حياة بلا ميكروبات ماذا تعني

حياة  بلا ميكروبات ماذا تعني

ماذا لو أطلقنا لفكرنا العنان كما في عالـــم الأساطيـــر وأفــلام الخـــــيال العلمي والكــــــرتون، متخيلين أن لدينا عصا سحرية قادرة على تحـــقــــيق جــمــــيع الأمنـــــــيات والأحــــلام، فبحـــركة ولمسة سحرية منها نستطيع إخــــــفاء جـمـــــيع الميكـــروبـــات والجــراثــــــــيم المـــــوجودة فـــــي العالم؟

قد تكون هذه العصا السحرية أروع خدعة يمكن حدوثها في تاريخ البشرية، فلنتخيل معا حياة من دون ميكروبات، عالم نظيف نقي لا يعكر صفوه جرثومة، لن نقلق حينها من تناول قطعة حلوى سقطت منا في التراب، فالأمر بات آمناً، كما لن نخاف من عدوى الرذاذ المتناثر من عطسة أي شخص أمامنا... يا له من أمر فائق لحدود العقل والمنطق، تُرى هل يتحقق هذا التخيل؟ وماذا لو حدث بالفعل؟ تُرى هل تختفي جميع الأمراض والأوبئة؟ هل سيأتي ذلك اليوم الذي نستيقظ فيه ولا نجد مرضا اسمه الإنفلونزا أو الحصبة أو الدرن؟ هل حقا ستكون أمراضنا مجرد ذكرى لن تعود مرة أخرى؟ هل سنعيش أصحاء حتى آخر أعمارنا؟ 
إن الميكروبات منتشرة حولنا في كل مكان، على جلودنا وفي أمعائنا وفي أفواهنا وفي الهواء والتربة ولا نستطيع رؤيتها، وبمعنى أدق موجودة داخل وخارج أجسامنا، ومن هنا جاءت الفكرة التي جعلت بعض الباحثين يفترضون مثل هذا الافتراض... ماذا لو اختفت فجأة جميع الميكروبات من على سطح كوكب الأرض؟  قد يبدو هذا الأمر في بدايته رائعا، ويا لها من فرحة عارمة، ولكن السؤال الأهم هنا: هل ستدوم تلك الفرحة، أم ستكون لها عواقب وتأثيرات قد تكون وخيمة وكارثية على بعض الكائنات الحية؟ وهل النتائج المترتبة على تلك العواقب ستكون متحكما بها أم ستخرج عن السيطرة؟ 
أسئلة كثيرة تدور في أذهاننا تنتظر الإجابة، فإذا كان اختفاء هذه الجراثيم سيجعل عالمنا أفضل، فهل من احتمال أن يُلحق بعض الضرر ببعض الكائنات الأخرى؟ فمن المسلم به أن لكل مخلوق خلقه الله سبحانه وتعالى سببا وحكمة من وجوده ولم يخلق عبثاً.
منذ فترة نشر بعض الباحثين والعلماء بحثا مهما في مجلة PLOS Biology عام 2014 م بعنوان «Life in a world without microbes»، أوضحوا فيه وجهة نظرهم تجاه هذا الموضوع، وذكروا فيه بعض الأحداث المتوقع حدوثها، التي قد تواجه بعض الكائنات الحية جراء هذا الاختفاء وكيفية تلافيها وابتكار أفضل الحلول المناسبة والسريعة لها.
فذكروا في البحث أننا كبشر سنكون من الكائنات الأقل تضررا من هذه المشكلة، وأننا لن يصيبنا شيء لمدة أسابيع أو شهور أو حتى بضع سنين، والسبب في ذلك هو أن أجسامنا مليئة بعديد من البكتريا النافعة التي تساعدنا على عملية هضم الطعام، وأيضا تعزز من كفاءة أجهزتنا المناعية، فمع غياب تلك البكتريا سوف يحدث لنا بعض الاضطرابات الهضمية نتيجة نقص الفيتامينات التي توفرها لنا هذه البكتريا، ولكن هذا الضرر لن يصبح أمرا يصعب تداركه، فلن يقف الإنسان عاجزا أمام هذه المحنة طويلا، وسوف يبتكر لها حلا، فمع وجود المكملات الغذائية المصنعة لن يصبح الأمر مزعجا، ويمكن تعويض ذلك النقص في التغذية لدينا .
أما بالنسبة إلى الكائنات الأكثر تأثرا من هذا الاختفاء، فقد أوضح الباحثون أن النباتات وبعض الحيوانات هي التي ستتأثر بشكل كبير، وذلك لاعتمادها الكلي على بعض البكتريا في غذائها.

