الأديب الفيلسوف

الأديب الفيلسوف

يعد العلامة الراحل الطاهر مكي واحداً من أهم أعلام الدراسات الأدبية في العصر الحديث، وهو بحق أحد الشيوخ الكبار للدراسات الأندلسية. 
لقد عاش الطاهر مكي للعلم، وعكف على الدراسات الرائدة لأعلام الاستشراق، التي تستبين من خلال ما اختار منها للترجمة والتناول والتقديم للقارئ العربي كيف كان الرجل مخلصاً لعروبته. 

يكشف‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬المقدمة‭ ‬كلماته‭ ‬التي‭ ‬قالها‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬دراسات‭ ‬أندلسية‮»‬‭ ‬حول‭ ‬أسباب‭ ‬اختياره‭ ‬التصنيف‭ ‬والتأليف‭ ‬دون‭ ‬البحوث‭ ‬والمجلات،‭ ‬يقول‭ ‬الطاهر‭: ‬‮«‬رغم‭ ‬كل‭ ‬المصائب،‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬بعامة‭ ‬وبين‭ ‬المثقفين‭ ‬منهم‭ ‬بخاصة‭ ‬تسير‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬نحو‭ ‬الوحدة‭... ‬إنهم‭ ‬يتلاقون‭ ‬ويتفاهمون،‭ ‬يحاورون‭ ‬ويتناقشون،‭ ‬يتفقون‭ ‬ويختلفون،‭ ‬ولكنهم‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬أبناء‭ ‬أمة‭ ‬واحدة‭ ‬وأخوة‭ ‬متحابون،‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬الضواغط‭ ‬الظاهرة‭ ‬والخفية،‭ ‬لكن‭ ‬الغاية‭ ‬واحدة‭ ‬والهدف‭ ‬مشترك،‭ ‬وإن‭ ‬اختلفت‭ ‬الوسائل‭ ‬وتباينت‭ ‬وجهات‭ ‬النظر‮»‬‭. ‬

كانت‭ ‬نفس‭ ‬أديبنا‭ ‬مهمومة‭ ‬بعروبتها،‭ ‬فلئن‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬عاش‭ ‬بين‭ ‬القصص‭ ‬والروايات‭ ‬والترجمة‭ ‬والبحوث،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬كله‭ ‬ممزوجاً‭ ‬بثقافته‭ ‬الإسلامية‭ ‬والعربية‭ ‬التي‭ ‬تدفعه‭ ‬إلى‭ ‬متابعة‭ ‬أدباء‭ ‬عصره،‭ ‬الحاملين‭ ‬بحكمةٍ‭ ‬وبصيرة‭ ‬رايتها،‭ ‬يؤكد‭ ‬ذاك‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬في‭ ‬تعقيبه‭ ‬على‭ ‬كلام‭ ‬للعلامة‭ ‬محمود‭ ‬شاكر،‭ ‬حيث‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬سبب‭ ‬تقديره‭ ‬له‭: ‬‮«‬كنا‭ ‬شباباً‭ ‬نتابع‭ ‬ذوده‭ ‬عن‭ ‬الإسلام‭ ‬والعروبة‭ ‬في‭ ‬حزم‭ ‬وصلابة‭ ‬واستنارة‮»‬‭. ‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬نسائم‭ ‬التصوف‭ ‬لائحة‭ ‬في‭ ‬مسطرات‭ ‬د‭. ‬مكي،‭ ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬موسوعيته‭ ‬التي‭ ‬استفادها‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬مطالعاته‭ ‬لا‭ ‬تعدوها‭ ‬عين‭ ‬الناظر،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬الشيخ‭ ‬مصطفى‭ ‬عبدالرازق‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬المؤلفين‭ ‬المسلمين‭ ‬لا‭ ‬يعدُّون‭ ‬علم‭ ‬الكلام‭ ‬وعلم‭ ‬التصوف‭ ‬من‭ ‬العلوم‭ ‬الفلسفية،‭ ‬فإن‭ ‬د‭. ‬إبراهيم‭ ‬مدكور‭ ‬يعتبر‭ ‬التصوف‭ ‬هو‭ ‬البيئة‭ ‬الثالثة‭ ‬للفكر‭ ‬الفلسفي،‭ ‬فقد‭ ‬حمى‭ ‬التصوفُ‭ ‬الفكرَ‭ ‬الفلسفي‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬أعرضت‭ ‬عنه‭ ‬الجماهير،‭ ‬فعاشت‭ ‬الفلسفة‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬التصوف،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ذهب‭ ‬إليه‭ ‬بعد‭ ‬د‭. ‬حامد‭ ‬طاهر،‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬الفلسفة‭ ‬الإسلامية‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نطلق‭ ‬عليه‭: ‬الفلسفة‭ ‬التقليدية‭ ‬وعلم‭ ‬الكلام‭ ‬ومقالات‭ ‬الفرق‭ ‬والتصوف‮»‬‭.‬

