قراءة في قصيدة «البحث عن بداية» لفاروق شوشة صورة الكويت في الشعر العربي المعاصر

قراءة في قصيدة «البحث عن بداية» لفاروق شوشة صورة الكويت  في الشعر العربي المعاصر

يقفُ فاروق شوشة في طليعة الشُّعراء الّذين عاشوا قضايا أُمّتهم، وعبّروا عن آلامها وآمالها؛ على أنّ ما يفْرقُ شاعراً عن شاعرٍ هو صدقُ الإحساس، ووهجُ الشعور، وعمقُ التّجربة، فضلاً عن عبقرية التناول وخصوصية المعالجة.

ويطالعك‭ ‬شيءٌ‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬كُلّه‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬الذي‭ ‬يُلامسُ‭ ‬جراح‭ ‬أُمّته،‭ ‬ومعاناة‭ ‬شعوبها؛‭ ‬وهو‭ ‬يفعلُ‭ ‬ذلك‭ ‬بوعيٍ‭ ‬وإدراكٍ‭ ‬لا‭ ‬ينْفكُّ‭ ‬عنهما‭ ‬إحساسٌ‭ ‬صادقٌ‭ ‬وشعورٌ‭ ‬جيّاشٌ؛‭ ‬فلا‭ ‬تجده‭ ‬مُحلّقاً‭ ‬في‭ ‬أودية‭ ‬الشّعر‭ ‬هائماً‭ ‬بعواطفه‭ ‬في‭ ‬مساربها،‭ ‬نازعاً‭ ‬عنها‭ ‬إهاب‭ ‬وعيه‭ ‬وإدراكه؛‭ ‬فيفقد‭ ‬شعرُه‭ ‬بهذا‭ ‬ترابطه‭ ‬ومنطقه،‭ ‬ولا‭ ‬يستغرقُه‭ ‬فكرُه‭ ‬وإدراكُه؛‭ ‬فينزع‭ ‬عن‭ ‬شعره‭ ‬بذاك‭ ‬ماءه‭ ‬ورونقه،‭ ‬وإنّما‭ ‬يجمع‭ ‬بينهما‭ ‬فتصْدُقُ‭ ‬عليه‭ ‬مقولةُ‭: ‬‮«‬يفكّرُ‭ ‬حين‭ ‬يُحسُّ،‭ ‬ويُحسُّ‭ ‬حين‭ ‬يفكر‮»‬،‭ ‬إذ‭ ‬تسير‭ ‬المضامين‭ ‬الفكرية‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬في‭ ‬خطٍّ‭ ‬موازٍ‭ ‬لقيمه‭ ‬الجمالية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬صياغة‭ ‬شعرية‭ ‬ينفذ‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬إلى‭ ‬لبّ‭ ‬الموضوع‭ ‬دون‭ ‬خطابية‭ ‬رنانة‭ ‬أو‭ ‬مباشرة‭ ‬فجّة،‭ ‬فتجده‭ ‬آخذاً‭ ‬بيد‭ ‬قارئه‭ ‬رويداً‭ ‬رويداً‭ ‬من‭ ‬بداية‭ ‬القصيدة‭ ‬إلى‭ ‬نهايتها‭ ‬بأسلوبه‭ ‬السلس‭ ‬المعهود؛‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يصادفك‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬عتبات‭ ‬نّصه؛‭ ‬من‭ ‬العنوان‭: ‬‮«‬البحث‭ ‬عن‭ ‬بداية‮»‬،‭ ‬فيشاركك‭ ‬رحلة‭ ‬بحثه؛‭ ‬إذ‭ ‬القضية‭ ‬واحدة،‭ ‬والهمُّ‭ ‬مشترك؛‭ ‬فيبدأ‭ ‬قصيدته‭ ‬بذلك‭ ‬‮«‬المشترك‮»‬‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ضمير‭ ‬الجمع‭ ‬‮«‬نبتدئ‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬وظّفه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ذلك‭ ‬السؤال‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬يراود‭ ‬كل‭ ‬عربي‭ ‬مخلص‭ ‬ويُلّحُ‭ ‬عليه‭:‬