متحكم رئيس
إن النباتات تحتاج إلى مياه (أوكسجين وهيدروجين)، وأشعة شمس (تحول المياه وثاني أكسيد الكربون إلى سكريات)، وأيضا بعض العناصر مثل النتروجين والفوسفور والبوتاسيوم، وذلك للتمكن من القيام بعملية البناء الضوئي أو ما تسمى بالتمثيل الغذائي Photosynthesis process، وكل هذه المكونات تأخذها النباتات من البيئة المحيطة بها وتعود لها مرة أخرى بعد استهلاكها.
 فلك أن تتخيل أن المتحكم الرئيس في هذه العملية هو نوع من أنواع البكتريا يسمى Diazotrophs ووظيفة هذه البكتريا هي تحويل النتروجين الجوي عديم الفائدة للنبات نظرا إلى عدم تفاعله مع المكونات الأخرى إلى نتروجين ثابت قادر على التفاعل مع بقية المكونات من المواد الغذائية، وبالتالي تستطيع تلك البكتريا تحويل النتروجين وثاني أكسيد الكربون الموجودين في الهواء إلى مكونات صالحة يستطيع النبات استخدامها كمصدر لتغذيته ولتكوين اللبنات الأساسية لنموه.
واختفاء هذا النوع من البكتريا سيكون بمنزلة كارثة حتمية للنبات، وذلك بسبب حرمانه من تلك المواد الغذائية التي تحللها له هذه البكتريا فيفقد القدرة على إنتاج الوقود اللازم لعملية البناء الضوئي فيموت في غضون أيام، وإن لم نجد حلا لهذه الأزمة ونصنع سمادا اصطناعيا لتغذية جميع النباتات، ففي خلال عام واحد لن تكون هناك العملية التي تسمى بالتمثيل الغذائي على سطح كوكب الأرض، مما سيؤدى إلى موت النباتات، ولن نستطيع مواجهة العواقب التي حتما ستظهر أمامنا، مثل حدوث احتباس حراري سريع لكوكب الأرض نتيجة لارتفاع معدلات ثاني أكسيد الكربون وقلة معدلات الأوكسجين في الغلاف الجوي، وذلك لأن النباتات هي التي تخلصنا من ثاني أكسيد الكربون الناتج من عملية الزفير، وتوفر لنا الأوكسجين اللازم لعملية تنفس جميع الكائنات الحية، وبالتالي هي التي تنظف الهواء من كل الوقود الذي نحرقه ومن جميع الملوثات.
أما التأثيرات التي قد تصيب الحيوانات، فتوجد بعض الحيوانات التي تسمى بالمجترات وهي الأبقار والأغنام والماعز، التي قد تتضور جوعاً نتيجة لاختفاء الميكروبات، ويرجع السبب في ذلك إلى أن هذه المجترات لا تستطيع أن تهضم بنفسها مادة السليلوز، وهي المادة الأساسية المكونة لجدار خلايا النباتات والتي تعد الغذاء الرئيس لهذه الحيوانات، فتعتمد على بعض الميكروبات الموجودة في أمعائها، التي تسمى بالميكروبات المعوية والتي تتولى بدورها هذه المهمة وتعمل على تكسير مادة السليلوز، وبالتالي يستطيع الحيوان أن يهضم ويمتص جميع المواد الغذائية من النبات والغذاء. وغياب تلك البكتريا المعوية قد يجعل المجترات تموت جوعا، وربما لن يكون هناك حل لهذه المشكلة، ولكن لا تسري هذه الاحتمالية على جميع الحيوانات.

نظرية قديمة
وكان لبعض علماء الأحياء المجهرية رأي آخر حيال هذا الأمر من خلال إثبات خطأ نظرية قديمة لبعض العلماء السابقين، وهي أن الحياة بالنسبة إلى بعض الحيوانات ستصبح مستحيلة في ظل الغياب الكامل والدائم للحياة الميكروبية، وذلك عن طريق تجربة وضعوا فيها بعض حيوانات التجارب في بيئة خالية تماما من الجراثيم، وبمعزل كامل عن العالم الخارجي في فقاعة خالية من الميكروبات، ومع تغذيتها غذاء مصنعا كيميائيا، وجد أن الحيوانات تكيفت مع طريقة المعيشة الجديدة وغير المعتادة عليها من قبل، وبذلك نجحت التجربة.
 وما أراد العلماء قوله هو إن العيش في فقاعة خالية من الجراثيم تجربة أثبتت صحتها داخل معامل التجارب، ولكن الوضع في الواقع الخارجي غير ذلك، فالعيش في كوكب كامل خالٍ من الجراثيم قد يكون تجربة يستحيل نجاحها، وذلك لأن كلا الوضعين مختلف تماما عن بعضهما.
وأوضح الباحثون أيضا الدور الكبير الذي تساهم به البكتريا في تخليصنا من المخلفات البشرية والحيوانية، فتلك البكتريا الجائعة هي التي تبتلع جميع المخلفات والنفايات العضوية، وتساعد في إعادة تدويرها مرة أخرى إلى البيئة، وذلك عن طريق تكسير المركبات المعقدة وتحويلها إلى مركبات بسيطة صالحة لإعادة الاستخدام، فمع اختفاء هذه البكتريا المحللة لتلك المخلفات، سوف تحدث فوضى عارمة نتيجة لتراكم هذه المخلفات، وهذا بالطبع سيؤثر على النظام البيئي والحيوي على سطح كوكب الأرض.
لقد اكتشف أخيرا أن بعض الأجزاء من خلايانا البشرية لها منحدرات ميكروبية، فحيث توجد الخلايا البشرية يوجد عديد من الخلايا الميكروبية، وهذه الأعضاء الدقيقة، التي تتحدر من الميكروبات، والتي تسمى بالعضيات مثل الأجسام السبحية الموجودة في الخلية، إذا اختفت وتوقفت عن الوجود، فسوف نموت في غضون دقيقة، ولكن إذا افترضنا أنها لا تزال تعمل، فكم من الوقت ستعمل؟
في النهاية، أوضح الباحثون جميع وجهات النظر المتعلقة بهذا الموضوع، وسردوا بعض المشكلات التي قد تحدث، وذكروا أهم الطرق لحل معظمها والبعض الآخر لم يجدوا له حلا، ولكن ما نستطيع أن نقوله ختاما هو أن باستطاعتنا أن نبقى على قيد الحياة في عالم من دون ميكروبات وذلك لمدة من الوقت، قد تكون هذه المدة عقودا أو قرونا، ولكن ليست مدى الحياة، لأن الميكروبات موجودة حولنا في كل مكان، مندرجة في كل عملية بيوكيميائية تحدث على سطح كوكب الأرض، ومن دونها لن تكون الحياة ممكنة أو ربما ستكون غير ذلك، وإجابة هذا السؤال سيثبتها العلم في المستقبل القريب ■