مختارات من القصة العربية

مختارات من القصة العربية

الفيللا المهجورة
بقلم: محمد زفزاف

لم يكن أحد يعرف من يكونون، إلا أنهم كانوا يسكنون. يدخلون إلى تلك الفيللا من بابها الواسع الذي تتهدل على جوانبه أغصان وأعراس ونباتات غير مشذبة، فكل سكان الفيلات المجاورة يهتمون بتشذيب نباتاتهم وإقامة حفلات ليلية.

لكن تلك الفيلا تبدو مهجورة. إلا أنهم يدخلون إليها برغم أنه لا أحد يعرف من يكونون.

قالت إحدى خادمات الفيللا المجاورة للحارس:
إنني أشك في هؤلاء الثلاثة، تكون معهم أحيانا فتاة أسمعهم ينادونها فاطمة.
يمكن أن يكون منهم البستاني والطباخ ومصلح أدوات الكي أو أي شيء من هذا القبيل.
إنك تمزح. أنا لم أر طيلة السنوات التي قضيتها هنا في هذا الحي أناسا أغنياء يدخلون إلى الفيللا المهجورة.
لعلهم يأتون في آخر الليل.
ولماذا لم يشذبوا نباتاتهم؟
ربما لأنهم يملكون فيللات أخرى.
قالت الخادمة:
أنا أشك فيهم: خصوصا في ذلك الأبرص الذي يرمش بعينيه. أما تلك الفتاة بلباسها ذاك فإنها تبدو من ناشلات الجيوب في الحافلات. لقد رأيت مثيلاتها كثيرات. صدق الحارس بعض ما قالته الخادمة، لأنه لم يشتغل معها إلا سنة واحدة. ثم إنه لم يتحدث إلى الثلاثة على الإطلاق فهم لا يتكلمون وغالبا ما يدخلون منفردين، يدفعون الباب ويدخلون. فهو دائما مفتوح. وأحيانا يسمع نباح كلب داخل الفيللا، لكن ذلك الكلب لم يغادر قط الفيللا، فربما كان مربوطا وحتى نباحه كان غريبا شبيها بعواء ذئب.

وخيل للحارس أيضا أنه ربما سمع نقيق دجاج. لكنه لم يتأكد من ذلك. فآذاننا تخوننا أحيانا كما تخوننا ألسنتنا فنقول مالم نكن نريد قوله. وقال الحارس للخادمة:

يبدو أنهم يربون الدجاج.
لا تقل هذا الكلام، فأنا اشتغل هنا منذ سنوات، ولم أر سيارة تقف أمام هذه الفيللا.

لم يكن الحارس يهمه الأمر بقدر ما كان يهم الخادمة على ما يبدو، ثلاثة رجال وامرأة في فيللا مهجورة، شيء يبعث على الفضول، حتى بالنسبة للذي لم يكن فضوليا. ثم إن الفضول غريزة في الإنسان حتى ولو تلصص وأطل من ثقب الباب. وقال الحارس للخادمة:
كم أنت فضولية دعيهم وشأنهم.

أنا لست فضولية. ولكن يمكن أن يكونوا أناسا مشبوهين. وقد تأتي الشرطة لتأخذنا جميعا كشهود، ونحن في الحقيقة لا نعرف شيئا ولم نشاهد شيئا.

قال الحارس:
وماذا شاهدنا؟ إنهم يدخلون ويخرجون. ثم إننا لا نسمع سوى نباح كلب.
قالت الخادمة:
ذات مرة أخذوني إلى مركز الشرطة وضربوني لأنني لم أر ما وقع في تلك الفيللا هناك. دخل اللصوص وسرقوا أشياء. وقال رجال الشرطة إنني أعرفهم وأنا لا أعرفهم ولم أرهم على الإطلاق.

هل ترى كيف أن عدم الفضول إلى ماذا يؤدي؟ لقد علمتني أمي منذ طفولتي أن أكون فضولية.

ظل الحارس واقفا، يتأمل تلك النباتات والأعراس غير المشذبة. ولم يفهم ما معنى أن يكون فضوليا. وفكر بأن الفضول قد يؤدي بصاحبه إلى السجن. لقد حصل له ذلك عندما تشاجر تاجرا خردوات، وأراد أن يتدخل فأصابته لكمات، وأخذه رجال الشرطة مع المتشاجرين. حكم عليهما بالسجن لأنهما كانا يتاجران في مسروقات. أما هو فقد منوا عليه بشهر سجنا، لأنه مسلم وأراد أن يفك الشجار بين أخويه في الإسلام. وقد قال ذلك لرئيس الجلسة.

فقال له السيد الرئيس:
الإسلام شيء والفضول شيء آخر. لقد تدخلت، ومعنى ذلك أن لك يدا مع أحدهما.
أقسم كثيرا وحاول أن يبكي. لكن ذلك لم ينفعه. ذكرى ذلك الشهر الذي قضاه في السجن لم تمح قط من ذاكرته وقالت الخادمة:
فيم تفكر؟ لا شك أنك تعرف أحدهم. أقول لك إنهم مشبوهون.
التفت إليها:
عمن تتحدثين؟
عن أولئك الثلاثة.
أنا لا أعرف أحدا. أنا لست فضوليا.
سوف يأخذهم رجال الشرطة. كن متأكدا من ذلك
وبما أنه لم يكن متأكدا من شيء فقد اكتفى بأن قال كلاما لنفسه.
وقالت الخادمة بصوت مرتفع:
ماذا تقول؟ تحدث. إن الشرطة سوف تستدعينا نحن الاثنين كشاهدين. لا شك أنهم من النشالين أو بائعي المخدرات.

لا أدري. لا أستطيع أن أقول لرجال الشرطة إلا أنني لا أعرف شيئا. وسوف أقول لهم كذلك، إن الناس يريدون أن يعرفوا كل شيء عن الآخرين ولا يريدون أن يعرفوا شيئا عن أنفسهم.