من‭ ‬أي‭ ‬قاعٍ‭ ‬سوف‭ ‬نبتدئُ‭     

وكُلّما‭ ‬لاح‭ ‬نجمٌ‭ ‬راح‭ ‬ينطفئُ

وقد‭ ‬رسم‭ ‬شوشة‭ ‬هنا‭ ‬لوحة‭ ‬ذات‭ ‬مشاهد‭ ‬أربعة؛‭ ‬رصد‭ ‬في‭ ‬مشهدها‭ ‬الأول‭ ‬واقع‭ ‬الأمة‭ ‬المرير،‭ ‬وصوّر‭ ‬حالة‭ ‬الفرقة‭ ‬التي‭ ‬تنخر‭ ‬في‭ ‬عظامها،‭ ‬وقد‭ ‬استغرق‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬الأبيات‭ ‬العشرة‭ ‬الأُول؛‭ ‬بدأها‭ ‬بالسؤال‭ ‬الكاشف‭ ‬عن‭ ‬حالة‭ ‬التردي‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬إليها‭ ‬الأمة،‭ ‬مجسداً‭ ‬ذلك‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬قاع‭ ‬سحيق‮»‬،‭ ‬وكأنه‭ ‬لو‭ ‬أراد‭ ‬‮«‬بداية‮»‬،‭ ‬ومنطلقاً‭ ‬يخرج‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬القاع‭ ‬فلن‭ ‬يبلغ‭ ‬له‭ ‬قراراً،‭ ‬ولن‭ ‬يجد‭ ‬له‭ ‬متكأ‭ ‬أو‭ ‬موضعاً‭ ‬يرتكز‭ ‬عليه‭ ‬كي‭ ‬يبدأ‭ ‬مع‭ ‬أمته‭ ‬رحلة‭ ‬نهوضها‭ ‬المنشودة‭!‬

وأنّى‭ ‬له‭ ‬ذلك،‭ ‬وقد‭ ‬ضاع‭ ‬العمر‭ ‬ونحن‭ ‬نلهث‭ ‬وراء‭ ‬سراب‭ ‬وخلف‭ ‬‮«‬حُلم‭ ‬مهترئ‮»‬‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬قوله؟‭! ‬ولا‭ ‬يفتأ‭ ‬شوشة‭ ‬يصور‭ ‬تلك‭ ‬الحالة‭ ‬المسيطرة‭ ‬على‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تعداده‭ ‬عوامل‭ ‬ضعفها،‭ ‬وأسباب‭ ‬وهدتها؛‭ ‬من‭ ‬سيطرة‭ ‬الوهم‭ ‬الخادع‭ ‬إلى‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬السلوى‭ ‬والعزاء‭ ‬وخداع‭ ‬الذات‭ ‬الكاشف‭ ‬عن‭ ‬حالة‭ ‬التردد‭ ‬وفقدان‭ ‬الثقة‭ ‬والاتزان؛‭ ‬فما‭ ‬تكاد‭ ‬الأمة‭ ‬تخطو‭ ‬خطوة‭ ‬في‭ ‬الاتجاه‭ ‬الصحيح‭ ‬حتى‭ ‬تنكفئ‭ ‬راجعةً‭ ‬فيه‭ ‬خطوات‭.‬

العمر‭ ‬ضاع‭ ‬سدى،‭ ‬عُمْرٌ‭ ‬بأكمله

ونحن‭ ‬نلبس‭ ‬عمراً‭ ‬بات‭ ‬يهترئُ

نستقرئ‭ ‬الغيب‭ ‬علّ‭ ‬الغيب‭ ‬يسعفنا

ونستريح‭ ‬إلى‭ ‬السلوى‭ ‬ونتكئُ

تؤودُنا‭ ‬عثرةٌ‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬اعتدلت

أقدامنا‭ ‬خطوة‭ ‬عدنا‭ ‬فننكفئُ

ويضع‭ ‬شوشة‭ ‬يده‭ ‬على‭ ‬أصل‭ ‬الداء‭ - ‬وكأنه‭ ‬يرصد‭ ‬حالنا‭ ‬الآن‭ - ‬فيتحدث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬المسكوت‭ ‬عنه‮»‬،‭ ‬متمثلاً‭ ‬في‭ ‬سيطرة‭ ‬الضغائن‭ ‬والأحقاد‭ ‬على‭ ‬قلوب‭ ‬الإخوة‭ ‬وكأنهم‭ ‬لم‭ ‬يغادروا‭ ‬بذلك‭ ‬قبليّتهم‭ ‬القديمة‭: ‬

