا بجامعة كامبردج (ص 168 - 169) مصوّراً حالته وقلقه على مصير أهله ووطنه وأمته:
«قد أستيقظ في أي صباح لأقرأ في الصحف أن لبنان قد تبخّر، قد حذف من الخريطة، وأن أهلي الآن لاجئون، أو أنهم قتلى منطرحين على التراب في الشوير أو في طريقهم منها إلى التشرّد الأبدي...».
أوَليس هذا ما أصاب لبنان واللبنانيين من جرّاء الحرب الأهلية التي استمرّت 15 سنة؟ فكان خليل حاوي ضدّ هذه الحرب.
والقصيدة الثانية هي قصيدته المطوّلة «لعازر 1962» آخر قصيدة في «بيادر الجوع» مستوحاة من إنجيل يوحنا، وهي نتيجة معاناة ورؤية للواقع العربي المُزري.
هذه القصيدة التي رصدت هزيمة الأمة العربية أمام إسرائيل في حرب الأيام الستة سنة 1967. هذه الأمة التي أرادها الشاعر أن تنبعث، أن تقوم من موتها، كما قام لعازر، ولكنها آثرت أن تبقى جثة هامدة.
الشاعر يريد إنقاذ أمةٍ تاهت في دروب الانحلال والتفسّخ وانتشالها من المستنقع الآسن الذي استقرّت فيه.
القصيدة معروفة، لذلك أكتفي بالإشارة إلى أن خليل قد تنبأ بالهزيمة النكراء التي أصابت الأمة العربية قبل وقوعها بخمس سنوات.
آمن خليل بأن الشاعر المعاصر يجب أن يكون ناقداً للحضارة ولذلك يجب عليه أن يكون صاحب ثقافة أدبية وفنية وفلسفية. فالشاعر مُقَدَّم على الفيلسوف الذي يخاطب العقل، بينما الشاعر الرائي قادر على خلق حضارة جديدة، ومن واجبه العمل على انبعاث الحضارة العربية التي مرّت بعصور انحطاط وما زالت مسيطرة.
ولعلّ من أهمّ ما يمتاز به الشاعر خليل حاوي هو الرؤيا في شعره وقد بيّنا ذلك.
لماذا لم يتزوج؟
هل كانت حياته أسعد لو كان أقدم على الزواج؟
هل كان باستطاعة شريكة حياته أن تخفف من وحدته؟
هل كان وجود الأطفال في البيت - وهو الذي كان مولعاً بالأطفال - يجعله أكثر تعلقاً بالحياة؟
ربما كان يرى في الزواج قيداً، والشاعر يريد أن يكون حرّاً يأبى القيود. وهو يعبّر عن ذلك بقوله: «الشعر يستولي على نفسي بكليتها، وأن أقرب النساء إليّ كما قالت إحداهنّ تأتي في الدرجة العاشرة بعد الشعر».
كان خليل يخاف أن يشاركه في شعره مشارك، فكان أن تزوّج الشعر ولم يشأ أن يتّخذ للشعر ضُرّة. ولم يكتفِ بأنه تزوّج الشعر، بل إنه تبتلّ له. كان خليل يحب المرأة الذكية، المرأة التي تفهمه وتستطيع أن تعيش معه بالرغم من مزاجيته وهبوطه النفسي.
لماذا انتحر خليل حاوي؟
− لم يكن خليل مصاباً بمرض عضال لا شفاء منه ليقدم على وضع حدّ لعذابه الجسدي وآلامه.
− وكذلك لم يكن يشكو من ضيق ذات اليد أو من فقر أو عوز.
− لم يتعرّض لخسارة مادية.
− لم يكن انتحاره ناتجاً عن سقوطه أو فشله في الحب أو من صدمة عاطفية.
− كما أنه لم يكن يشكو من ضعف في قواه العقلية، بل على العكس كان صاحب عقل راجح.
− فإذا كانت هذه الأسباب التي نبحث عنها عادة عند من يُقدم على الانتحار غير متوافرة فيه إذن، فلماذا انتحر؟ هناك أسباب عدة جعلت خليل ينتحر لا يستطيع أحد سواه حصرها. ونحن ليس في مقدورنا سوى أن نتكهّن ونجتهد فقد نصيب وقد نخطئ:
− كان خليل يؤمن بأن الحياة والموت كوجهي الدينار. فالموت هو الوجه الآخر للحياة، وما هي سوى خطوة يخطوها لينتقل من الحياة إلى الموت. وقد خطاها. وهو اقتناع يخصّه وحده. 
