الوصايا الأخيرة لمحمد حسنين هيكل

الوصايا الأخيرة  لمحمد حسنين هيكل

كتابُ الأستاذ أنور عبداللطيف عن الوصايا الأخيرة لهيكل، كتابٌ يتميز بالصدقِ في المُعالجة، والإخلاص في التناول، والأمانة في النقل، ولذلك فهو كتابٌ يستحقُ التقديرَ، خصوصاً لأمانته وصدقه في التعبير عن آراء المرحوم محمد حسنين هيكل، الذي يظلُّ عَلماً بارزاً في الصحافة العربية الحديثة والمعاصرة، ونَجماً لا يُدانيه في صعوده نَجمٌ آخر على امتداد الصحافةِ العربيةِ، فقد تحققتْ فيه وبِه مجموعة من الصفات والخِصالِ لا أظنُّ أنها تحققت لصحفي مثله أو يقاربه. 

ربما‭ ‬كانت‭ ‬أولى‭ ‬هذه‭ ‬الخصال،‭ ‬خصلة‭ ‬الاعتزاز‭ ‬بالعمل‭ ‬في‭ ‬الصحافة،‭ ‬والفخر‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬درجةٍ‭ ‬جعلت‭ ‬صاحبها‭ ‬لا‭ ‬يترددُ‭ ‬في‭ ‬وصفِ‭ ‬نفسه‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬جُرنالجِي‮»‬‭.‬

ورغم‭ ‬أن‭ ‬هيكل‭ ‬عَمِل‭ ‬وزيراً‭ ‬لفترةٍ‭ ‬قصيرةٍ،‭ ‬فإنه‭ ‬سُرعان‭ ‬ما‭ ‬رفض‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬الوزارة،‭ ‬وآثر‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬والإبقاء‭ ‬على‭ ‬صفة‭ ‬‮«‬الجُرنالجي‮»‬‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يرضَ‭ ‬بصفةٍ‭ ‬أخرى‭ ‬غيرها‭ ‬اعتزازاً‭ ‬وفخراً‭ ‬منذ‭ ‬أول‭ ‬حياته‭ ‬إلى‭ ‬نهايتها،‭ ‬ولذلك‭ ‬لم‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬تحصيلِ‭ ‬كُل‭ ‬المعارف‭ ‬والخبرات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يتحلَّى‭ ‬بها‭ ‬لكي‭ ‬يكون‭ ‬جديراً‭ ‬بالمكانة‭ ‬العالية‭ ‬التي‭ ‬وصل‭ ‬إليها،‭ ‬والتي‭ ‬أوصل‭ ‬جريدة‭ ‬الأهرام‭ ‬المصرية‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬أزمنةِ‭ ‬تحوّلٍ‭ ‬صعبةٍ‭ ‬وعسيرةٍ‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬حياته‭ ‬التي‭ ‬أتاحت‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يقتربَ‭ ‬من‭ ‬الرموزِ‭ ‬الحاكمةِ‭ ‬ورؤساء‭ ‬الجمهوريات‭ ‬والحكومات‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬العالم،‭ ‬ومعرفة‭ ‬كبار‭ ‬الخُبراء‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬العربية‭ ‬والعالمية‭ ‬بما‭ ‬جعل‭ ‬منه‭ ‬الصحفي‭ ‬العربي‭ ‬الأول‭ ‬بامتياز‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬كله‭.‬

وقد‭ ‬قرأتُ‭ ‬كتاب‭ ‬عبداللطيف‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬جِلْسَةٍ‭ ‬واحدة،‭ ‬وذلك‭ ‬لبساطته‭ ‬وسلاسَتِهِ‭ ‬الأسلوبية،‭ ‬وصدق‭ ‬صاحبه‭ ‬الآسر‭ ‬في‭ ‬حَكْي‭ ‬أو‭ ‬قَصِّ‭ ‬تجاربه‭ ‬مع‭ ‬الأستاذ‭ ‬الكبير،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يَنظرُ‭ ‬إلى‭ ‬أنور‭ ‬نفسه‭ ‬نظرته‭ ‬لأحفاده‭ ‬من‭ ‬أجيال‭ ‬الصحافةِ‭ ‬التي‭ ‬تعلَّمت‭ ‬على‭ ‬يديه‭.‬

 

أهم‭ ‬وصيةٍ

الحق‭ ‬أن‭ ‬أهم‭ ‬وصيةٍ‭ ‬لفتت‭ ‬انتباهي‭ ‬في‭ ‬وصايا‭ ‬هيكل‭ ‬الأخيرة،‭ ‬هي‭ ‬الوصية‭ ‬التي‭ ‬تتصلُ‭ ‬بالتلاحمِ‭ ‬بين‭ ‬الشكل‭ ‬والمحتوى،‭ ‬فقد‭ ‬تعلَّم‭ ‬عبداللطيف‭ ‬من‭ ‬هيكل‭ ‬أن‭ ‬الشكلَ‭ ‬هو‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬يصافحُ‭ ‬أفكار‭ ‬القُراء‭ ‬قبل‭ ‬المحتوى؛‭ ‬ولذلك‭ ‬فإن‭ ‬إخراج‭ ‬مقال‭ ‬هيكل‭ ‬هو‭: ‬‮«‬ظل‭ ‬نور‭... ‬هدوء‭ ‬وصمت‭... ‬ملمس‭ ‬ولون‭ ‬ومذاق،‭ ‬تصحبُكَ‭ ‬جميعها‭ ‬إلى‭ ‬مضمونٍ‭ ‬حافلٍ‭ ‬بالتعبيرات‭ ‬والتراكيب‭ ‬والجُمَلِ‭ ‬في‭ ‬إطارِ‭ ‬رؤية‭ ‬البَشر‭ ‬والأحداث‮»‬‭.‬

