علي بن الجهم ... الشاعر والفيلسوف
هو أبو الحسن علي بن بدر بن مسعود القرشي السّامي، ينتهي نسبه إلى سامة بن لؤيٍّ بن غالب، وبنو سامة بَطْن من قريش يقال لهم قريش العازبة، كما جاء في كتاب الأغاني، لأن سامة قد خرج مع امرأته ناجية وأولاده من مكة إلى ناحية البحرين، ومنهم مَن ترك البحرين إلى خراسان ثم إلى بغداد، وهذا النسب والهجرات بعيدان كل البعد عن مواطن البادية.
كان ابن الجهم يفتخر بنسبه هذا في مواضع عديدة، وورد في كتاب الأغاني من باب طرح كطرفة من الطُّرف التي تعمَّد صاحبُ «الأغاني» إيْرادَ كثير منها في الكتاب 203-234 (10) وذكر بروكلمان 1/78 أن ذلك مختلق في «تاريخ الأدب العربي» 1/78.
وما أكثر الروايات المختلفة في تراثنا الفقهي والأدبي، ولكي ترتبط حلقة الرواية، قالوا إنه عندما جاء من البادية كانت عباراته خشنة ولم تكن جلدته بعد.
ولما أقامَ في حاضرةِ بغداد لانت طبيعته فرَّقت عبارته حتى قال:
عيون المهابين الرَّصافة والجسر
جلبنَ الهوى من حيث أدري ولا أدري
وكثير من المراجع تنفي أن يكون علي بن الجهم من أهل البادية، إنه ولد في بغداد سنة 188 هـ/ 804م ونشأ يقرأ كتب الفلسفة، ويُناظر في قضايا الفلسفة وعلم الكلام، ويهاجم المعتزلة ويجادل الزنادقة، ولكن حب الأدب غلب عليه.
كان ابن الجهم صديقا لأبي تمام، وحظي في مطلع حياته عند نفر من خلفاء بني العباس،
فولاّه المعتصم ديوان المظالم في «حُلْوان»، وهي مدينة بين العراق وخراسان... وليست حلوان مصر، وكان في هذا المنصب سنة 222هـ/ 837م.
وعظمت منزلة ابن الجهم عند المتوكل إلى أن أفسد الحُسَّاد بينهما فأبعده المتوكل سنة 239هـ/853م، وطالت صحبته مع المتوكل، وقيل إنه عندما فرّق الحُسّاد ابن الجهم عن المتوكل أبعده إلى خراسان، وأمر واليها طاهر بن عبدالله أن يصلبه من الصّباح إلى الليل، فصلبه طاهر وأودعه السجن، ولو كانت هذه الحقيقة لسجنه وعاقبه في بغداد، فلماذا أبعده وأمر والي خراسان بمعاقبته؟ المرجع: (تاريخ الأدب العربي - عمر فرُّوخ صفحة 290).
اختلفت الروايات في ولادته إن كانت في خراسان أم غير ذلك، فقد ذكر الرزباني في معجم الشعراء ص 286 أن أصل علي من خراسان، وذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 11/367 وابن خلِّكان في «وفيات الأعيان» 1/441 أن عليا من ناقلة خراسان، فيجوز أن يكون ولد في بغداد، بعد أن انتقل أبوه إليها أو أن أباه انتقل به إلى بغداد وهو طفل، وكلام المرزباني لا يدل على أنه ولد في خراسان، وهو لا ينكر نسبه العربي العريق إلى قريش مكة، ثم الهجرة إلى البحرين، وخراسان كانت من مقاصد العرب بعد فتح فارس، ومن القبائل العربية التي مكثت في بلاد فارس وصارت امتدادا للعراق وأُطلق على الإقليمين العراقيين.
يقول كتاب «ديوان على بن الجهم» الذي عني بتحقيقه خليل مردم بك، وصدر من لجنة التراث العربي في بيروت، إن أسرة علي بن الجهم من عِلْية القوم، فقد وَلّى المأمون أباه الجهم بريد اليمن، كما ولاّه الواثق الشرطة في بغداد، وهذا يدل على أن مكوث الجهم في بغداد منذ زمن بعيد بعد رجوع العائلة من خراسان، وقد تكون العائلة جاءت إلى بغداد قبل ذلك، أو جاءت على أفواج لكبر تعدادها، وأخو علي بن الجهم، محمد بن الجهم، كان عالما أديبا ذكره الجاحظ كثيرا في كُتبه، وروى عنه واستشهد بكلامه، وكان مُقرَّبا عند المأمون، وولاّه ولايات عدة في بلاد فارس، كما ولاه المعتصم دمشق سنة 225 هـ.