وقالت الخادمة:
إنك لم تجرب الحياة كثيرا. من الأفضل أن تسقي الحديقة وأن تسكت إلى الأبد.
سكت بالفعل، وتمنى ألا يتكلم. ولكن حتى ولو تمنى الإنسان ألا يتكلم فإن هناك إنسانا آخر يجعله يتكلم حتى بما لم يعلم. قبالة الفيللا المهجورة، هناك حديقة مهجورة، يرتادها كثير من المشردين والمشردات والشيوخ الذين ينتظرون تقاعد الموت، كما هو الشأن بالنسبة للجميع. في تلك الحديقة المهجورة، كانت تنام فتاة من منطقة الريف كل ليلة. وبطبيعة الحال، كانت هناك فتيات أخريات. وفي المغرب حدائق كثيرة ينامون ويسكرون فيها، وربما قد يتزوجون. لكن عندما تخرب المجالس البلدية تلك الحدائق، وتبني في مكانها عمارات للبيع لا للكراء، فإن الذين أنجبوا أطفالا يتركونهم في الشارع يبيعون السجائر بالتقسيط، أما بناتهم فهن عرضة للشارع الفسيح. برغم أن الشوارع ضيقة مع الأسف. وهكذا فتخريب الحدائق يفرخ أطفالا. ومن يدري، فقد يكون أولئك الثلاثة المشبوهون قد فرختهم الحدائق المخربة. كل شيء محتمل. إذا انتزعت شجرة فقد تنبت أخرى في مكان ما. وإذا مات لص فقد يولد آخر وإذا اختفت امرأة سواء كانت ابنة الحديقة أو أي مزبلة أخرى، فإن الإنسان سوف يعثر على امرأة أخرى. علما بأن ربة البيت هي الشريفة. نقول هذا الكلام ونمضمض به أفواهنا. بنات الحدائق موجودات في كل مكان، لكن المحصنات موجودات قرب البقال والنجار وبائع الخضار وبائع التوابل. وحتى لا نذهب بعيدا، فقد قالت الخادمة:
كم يلزمنا من الوقت لكي نفهم كل شيء؟
وكان الحارس قد أجابها:
صعب جدا أن نفهم كل شيء. لقد حاولت أن أفهم أشياء كثيرة لكني لم أوفق
أنت أصغر مني سنا ولا تستطيع أن تفهم.
افهميني.
عد إلى السجن حتى تفهم. قلت لك إن أولئك الثلاثة مشبوهون وأشك فيهم
كثيرا. سوف ترى. وسوف تعرف أني على صواب.

يبدو أن أشخاصا آخرين كانوا يتسربون إلى الفيللا المهجورة من مكان آخر. لأن أصواتا كثيرة ثملة كانت ترتفع في آخر الليل. وكانت الخادمة تسمع ذلك إذا ما أتيحت لها الفرصة لكي تنام في الفيللا التي تشتغل فيها. أصوات غريبة تصدر كلاما نابيا.

أصوات تتحدث عن السجن وعن كيفية الطعن بالسكين أو بالزجاجة المكسورة. وأحيانا حتى بكعب حذاء امرأة. على كل حال، فهي أصوات رجال ونساء. وكانت الخادمة تتخيل تلك المعارك الدامية فتصاب بالخوف، وتتناول قرصا لكي يساعدها على النوم. لكن نومها فيه كثير من الشجارات، والسواطير والسكاكين والزجاجات المكسورة، والأجنة الملفوفة في أكياس البلاستيك، وقبعات رجال الشرطة، والآلة الكاتبة التي تنجز محضرا يقدم إلى المحكمة بتهمة السكر والتحريض على الفساد. إنها أحلام مزعجة حقا، تجعلها تستيقظ لكي تتناول قرصا آخر فتهدأ فتنام، فتستيقظ فتشتغل، فتفكر فيم سيكون عليه أمر المشبوهين. لكن أحلام الحارس كانت عادية. وغالبا ما كان يحلم بأنه يمتلك فيللا، وله العديد من الخدم والأصدقاء. وغالبا أيضا ما كان يحلم بشاحنة تنقل إلى الفيللا التي يحلم بها زجاجات الويسكي المتنوعة. كان حلمه مغايرا تماما لحلم الخادمة. لكنها تبقى مجرد أحلام. غير أنها بعيدة كل البعد عن السواطير والزجاجات المكسرة واللكمات إلى غير ذلك.

ليلة الاثنين من شهر مارس عام 1980، سمعت الخادمة نباح الكلب في الفيللا المهجورة. كان نباحه غير عادي. غادرت فراشها وذهبت لتطل بفضول من بين الأزهار المتدلية عند باب الفيللا المقابلة للفيللا المهجورة.

رأت كل ما كانت تحلم به عادة: سواطير وسكاكين وقبعات وعصيا وتخيلت أنها رأت بعض الدماء تسيل. لكنها لم تكن متأكدة من ذلك. ثم سمعت طلقة رصاص. أصابها رعب. أخذت ترتعد وتهذي، ثم هرولت إلى فراشها. تناولت فنجان ماء وقرصين ابتلعتهما بسرعة. تهاوت على حافة الفراش، وكانت أحلامها كالعادة: سواطير، زجاجات مكسرة، وقبعات رجال الشرطة.

تمر حنة
بقلم: محمود الورداني

كان يوما طويلا بدا كأنه لن ينتهي منذ حملت حقيبتي في الصباح ومضيت إلى المدرسة. كانت الشمس تطلع وما تلبث أن تغيب وأنا أرقبها من داخل الفصل. وعندما غابت تماما فتحوا لنا الأبواب للخروج. كنت خائفا من العودة في هذا اليوم بالذات، فأنا لم أر"قمر" أمي منذ استيقظت، واكتفت خالتي"الجارية" بأن وضعت فطوري في حقيبتي وتولت عني. مرت أيام كثيرة تغيرت فيها قمر أمي تماما. دخل ناس غرباء وخرجوا. جلس رجالهم مع جدي وأخوالي، وجلست نساؤهم مع نسائنا، ولم أفهم سر هذا الهرج الذي استمر. انشغلت قمر أمي عني هنا في "المنصورة" التي انتقلنا إليها بعد أن مات أبي وأنا صغير، وجاء جدي عندنا في "شبرا" وباع أكثر أثاثنا، وعاد بنا معه في القطار. أحببت جدي هذا الذي أمقته الآن كما أحببت مدرستي التي انتقلت إليها في الصف الثالث في مدرسة الشهيد عبدالمنعم رياض الابتدائية، وكذلك خالاتي وأخوالي الذين يسكنون كل شقق بيت جدي.

أما اليوم، فيبدو أنهم قرروا أن يذهبوا بقمر أمي.نامت بجانبي في الليلة الماضية، عندما بدأت هي تروح في النوم ويسكن بدنها، سألتها: "قمر.. هل ستتزوجين هذا المدرس حقا.. لا يحبني ولا أحب هيئته القليلة داخل بذلته الضيقة وشعره الناعم سمعتهم بأذني يقولون إنهم سيزوجونك له. يعني هو سيكون مثل أبي. قال جدي لخالتي "الجارية" أمامي: مصطفى سيبقى معنا.. يعني أنت ستتركيني يا قمر.."