وقد‭ ‬سأل‭ ‬أنور‭ ‬أستاذه‭ ‬هيكل‭ ‬عن‭ ‬وظيفة‭ ‬العنوان‭ ‬في‭ ‬المقال،‭ ‬فقال‭ ‬له‭: ‬‮«‬أن‭ ‬يمسكَ‭ ‬بالعين،‭ ‬ويثير‭ ‬الخيالَ،‭ ‬ويدفع‭ ‬القارئ‭ ‬إلى‭ ‬الرغبةِ‭ ‬في‭ ‬معرفةِ‭ ‬المفاجأة‭ ‬التي‭ ‬يُخفيها‭ ‬العنوان‭ ‬بقراءة‭ ‬المقال‮»‬‭.‬

هكذا‭ ‬يُشبِّه‭ ‬الأستاذ‭ ‬العنوان‭ ‬الذي‭ ‬يفضحُ‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬المقال‭ ‬من‭ ‬أولِ‭ ‬نظرةٍ‭ ‬بالبنت‭ ‬التي‭ ‬تلتقِي‭ ‬حبيبها‭ ‬أول‭ ‬مرةٍ‭ ‬وتعطيه‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬حينئذ‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬لديه‭ ‬الخيال‭ ‬والشوق‭ ‬إلى‭ ‬معرفةِ‭ ‬الجديد‭ ‬بعد‭ ‬الزواج‭.‬

والعنوان‭ ‬الناجح‭ ‬في‭ ‬رأي‭ ‬الأستاذ‭: ‬‮«‬يخلقُ‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬الحميميةِ‭ ‬مع‭ ‬عين‭ ‬القارئ‭ ‬وخياله‭... ‬ويدعوه‭ ‬إلى‭ ‬القراءة‭ ‬والتعلق‭ ‬به‮»‬‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يضرب‭ ‬له‭ ‬أنور‭ ‬عبداللطيف‭ ‬مثالاً‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬الاستئذان‭ ‬في‭ ‬الانصراف‮»‬،‭ ‬ويصفه‭ ‬بأنه‭ ‬عنوانٌ‭ ‬مؤثِّرٌ‭ ‬وشَجيٌ‭ ‬وبليغٌ‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬والتأدُّبِ،‭ ‬ففي‭ ‬بيوتنا‭ ‬العادية‭ ‬يكون‭ ‬الاستئذان‭ ‬عادة‭ ‬في‭ ‬الدخول،‭ ‬أما‭ ‬الاستئذان‭ ‬في‭ ‬الانصرافِ‭ ‬فهو‭ ‬يَحتملُ‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬التساؤلات‭ ‬حول‭ ‬أسباب‭ ‬الانصراف‭ ‬وتوقيته‭ ‬وجدواه‭ ‬ومغزاه‭ ‬وأبعاده‭ ‬ورسائله‭ ‬السياسية‭. ‬

وينتقل‭ ‬أنور‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬إلى‭ ‬جوانب‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬هيكل‭ ‬أتيح‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يعرفها،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬آخر‭ ‬ما‭ ‬نشره‭ ‬في‭ ‬‮«‬الأهرام‮»‬‭ ‬بعنوانٍ‭ ‬فرعي‭ ‬تالٍ‭ ‬‮«‬رجاء‭ ‬ودعاء‭ ‬وتقرير‭ ‬ختامي‮»‬‭. ‬فيما‭ ‬يشبه‭ ‬إخلاء‭ ‬الطرف،‭ ‬أو‭ ‬إبراء‭ ‬الذمة‭ ‬في‭ ‬الميراث‭ ‬الحكومي‭ ‬المصري‭... ‬ولكنه‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬يُقدِّم‭ ‬نموذجاً‭ ‬للشفافية‭ ‬والوضوح‭.‬

 

المتحدث‭ ‬الوحيد

يمضِي‭ ‬عبداللطيف‭ ‬في‭ ‬حديثه‭ ‬العَذب‭ ‬عن‭ ‬ذكرياته‭ ‬مع‭ ‬هيكل،‭ ‬وكيف‭ ‬أنه‭ ‬حدَّث‭ ‬الأستاذ‭ ‬عن‭ ‬الفراغات‭ ‬في‭ ‬المقال،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬البياض‮»‬‭ ‬بِلُغةِ‭ ‬الصحافة‭ ‬قبل‭ ‬الصورة‭ ‬والاسم‭ ‬والعنوان،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الصفحة‭ ‬كلها،‭ ‬أو‭ ‬أمام‭ ‬بعض‭ ‬الفقرات،‭ ‬وحول‭ ‬الصور‭ ‬والعناوين،‭ ‬وبين‭ ‬نهاية‭ ‬كل‭ ‬فِقْرةٍ‭ ‬وبداية‭ ‬كل‭ ‬فِقرةٍ‭ ‬أخرى‭... ‬وكان‭ ‬ظن‭ ‬أنور‭ ‬أن‭ ‬اهتمامَ‭ ‬هيكل‭ ‬يأتي‭ ‬في‭ ‬سياقِ‭ ‬اتجاهٍ‭ ‬عالمي‭ ‬في‭ ‬الإخراج‭ ‬الصحفي،‭ ‬يركز‭ ‬على‭ ‬الإطار‭ ‬النفسي‭ ‬للقارئ‭ ‬المضغوط‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مناحي‭ ‬الحياة،ِ‭ ‬والذي‭ ‬يجنحُ‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬مساحة‭ ‬من‭ ‬البَراحِ‭ ‬تُشعِره‭ ‬بالهدوء‭ ‬والسكينة،‭ ‬وقد‭ ‬قال‭ ‬الأستاذ‭ ‬هيكل‭ ‬لتلميذه‭ ‬الشاب‭ ‬أنور‭: ‬‮«‬إن‭ ‬البياض‭ ‬يجعلُ‭ ‬الكاتب‭ ‬هو‭ ‬المتحدث‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬الصفحة‭ ‬حين‭ ‬تنصت‭ ‬أو‭ ‬تصمت‭ ‬كل‭ ‬عناصر‭ ‬الجذب‭ ‬الأخرى،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬البياضَ‭ ‬أمام‭ ‬بعض‭ ‬الفقرات‭ ‬يجعلها‭ ‬تُنبِّه‭ ‬قارئها‭ ‬عن‭ ‬أهميتها‭ ‬بالهمسِ‭ ‬لا‭ ‬بالزعيق‭ ‬الذي‭ ‬يصيبُ‭ ‬الفقرات‭ ‬الأخرى‭ ‬بالصممِ‮»‬‭.‬