وقال‭: ‬‮«‬يعتبر‭ ‬التصوف‭ ‬الإسلامي‭ ‬من‭ ‬أوسع‭ ‬مجالات‭ ‬الفلسفة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بمادته‭ ‬أو‭ ‬بأخباره‭ ‬أو‭ ‬بشخصياته،‭ ‬فلا‭ ‬يعتبر‭ ‬الباحث‭ ‬في‭ ‬التصوف‭ ‬من‭ ‬فروع‭ ‬الفلسفة‭ ‬سوى‭ ‬من‭ ‬سبر‭ ‬أغوار‭ ‬الفلسفة،‭ ‬واطلع‭ ‬على‭ ‬مجالاتها‭ ‬وأقوال‭ ‬منظِّريها‮»‬‭. ‬لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬د‭. ‬الطاهر‭ ‬كان‭ ‬واحداً‭ ‬ممن‭ ‬سبروا‭ ‬أغوار‭ ‬الفلسفة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬رجالها‭ ‬وكتَّابها،‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬قدمه‭ ‬لقارئه‭ ‬مما‭ ‬ترجمه‭ ‬من‭ ‬تراث‭ ‬المستشرقين‭ ‬يؤكد‭ ‬ذلك،‭ ‬فلقد‭ ‬اختار‭ ‬دراسة‭ ‬للمستشرق‭ ‬آثين‭ ‬بلاثيوس‭ (‬1944م‭)‬،‭ ‬المعروف‭ ‬عنه‭ ‬اهتمامه‭ ‬الواسع‭ ‬بالتصوف،‭ ‬حيث‭ ‬صرف‭ ‬همته‭ ‬وبحوثه‭ ‬إليه،‭ ‬وقدّمه‭ ‬الطاهر‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬وقف‭ ‬حياته‭ ‬على‭ ‬دراسة‭ ‬الفلسفة‭ ‬الإسلامية‭ ‬بعامة‭ ‬وفي‭ ‬الأندلس‭ ‬بخاصة،‭ ‬وتتبع‭ ‬روافد‭ ‬العطاء‭ ‬والأخذ‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬الفلسفة‭ ‬الأوربية‮»‬‭.‬

اختار‭ ‬تحقيقاً‭ ‬له‭ ‬ضمن‭ ‬دراساته‭ ‬التي‭ ‬وصفها‭ ‬بأنها‭ ‬‮«‬في‭ ‬الأدب،‭ ‬والتاريخ،‭ ‬والفلسفة‮»‬‭ ‬وما‭ ‬كانت‭ ‬الفلسفة‭ ‬التي‭ ‬يعنيها‭ ‬سوى‭ ‬ترجمته‭ ‬لمقدمة‭ ‬بلاثيوس‭ ‬لرسالة‭ ‬ابن‭ ‬العريف‭ ‬الصنهاجي‭ (‬536هـ‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬رسالة‭ ‬في‭ ‬مقامات‭ ‬الصوفية‭ ‬ألّفها‭ ‬ابن‭ ‬العريف‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬منازل‭ ‬السائرين‭ ‬للهروي‭ (‬481هـ‭).‬