لم ترد علي وكانت نائمة وأنا اقترب منها لأحتضنها. وحين دفنت رأسي في صدرها محاولا أن يغلبني النوم، تقلقلت في رقدتها فاكتفيت بالنوم على ذراعها مفتوح العينين خائفا من أن توافق هي على تركي. همست لها: من سنة ثانية إلى سنة ثالثة.. يعني سنة واحدة بقينا فيها معا ثم تتركيني. أنا أعرف أنك لن تتركيني. ولكن إذا تركتني فأنا لا أريدك وأكره جدي وهذا المدرس الذي كان يجلس معه كلما جاء. سأكتم نفسي حتى أموت وسأجعلك تبكين علي مثلما بكيت لما مات أبي يا قمر مادمت ستتركينني هنا وحدي معهم. خالتي الجارية هي الوحيدة بين كل هؤلاء، تكلمني وترد علي لما تجدني أجلس بعيدا عن النسوة والرجال الذين يملأون كل غرف البيت. اشتروا أثاثا وعملوا مراتب ووسادات وملاءات وأعدوا أطباقا وحللا وملأوا حجرتنا أنا وقمر بصناديق أتخبط وسطها. بيني وبينها، وعندما كنا نختلي معا كانت تقول لي إن عم "سعيد" مثل أبي.. "جلال".. وأنا لا أرد عليها. كل يوم يضربني المدرسون لأنني لا أعمل الواجب وأظل أرقب قمر فقط. مهما قالت لي فلا أرد عليها. وكل ما أطلبه من خالتي الجارية 0 بل إنها - الجارية - دخلت علي في الحمام ودعكت جسمي باللوفة وغسلت شعري ثم نشفتني وألبستني "البيجامة" وظلت جالسة بجانبي على السرير وأنت غائبة عني.

قلت لنفسي وأنا خارج من المدرسة: ما الذي سيحدث إذا تركت كل شيء ومشيت في الشارع الكبير الذي فيه سيارات النقل حتى أجد القطار فأركبه وأعود إلى شبرا. وحين تبحث قمر عني لن تجدني ولن تتزوج سعيد المدرس ولا أي أحد. اختبئ في أي شقة من شقق أخوالي أو خالاتي أو حتى فوق السطح. أقفز من فوق السطح وأذهب إلى أبي في الجنة وأعيش معه هناك.

ووجدتني راجعا في نفس طريقي، لكنني عزمت على التسلل إلى شقة خالي محمد في الدور الثالث، حينئذ شاهدت كل الأبواب مفتوحة والنسوة يتزاحمن ويتدافعن. نسوة أعرفهن فيضحكن لي ويكلمنني، ونسوة أخريات لا أعرفهن يصطدمن بي ولا يحفلن بأي شيء ويصرخن راكضات هنا وهناك. كيف لي أن أصل إلى شقة خالي محمد؟ وفكرت في أنني يجب أن أبحث عن قمر وأقول لها أن تأخذني معها ولا تدعني أبقى هنا عند جدي. ثم قلت: لا.. لن أطلب منها أن تأخذني معها فأنا لا أريدها. مضيت أتسلل هنا وهناك باحثا عنها. كنت أسمع صوتها وأسمع النسوة ينادين عليها دون أن أجدها. أخيرا.. دخلت حجرتنا وفوجئت بها خالية من كل الصناديق فاتسعت وبان سقفها وشباكها المطل على شجرة التمر حنة. كدت أنسى الشجرة ذات الفروع والأغصان التي تستطيع أن تلمسها إذا مددت يديك، فمنذ جاءوا بالصناديق والشباك غائب خلف صندوق التلفزيون الملون، وحجرتنا باتت مسكونة بعتمة خفيفة.

يبدو أنني نمت في ضوء النهار، غير أنني استيقظت مبتردا أرتجف وجائعا تهتز الدنيا من حولي وقد عادت الحجرة لعتمتها وغابت شجرة التمر حنة. قاومت كل هذا لما سمعت صوت قمر تفرقع ضاحكة:

"هي الدنيا طارت.." كانت هي التي أضاءت الحجرة وتقدمت في فضائها، فاتجهت بعيني إلى ساقيها وأنا أسمع دقات حذائها السماوي بكعبيه العاليين وفستانها بلون السماء أيضا له حفيف. قمت لها أخيرا. كان لها وجه آخر، لكنه جميل مثل كل وجوهها، مرسوم بالأسود والأخضر والأحمر والأبيض. مضيت أحدق فيها أزيل كل لون تلو الآخر لأصل إلى وجهها القديم. ولما تكلمت عاد وجهها الذي أعرفه وهي تقول: "مصطفى يا حبيبي.. لن أغيب أكثر من يومين.." "يومان؟.."

" آه.. يومان أو أسبوع وأعود...".

أغمضت عيني لما مالت علي وغمرتني رائحتها واستسلمت لقبلاتها جامدا. شهقت قمر بالبكاء لما تخلصت منها عندما احتضنتني وأنا جالس في فراشنا. وتلقيت قطرات دموعها على وجهي وأنا جامد أيضا. ولشد ما أدهشني أنها استدارت في نهاية الأمر بفستانها السماوي، وعدت أسمع دقات كعبي حذائها العاليين.

السكن
بقلم: طالب الرفاعي

.. ليلة واحدة وتمر.. ماذا بقي لي؟ فوضى غرفته تشوشه.. حدث نفسه بصوت مسموع، عد على أصابعه:
الحقيبة جاهزة. جواز سفري. التذكرة. إذن الخروج..
باب خزانة الملابس مشرع. رفع بصره: ..والبذلة التي سأسافر فيها.. ارتمى على فراشه.
تمتم: تعبت..
نفخ بحرقة:
الله يلعن أبوالحاجة!
طالعته الثلاجة. تساءل:
الخضرة، والجبن، أين أذهب بهما؟
وفرح حسه:
ألم الأغراض، أنزلها لحسن..
وحرد:
الدرج هد حيلي! أحس بجسمي مكسرا. نقل المكيف لغرفة حسن أتعبني..
كنت لاهيا أرتب حقيبتي. لم ألتقط خطوات حسن. انتبهته حين سد بقامته المنحنية عتبة باب غرفتي، قال:
مساء الخير أستاذ نذير.

انتشلتني تحيته.اعتذرت:
عفوا، الغرفة مبعثرة..
أبدا أستاذ.. ربما تحتاجني بشيء؟
تسلم.

سحبت له كرسيا. وقبل أن يجلس، مسح عرقه، أشار بيده:
ما شاء الله، غرفتك باردة!
تذكرت مكيف غرفته المعطل منذ أكثر من شهر.. كيف يحتمل حرارة أغسطس الكويت؟! فرن كبير.. نظرت إليه، ولا أدري من أين نطت جملتي:
ما رأيك لو نقلنا مكيف غرفتي لغرفتك؟
فاجأه اقتراحي. ابتسامة ضائعة طوقت وجهه. وأسعفه، أكملت:
لن يأتي أحد لإصلاح مكيفك، ستقضي إجازة الصيف في تنور!
انبعجت ملامحه. تململ في جلسته. تلاقت نظراتنا. حزرت تردده وخوفه. طمأنته:
لن يعلم أحد بالأمر.