ويلوم‭ ‬الأستاذ‭ ‬بعضَ‭ ‬الصُّحفِ‭ ‬التي‭ ‬يلجأ‭ ‬المخرجون‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬المبالغة‭ ‬في‭ ‬الاهتمامِ‭ ‬بمقالِ‭ ‬رئيس‭ ‬التحرير‭ ‬بوضع‭ ‬خطوطٍ‭ ‬فاصلةٍ‭ ‬تحت‭ ‬كل‭ ‬فقرات‭ ‬المقال‭ ‬تقريباً،‭ ‬فيتحول‭ ‬المقال‭ ‬السياسي‭ ‬إلى‭ ‬سوقٍ‭ ‬وفوضى‭ ‬يُنادِي‭ ‬فيه‭ ‬كُل‭ ‬الباعةِ‭ ‬على‭ ‬كلِ‭ ‬البضائعِ‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭.‬

هذا‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالشكلِ‭ ‬وعدم‭ ‬إغفال‭ ‬المحتوى‭ ‬جعلاني‭ ‬أسترجع‭ ‬أهم‭ ‬ذكرياتي‭ ‬الشخصية‭ ‬مع‭ ‬الراحل‭ ‬هيكل،‭ ‬وأتذكر‭ ‬أن‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬عَرَفْتُه‭ ‬فيها‭ ‬كانت‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬توليتُ‭ ‬منصب‭ ‬الأمين‭ ‬العام‭ ‬للمجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬للثقافة‭ ‬في‭ ‬يناير‭ ‬1993،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬المشروعات‭ ‬التي‭ ‬قُمتُ‭ ‬بها،‭ ‬ولاأزالُ‭ ‬أفخرُ‭ ‬بها،‭ ‬المشروع‭ ‬القومي‭ ‬للترجمة،‭ ‬وهو‭ ‬العمل‭ ‬الذي‭ ‬فكرتُ‭ ‬فيه،‭ ‬وحلمتُ‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬استمراراً‭ ‬مُطوَّراً‭ ‬للمشروع‭ ‬القومي‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬جيل‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬فيما‭ ‬أسمَوه‭ ‬بمشروع‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬ألف‭ ‬كتابٍ‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬المشروع‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الترجمة‭ ‬والتأليف،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬أكُن‭ ‬أفكرُ‭ ‬فيه،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬تفكيري‭ ‬مُنصبّاً‭ ‬على‭ ‬الترجمة‭ ‬وحدها،‭ ‬مُدركاً‭ ‬أن‭ ‬نقصَ‭ ‬الترجمة‭ ‬شيء‭ ‬خَطِير‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تبدو‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬الثقافة‭ ‬العالمية،‭ ‬وقاصرة‭ ‬في‭ ‬التعرُّفِ‭ ‬على‭ ‬أفكار‭ ‬العالم‭ ‬كلها‭.‬

 

ملاحظات‭ ‬هيكل

لذلك‭ ‬بادرتُ‭ ‬بإنشاء‭ ‬المشروع‭ ‬القومي‭ ‬للترجمةِ‭ ‬وحده،‭ ‬ونشرتُ‭ ‬تصوّري‭ ‬للمشروع‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المجلة‭ (‬في‭ ‬عدد‭ ‬يناير‭ ‬عام‭ ‬2000‭)‬،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬نشرتُ‭ ‬التصور‭ ‬النظري،‭ ‬بدأتُ‭ ‬في‭ ‬التنفيذ،‭ ‬ولم‭ ‬أكُن‭ ‬مُهتماً‭ ‬بشكل‭ ‬الكُتبِ‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬من‭ ‬المشروع،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الأكثر‭ ‬أهمية‭ ‬عندي‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬تصدرَ‭ ‬هذه‭ ‬الكُتب‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬نحوٍ،‭ ‬وأن‭ ‬أُتيحَ‭ ‬للقارئ‭ ‬العربي‭ ‬أحدثَ‭ ‬الأفكارِ‭ ‬العالميةِ‭ ‬وأكثرها‭ ‬أصالة‭ ‬توسيعاً‭ ‬لأُفُقِ‭ ‬القارئ‭ ‬العربي،‭ ‬وتأكيداً‭ ‬للترابطِ‭ ‬الوثيقِ‭ ‬بين‭ ‬الأصالةِ‭ ‬والمُعاصرةِ،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬صدر‭ ‬العدد‭ ‬العاشر‭ ‬من‭ ‬كُتبِ‭ ‬المركز‭ ‬القومي‭ ‬للترجمة،‭ ‬أرسلتُ‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬إلى‭ ‬الأستاذ‭ ‬هيكل‭ (‬عليه‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭)‬،‭ ‬بوصفه‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬أعلام‭ ‬الثقافةِ‭ ‬العربيةِ‭ ‬الذين‭ ‬ذ‭ ‬كنتُ‭ ‬ولا‭ ‬أزالُ‭ - ‬أُكِنُّ‭ ‬لهم‭ ‬كل‭ ‬التقديرِ‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬اختلفتُ‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬عددٍ‭ ‬من‭ ‬آرائِهِ‭ ‬أو‭ ‬مواقفه‭.‬