هذه‭ ‬القبيلة‭ ‬قد‭ ‬فحّتْ‭ ‬ضغائنها

فليس‭ ‬يجمعها‭ ‬ماءٌ‭ ‬ولا‭ ‬كلأُ‭ ‬

إن‭ ‬تسعُ‭ ‬يوماً‭ ‬ففي‭ ‬خُلْفٍ‭ ‬وتفرقة

وإن‭ ‬تسرْ‭ ‬فعلى‭ ‬أقداسها‭ ‬تطأُ

هل‭ ‬يكتب‭ ‬الدّهر‭ ‬عنهم‭ ‬أنهم‭ ‬وُئدوا

أو‭ ‬أنهم‭ ‬بُعثروا‭ ‬في‭ ‬التيه‭ ‬واختبأوا‭ ‬

وأنهم‭ ‬ذات‭ ‬يومٍ‭ ‬ها‭ ‬هنا‭ ‬عبروا

على‭ ‬الرمال،‭ ‬ويوماً‭ ‬ها‭ ‬هنا‭ ‬طرأوا

الله‭ ‬في‭ ‬هممٍ‭ ‬باتت‭ ‬مُضيّعةً

وفي‭ ‬نفوس‭ ‬علا‭ ‬جدرانها‭ ‬الصّدأُ

هذا‭ ‬هو‭ ‬الجمع،‭ ‬عقداً‭ ‬كان،‭ ‬وانفرطتْ

حبّاتُه،‭ ‬مثلما‭ ‬قد‭ ‬ضُيعتْ‭ ‬سبأُ

وهو‭ ‬في‭ ‬رصده‭ ‬تلك‭ ‬الحالة‭ ‬لا‭ ‬تجده‭ ‬مسرفاً‭ ‬في‭ ‬تصويرها؛‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬ينكأ‭ ‬الجراح‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يريد‭ ‬اندمالها؛‭ ‬لذا‭ ‬يناشدهم‭ ‬مستثيراً‭ ‬حميتهم‭ ‬الدينية‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬ما‭ ‬يجمع‭ ‬ويؤلّف‭ ‬لا‭ ‬ما‭ ‬يفرق‭ ‬ويشتت؛‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬في‭ ‬الأمة‭ ‬همم‭ ‬عالية‭ ‬يحذّر‭ ‬من‭ ‬ضياعها‭ ‬مستلهماً‭ ‬التاريخ‭ ‬بعِبره،‭ ‬ومستدعياً‭ ‬الدين‭ ‬بزواجره‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الترهيب‭ ‬من‭ ‬مصير‭ ‬كمصير‭ ‬‮«‬سبأ‮»‬‭ ‬ليحمّل‭ ‬ذلك‭ ‬التوظيف‭ ‬الديني‭ ‬التاريخي‭ ‬مضامين‭ ‬عصرية؛‭ ‬فيضحي‭ ‬توظيفاً‭ ‬عميقاً‭ ‬له‭ ‬قيمته،‭ ‬‮«‬فالشاعر‭ ‬العظيم‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يتجاوز‭ ‬التراث‭ ‬مضيفاً‭ ‬إليه‭ ‬شيئاً‭ ‬جديداً‮»‬،‭ ‬لأن‭ ‬‮«‬وقوف‭ ‬الشعراء‭ ‬مع‭ ‬التراث‭ ‬تقتضيه‭ ‬رؤاهم‭ ‬المعاصرة‭ ‬التي‭ ‬تستلهم‭ ‬الماضي‭ ‬ليكتسب‭ ‬دلالياً‭ ‬أبعاداً‭ ‬إيحائية،‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬الحاضر‮»‬‭.‬