ولكن..
مكسورة الخاطر خرجت كلمته. نفضت يدي
سألته:
لديك مفك ومطرقة؟
تسرب بعض الانتعاش لنظرته، أجاب:
نعم.
وأسبقه، خرجت أمامه، هممته:
تعال معي.
ولم يعارض...
سيفرح المسكين.. أجمع له الخضرة لوحدها في كيس، والفاكهة في كيس آخر..
كعادته كلم أستاذ نذير نفسه بصوت مسموع، بينما انشغلت يداه في استخراج الخضراوات من الثلاجة
الله يساعد حسن، كيف سيقضي الإجازة بطولها لوحده؟! جميع المدرسين غادروا السكن.. من أجل كم دينار، كدت أجن خلال الأيام الماضية!
يوم أرسل ناظر المدرسة يطلبني. قصدته. حييته:
صباح الخير.

حاولت أقرأ وجهه. وكمن يزف لي خبرا مفرحا، نفخ كلماته:
مبروك أستاذ نذير.
الله يبارك فيك.
خفق قلبي، قلت: أخيرا جاء الفرج، وصلت ترقيتي. خمس سنوات وأنا احتمل المرار، أنتظر زيادة راتبي.. لهفي أسرعت إلى صورة زوجتي وطفلي. وصوت الناظر يعاجلني:
تقديرا من الوزارة لجهودك، فلقد وقع عليك الاختيار لتكون عضوا في لجنة مراقبة الامتحانات!
لطمتني كف الخيبة. شعرت بثقل جسدي. تلفت ورائي. تهالكت على أقرب مقعد. وحسه يضغط علي:
سيحسب لك العمل الإضافي لمدة نصف شهر.. لم أجد ما أرد به. فأضاف هو محاولا إظهار تفضله الكثير علي:
زملاء كثيرون لك، يودون لو تم تكليفهم!
أحنيت رأسي موافقا. ابتلعني المقعد. أحسست بحلقي جافا. بلعت ريقي، واستأذنته:
شكرا لكم أستاذ!
لأنزل أعطي الأغراض لحسن - أسر أستاذ نذير، دمدم يخطو: كلما نزلت الدرج، تمنيت ألا أصعد ثانية..
أربعة أدوار كاملة تعوي بها الوحشة. أهلكتني الوحدة.. تعمدت أمضي أطول مدة ممكنة في لجنة المراقبة. وحين أعود مساء، ولحظة تنعطف السيارة، يظهر لي مبنى السكن الأصفر، يلتف على رقبتي الليل. تتعنكبني غربتي. تهيض بي الديدان، تخرج من جحورها، تنهش روحي، تدمي قلبي.. أينكم: زوجتي وطفلي؟! لا أحد لي هنا. أشتهي لو يرن التلفون! أتوسله: دخيل الله رن!
أوف!
لهث أستاذ نذير، نازلا آخر درجات السلم. مناديا:
حسن..
-... يا حسن..
-...
اقترب من الغرفة. دفع بابها. عانده القفل..
أين ذهب؟!
ثقل أكياس الخضرة المعلقة في يديه. وضعها لثوان. وما لبث أن سمع:
تفضل يا أستاذ.
مرحبة جاءت الدعوة. دخل الغرفة..
ما هذا؟!
فاجأه حسن، كان قد مد جريدة على الأرض، جهز العشاء.. لامسه هواء المكيف البارد، وحفاوة حسن المنثورة:
نتعشى معا أستاذ.
ابتسم نذير. وكعادته حدث نفسه بصوت مسموع:
وأنام عندك!

نزل الرجل الأزرق
بقلم: عبدالمجيد غجاتي

انتشر الخبر في الصحراء بسرعة الريح. لقد تم الإعلان عن زيارة سيقوم بها الحاكم قريبا إلى المنطقة. كان الحاكم لا يزال في جانيت عندما اندفع أحد رجال قبيلة الأزجار إلى خيمة الحاج أسمل، وهو من كبار المهربين ومربي الجمال، بالإضافة إلى كونه شاعرا حسب الأوقات، وقال له: "يا حاج، سيحل الرومي العظيم في ديارنا خلال بضعة أيام فما هي أوامركم؟" كان الحاج أسمل، المنتخب بشكل طبيعي شيخا للقبيلة، يعرف الحاكم من خلال سمعته. كان يعرف أن هذا الزعيم الكبير لم يتردد لحظة واحدة في أن يقتل رميا بالرصاص رجال قبيلة متمردة من قبائل الشمائل، فعليه إذن أن يكسب ود هذا الرجل القوي. وهكذا أصدر الحاج أوامره قائلا:"عد إلى طريق "تم" وأرسل العيون إلى المدينة، علينا معرفة غاياتهم". ومن ثم جمع الحاج أسمل مجلس شورته، الذي يجلس فيه دائما خصمه الأزلي المرابط غربال. لم يكن هذا الرجل الفاضل يكن في داخله أي ود لكل هؤلاء الغرباء الذين يقتحمون الصحراء ويرى في كل واحد منهم مبشرا دينيا مخيفا. أراد الحاج أسمل إقامة احتفال كبير على شرف الحاكم، لكن المرابط، ذلك المناور الذكي، لم يعارض الفكرة ولكنه انتهز الفرصة كي يحذر أعضاء المجلس من الخطر الذي سيحيق بقبائل الصحراء إذا ما خضعت إلى سلطة الكفار.. وصرح قائلا: "لا تحالف ولا معاهدة مع هؤلاء الذين يقتلون المسلمين! لقد تناهى إلى سمعي أن هذا الزعيم الكافر أقوى سلطة من ملك، وأن البعض منا يخشاه. حسنا إن أفراد جماعتنا الذين اختاروا أن يكونوا جبناء، لن ينتظروا طويلا غضب الله".

وهكذا قدم غربال نفسه أمام المجلس على أنه الحار الأوحد لوحدة الطوارق ولتضامنهم. هذه الوحدة التي تتعرض للتهديد أكثر فأكثر والتي لا يستطيع اتساع الصحراء المحافظة عليها. ومن جانبه كان الحاج أسمل يعرف أن الزمن قد تغير وأن العقل يأمر بالحكمة في الوقت الحاضر. ففكر محدثا نفسه: "الحاج غربال يتعالى كثيرا كعادته، ويرتب أوراقه كي يأخذ مكاني في اللحظة المناسبة". وفي الخارج كان الليل المرصع بالنجوم يضيء الكثبان الرملية بأنوار نجومه الكثيفة. ولم يكن يشوش الصمت المطبق سوى هدير الجمال، بينما كانت الرمال والصخور التي سخنها النهار المحرق تبعث في الجو بنفحات بخارية وبطيئة من الحرارة الشديدة التي تفيض منها. قرعت الطبول ولعلع صوتها عبر أجواء كامل منطقة تنزروفت، وجاء المبعوثون من جهات الصحراء الأربع، قادمين من تاودين وأرليت وحتى من تمبكتو البعيدة جدا. كان البعض محملا بالهدايا، والبعض الآخر بالمواد الغذائية. كان الجميع يتجهون نحو منطقة تاسيلي.