وبعد‭ ‬أيامٍ‭ ‬قليلةٍ،‭ ‬وصلني‭ ‬ردٌّ‭ ‬منه‭ ‬يشكرني‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أرسلتُ‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬كُتبٍ،‭ ‬لكنه‭ ‬استأذنني‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يُبدِي‭ ‬بعض‭ ‬مُلاحظاته‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الكُتبِ،‭ ‬وكانت‭ ‬أولى‭ ‬هذه‭ ‬الملاحظات‭ ‬عن‭ ‬العلاقةِ‭ ‬بين‭ ‬الشكلِ‭ ‬والمحتوى،‭ ‬وقد‭ ‬حدَّثني‭ ‬عن‭ ‬أهمية‭ ‬المحتوى‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الكتب،‭ ‬ولكنه‭ ‬توقف‭ ‬عند‭ ‬الشكل‭ ‬الخاص‭ ‬بالأغلفة‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬هذا‭ ‬المحتوى،‭ ‬والأوراق‭ ‬التي‭ ‬طُبعت‭ ‬عليها‭ ‬هذه‭ ‬الكتب،‭ ‬وبقدر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬إيجابياً‭ ‬في‭ ‬وصفِ‭ ‬المحتوى،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬سلبياً‭ ‬في‭ ‬موقفِهِ‭ ‬من‭ ‬الشكل،‭ ‬داعياً‭ ‬إياي‭ ‬إلى‭ ‬الاهتمامِ‭ ‬بالشكل‭ ‬الذي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يليقَ‭ ‬بالمحتوى‭ ‬العظيم‭ ‬لهذا‭ ‬المشروع‭ ‬الذي‭ ‬اعتبرهُ‭ ‬عظيماً‭ ‬بحق‭.‬

وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬اتصل‭ ‬بي‭ ‬هاتفياً‭ ‬وسألني‭ ‬في‭ ‬بساطةٍ‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كنتُ‭ ‬أعرفه‭ ‬طوال‭ ‬عمري‭ ‬سائلاً‭ ‬إياي‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬المشروع‭ ‬يُعاني‭ ‬ضِيقٍاً‭ ‬مالياً،‭ ‬أو‭ ‬يجد‭ ‬تقصيراً‭ ‬من‭ ‬العناصر‭ ‬البيروقراطية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تملأ‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬المصرية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬وأجبتُه‭ ‬بأني‭ ‬بالفعل‭ ‬أُعاني‭ ‬نقصِ‭ ‬التمويلِ‭ ‬لكي‭ ‬أحققَ‭ ‬له‭ ‬الهدف‭ ‬الذي‭ ‬طلبه‭ ‬مني‭ ‬بالاهتمام‭ ‬بالشكل‭ ‬والمحتوى‭ ‬على‭ ‬السواء‭.‬

وعندها‭ ‬سألني‭: ‬‮«‬هل‭ ‬تريد‭ ‬دعماً‭ ‬مالياً‭ ‬منِّى؟‮»‬‭ ‬فارتبكتُ‭ ‬ولم‭ ‬أعرف‭ ‬كيف‭ ‬أرد،‭ ‬فإذا‭ ‬به‭ ‬يفاجِئني‭ ‬سائلاً‭: ‬‮«‬ما‭ ‬رأيك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أرسلَ‭ ‬لك‭ ‬خمسة‭ ‬وعشرين‭ ‬ألف‭ ‬جنيهٍ‭ ‬مصري‭ ‬دعماً‭ ‬للمشروع؟،‭ ‬وقُلْ‭ ‬لي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬خجلٍ،‭ ‬لمن‭ ‬أكتب‭ ‬الشيك‭ ‬أو‭ ‬باسم‭ ‬من؟‮»‬،‭ ‬فأجبته‭ ‬خَجِلاً‭: ‬‮«‬باسم‭ ‬المشروع‭ ‬القومي‭ ‬للترجمة‭ ‬بالطبع‮»‬‭.‬

وبدأتُ‭ ‬في‭ ‬شُكره‭ ‬مُرتَبِكاً‭ ‬من‭ ‬الموقف‭ ‬كله،‭ ‬ولم‭ ‬يمضِ‭ ‬اليوم‭ ‬الأول‭ ‬إلا‭ ‬وقد‭ ‬أرسلَ‭ ‬شيكاً‭ ‬بالمبلغِ‭ ‬الذي‭ ‬أخبرني‭ ‬به‭ ‬معنوناً‭ ‬باسم‭ ‬المشروع‭ ‬القومي،‭ ‬وفرحت‭ ‬جداً‭ ‬وأكبرتُ‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬قدّم‭ ‬أول‭ ‬دعمٍ‭ ‬مالي‭ ‬للمشروع‭ ‬القومي‭ ‬للترجمة،‭ ‬وفرحت‭ ‬بالدعمِ‭ ‬وأودعتُ‭ ‬الشيك‭ ‬البنك‭ ‬تحت‭ ‬حسابِ‭ ‬المشروع،‭ ‬ولم‭ ‬أتردد‭ ‬في‭ ‬إبلاغِ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬صديقٍ‭ ‬يعملون‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬المصرية‭ ‬لكي‭ ‬ينشروا‭ ‬خبر‭ ‬تبرع‭ ‬الأستاذ‭ ‬هيكل‭ ‬بهذا‭ ‬المبلغ‭ ‬للمشروع،‭ ‬وكنتُ‭ ‬أرى‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬فعلاً‭ ‬من‭ ‬الأفعالِ‭ ‬التي‭ ‬يقوم‭ ‬بها‭ ‬المثقفون‭ ‬الكِبار‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يترددون‭ ‬في‭ ‬دعمِ‭ ‬المشروعات‭ ‬الثقافية‭ ‬الناجحة‭ ‬في‭ ‬أوطانهم‭.‬