إلى‭ ‬هنا‭ ‬وينتهي‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬الذي‭ ‬بلغ‭ ‬به‭ ‬الشاعر‭ ‬ذروته؛‭ ‬إذ‭ ‬ليس‭ ‬ثمة‭ ‬نذير‭ ‬أشد‭ ‬من‭ ‬ضرب‭ ‬المثل‭ ‬على‭ ‬الهلاك‭ ‬بمملكة‭ ‬سبأ‭! ‬ليبدأ‭ ‬المشهد‭ ‬الثاني‭ ‬بالخطاب‭ ‬المباشر‭ ‬مستغرقاً‭ ‬تسعة‭ ‬أبيات‭ ‬وهو‭ ‬وإن‭ ‬كنّى‭ ‬فيها‭ ‬ولم‭ ‬يُصرّح‭ ‬فإنّ‭ ‬الكناية‭ ‬ظاهرة،‭ ‬والمخاطَب‭ ‬معروف،‭ ‬ولكنّ‭ ‬الكناية‭ ‬أبلغ‭ ‬وأدلّ؛‭ ‬فالعدو‭ ‬ليس‭ ‬الشقيق‭ ‬حتى‭ ‬تغدر‭ ‬به‭ ‬مجترئاً‭ ‬على‭ ‬ذوي‭ ‬رحمك‭:‬