وأخيرا وصل سعادة الحاكم. كان الحاج أسمل مطلعا تماما على مسيرته عبر الصحراء وذلك بفضل عيونه، وعند الصباح دوى صوت البوق، فاجتمع الحاج وجميع أشراف القبيلة أمام الخيمة الجماعية وهم يرتدون ثياب الاستقبال الرسمي واللثم تغطي وجوههم.

كان الحاكم رجلا فظا تتأصل فيه الروح القيادية. لقد كان أول من أناخ جمله ونزل بجلال عن ركابه ومن ثم تقدم من الحاج أسمل وحياه طويلا على الطريقة البدوية، مكررا وضع يده على صدره، وبعد ذلك بلل شفتيه في طاس من حليب الناقة ثم دخل الجميع إلى الخيمة.

بدأت المناقشات المملة، وقام بالترجمة مبعوث من تمنراست. لم ينبس المرابط ببنت شفة حتى تلك اللحظة، واكتفى طوال الوقت بالتسبيح بسبحته بعصبية ظاهرة، وهو يلقي بنظرات مخيفة على رجل الكنيسة الذي كان برفقة الحاكم. بينما بدا الحاكم مرحا والحاج أسمل مشدودا جيدا إلى أقوال ضيفه الشهير. الأمر الذي أقلق غربال وأنصاره كثيرا. وعند المساء، وفي جو لطيف وساحر لا يعرفه سوى العشاق، أقيم احتفال كبير وافتتحه الحاج أسمل بتلاوة بعض الأبيات الشعرية من نظمه. لقد بدأها بأشعار تمجد الخالق، ثم أتبعها بأبيات في مدح الحاكم الذي أعجب بها كثيرا، واستمرت الزغاريد وأصوات البندير تصدح قسطا كبيرا من الليل، وفي أثناء ذلك انسحب الحاكم لبعض الوقت إلى خيمته الخاصة حيث انفرد بنفسه وقدم له خادمه صندوق المشروبات الخشبي، فصب لنفسه كأسا من شراب الأبسنت المسكر فجرعه دفعة واحدة، ثم تلاه بكأس أخرى ومن ثم عاد إلى مكانه بين المحتفلين وجلس عن يمين مضيفه.

كان الاحتفال قد بلغ ذروته عندما انفصل عن الجمع رجل ذو سحنة متألقة وبدأ يقفز متأرجحا مرة على الرجل اليمني ومرة على الرجل اليسرى، وفجأة ارتعد الراقص وبدأ بالهذيان، فأعاده إلى صوابه رجلان قويان، عندها صرخ قائلا: "يا حاج، يا حاج هناك امرأة تحوم حولك!" فسأله الحاج ساخرا: "أي امرأة هذه؟ ألا تكفيني نسائي؟" فأجابه الراقص: "إنها امرأة تلبس الأبيض، إنها تبكي، إنها جميلة، غزل حقيقي يا حاج، وهي تبكي من شدة الحزن".

هل هذا نذير شؤم؟! بيضاء كالموت؟! وشعر الحاج بما يشبه القشعريرة تحت جلبابه وبحث عن نظرات غربال الذي كان يتلذذ برؤية خصمه مرتبكا. والحق يقال إن الحاج أسمل وعلى رغم كل الجهود التي بذلها، قد أمضى أمسية مضطربة ولم يلحظ مطلقا صبا وجمال الراقصات، الذي جعل شاربي الحاكم يرقصان مرات عديدة من البهجة. لم يكن الخوف من طباع هذا الرجل الشجاع، لقد كان باستطاعته أن يقوم عن طيب خاطر برسم بضع خطوات راقصة بصحبة هذه المخلوقات السماوية، إنها نجوم حقيقية تلامس شغاف القلب، هنا في هذه الصحراء المترامية الأطراف.

وفي الغد ذهب الجميع إلى الصيد، واعتذر الحاج أسمل من الحاكم، وناب عنه ولداه في مرافقته. لقد تعلل الحاج بإعياء شديد وذلك كي يمكث في الخيمة طوال النهار، ولكنه في الواقع انصرف إلى قراءة القرآن الكريم وإلى الابتهال إلى الله محاولا، دون أن يفلح في ذلك تبديد نبوءة الراقص التي أصبح الحاج ضحية لوساوسها.

وعند مغيب الشمس عاد الحاكم ومرافقوه إلى مضارب القبيلة، كان الصيد وافرا، وتم تحضير أكثر من غزال لوجبة العشاء. وتحولت الأحاديث الرسمية إلى ثرثرات لا معنى لها. لكن الحاج أسمل كان قد فقد شيئا من مرحه السابق بينما تألق المرابط غربال بفضل روحه المرحة حتى أنه تبادل مع القسيس بعض الأفكار اللطيفة حول المحرمات.

وفي اليوم الثالث وعند الفجر شكر الحاكم مضيفيه وودع بحرارة قبيلة الأزجار ولحظة رحيله قدم للحاج أسمل ساعة جيب رائعة تعبيرا عن عرفانه بالجميل. لقد أصبحت تلك الساعة ذات التكتكة العجيبة رمزا لسلطة الشيخ العجوز الذي احتفظ بها بعناية فائقة، برغم نصائح المرابط غربال له الذي رأى في هذه الآلة تجسيدا لعمل الشيطان.

مضى زمن، وانتقل الحاج أسمل إلى جوار ربه، وقبل أن يسلم الروح استدعى ولديه إلى جواره: بركات ولده البكر وعبالا الذي ينظم الشعر كوالده أيضا.

تناول يد بركات وقال له بلهجة رسمية: "اعتن جيدا بهذه الساعة وحافظ عليها كما تحافظ على بؤبؤ عينيك - لقد أعطاها لي في أيام مجدي ذلك الذي كان يحكم كامل البلاد".

نظر بركات طويلا إلى ساعة أبيه، وأثارت حيرته صورة امرأة تحت الغطاء الفضي للساعة. كان يمكن تمييز معالم وجهها التي اصفرت بفعل الزمن، واستشار في أمر الساعة المرابط غربال الذي كان لا يزال يتمتع بصحة ممتازة برغم تقدمه في السن، والذي قال له: "أمر غريب، لقد كنت قد طلبت من والدك أن يعيد هذا الشيء إلى صاحبه لقد فات الأوان الآن، وفي أحد الأيام ستأتي صاحبة الصورة لتسلبك أنت أو أخاك". لكن بركات فضل الموت على مخالفة وصية والده. وبعد أيام بدأت قوى بركات تضعف وبقي طريح الفراش وفقد بسرعة إمكانية الكلام. ولم يدر أخوه عبالا ماذا يفعل، وتسلم غربال زمام الأمور وأمر عبالا بأن يعيد تلك الآلة الملعونة بيديه إلى صاحبتها الشرعية: امرأة الغطاء! وهكذا تذهب اللعنة ويستعيد بركات عافيته.