 

علاقة‭ ‬وثيقة

مرت‭ ‬الأيام،‭ ‬وأصبحتُ‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬إعجابهم‭ ‬بهيكل‭ ‬أو‭ ‬تقديرهم‭ ‬له،‭ ‬ولم‭ ‬يُخيِّب‭ ‬الرجل‭ ‬ظنِّي‭ ‬فيه،‭ ‬فقد‭ ‬أصبح‭ ‬أكثر‭ ‬اهتماماً‭ ‬بأنشطة‭ ‬المجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬للثقافة،‭ ‬فكان‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مؤتمر‭ ‬يسألني‭ ‬عن‭ ‬أهم‭ ‬الجلسات‭ ‬وأهم‭ ‬المتحدثين‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬كله،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يحضر‭ ‬الجلسات‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أخبره‭ ‬بأهميتها‭ ‬ويستمع‭ ‬إلى‭ ‬المتحدثين‭ ‬فيها،‭ ‬وعندما‭ ‬كان‭ ‬يُعجب‭ ‬بكلام‭ ‬أحدهم‭ ‬كان‭ ‬يطلب‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أُعرِّفه‭ ‬عليه،‭ ‬فأتولى‭ ‬تقديم‭ ‬المتحدث‭ ‬إلى‭ ‬الأستاذ‭ ‬هيكل‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يُحييه‭ ‬ويدعوه‭ ‬إلى‭ ‬لقائه‭ ‬في‭ ‬مكتبه‭.‬

وكنتُ‭ ‬أحضر‭ ‬هذه‭ ‬اللقاءات‭ ‬أو‭ ‬بعضها‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬بحكم‭ ‬انشغالي‭ ‬بإدارة‭ ‬المؤتمرات‭ ‬المتتالية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭. ‬

وظلَّت‭ ‬علاقتي‭ ‬بالأستاذ‭ ‬هيكل‭ ‬قائمة‭ ‬ووثيقة‭ ‬لا‭ ‬تنقطع،‭ ‬وكان‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يجذبني‭ ‬إليه‭ ‬هو‭ ‬حرصه‭ ‬البالغ‭ ‬على‭ ‬الدقة‭ ‬في‭ ‬العبارة،‭ ‬والمعرفة‭ ‬الإبداعية‭ ‬التي‭ ‬تسندها‭ ‬ذاكرة‭ ‬لا‭ ‬يفلتُ‭ ‬منها‭ ‬الشِّعر‭ ‬العربي،‭ ‬القديم‭ ‬والحديث،‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الذاكرة‭ ‬تستعيده‭ ‬في‭ ‬الأحداث‭ ‬المهمة‭.‬

وقد‭ ‬لفت‭ ‬عبداللطيف‭ ‬قُراء‭ ‬كتابه‭ ‬الجميل‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الخصلة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬هيكل‭ ‬يتميز‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬حد‭. ‬وأظن‭ ‬أنني‭ ‬قد‭ ‬كتبتُ‭ ‬مقالاً‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬الأعداد‭ ‬التذكارية‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬الهلال‭ ‬القاهرية‭ ‬عن‭ ‬الذاكرة‭ ‬الأدبية‭ ‬لهيكل،‭ ‬وأذكر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬أنه‭ ‬قرأ‭ ‬حواراً‭ ‬صحفياً‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬الوفد‭ ‬القاهرية،‭ ‬ويبدو‭ ‬أنه‭ ‬لمح‭ ‬خطأ‭ ‬طباعياً‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬الأبيات‭ ‬التي‭ ‬استشهدتُ‭ ‬بها‭ ‬لحافظ‭ ‬إبراهيم‭ ‬عن‭ ‬عدالة‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب،‭ ‬وأعني‭ ‬به‭ ‬ذلك‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬يجئ‭ ‬بعد‭ ‬حديث‭ ‬حافظ‭ ‬عن‭ ‬زيارة‭ ‬رسول‭ ‬كِسرى‭ ‬لأمير‭ ‬المؤمنين‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ ‬‭]‬،‭ ‬فوجده‭ ‬نائماً‭ ‬تحت‭ ‬شجرة‭ ‬يستظل‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬أشعة‭ ‬الشمس‭ ‬الحارقة،‭ ‬وذلك‭ ‬دون‭ ‬حراسة‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬أمن‭ ‬مُشدد،‭ ‬فقال‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬حافظ‭ ‬إبراهيم‭:‬