يا‭ ‬من‭ ‬رميت‭ ‬فلم‭ ‬تدرك‭ ‬لأي‭ ‬مدى‭    

لمّا‭ ‬رميت،‭ ‬ولما‭ ‬طُيّر‭ ‬النبأُ

ليس‭ ‬العدو‭ ‬أشقاء‭ ‬عصفت‭ ‬بهم

غدراً،‭ ‬وأنت‭ ‬على‭ ‬الأرحام‭ ‬تجترئُ

سلبتهم‭ ‬جلوة‭ ‬الدنيا‭ ‬وزينتها‭ ‬

وديرةً‭ ‬في‭ ‬ليالي‭ ‬أُنسها‭ ‬نشأوا

كم‭ ‬آزروك‭ ‬وودوا‭ ‬لو‭ ‬فدوك‭ ‬هوى

كم‭ ‬دافعوا‭ ‬عنك‭ ‬أخطاراً‭ ‬وكم‭ ‬درأوا

وألَّهوا‭ ‬منك‭ ‬في‭ ‬أعماقهم‭ ‬صنماً‭ 

لمثل‭ ‬طلعته‭ ‬في‭ ‬ليلهم‭ ‬ظمئوا

طعنت‭ ‬حلمهم‭ ‬الوردي،‭ ‬حين‭ ‬رأوا‭   

أن‭ ‬الذي‭ ‬عشقوه‭ ‬منه‭ ‬قد‭ ‬رُزئوا‭ 

وأن‭ ‬خنجرك‭ ‬المسموم‭ ‬حين‭ ‬هوى

أصاب‭ ‬قلباً‭ ‬بفيض‭ ‬الحب‭ ‬يمتلئُ‭ ‬

ليس‭ ‬العدو‭ ‬شقيقاً‭ ‬قد‭ ‬عصفت‭ ‬به‭    

غدراً،‭ ‬وأنت‭ ‬على‭ ‬الأرحام‭ ‬تجترئُ

إن‭ ‬العدو‭ ‬بساح‭ ‬القدس‭ ‬تعرفه

كلُّ‭ ‬الرصاص‭ ‬الذي‭ ‬أطلقته‭ ‬خطأُ

وبعد‭ ‬أن‭ ‬يُذكّره‭ ‬بالرّحم‭ ‬يُظهر‭ ‬له‭ ‬فداحة‭ ‬جرمه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬المفارقة‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬قدّموه‭ ‬له‭ ‬وما‭ ‬فعله‭ ‬بهم؛‭ ‬فهو‭ ‬‮«‬عصف‭ ‬بهم‭ ‬غدراً‭ - ‬وعلى‭ ‬الأرحام‭ ‬يجترئ‭ - ‬وسلبهم‭ ‬جلوة‭ ‬الدنيا‭ ‬وزينتها‮»‬‭ ‬وهم‭ ‬‮«‬آزروه‭ - ‬وودوا‭ ‬لو‭ ‬فدوه‭ - ‬ودافعوا‭ ‬عنه‭ - ‬ودرأوا‭ ‬الأخطار‭- ‬ألّهوه‭ ‬صنماً‮»‬،‭ ‬ولو‭ ‬أن‭ ‬شاعرنا‭ ‬ذكر‭ ‬وفاءهم‭ ‬قبل‭ ‬جحوده‭ ‬واعتدائه‭ ‬لكان‭ ‬أوقع‭ ‬وأظهر‭ ‬لطرفي‭ ‬المفارقة،‭ ‬خاصة‭ ‬أنه‭ ‬عاد‭ ‬فوجّه‭ ‬إليه‭ ‬الخطاب‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬مبيناً‭ ‬فداحة‭ ‬ما‭ ‬اقترف‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قوله‭: ‬‮«‬طعنت‭ ‬حلمهم‭ ‬الوردي‭ - ‬خنجرك‭ ‬المسموم‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬يعود‭ ‬فيكرر‭ ‬بيتاً‭ ‬بيّن‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬العدو‭ ‬ليس‭ ‬أشقاءه‭ ‬الذين‭ ‬وجّه‭ ‬إلى‭ ‬صدورهم‭ ‬الرصاص،‭ ‬وإنما‭ ‬العدو‭ ‬على‭ ‬مرمى‭ ‬حجر‭ ‬منه،‭ ‬رابض‭ ‬‮«‬بساح‭ ‬القدس،‭ ‬وأنت‭ ‬تعرفه‮»‬‭.‬

أمّا‭ ‬المشهد‭ ‬الثالث‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللوحة‭ ‬فيمكن‭ ‬عنونته‭ ‬
بـ‭ ‬‮«‬أحزان‭ ‬على‭ ‬أمجاد‭ ‬ضائعة‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬عبّر‭ ‬فيه‭ ‬الشاعر‭ ‬عن‭ ‬حزن‭ ‬ثقيل‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬غابر،‭ ‬وحضارة‭ ‬أفل‭ ‬نجمها،‭ ‬ولكنه‭ ‬لا‭ ‬يقدّم‭ ‬ذلك‭ ‬الحزن‭ ‬في‭ ‬جو‭ ‬من‭ ‬الكآبة‭ ‬المُقنّطة،‭ ‬وإنما‭ ‬قدّمه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سياق‭ ‬يستفز‭ ‬الهمم،‭ ‬ويستنفر‭ ‬العزائم،‭ ‬وذلك‭ ‬بعقده‭ ‬المقارنة‭ - ‬الماثلة‭ ‬دائماً‭ ‬بأذهاننا‭ - ‬بين‭ ‬حالنا‭ ‬وحال‭ ‬غيرنا‭ ‬من‭ ‬الأمم؛‭ ‬حيث‭ ‬يقول‭ ‬مصوراً‭ ‬الحالين‭:‬