اهتم‭ ‬د‭. ‬مكي‭ ‬بترجمة‭ ‬تحقيق‭ ‬بلاثيوس‭ ‬للرسالة،‭ ‬وكتب‭ ‬عن‭ ‬بلاثيوس‭ ‬يعتذر‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬جنوحه‭ ‬إذا‭ ‬بدا،‭ ‬مما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يمثل‭ ‬رأيه‭ ‬في‭ ‬الاستشراق‭ ‬الذي‭ ‬يحاكمه‭ ‬بعض‭ ‬المفكرين‭ ‬المسلمين،‭ ‬كأنه‭ ‬مقوم‭ ‬من‭ ‬مقومات‭ ‬حضارتهم‭ ‬أو‭ ‬رافد‭ ‬من‭ ‬روافدها،‭ ‬فإن‭ ‬د‭. ‬الطاهر‭ ‬يعتذر‭ ‬عن‭ ‬بلاثيوس‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نضع‭ ‬في‭ ‬اعتبارنا‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬راهباً‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الكنيسة‭ ‬لا‭ ‬يسعه‭ ‬مخالفة‭ ‬ما‭ ‬تطلب،‭ ‬إذ‭ ‬تخضع‭ ‬كتاباته‭ ‬وأعماله‭ ‬لرقابتها،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فحين‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬تعابيره‭ - ‬وهو‭ ‬قليل‭ - ‬ما‭ ‬لا‭ ‬ترتاح‭ ‬إليه‭ ‬نفوسنا‭ ‬دينياً‭ ‬أو‭ ‬علمياً‭ ‬فلنعذره؛‭ ‬فلغيرنا‭ ‬كان‭ ‬يكتب‭ ‬وربما‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬هذا‭ ‬القليل‭ ‬سمحوا‭ ‬له‭ ‬بالنشر،‭ ‬والجليل‭ ‬الذي‭ ‬أبدعه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬يشفع‭ ‬له،‭ ‬ويجعله‭ ‬موضع‭ ‬الاحترام‭ ‬والتقدير‮»‬‭.‬

إن‭ ‬اختيار‭ ‬د‭. ‬الطاهر‭ ‬لرسالة‭ ‬ابن‭ ‬العريف‭ ‬من‭ ‬عموم‭ ‬تراث‭ ‬بلاثيوس،‭ ‬ووصمها‭ ‬بأنها‭ ‬دراسة‭ ‬في‭ ‬الفلسفة،‭ ‬قد‭ ‬أفادا‭ ‬البحث‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬جوانب‭ ‬مهمة‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬الصوفي‭ ‬الأندلسي،‭ ‬وأثر‭ ‬التصوف‭ ‬المشرقي‭ ‬فيه،‭ ‬فالرسالة‭ ‬كاملة‭ ‬كأنها‭ ‬تلخيص‭ ‬لمنازل‭ ‬الهروي،‭ ‬وفي‭ ‬نصها‭ ‬الأصلي‭ ‬فقرات‭ ‬بنصها‭ ‬من‭ ‬كلامه،‭ ‬ورغم‭ ‬أنها‭ ‬في‭ ‬منازل‭ ‬السير‭ ‬إلى‭ ‬الله،‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬المعرفة‭ ‬والإرادة‭ ‬والزهد‭ ‬والتوكل‭ ‬والصبر‭ ‬والحزن‭ ‬والخوف‭... ‬إلخ،‭ ‬فإن‭ ‬د‭. ‬مكي‭ ‬يضعها‭ ‬ضمن‭ ‬إطار‭ ‬فلسفي‭ ‬لا‭ ‬صوفي‭ ‬خالصاً،‭ ‬ويخرج‭ ‬كتابه‭ ‬للقارئ‭ ‬بهذا‭: ‬‮«‬دراسات‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬نقطة‭ ‬فارقة‭ ‬بين‭ ‬عالم‭ ‬موسوعي‭ ‬كالطاهر‭ ‬مكي،‭ ‬الذي‭ ‬يصف‭ ‬منهجه‭ ‬في‭ ‬التعريب‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬التزمت‭ ‬الأمانة‭ ‬العلمية‭ ‬في‭ ‬النقل،‭ ‬وحرصت‭ ‬على‭ ‬الأصل‭ ‬نصاً‭ ‬وروحاً،‭ ‬ولم‭ ‬أتدخل‭ ‬معلقاً‭ ‬أو‭ ‬معقباً‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬قليلة‭ ‬حين‭ ‬تستدعي‭ ‬الضرورة‭ ‬العلمية،‭ ‬وجل‭ ‬التعليقات‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬الهامش،‭ ‬فكأنه‭ ‬يقدم‭ ‬منهجاً‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬ويشترط‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬الترجمة،‭ ‬ولا‭ ‬يحذو‭ ‬حذو‭ ‬من‭ ‬شوه‭ ‬النص‭ ‬بتوجيهه‭ ‬أو‭ ‬تأويله‭ ‬أو‭ ‬تحريفه،‭ ‬وهو‭ ‬منهج‭ ‬ينبغي‭ ‬العودة‭ ‬إليه‭ ‬يفرق‭ ‬بين‭ ‬العالم‭ ‬الموسوعي‭ ‬وحطاب‭ ‬الليل‮‬‭■»‬‭