أمِنتَ‭ ‬لَمّا‭ ‬أَقَمتَ‭ ‬العَدلَ‭ ‬بَينَهُمُ

فَنِمتَ‭ ‬نَومَ‭ ‬قَريرِ‭ ‬العَينِ‭ ‬هانيها

ويبدو‭ ‬أن‭ ‬الجريدة‭ ‬أخطأت‭ ‬في‭ ‬طباعة‭ ‬الجزء‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬البيت‭ ‬فنشرته‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬فنمتَ‭ ‬نومَ‭ ‬قريرَ‭ ‬العينِ‭ ‬هانياً‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬شاهد‭ ‬المرحوم‭ ‬هيكل‭ ‬هذا‭ ‬الخطأ،‭ ‬فإذا‭ ‬به‭ ‬يهاتفني‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬الباكر‭ ‬فأستيقظ،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أخبرتني‭ ‬زوجتي‭ ‬بأنه‭ ‬على‭ ‬الهاتف،‭ ‬وإذا‭ ‬به‭ ‬يسألني‭ ‬عن‭ ‬حواري‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يُبد‭ ‬رأياً‭ ‬فيه،‭ ‬ولكنه‭ ‬سألني‭: ‬هل‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬استشهدتُ‭ ‬به‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬كتبته‭ ‬جريدة‭ ‬الوفد؟،‭ ‬فأخبرته‭ ‬بالبيت‭ ‬كما‭ ‬أذكره،‭ ‬وعلى‭ ‬نحوٍ‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬الخطأ‭ ‬الطباعي‭ ‬الذي‭ ‬وقعتْ‭ ‬فيه‭ ‬الجريدة،‭ ‬فاطمأن‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أُخطِئ‭ ‬في‭ ‬الاستشهاد‭ ‬بالبيت،‭ ‬ونبَّهني‭ ‬إلى‭ ‬ضرورة‭ ‬أن‭ ‬أتصل‭ ‬بالصحفي،‭ ‬وأطلب‭ ‬منه‭ ‬التنبيه‭ ‬على‭ ‬وقوع‭ ‬الخطأ‭ ‬في‭ ‬أقرب‭ ‬عددٍ‭ ‬من‭ ‬الجريدة،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يتوهم‭ ‬القُراء‭ ‬عدم‭ ‬معرفتي‭ ‬بالأصل‭ ‬الصحيح‭ ‬للبيت‭.‬

 

ذاكرة‭ ‬فولاذية

مع‭ ‬الأسف‭ ‬لم‭ ‬أنفذ‭ ‬ما‭ ‬وعدته‭ ‬به؛‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬الصحفي‭ ‬الشاب‭ ‬لن‭ ‬ينفذ‭ ‬التصويب‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الاهتمام‭ ‬به،‭ ‬فقد‭ ‬كنتُ‭ - ‬ولا‭ ‬أزال‭ - ‬أعلم‭ ‬أن‭ ‬أغلب‭ ‬الصحفيين‭ ‬الشبان‭ ‬لا‭ ‬يتمتعون‭ ‬بهذه‭ ‬الصفات‭ ‬البديعة‭ ‬التي‭ ‬تتصلُ‭ ‬بالدقة‭ ‬اللُغوية‭ ‬في‭ ‬الكتابةِ،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الشعر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬يستشهدُ‭ ‬به‭ ‬هيكل،‭ ‬وكنت‭ ‬أعلم‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬سنواته‭ ‬الأخيرة‭ ‬كان‭ ‬يقوم‭ ‬بمران‭ ‬ذِهني‭ ‬ينعش‭ ‬به‭ ‬ذاكرته‭ ‬فيما‭ ‬أخبرني،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يسترجعُ‭ ‬في‭ ‬ذاكرته‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يحفظها‭ ‬عن‭ ‬ظهر‭ ‬قلبٍ؛‭ ‬وذلك‭ ‬تقوية‭ ‬للذاكرة‭ ‬وتنشيطاً‭ ‬لها،‭ ‬وأظن‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬سر‭ ‬حدة‭ ‬وقوة‭ ‬ذاكرة‭ ‬هيكل‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬تعينه‭ ‬على‭ ‬الاستشهاد‭ ‬بأبيات‭ ‬الشِّعر‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تأتي‭ ‬في‭ ‬موقعها‭ ‬تماماً‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مناسبة‭ ‬سياسية‭ ‬تستدعي‭ ‬هذا‭ ‬الاستشهاد،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬ترديده‭ ‬على‭ ‬الذين‭ ‬هاجموه‭ ‬في‭ ‬الحملات‭ ‬التي‭ ‬شنَّها‭ ‬أنصار‭ ‬السادات‭ ‬عليه،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تباعد‭ ‬بينهما‭ ‬السبيل‭ ‬بقوله‭:‬

هنيئاً‭ ‬مريئاً‭ ‬غيْرَ‭ ‬داءٍ‭ ‬مُخامِرٍ

لِعزَّةَ‭ ‬مِنْ‭ ‬أعراضنا‭ ‬ما‭ ‬استحلَّتِ

أو‭ ‬قوله‭ ‬عقب‭ ‬الاستقبال‭ ‬القومي‭ ‬الحافل‭ ‬أو‭ ‬الحاشد‭ ‬لعبدالناصر‭ ‬عندما‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬السودان،‭ ‬ليحضر‭ ‬مؤتمر‭ ‬القمة‭ ‬الأول‭ ‬بمدينة‭ ‬الخرطوم‭ ‬بعد‭ ‬هزيمة‭ ‬1967،‭ ‬وإذا‭ ‬به‭ ‬وهو‭ ‬المهزوم‭ ‬يجد‭ ‬استقبالاً‭ ‬ملحمياً‭ ‬من‭ ‬الشعب‭ ‬السوداني‭ ‬ومن‭ ‬القادة‭ ‬العرب‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يتخيله‭ ‬قط،‭ ‬فإذا‭ ‬بهيكل‭ ‬ينشد‭:‬

ما‭ ‬حَطَّموكَ‭ ‬وَإِنَّمـا‭ ‬بِـكَ‭ ‬حُطِّمـوا

مَن‭ ‬ذا‭ ‬يُحَطِّـمُ‭ ‬رَفـرَفَ‭ ‬الجَـوزاءِ

     