في‭ ‬معرض‭ ‬الكون‭ ‬يجلو‭ ‬الناس‭ ‬صورتهم‭    

ونحن‭ ‬يأسى‭ ‬على‭ ‬مأساتنا‭ ‬الملأُ

كانوا‭ ‬فحولاً،‭ ‬فغاصوا‭ ‬في‭ ‬مضاجعهم‭         

وكلما‭ ‬أخذتهم‭ ‬رجفة‭ ‬قمؤُوا

يا‭ ‬أيها‭ ‬المربدُ‭ ‬المحزون‭ ‬كم‭ ‬حشدوا‭       

من‭ ‬حول‭ ‬نارك،‭ ‬ما‭ ‬كلُّوا‭ ‬ولا‭ ‬هدأوا

كانت‭ ‬زمازمهم‭ ‬في‭ ‬الساح‭ ‬واحدةً

مكرورة‭ ‬اللحن‭ ‬تُنهيها‭ ‬ليبتدئوا

بأي‭ ‬خزي‭ ‬ووجه‭ ‬شائه‭ ‬ويدٍ‭   

شلّاء‭ ‬تستقبل‭ ‬الشعر‭ ‬الذي‭ ‬عبَأوا؟

في‭ ‬ذمة‭ ‬الله‭ ‬والتاريخ‭ ‬ما‭ ‬كتبوا‭    

في‭ ‬ذمة‭ ‬الحق‭ ‬والأرحام‭ ‬ما‭ ‬اجترأوا

وعندما‭ ‬تصل‭ ‬العجائبية‭ ‬ذروتها‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬يختم‭ ‬شوشة‭ ‬مشهدها‭ ‬الأخير‭ ‬بما‭ ‬يشبه‭ ‬خاتمة‭ ‬الرسالة؛‭ ‬يلخص‭ ‬في‭ ‬نهايتها‭ ‬ما‭ ‬سرده‭ ‬في‭ ‬تضاعيفها،‭ ‬مبيناً‭ ‬تهافت‭ ‬المنطق‭ ‬عندما‭ ‬تخالف‭ ‬الشعاراتُ‭ ‬والأقوالُ‭ ‬الأعمال‭ ‬والأفعال،‭ ‬فيقول‭: ‬

يا‭ ‬من‭ ‬تقَطّعُ‭ ‬في‭ ‬أوصالِ‭ ‬أمّتنا

وأنت‭ ‬تمعن‭ ‬في‭ ‬نهب‭ ‬وتدَّرئُ

من‭ ‬كان‭ ‬يعشق‭ ‬عدلاً‭ ‬كيف‭ ‬يصلبه‭ ‬

أو‭ ‬كان‭ ‬يطلب‭ ‬حقاً‭ ‬كيف‭ ‬يجترئُ؟

تبقى‭ ‬الكويت‭ - ‬برغم‭ ‬البغي‭ - ‬لؤلؤةً

بريقُها‭ ‬في‭ ‬الليالي‭ ‬ليس‭ ‬ينطفئُ

لقد‭ ‬استطاع‭ ‬شوشة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬أن‭ ‬يوصل‭ ‬رسالته‭ ‬عبر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬‮«‬تيمة‮»‬‭ ‬دأب‭ ‬على‭ ‬توظيفها‭ ‬هنا‭ - ‬وفي‭ ‬قصائد‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬دواوينه‭ ‬الشعرية‭ - ‬كتوظيفه‭ ‬التراث‭ ‬الديني‭ ‬والتاريخي‭ ‬الذي‭ ‬اتّخذ‭ ‬منه‭ ‬وسيلة‭ ‬يتوسل‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬وجدان‭ ‬القارئ‭ ‬لما‭ ‬يمثله‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬في‭ ‬الذهنية‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية،‭ ‬كما‭ ‬وظّف‭ ‬المفارقة‭ ‬التصويرية،‭ ‬وهي‭ ‬تيمة‭ ‬وظفها‭ ‬بنجاح‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة؛‭ ‬إذ‭ ‬استدعتها‭ ‬ضرورة‭ ‬الحال،‭ ‬وظرف‭ ‬المقال،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬تطعيم‭ ‬معجمه‭ ‬الشعري‭ ‬بكلمات‭ ‬مُتحت‭ ‬من‭ ‬مَعين‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬بصفة‭ ‬عامة،‭ ‬ومن‭ ‬البيئة‭ ‬الخليجية‭ ‬بصفة‭ ‬خاصة،‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬قوله‭:‬

‮«‬يهترئ‭ - ‬القبيلة‭ - ‬الكلأ‭ - ‬الرمال‭ - ‬سبأ‭ - ‬خنجر‭ - ‬فحولاً‭ - ‬المربد‭ - ‬زمازمهم‭...‬‮»‬،‭ ‬ليبقى‭ ‬شوشة‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬شاعراً‭ ‬تراثياً‭ ‬عصرياً‭ ‬تقطر‭ ‬كلماته‭ ‬حباً‭ ‬لدينه‭ ‬ووطنه‭ ‬العربي‭ ‬وأمته‭ ‬الإسلامية؛‭ ‬فسخّر‭ ‬قلمه‭ ‬للحق،‭ ‬حتى‭ ‬لحق‭ ‬بربه‭ ‬الحق‭ ‬