وفي الوقت الذي يغرس فيه ثعلب الصحراء خيشومه في الكثبان، امتطى عبالا خطاطا، وهو أسرع بكر لديه وحث خطاه على درب تم. وفي اللحظة نفسها وقف المرابط أمام خيمته وارتسمت على شفتيه ابتسامة الظفر: ها هو الآن الآمر الوحيد على ظهر السفينة، بينما بركات يشرف على الموت وأخوه الأصغر ستبتلعه الصحراء الواسعة قريبا.

عثر عبالا في قمة جبال الهقار على ذلك المبعوث الذي عمل سابقا مترجما للحاكم. وتعرف الرجل العجوز على الساعة الشهيرة، وتوصل بواسطة عدسة مكبرة إلى تمييز الأحرف المكتوبة تحت صورة المرأة الشابة: ديان - تالسي Dian _ Talcy وحاول جاهدا إقناع الشاب عبالا بأن أقوال المرابط لم تكن أكثر من هراء، وأن المرأة الشابة صاحبة الصورة لم تكن سوى أحد أوهام الحاكم الذي أقام لفترة من الزمن في نفس الحي الذي تسكنه المرأة، ولكن مع فاصل زمني بينه وبينها يبلغ قرنين من الزمان. لكن عبالا الذي لم يكن يفكر بغير محنة وعذاب أخيه قرر الاستمرار في طريقه.

وفي هذه الأثناء،استعاد بركات قواه تدريجيا، وبحث ويلا عن الساعة التي انتشلها منه أخوه، وفي كل مساء عندما تداعب الشمس بلطف الكثبان الحارة كان يرقب جهة الشمال حيث يعتقد أن الجمل خطاطا سيظهر وعبالا يمتطيه.

لقد فقد نهائيا أثر الشاب الطوارقي عبالا عند أبواب جبال الأطلس. لكن يقال إنه وبجوار قصر تالسي في فرنسا يوجد نزل عليه لافتة غريبة جدا تحمل العنوان التالي: نزل الرجل الأزرق.

الطابور
بقلم: محمد اليحيائي

عبروا ساحة المطار القديم مندفعين رتلا واحدا فوق الحواجز ومن تحتها، يحملون عصيا وعلى ظهورهم حقائب نايلون بدت كأنها طلبية واحدة فصلت على مقاس واحد ولون واحد، الأخضر. سيور الحقائب حمراء تشدها حلقات معدنية على الظهور من تحت الإبطين. عبروا الساحة ينهبون ميدان البلدية خفافا في دشاديشهم البيضاء وكان الصباح شفيفا يسيل فضة فوق البنايات. داروا حول برج الساحة، قدام برج الساعة الذي تذكر دقاته النحاسية دوما بالصباحات الرمادية البعيدة لساحة المطار القديم، وانكسروا إلى اليمين وقطعوا الطوار الفاصل إلى الطريق المقابل والمقابل لبناية الشيراتون. ولم تكن هناك في أول الصباح سيارات تعيق العبور - في المواقف، بين غرفة التجارة والصناعة وبناية (سوني)، زعقت صافرة فالتموا صفا واحدا. تفحص المشرف - وكانت الصافرة تتدلى على صدره - الوجوه، وتمم بدقة وتأن على الجمع فردا فردا، وعصا عصا، وحقيبة حقيبة. وزعقت الصافرة ولوح المشرف عاليا ومشى ومشوا من ورائه، بالخطو المنتظم، واحد اثنان. واحد اثنان. واحد.. اثنان.

كانوا صامتين يحرثون بالخطوات المنغمة الإسفلت وكانوا مشرقين.

اشتعل الوقت تماما وابيض وكان الرتل طويلا في صورة البياض المريب بين البنوك، في وجوم الصباح، على الطريق الفاصل بين البنايات، باتجاه برج الاتصالات حيث تصعد موجات الكلام عاليا وتتبعثر. بلغوا البرج وانعطفوا يمينا وكان إلى اليسار معسكر بيت الفلج الرابض، في صمت الرصاص، خلف دمعات الفلج التي ذرفتها عيون جبل بعيد على نسر نفض ريشه وحلق وحيدا في صباح رمادي بعيد من ساحة المطار القديم.

نفخ المشرف فزعقت الصافرة وتجمع الرتل عند رأس الشارع. وكانت السيارات وقد دبت الحياة، مثل رصاصات، تدرج من على الجسر.

توزعوا واحدا واحدا، على مسافات متساوية، بالخطو المنتظم، كل في مكانه المعين، وجوههم إلى الشارع. وكان في الوجهة المقابلة رتل آخر أخذ موقعه، كل في مكانه المعين، على مسافات متساوية.

كانوا قد وصلوا في الوقت نفسه بعد أن عبروا الساحة مندفعين، بالعصي والحقائب، عبر الطريق المؤدي إلى الشيراتون ثم شمالا بموازاة شركة الكهرباء الوطنية. زعقت صافرتان فانحنى التلاميذ في الجهتين، على نغم واحد، فوق الحقائب التي حلت سيورها. أخرجوا الأعلام ونشروها وثبتوها من فتحاتها في العصي، وأخرجوا الصور وفردوها ومسحوا تبعجاتها.

عند الساعة الخامسة قبيل المغيب بان هدير الموكب قادما من فوق الجسر وظهر يزحف فدوى التصفيق وارتفعت الأعلام والصور وانطلق النشيد عاليا لدقيقة واحدة.

رمح قلب الليل
بقلم: ظبية خميس

قال لي: ارو لي مما يفيض به قلبك قلت: رويت فما ارتويت.سنام جمل يمضي بكوكبة من خلق الله، لا يعرفون إلى أين هم يذهبون. ولا يتذكرون من أين هم جاءوا، ولا كيف بدأ ذلك الحجيج المهول الذي يمضي بهم في سرداب الوقت على ظهر هذا الجمل الصامت، الصبور.

غمامة قذفت بهم فإذا هم من الغمامة إلى السراب. تائهون مثل تلال الصحراء.. لا ينتابهم العطش، ولا الجوع، ولا يعرفون لهم محطة للراحة أو الانتظار.

يسوسهم ضبع ينظر إلى خلفه، ولا يرى ما أمامه.. وتصحبهم الذئاب والغربان من مكان إلى مكان

يزدادون عددا، ويتركون لمن يقتفي آثارهم أشلاء ودماء لا تجف أبدا، يندمون على شيء لم يدركوه.. ويتوقون إلى ما لا تستطيع أبصارهم الرمي إليه.