− كان خليل يعاني الخيبة، وهي ليست خيبة شخصية فحسب، بل هي خيبة قومية ناجمة عن السقوط الحضاري الذي منيت به الأمة العربية.
− لا شك في أن خليلاً كان يشكو في السنوات الأخيرة من حياته من الشعور بالوحدة والسخط وعدم الرضا والتمزق والإحباط، وبأنه لا يلقى ما يستحقه من الاهتمام كشاعر وهب حياته لأمته. وربما هو ناتج من إحساسه بنضوب في شاعريته أدى إلى جفاف في شهوته للحياة.
− أو لعلّ مثاليته كانت سبباً من الأسباب. كان خليل يأخذ كل شيء بجدية، مما يسبب له صداماً بين الواقع الذي يعيشه وصرامته وتشدده مع نفسه.
− أم هو نتيجة لأزمة وجودية كتلك التي عاناها البحّار في قصيدته «البحار والدرويش»: «لا البطولاتُ تنجيه ولا ذُلُّ الصَلاة».
− ثم جاء الاجتياح الإسرائيلي فكان بمنزلة القطرة التي طفحت بها الكأس.
− يضاف إلى ذلك كله أن فكرة الموت قد رافقت خليل منذ مطلع شبابه، ففي قصائده العاميّة أبيات يستدلّ منها يأسه من الحياة ورغبته في الانتحار.
كان خليل قد صمّم على تنفيذ فكرة الانتحار التي راودته مرات عدة كانت آخرها محاولته في شتاء 1981 حين نقل إلى مستشفى الجامعة الأميركية بعدما تناول حبوباً منوّمة، فأنقذ من الموت المحتم.
في ديوانه الأول «نهر الرماد» الذي صدر سنة 1957 ترد كلمة «موت» ومشتقاتها وتوابعها ولوازمها 85 مرة، ولم تخلُ منها سوى قصيدة واحدة فقط. فهذا الديوان تفوح منه رائحة الموت والمقابر والاحتضار والأكفان والجنازات. كان مسكوناً بهاجس الموت.
شعر خليل حاوي عقلاني انفعالي حدسي رؤيوي مأساوي فيه نَفَس ملحمي ونفحة بطولية ومحاولة إنقاذ أمة تاهت في دروب الانحلال والضياع والتفسخ، وانتشالها من المستنقع الآسن.
شعره يثور على المفهوم القديم للشعر العربي، شعره يصفع التزوير والتهريج، يكشف الأقنعة ويقتلع كالزوبعة، و«الزوبعة» أحد رموزه الشعرية. هو شعر إبحار في أعماق الذات، اصطحب خليل «بحاره» وأبحر عن هذه الدنيا الزائلة وحمل صليبه وتركنا ومشى.
في قصيدة «أغنية الأصيل والمارق» التي نظمها قبل وفاته بسنة, وهي غير منشورة في ديوانه، يهديها إلى الأستاذ الدكتور إحسان عباس بمناسبة بلوغه الستين. يتنبأ خليل بأن اليهودي التائه سيعود إلى تيهه وبأن الحق السليب سيعود إلى أصحابه. يقول في المقطع الأخير منها:
يوم يفرّ المارقُ التائه
يدري ولا يدري
أيَّ مصيرٍ مُبرمٍ يجري
في صُلبه من صُلب آبائه!
يمضي على ما اعتادَ
من تيهٍ إلى تيهِ
تيهٍ خفيٍ حاضر فيه
صوبَ الغَدِ المنسوجِ
من أطمارِ ماضيهِ
يومَ يفرُّ المارقُ التائهْ
يبقى لكَ البيتُ
وتبقى حَنوةُ البيتِ
وتبقى كلُّ أشيائهْ
يومَ يفرّ المارقُ التائهْ
لن يلتقي في الدربِ 
بحراً يابساً يمشي على مائهْ
لن ترتاح روح خليل إلا متى عملنا جميعاً على تحقيق نبوءته لتطهير أرض الوطن من رِجس إسرائيل المعتدية التي أدى اجتياحها للجنوب اللبناني في السادس من يوليو سنة 1982 إلى خسارتنا خليل حاوي■