ولعلي بن الجهم أخ آخر اسمه عبدالله، وكان متعلما من أهل الكلام. وكان عمه إدريس بن بدر من الرؤساء الوجهاء، وقد رثاه أبوتمام الطائي، وكذلك ابن عمه عثمان بن إدريس كان ممّن قصدهم الشاعر أبوتمام، كما ورد في ديوان علي بن الجهم الذي حققه خليل مردم بك، صفحة رقم (4).
وذكر المصدر السابق أنه، أي علي بن الجهم، كان يذهب وهو صغير إلى الكُتّاب من داره في شارع دُجيل ببغداد، وقد ظهرت عليه مخايل النجابة منذ طفولته، وكان حافظا لسوَر من القرآن الكريم والحديث الشريف.
وكان محبا للحركة والمشاغبة (الشطانة) حتى يشتكي منه بعض أترابه، هكذا حتى اشتكاه والده عند معلم الكُتّاب، وطلب منه أن حبسه بأن يمنعه من الانصراف عند نهاية الدرس الصباحي، وهذا كان سائدا في زماننا في الكويت عند «المطوّع» والمدارس النظامية، حيث كان يُحبس الطالب المشاغب ويقفل عليه باب إحدى الغرف حتى الفترة المسائية عصرا، وحرمانه من الشرب والأكل قد يسبب له مرضا كانخفاض في السكر أو دخوله في إغماءة، وهكذا كانت معاملة الطالب بعيدا عن الرعاية التربوية قرونا عدة حتى زماننا الذي رأينا فيه هذه العقوبة. فاشتكى إلى أمه من قسوة والده الذي أمر صاحب الكتّاب أن يعاقبه ويحبسه، قائلا:
يا أُمَّتا أفديك من أُمِّ
أشْكُو إليك فَظَاظة «الْجَهمِ»
قد سُرِّح الصبيان كُلُّهُمُ
وبقيتُ محصوراً بلا جُرْم
وكتب البيتين لأُمّه على لوح مع أحد الصبية من جيرانه، وقال إن هذا من بدايات شعره، كما ورد في الديوان الذي حققه خليل مردم بك في المقدمة، وكتب إلى فتاةٍ صبيةٍ معه في الكُتّاب على لوحه الخشبي:
ماذا تَقُولين فيمن شفَّه سَهَرٌ
من جَهدِ حُبِّكِ حتى صار حَيْرانا؟
وقيل إنه خُلق شاعرا لأنه قال الشعر مبكرا وهو صبي في الكُتّاب.
وجاء شعره المبكر في تهذيب تاريخ ابن عساكر، وشرح رسالة ابن زيدون، والمرجعان ينفيان رواية كونه من البادية، وكما بيّنا أن مولده كان في بغداد في كنف أسرة متعلمة ذات مناصب عالية عند خلفاء بني العباس، وظهر علو ثقافته في الأدب والفلسفة، وألفاظه الجزلة مع صحيح السبك ورقة التركيب ووضوح المعنى منذ صباه.
أما ما رُوي عنه في مقطوعة «أنت كالكلب في حِفاظك للودّ»، فقد بان عليها الوضع مما أغفلها كثير من الأدباء، منهم عمر فرّوخ في «تاريخ الأدب العربي»، كما أنكر ذلك د. طه حسين وبروكلمان في تاريخ الأدب العربي، أما سبب حبسه فقيل لأنه هجا المتوكل، أو أنه كان يهجو المقرّبين منه، وقال في حبسه:
قالتْ: حُبسْتَ فقلتُ: ليس بضائرٍ
حبسي، وأيُّ مهنّدٍ لا يُغْمدُ
أوَمَا رأيتِ اللّيثَ يأْلَفُ غيْلَهُ
كبْرا، وأوباش السِّباع تَردَّدُ
والشمس لولا أنها محجوبةٌ
عن ناظريْك لما أضاء الفرقدُ
والحبس ما لَمْ تغْشَهُ لدنيّةٍ
شنعاء، نعم المنزلُ المتَوَرَّدُ
وقال في مدح المتوكل أجمل قصيدة غنائية جميلة، وهي من أحسن الشعر:
عُيونُ المَها بين الرُصافةِ والجسْرِ
جَلَبْنَ الهوى من حيثُ أدري ولا أدري
أعَدْنَ لي الشوقَ القديمَ ولم أكُنْ
سَلَوْتُ، ولكن زِدْتُ جمرا على جمر
ولكنّه أوْدَى الشبابُ، وإنما
تُصادُ المَها بين الشبيبة والوفر
وبتْنا، على رُغم الوُشاة، كأننا
خليطان من ماء الغَمامة والخمر
خليليّ، ما أحلى الهوى وأمرَّه
وأعلمَني بالحُلو فيه وبالمُرّ!
بما بينَنا من حُرمةِ! هل رأيتُما
أرقَّ من الشكوى وأقسى من الهَجر؟
وما أنسَ من الأشياءِ لا أنسَ قولَها
لجارتها: «ما أَوْلعَ الحُبَّ بالحرّ!»