فاتحة‭ ‬خير

مضت‭ ‬الأيام،‭ ‬ونجحتُ‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬مبنى‭ ‬جديد‭ ‬للمجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬للثقافة،‭ ‬وبدأنا‭ ‬التوسع‭ ‬في‭ ‬إصدارِ‭ ‬عددٍ‭ ‬أكبر‭ ‬وأجمل‭ ‬إخراجاً‭ ‬من‭ ‬كتبِ‭ ‬المشروع‭ ‬القومي‭ ‬للترجمة،‭ ‬وأرسلت‭ ‬إليه‭ ‬مجموعات‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬تحققَ‭ ‬فيها‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالشكلِ‭ ‬الذي‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬المحتوى،‭ ‬فسعِد‭ ‬بها‭ ‬الأستاذ‭ ‬سعادةً‭ ‬غامرةً،‭ ‬ودون‭ ‬أن‭ ‬يهاتفني‭ ‬حتى،‭ ‬فوجئت‭ ‬بشيك‭ ‬يصل‭ ‬منه‭ ‬بمبلغ‭ ‬ثلاثين‭ ‬ألف‭ ‬جنيه،‭ ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الشيك‭ - ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يقصد‭ ‬كلانا‭ - ‬قد‭ ‬أغضب‭ ‬الرئيس‭ ‬الأسبق‭ ‬مبارك،‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬حدة‭ ‬القطيعة‭ ‬بينه‭ ‬وهيكل‭ ‬قد‭ ‬اتسعت،‭ ‬فإذا‭ ‬بالوزير‭ ‬فاروق‭ ‬حسني‭ ‬يهاتفني‭ ‬قائلاً‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬رقّة‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬تحذير‭ ‬مُبطَّنٍ‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬من‭ ‬المستحسن‭ ‬ألا‭ ‬أقبل‭ ‬تبرعات‭ ‬من‭ ‬أحد‮»‬،‭ ‬مؤكداً‭ ‬أن‭ ‬‮«‬أي‭ ‬دعمٍ‭ ‬مالي‭ ‬تُحيي‭ ‬به‭ ‬المشروع‭ ‬ستتولّاه‭ ‬الدولة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬دعم‭ ‬خارجي‮»‬،‭ ‬وهكذا‭ ‬كان‭ ‬آخر‭ ‬شيك‭ ‬أرسله‭ ‬هيكل‭ ‬فاتحةَ‭ ‬خيرٍ،‭ ‬ودعماً‭ ‬كاملاً‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬للمشروع‭ ‬الذي‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تحوَّل‭ ‬إلى‭ ‬مركزٍ‭ ‬قومي‭ ‬للترجمة‭ ‬عام‭ ‬2007‭.‬

والحق‭ ‬أن‭ ‬قارئ‭ ‬كتاب‭ ‬عبداللطيف‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬مثلي،‭ ‬ستدفعه‭ ‬الكلمات‭ ‬المكتوبة‭ ‬إلى‭ ‬تداعيات‭ ‬حُلوةٍ‭ ‬وحيًّة‭ ‬من‭ ‬الذكريات‭ ‬التي‭ ‬يتربعُ‭ ‬فيها‭ ‬الأستاذ‭ ‬والمُعلِّم‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يَعرفُ‭ ‬قيمة‭ ‬الثقافة‭ ‬والفكر،‭ ‬ويحرص‭ ‬كل‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يجمع‭ ‬العقول‭ ‬المصرية‭ ‬في‭ ‬مبنى‭ ‬‮«‬الأهرام‮»‬،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬الدور‭ ‬السادس‭ ‬الذي‭ ‬كنتُ‭ ‬أذهبُ‭ ‬إليه‭ ‬بعد‭ ‬تخرجي‭ ‬من‭ ‬الجامعة،‭ ‬فأجد‭ ‬فيه‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭ ‬ونجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬وبنت‭ ‬الشاطئ‭ ‬ويوسف‭ ‬إدريس‭ ‬وحسين‭ ‬فوزي‭ ‬ولطفي‭ ‬الخولي،‭ ‬وعشرات‭ ‬غيرهم‭ ‬من‭ ‬الكُتاب‭ ‬الكبار‭ ‬الذين‭ ‬يفخر‭ ‬بهم‭ ‬التاريخ‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي،‭ ‬أما‭ ‬الآن‭ ‬فقد‭ ‬مضى‭ ‬هذا‭ ‬العهد،‭ ‬وأصبحت‭ ‬أتطلَّعُ‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬حولي‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬مكتبي‭ ‬بالدور‭ ‬السادس‭ ‬من‭ ‬‮«‬الأهرام‮»‬،‭ ‬فلا‭ ‬أرى‭ ‬سوى‭ ‬ذكريات‭ ‬الماضي‭ ‬تحيطُ‭ ‬بي،‭ ‬ولم‭ ‬يعُد‭ ‬من‭ ‬الكبار‭ ‬أحد‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬تطاول‭ ‬قامته‭ ‬قامة‭ ‬هذه‭ ‬الأسماء‭ ‬العظيمة‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬علامة‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬‮«‬الأهرام‮»‬‭ ‬العظيمة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يقرأها‭ ‬كل‭ ‬العرب،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬تضارع‭ ‬أهم‭ ‬الجرائد‭ ‬العالمية‭.‬

 