هم صفوة الأحياء.. وآخر الموتى.. يدركهم قيظ لا ملاذ منه.. وينام فوق رءوسهم ليل دامس تسمع فيه حفيف ثياب الجن، واحتضار القتلى. ، قال لي: قول لا أحن إليه، وأمر لم أبحث عنه.. أين هو العذب، النقي، الشافي، المشفي، الرائق في ذلك الفيض.

قلت: ما خاصمته.. لكنه خذلني أيها السائل عن ذوب القلب. كرامتك قد ردت إليك.. وسابيك هو المسبي نور من دفق الظلمات تطلب.. والروع ما زال يشعل أطراف شعري المخضب ببياض الهول. ما سرني إلا الذي تطلب لكنه في هباء الروح قد سار بعيدا.. ما مسسته إلا بشغف القول.. وما الذي أرى.. وذلك الذي أسمع. وهذا الذي يمسك بقلبي بين يديه إلا صخب المطموس بحلقي.. مثل غراب أسود.. ينعق كلما نطق لساني بوقع الحال.

قال لي: امضي إذن.. ودعيني لصوتي يقول لي ما يطيب له من القول.

ومضيت إلا أنني كنت أرقبه من البعيد.. وأنظر إلى ظلال صوته تأتي إلى أذني.

غنى وأطرب.. ثم قام للرقص منتشيا.. وأقام عرسا على الأرض.. أيقظ فيه أولئك النيام.. وأولئك الموتى.

غنى ولم يصمت حتى نام الظلام وأشرقت شمس تنعم بضجيجها.

ساورتني الشكوك في فرح هذا الذي يقول.. وخيل إلي أن به مسا أو خبلا ما.. وخشيت أن يكون حديثي لمعتوه يفرح.. وأنا أصب في أذنيه ما آلت له الدنيا.. جددت النظر إليه فلم أجده.. كان قد اختفى عندما مر الركب على الهودج. ووراءه رأيت الطبل.. والمزمار.. وآثار أقدام كانت ترقص فوق طمي الليل.

فارس
بقلم: اعتدال رافع

1- يطول التعب ويقصر العمر

و فارس.. تعود منذ نعومة أظفاره أن يفيق مع الشمس وينعس في غيابها، وما بين الشروق والغروب ملحمة عشق لا تنتهي، والمسئوليات تتثاقل جبالا على المنكبين كلما تقدم به العمر. وذاكرة الاخضرار تنحدر بطحالب الوسن التي تعرش على دوالي القلب، والحنجرة قبضة حنين مكتظة النداءات والأغاني والابتهالات إلى ضرع سخي لم تيبسه "الجفلات"، تضل دروبها عن دهاليز السمع وخاتمة الحكاية.

النهايات ما هي إلا احتمالات قصوى لبدايات رائعة لجوجة الجوع إلى أقمار مكتملة الاستدارة. ورحيق "فارس" يتناقص بالتدريج من فيض التعرق واللهفات، وعضلاته الواهنة لا تكف أوتارها المموسقة عن عزف ألحانها على لحم الوليمة، ألحان تبدأ بصخب الأبواق ورنين الصنوج "كالمارشات العسكرية" وتنتهي بنأمة قلب على وتر ربابة في صومعة الجسد المقرور ؟، وجسد فارس "كونه الصغير" متناسخا من أشجار وجبال ومياه.. أبدا مسكون بالهدير.. ولا يكف عن الدوران حول ينابيعه القصية ورغيفه الذي يشبه القمر في بعده وجلاله وجماله، بالتعب والضجر يدنو من أصله، يتسطح وقوفه ويعتريه شبق التراب.. ينز مواله الأخير على شرفة الانتظار، تتفتح زهرة برية مؤطرة بلحم الروح وبثور الرغبات المنسية التي كانت تفجر ليل الصمت بعربدتها المجنونة. ولا يضجر فارس "أجير" مقهى "أبو شفيق" من عمره الذي ضرس جلده بوشومه الداكنة والعميقة. مع الشروق يركض إلى اسمه بخطوات معربدة حتى ولو كانت أقدار البشر من أمثاله. مثل أقدار الشجر وكلاهما تحت رحمة الفأس والجشع.. ولا يجف" فارس" مع جفاف النهر وموت الشلال. النهر شريان الوادي كان يهدر بصخب البدايات عند أقدام الأشجار وتحت مقاصير المقهى، والشلال كان يهبط بزخمه الفارغ من إحدى خواصر جبل قاسيون، ويندي الكون من حوله، الأشجار والطاولات والكراسي ورواد المقهى المحرورين؟ .

2- يطول الانتظار ويقصر العمر

في انتظاراته الشتائية الملهوفة، يطل فارس من إحدى مقاصير المقهى الخشبية التي تبدو من عمق الوادي كمناطيد خضراء معلقة في الهواء. يطير كنسر والريح تختبئ في أكمامه وعبه، يصبح جوقة من الفرسان تخب مهورها في مروج القلب على صنوج الشعر، وكأيام زمان يصخب بهدير النهر ونزق الشلال الهادر

مقهى " أبو شفيق" الذي عمل فيه فارس أجيرا لأكثر من نصف قرن. مقترنا بذاكرة الربوة وعشاق الغوطة، بعد مائة سنة من عمره يبقى على حاله الذي كان عليه منذ ولادته. رياح العصر بصرعاتها وديكوراتها وبهرجتها وفنونها، لم تمس شعرة من رأسه الوقور، ولم تغير ألبتة من ملامحه الدمشقية العريقة. عشرات المقاهي العصرية جاورته وحاصرته، وبقي مقهى "أبوشفيق" في وسطها كأنه الجد المهيب، ينطق بتاريخ الأيام الغابرة.

وسترة فارس أعرض من كتفيه بشبرين، وبنطاله أوسع من خصره بأربعة أصابع، وحذاؤه أكبر من قدميه بثلاث نمر، يشد بنطاله إلى خصره بمؤسسة، ويطعج حذاءه مثل "الشحاطة". صاحب المقهى وأولاده من بعده، ما طالبوه أن يبدل حلته ويرتدي بذلة "عالموضة" مثل نوادل المقاهي المجاورة، فهو والمقهى سيان بينهما علاقة عمر لا يفصل عراها حتى الموت.. تبقى في ذاكرة الوادي كأغنية.. ويرجع قاسيون صداها.

"شوشة" الأشجار تخضر في الربيع ظ، وشوشة فارس حالكة في كل الفصول. أبدا ما غزا البياض شعرة من رأسه !! ربما لأنه مفطور على طفولة مديدة تجهل كيف تغلف أهوالها وتضخمها.
أصالة الرءوس والشجر من أصالة المنبت وما تحريم المشروبات الروحية في المقهى إلا زيادة في الحرص على تقاليده و"حريم" رواده. فالصرعات العصرية الوافدة، تفدغ جبهته وتدميها بقسوتها المبهرجة، ولابد من استيعاب أسبابها ومسبباتها وغاياتها حتى لا تضل الإيقاعات مسارها وحاراتها وأفلاكها.