فقالت لها الأخرى: «فما لِصديقنا
مُعَنّى؟ وهل، في قتلهِ، لكِ من عُذر
صِليهِ لَعلّ الوصلَ يُحيِيه، واعْلمي
بأنّ أسيرَ الحُب في أَعظم الأسر»
وأيقَنَتا أنْ قدْ سَمِعْتُ، فقالتا:
«منِ الطارقُ المُصْغي إلينا وما ندري؟»
فقلتُ: «فتىً إنْ شِئتُما كَتَمَ الهوى،
وإلاّ فخَلاّعُ الأعِنّةِ والعُذْر»
فقالتْ: «كــأنّي بالــــقوافي سَــــوائرا
يَرِدْنَ بنا مِصْراً ويَصْدُرْنَ عن مِصر»
فقلتُ: «أسأتِ الظنّ، لستُ بشاعرٍ،
وإنْ كان أحيانا يَجيش به صدري
صِلي واسألي مَنْ شِئتِ يُخْبِرْكِ أنني
على كلّ حال نِعْمَ مُستودَعُ السرِّ!»
وما أنا ممّن سار بالشعر ذِكْرُهُ،
ولكنّ أشعاري يسير بها ذِكري
وما الشعرُ مما أسْتَظلُّ بظلِّهِ،
ولا زادني قَدرا ولا حطّ من قدري
ولكنّ إحسانَ الخليفةِ جَعفرٍ
دعاني إلى ما قلت فيه من الشعر
فسارَ مسيرَ الشمسِ في كل بلدة،
وهبّ هُبوبَ الريح في البر والبحر
ولو جَلّ عن شُكر الصّنيعة مُنْعِمٌ
لَجَلّ أميرُ المؤمنين عن الشكر
ومن قال إن البحر والقَطْر أشْبها
نَداه فقد أثنى على البحر والقطر
ولو قُرِنَتْ بالبحر سبعةُ أبحرٍ
لَمَا بلغت جَدْوى أنامِله العَشْر
ولا يجمعُ الأموالَ إلاّ لِبَذْلِها،
كما لا يُساق الهَدْيُ إلاّ إلى النّحر
وفَرّقَ شملَ المال جودُ يمينهِ،
على أنّه أبقى له حَسَنَ الذِكْر
إذا ما أجال الفكرَ أدرك فكرُه
غرائبَ لم تَخْطُرْ ببالٍ ولا فِكر
أغيرَ كتابِ الله تَبُغونَ شاهدا
لكم، يا بني العباسِ، بالمجد والفخر؟
كفاكُمْ بأنّ الله فوّض أمرَهُ
إليكم، وأوْحَى أنْ أطيعوا أُولي الأمرِ
القصيدة وشرحها من كتاب تاريخ الأدب العربي للدكتور عمر فروخ، الجزء الثاني، صفحة 292-293.
أما صفة علي بن الجهم وأخلاقه، فقد كان وسيم الوجه، حسن الهيئة، فارسا شجاعا، أشار إلى وضاءة وجهه أبو تمام بقوله:
بأيِّ نجوم وجهك يُستضاءُ
أبا حَسَنٍ وشيمتك الإباءُ
ويُشيرُ البحتري إلى سحر جماله بقوله:
يا عليّ بل يا أبا الحَسَن ألما
لِكَ رقّ الظريفة الحسناءِ
وأشار هو إلى وسامته وحسن جسمه بقصيدة مطلعها:
تصبوا بحمد الله ملءَ عُيونهم
حُسْنا وملءَ صُدورهم تَبْجيلا
وقال عنه الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» 11/367، وابن خلكان في «وفيات الأعيان» 1/441 وآخرون، إنه كان متدينا ورعا مهذّبا في شعره، وفي شعره ذكرٌ للقرآن الكريم والحديث الشريف في مواضع عدة، منها:
وآثَرَ آثارَ النبيِّ محمدٍ
فقال بما قال الكتابُ المنزَّلُ
أما القصيدة التي شاعت بين الناس، فقد أهملها النقّاد الثقاة ونفوا أنه قالها للمتوكل، كما نفوا كونه من البادية، فتلفظ بهذه الألفاظ الجافة الخشنة، وهي:
أنت كـــالكــلب فــــي حـــفاظك للودّ
وكالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمناك دلوا
من كبار الدلاء كثير الذنوبِ
وذكر الشيخ محيي الدين في «محاضرة الأدباء الأبرار ومسامرة الأخبار» 2-3، أن ابن الجهم قالها في مديح للمتوكل في خبر ظهر عليه الوضح، وأهمل ذكر هذين البيتين كتاب طبقات ابن المعتز عند ذكره لابن الجهم، 319 و332.
هذا هو حضري عالم متعلم نشأ في حاضرة بغداد وأحاط بالفلسفة وعلم الكلام ■