مزرعة‭ ‬برقاش

الحق‭ ‬أن‭ ‬كتاب‭ ‬الأستاذ‭ ‬أنور‭ ‬يكشفُ‭ ‬عن‭ ‬كاتب‭ ‬سَلِس‭ ‬الأسلوب‭ ‬يتمتع‭ ‬ببساطةٍ‭ ‬آسرةٍ‭ ‬في‭ ‬العرض‭ ‬والحَكي‭ ‬والسرد‭ ‬معاً،‭ ‬فيتحدث‭ ‬مثلاً‭ ‬عن‭ ‬رحلة‭ ‬بصحبة‭ ‬الأستاذ‭ ‬على‭ ‬‮«‬فرسة‭ ‬النبي‮»‬‭ ‬عبر‭ ‬35‭ ‬مليون‭ ‬عامٍ،‭ ‬يعني‭ ‬مزرعة‭ ‬الأستاذ‭ ‬هيكل‭ ‬في‭ ‬برقاش،‭ ‬وفي‭ ‬الفصل‭ ‬الثاني‭ ‬حيث‭ ‬يوجد‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الآثار‭ ‬القديمة‭ ‬بالغة‭ ‬القِدم‭ ‬حول‭ ‬منزل‭ ‬هيكل‭ ‬الذي‭ ‬حرص‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬منه‭ ‬أعجوبة‭ ‬بكل‭ ‬معنى‭ ‬الكلمة،‭ ‬ولا‭ ‬أدل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬المكتبة‭ ‬الهائلة‭ ‬التي‭ ‬يحتويها‭ ‬المنزل،‭ ‬والتي‭ ‬حاول‭ ‬بعض‭ ‬المتشددين‭ ‬حرقها،‭ ‬لكنهم‭ - ‬وإن‭ ‬نجحوا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ - ‬لم‭ ‬يصلوا‭ ‬إلى‭ ‬اللوحات‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬تُمثِّل‭ ‬كل‭ ‬الاتجاهات‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الأقطار‭ ‬العربية،‭ ‬والمُعلقة‭ ‬على‭ ‬حوائط‭ ‬المنزل،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬فعله‭ ‬هيكل‭ ‬في‭ ‬المبنى‭ ‬الأساسي‭ ‬لصحيفة‭ ‬الأهرام،‭ ‬حيث‭ ‬يطالع‭ ‬الزائر‭ ‬لوحات‭ ‬إبداعية‭ ‬لأهم‭ ‬الفنانين‭ ‬المصريين‭ ‬منذ‭ ‬محمود‭ ‬سعيد‭ ‬إلى‭ ‬فاروق‭ ‬حسني‭.‬

والحقيقة‭ ‬أنَّ‭ ‬صدق‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬عبداللطيف‭ ‬لا‭ ‬يوازيه‭ ‬إلا‭ ‬سماحة‭ ‬النَّفس‭ ‬التي‭ ‬تعترف‭ ‬حتى‭ ‬بأخطائها‭ ‬البسيطة‭ ‬التي‭ ‬ينبِّهه‭ ‬إليها‭ ‬هيكل‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬الطويلة‭ ‬به‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬قريباً‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬سنواته‭ ‬الأخيرة،‭ ‬ولذلك‭ ‬يُهدي‭ ‬عبداللطيف‭ ‬كتابه‭ ‬إليه‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬حديث‭ ‬الروح‮»‬،‭ ‬فخوراً‭ ‬بأنه‭ ‬عَرف‭ ‬الرجل‭ ‬وأنه‭ ‬قريب‭ ‬منه،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أتاح‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يطرح‭ ‬عليه‭ - ‬بكل‭ ‬براءةٍ‭ - ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬طرحها‭ ‬عليه‭ ‬وتلقى‭ ‬منه‭ ‬إجابات‭ ‬تتميز‭ ‬بالصراحة‭ ‬والخطورة،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬وصاياه‭ ‬الأخيرة‭ ‬للجيل‭ ‬الجديد‭ ‬والوطن‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬مهموماً‭ ‬به‭.‬

ويختتم‭ ‬الكتاب‭ ‬بصورٍ‭ ‬نادرةٍ‭ ‬تجعل‭ ‬القارئ‭ ‬يشارك‭ ‬أنور‭ ‬فيما‭ ‬عرفه‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬هيكل‭ ‬ومنزله‭ ‬في‭ ‬برقاش،‭ ‬أو‭ ‬مكتبه‭ ‬بالدقي،‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬سنوات‭ ‬تراكمت‭ ‬معها‭ ‬خبرات‭ ‬في‭ ‬وعي‭ ‬أنور‭ ‬الذي‭ ‬يُقدِّر‭ ‬فضل‭ ‬الأستاذ‭ ‬عليه‭ ‬وحواراته‭ ‬معه،‭ ‬وهي‭ ‬حوارات‭ ‬تمتدُ‭ ‬إلى‭ ‬الثورات‭ ‬الأربع‭ ‬الأساسية‭ ‬التي‭ ‬تَشكَّلَ‭ ‬منها‭ ‬التاريخ‭ ‬المصري،‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬ثورة‭ ‬عرابي‭ ‬وانتهاء‭ ‬بثورة‭ ‬الثلاثين‭ ‬من‭ ‬يونيو‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬المعاصرة،‭ ‬مؤكداً‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الثورات‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬سوى‭ ‬حركات‭ ‬متعددة‭ ‬لثورةٍ‭ ‬مستمرةٍ‭ ‬واحدةٍ‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬الحرية‭ ‬والعدالة‭ ‬والكرامة‭ ‬الإنسانية‭ ‬للمواطن‭ ‬المصري‭ ‬في‭ ‬أفعال‭ ‬من‭ ‬التمرد‭ ‬الذي‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬حبٍّ‭ ‬للوطنِ‭ ‬وعشقٍ‭ ‬للصحافة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬فالكتابُ‭ ‬في‭ ‬النهايةِ‭ ‬نوعٌ‭ ‬من‭ ‬الاعترافِ‭ ‬بالفضلِ‭ ‬من‭ ‬تلميذٍ‭ ‬لايزال‭ ‬يعشق‭ ‬أستاذه‭ ‬ويؤمِنُ‭ ‬بوصاياه‭ ‬الأخيرة‭ ‬إيماناً‭ ‬يثيرُ‭ ‬في‭ ‬النَّفس‭ ‬الشَّجن‭ ‬‭■‬