وإذا كان "فارس" لا يعرف فك الحروف وتضليلاتها، فقد سمى نفسه زلمة الشاعر. وكان بفطرته النقية من شوائب عصره على علاقة وطيدة مع الله والطبيعة والشعر.

منذ الخمسينيات توطدت علاقة "فارس" بالشعر. وهذا التاريخ مرادف لظهور الشاعر في حياته، فقد دأب الشاعر منذ ذلك الزمن على المجيء إلى المقهى يوميا، ولا يقطع مشاويره إليه حتى في عز الزمهرير والبرد. حيث يقفر المقهى من رواده ويكون زبونه الوحيد. يأتيه راجلا ينوء بشجن مقرور النجوم، وأحلام طافحة بنسيج الغربة. و"فارس" ينتطره دائما في مقصورة من تلك المقاصير الخضراء، يمني نفسه بدفء التواصل وفرحة اللقاء.

النهر قصيدة والشلال قصيدة والمرأة الجميلة قصيدة، كل ما حولنا قصائد رائعة كتبها الله بلغته التي نعجز عن محاكاتها وتقليدها، قال له الشاعر عندما سأل "فارس" عن الشعر، ومن يومها لازمت "فارس" دهشة قصوى وتعجب أشد.

كيف يستطيع الشاعر أن يحمل كل هذا في كراسه الذي يتأبطه في مجيئه ورواحه؟ وقال له "أنا زلمتك".

وصار "فارس" يتصور مع صديقه الشاعر كلما جاءت الصحافة، لإجراء ريبورتاجات ومقابلات:للكاميرا عين فضولية لا تخطيء تفاصيل من تسلط عليه أنظارها. يشد فارس قامته، يحبس أنفاسه وينفخ أوداجه، ملابسه جديدة تخفي صديقه الشاعر، ولكنها فضفاضة مثل جلده بمقاس فارسين. ولا يبالي فارس.. فهو مثل الجنود ليس حرا في اختيار ملابسه: يشرق بفرح طفولي وهو يتفرج على حاله في الصورة. يتمعن فيها وهو غير مصدق، فهو منذ ليلة عرسه لم ينظر إلى نفسه في المرآة إلى درجة أنه نسي وجهه.

صاحب المقهى الذي يمت إلى "فارس" بصلة قرابة بعيدة قال له "استرزقلك بقرشين"، وسمح له أن يفتح المقهى في فصل الشتاء من أجل صديقه الشاعر. وفارس ينتظره طوال فصل الشتاء يوميا على مقصورة خضراء، والشاعر يأتيه راجلا يتأبط صحفه ودفاتره وأقلامه، كأنه منذور للشوق النازف من صخرة العشاق المجاورة للمقهى والمتكئة على قاسيون كلمة اذكريني المحفورة على وجه الصخرة تبدو كوشم داكن الحروف يطل على الوادي، غورو وعساكره مروا من تحتها، اقتحموا دمشق من بوابة العشق، لم يلتفتوا إلى الصخرة ووشمها الشاهد على عمرها وصلابتها:
دمشق حكر على العشاق..
طاولات فارغة وكراسي مهجورة مغطاة بأوراق الدلب والتين والدوالي الصفراء، والأغصان العارية من دثارها تنز بردا ووحشة. "فارس" وصديقه الشاعر وسط هذا العراء مثل دون كيشوت وسانشو، يحولان وحشة القفر إلى ملحمة طافحة بالأحلام.

وفارس يحب فصل الشتاء أكثر.
في فصل الصيف، والوادي يشمخ بأشجار حوره وقاسيونه، يهب فارس مع جهجهة الضوء كأنه على موعد مع عبلاه:
أباريق الشاي ودلال القهوة والنراجيل "هم" ترسه ورمحه وأبجره في مقارعة الزمن. الشعر والنهر والشلال والأشجار، أبجدية الدهشة المقيمة في الحنايا، ولا يعرف "فارس" سرا لهذا الاصطخاب الذي يعتريه في محرابهم! صاحب المقهى أعطاه غرفة على يمين الدرج المؤدي إلى المقهى، تزوج فارس وأنجب أولاده فيها وزوجهم أيضا. وبقي " أجيرا " نشيطا يعيل أولاده المتزوجين في عسرهم، وملابسه تتفضفض باستمرار مع جلده. ينمو التصحر كأخطبوط يشفط الماء والبهجة، يشح النهر ويموت وينقطع الشلال. يضيق الكون من حوله. صديقه الشاعر ومعجباته المليحات اللواتي يتقاطرن إليه من شاشات السينما والتلفزيون، يوسعون الكون إلى حدود الروح، ويتوازن فارس مع عالمه واسمه، يضحك كأيام الشباب قبل أن تتعرى لثته من بياضها كما تتعرى الصدفة من قوقعتها.. ويتعملق بالشعر في فصول البرد وحده يصبح فارس المقهى يصول ويجول على هواه. لا صخب ولا جلبة رواد ومذياع وقرقعة نراجيل كما في فصل الصيف. فصل الصيف يحوله إلى " أجير" مهمته مسح الطاولات وتلبية طلبات الزبائن، والقليل القليل منهم يمكن أن ينفحه بكلمة أو ابتسامة، والبقشيش في اكتظاظ، الحر والناس له رنينه وإغراءاته، ولكنه بلا تواصل أو مودة يكرس عبوديته!
والذاكرة روزنامة الأيام الماضية في غفلة الجسد، لا يذكر "فار" تاريخ ميلاده، فهو مثل المدن يؤرخ عمره بالأحداث الكبرى، يقول لصديقه الشاعر، إنه عاصر العسكر السنغالي ورشقه بالحجارة وشارك في إضراب الستين، ويصدق قول الشاعر، إن عنترة "أبو الفوارس" هو أب لكل الرجال الشجعان ولابد أن يمت إلى فارس بصلة قرابة يكبر إلى اسمه، ويتوارف في شتائه مع أشجار المقهى، يرتبط اسمه بالمقهى ويصبح مرادفا له. في لفح الشوق والسماء تشلح ثوبها الأبيض وتدثر الوادي، من مقصورته الخضراء يطل فارس على الوادي، يراقب مدخله الدمشقي بشغف العشاق، ينتظر قدوم صديقه الشاعر، لقد أعد له الشاي الخمير، وعندما يحضر سيدفيء له الكاسات بالماء الساخن حتى يرشف الشاي دافئا
يطول الانتظار ويقصر الدرب.
و"فارس" في مكانه لا يمل من انتظاراته الطويلة، يدثره الثلج، ويبيض شعره مثل فرسان العصور الوسطى.
كانت تلك المرة الأولى التي أخلف فيها الشاعر بوعده !

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات