عصر فكر الآلة

 عصر فكر الآلة

يحاول هذا المقال أن يلقي الضوء على حقيقة كبرى نعيشها اليوم، ولا ننتبه إليها، ولا إلى آثارها المدمرة على الإنسان وموقفه كسيّد في الأرض، وهي سيادة فكر الآلة، والسمة الأساسية لهذا الفكر هي أكبر انتفاع وأسرع وأكبر إنتاج، والتلقي دون تأمل، ونلاحظ تأثيره المباشر على سكان العالم في شتى مناحي الحياة، وتقبّل نتاجه كأمر واقع، والاستسلام له، رغم كل سلبياته.

يقابل ذلك تراجع الذات الإنسانية، بعقلها وإرادتها وحريتها، عن الاستمرار في صوغ حياة الإنسان، من قبل الفكر الإنساني (بجانبيه الفلسفي والإبداعي) صانع الحضارة الإنسانية وحاميها.
ما يحدث في الحقيقة هو استبدال وحلول وسيادة منطق الآلة، في غفلة من الزمان، على الفكر الإنساني الخلاق، بمقتضى أحد قوانين الطبيعة الصارمة، وهو البقاء للأقوى.
وهو ما نراه في كل شيء حولنا من ظواهر برزت في العصر الرقمي، فلقد استُبدل الفكر الإنساني والإبداعي الخلاق، وتراجع أمام فكر الآلة وأساليبها في شتى مجالات الإبداع من علم وفكر وفلسفة وأدب راق عظيم، ومن قصة وشعر وفن وموسيقى ورسم ونحت، بل تعداه إلى التأثير في أسلوب حياة البشر، والتصاقهم دون وعي بشاشة الموبايل، يقضون الساعات الطوال سعيًا وراء متعة الأخبار التي لا تسمن ولا تغني من جوع. 
لقد تسلل فكر الآلة دون انتباه من البشرية، في خضم السرعة التي يتطور بها العصر الرقمي، كفكر بديل بدأ يزيح النتاج الفكري الإنساني الخلاق، ودفعه للتراجع ليرمى على الأرفف العتيقة للمكتبات، لا، بل ليصبح ذكرى في إحدى الخزانات الرقمية. ونتساءل: أين فكر سقراط وأفلاطون والفارابي وابن خلدون أو فكر كانْت وهيجل وتوينبي وطاغور والعقاد؟
أين أدب شكسبير وهيجو وشو وكامو وديكنز ونجيب محفوظ والحكيم؟ 
وأين موزارت وبيتهوفن وكوريسكوف وأم كلثوم؟ ما نرى اليوم من الآلام، ومن مظاهر القتل والدمار والتشرد، والأطفال اليتامى، مما يعتصر قلوب الإنسانية ويدمي شعورها، يدفع إلى التساؤل: أهذا هو المصير بعد كل ذلك التقدم الذي بلغته البشرية؟ هذا التساؤل الذي يقف الإنسان مصدومًا أمامه؛ لماذا كل هذا الألم وكل هذا التدمير؟ لماذا تذهب جهود الإنسانية نحو الدمار بدل أن تحقق الرفاهية؟ إنه عصر فكر الآلة. 

نظرة في تاريخ فكر الآلة 
يمثّل فكر الآلة قمة نتاج التقدم العلمي الذي قاده الإنسان للسيطرة على موارد الطبيعة وتسخيرها في التحول من الجهد البشري إلى الجهد الآلي؛ ابتداء بالعجلة وحتى تصنيع الساعات والآلات الميكانيكة، ونماذج أولية للروبوتات في الحضارة العربية الإسلامية (لا بل نموذج حاسبة موجود في المتحف البريطاني، صممت بالموصل في عصر الدولة الزنكية).
كان وراء هذا جهد فكري إنساني ربط بين فكرة الزمن والحركة الميكانيكية. وعبر الأندلس انتقلت هذه المفاهيم إلى أوربا لتتطور وتنتج الثورة الصناعية التي بلغت قمة تطورها، بعد أن استوعبت فكر ديكارت وميكانيك نيوتن وجاليليو. 
ومع انتشار الصناعة وتطور الفكر العلمي في مجالات الثرموداينمك والكهرباء، انتقل الإنسان إلى ميدان التصنيع الواسع، ليصبح جزءًا من تروس الآلة المنتجة، وليظهر أول طغيان لفكر الآلة، وقد عبّر شابلن عن ذلك، ببلاغة، في فيلم العصر الحديث.
ومع هذا ظلت سيطرة العقل البشري تقود هذا التقدم وتضفي اللمسة الإنسانية عليه مع بدء تصنيع الكمبيوتر، الذي كان يتحرك وفق المنطق البشري، والذي يحرك كل عمليات الحاسوب، حتى جاءت الطفرة بالوصول إلى برامج التشغيل التي حلّت محل البرمجة في تشغيل الحاسوب، ونقلت السيطرة على تشغيل الحاسوب من الإنسان إلى الآلة، مما فتح المجال لآفاق كبرى في عمليات الحاسوب وتطبيقات لا حدود لها في مجال البرمجيات، وأدى إلى طفرة علمية مع ظهور الإنترنت، عادل فيها التقدم العلمي في السنوات الثلاثين الأخيرة آلاف السنين من التطور البشري، التي أدخلتنا في العصر الرقمي وعصر فكر الآلة. 
  
مظاهر فكر الآلة
من أهم مظاهر عصر فكر الآلة، السرعة الهائلة في إيصال المعلومات، كذلك الكم الهائل من المعلومات التي يمكن نقلها، والطاقة الفائقة في معالجة المعلومات والسعة الهائلة للتخزين، وربط مجاميع البحث والإنتاج ببعضها البعض. 
هكذا ظهر نهج جديد في الإنتاج في غمضة عين من التاريخ، وقد استوعب البعض بعض آفاقه، فتسارع الإنتاج العلمي وتمت اختراقات علمية جيدة، وتحولت بسرعة فائقة إلى الإنتاج، الذي تغيرت أساليبه جذريًّا، حتى وصل الأمر إلى ظهور مجاميع اقتصادية عملاقة لم تكن في الحسبان. 
إن هذه التحولات التي تمت في بضع سنوات كانت لها ردود هائلة على الحياة على الأرض، فبرزت ظواهر جديدة كانعكاس لمنطق الآلة:
أولًا: ظاهرة التنافس الاقتصادي المجنون، والإنتاج المتخم، وقابله حرمان وجوع لمليارات من البشر.
ثانيًا: أدى التنافس الاقتصادي إلى الحروب وقتل البشر بدم بارد بشتى الذرائع، ولم يكن وراء ذلك إلا الأطماع والتوسع الاقتصادي والجغرافي، مما أدى إلى تدمير بيئي واسع واستنفاد الموارد البشرية.
كما قاد إلى جنون وتبذير في استخدام الطاقة، وبالذات النفط، مما أدى إلى ظهور الاحتباس الحراري بكل آثاره الكارثية، ومع ذلك يصم العالم آذانه حول الموضوع. 

منطق القوة
ثالثًا: أدى ذلك إلى سيطرة منطق القوة على الحكمة الإنسانية، ورمت القوى المتصارعة وراءها كل ما اتفقت عليه الأمم من مبادئ حقوق الإنسان ومما تعلمته من مخاضات الحروب الأليمة في الأمس القريب، وسرعت تسابق بعضها لحصد النفوذ. 
رابعًا: أدت الإمكانات التي أتاحتها الآلة إلى تحوّل الإبداع الإنساني (الذي أهم سماته التفرد) في ميادين الأدب والفن والجماليات التي تناجي روح ووجدان الإنسان وترقى بأحاسيسه إلى صخب وتعابير عن العنف ومناجاة مشوهة للغرائز، ولنأخذ الغناء مثلًا, الذي هو تعبير راق، يصاغ بتناسق رائع وصياغة فذة، ليعبّر عن الأحاسيس الإنسانية بكل رقيّ وتناسق رائع بين كلمات الشاعر والملحن وعبقرية المغني، لينقل هذه الأحاسيس إلى وجدان الإنسان.
وللقارئ الكريم أن يرجع إلى تحليلات الموسيقار عمار الشريعي في حلقات «غواص في بحر النغم» للغناء العربي، ليرى مقدار الجهد الذي يبذل، لينتج ألحانًا تعيش في وجدان الإنسان، أليس غريبًا أن تعيش أم كلثوم في وجداننا إلى اليوم، وحتى مع جيل الشباب؟
هذا الغناء الراقي تحوّل إلى نوع من الصخب، والأضواء المترنحة بشدة، وحركات جنونية متشنجة تعبث بجسد الإنسان وتناجي غرائزه، دون أي انعكاس لها على أحاسيس الإنسان، وطرق مواطن الإحساس بالجماليات التي تسمو بالشعور الإنساني لتمنحه سعادة الروح.    

استسلام وخنوع
خامسًا: انتشار الإباحية وإسقاط كل المحرمات، وما تعارف عليه البشر من أخلاق وسلوك. فعبر التاريخ حمت البشرية نواتها الأساسية (الأسرة)، التي هي ضمان استمرار الإنسان بمنظومة من الأخلاق، ونظمت حياة الإنسان، ليقوم بعمارة الأرض ورفض الفساد، واحترام حقوق الإنسان. كما أدت الآلة إلى التدخل في أمور عن الإنسان والأرض لا نعرف مداها، فظهرت مجموعة من الأمراض الغريبة لم تُعرف من قبل.
سادسًا: وهو الأهم أن أساليب الآلة في البحث والإنتاج وأسلوب الحياة، أدت إلى كسل في استخدام مهارات الإنسان الفكرية، فالطالب لم يعد يستخدم عقله، ليقوم بعملية ضرب 7×5، ويتضايق من استخدام عقله، بل يهرول إلى الحاسبة لتقوم بذلك، وقس على ذلك من نواحي استخدام العقل وتمرينه، ناسين أن العقل البشري - كأي عضو في الجسد - يضمر إذا لم يمرّن ويستخدم، وبالتالي تراجع تأثير آثار العقل البشري الخلاق وجوانبه الإنسانية، مما أدى إلى الاستسلام والخنوع أمام فكر الآلة.
سابعًا: الجرائم الإلكترونية من تزوير وسرقة وابتزاز أموال، ونصب وتهديد ونشر للفضائح.
فالفضاء الإلكتروني، رغم كل المحددات عليه، ساحة لمن يبرع في الإنترنت، ليخترق كل الدفاعات، حتى اختراق دفاعات وزارات الدفاع، وهو ما يضع أمن البشرية ككل في مهب الريح. 

منطق الآلة 
يعتمد منطق فكر الآلة على استخدام دوائر كهربائية، تعمل كمفاتيح أو بوابات تتحكم في التيار الكهربائي أو (الجهد الكهربائي) في إنجاز عمليات منطقية هي: بوابة الإضافة «و» أو «AND»، وبوابة الاختيار «أو»، أو«OR»، وبوابة النفي «لا» أو NOT. فبالنسبة إلى بوابة الإضافة «و» أو «And»، من خلال هذه البوابة نستطيع أن نقوم بعملية الجمع.
فلنقل إن لدينا تيارًا كهربائيًا، يمثّل الرقم 5، نحصل عليه بالنقر على المفتاح 5 على لوحة المفاتيح، وتيار آخر يمثل 7. 
فبواسطة بوابة «و» ستضاف كمية التيار 5 إلى كمية التيار 7 لينتج لدينا كمية تيار أكبر، يمثّل الرقم 12، ويمكن للآلة أن تقيس وتتعامل مع التيار الناتج بأنه يمثّل الرقم 12، فيظهر على شاشة الحاسوب كناتج لعملية الجمع.
وبربط هذه البوابات مع بعضها، يمكن الحصول على بوابات مركّبة كثيرة، طورت لتستطيع أن تقوم بكل العمليات المنطقية باستخدام نوع من الرياضيات يسمى الجبر البولي، وبذلك ظهرت لغة الآلة التي طورت إلى لغات البرمجة المختلفة «بيسك» و«فورتران» و«جافا» وغيرها. 
الميزة في منطق الآلة هي السرعة الكبيرة للعمليات الحسابية، التي تجري بسرعة التيار الكهربائي الهائلة. وباستخدام عدد هائل من الدوائر المنطقية، يمكن التعامل مع كمية هائلة من المعلومات بسرعة فائقة، وهذا ما سرّع وضخّم عمليات البحث العلمي والسيطرة على الإنتاج والنشاط الاقتصادي، وهذا هو المنتج الحقيقي للآلة، وهو ما أثّر في نشاط الفكري للإنسان، ليبرمج دون وعي، بأساليب الآلة، ويتحرك وفق سرعتها وشروطها، وليوجه التفكير الإنساني بما يتوافق ومعطيات الآلة. 
وهكذا ساد فكر الآلة في عقل الإنسان ليأخذ مساحة واسعة من الفكر الإنساني في التعامل مع الحياة، ويتبنى فكرًا جديدًا هو فكر الآلة، فتقبله مستسلمًا متقبلًا، في حين تراجع الفكر البشري، الذي يظلله الحس الإنساني، مما أنتج مظاهر فكر الآلة التي عرضناها.
إن فكر الآلة ليس فكرًا تعرضه الآلة كذات متميزة، وإنما هو فكر تبناه الإنسان بضغط من أساليب الإنتاج الآلية في شتى مناحي الحياة، والتي أثرت وغيّرت بسرعتها وكمية إنتاجها أسلوب حياة الإنسان فاستلبت منه إرادته وقتلت عناصر الإبداع العقلي الإنساني، فالإبداعات الإنسانية في العلم والفن كان وراءها وجدان مرهف وعقل مترامي الإمكانات، وتركته ليعيش في خواء عقل آلي لا ذات تمتلك الحرية والإرادة والعقل. 
  
الفكر الإنساني المبدع 
الفكر الإنساني الذي أسس للحضارة البشرية هو نتاج عقل الإنسان، وروحه هبة الله للإنسان ليكون خليفة في الأرض ليعمرها. 
لقد ساد الإنسان على كل مخلوقات الأرض، بما وهبه الله من نعمتي العقل والروح، وما أنار طريقه برسالاته السماوية، لتسمو الذات الإنسانية، وليكون الإنسان سيد نفسه، بامتلاكه العقل والروح، والتي عبّرت عن الذات الإنسانية بامتلاكها الحرية والإرادة والعقل، فساد به على بقية المخلوقات. 
وهذه الذات الإنسانية، ذات الحرية والإرادة والعقل، التي تفاعلت بعقلها وعاطفتها مع الحياة على الأرض، وتناغمت معها فأبدعت الحضارة الإنسانية بجانبيها العقلي والحسي.
وهكذا استوعب الإنسان قوانين العلم، كما استوعب ما بذاته وما حوله من جماليات، فأنتج العلم والفنون وعاش متعتي الذات؛ العقل والإحساس.
إن فكر الآلة هو محاولة لتقليد بعض إمكانات العقل البشري (الذي لم تعرف البشرية رغم التقدم العلمي، إلا جزءًا يسيرًا من إمكاناته الهائلة)، فكان فكرًا وحيد الجانب طغى بما امتلكت الآلة من سرعة في معالجة كمّ هائل من المعلومات، فأثرت على نمط الحياة الإنسانية، فاستسلم لها وترك أعظم نعمة وهبت له، ليتحكم به جماد الآلة.
إن ظاهرة فكر الآلة كأي ظاهرة انعطفت بالبشرية، ولكن ما ميّز الانعطافات العلمية الكبرى في تاريخ الإنسانية، كاكتشاف الزراعة واكتشاف العجلة والثورة الصناعية والتكنولوجية، هو استيعاب العقل الإنساني لها، واكتشاف أبعادها بالفكر البشري، لتنتج إبداعات حضارية ارتقت بالإنسانية إلى الأمام، أي كان وراءها فلسفة وفكر إنساني مبدع، نتج عن تفاعل العقل الإنساني مع الحياة. 

فلسفة كبرى
ألم تكن تفاحة نيوتن المحرك لأكبر حدث في تاريخ العلم؟ أليس أعظم الموسيقى وأعظم الشعر وأعظم الفن، هي انعكاس لتفاعل الإنسان مع جمال الحياة، من موسيقى الغابات، وغناء الطيور وزرقة السماء وامتداد البحر؟
لقد كان وراء كل منعطف للبشرية فلسفة كبرى وحس إنساني مرهف استوعب تلك الانعطافة، لتنتج نموذجًا حضاريًا متميزًا دفع الحضارة إلى الأمام. 
أما ظاهرة فكر الآلة فتعتبر فتحًا علميًا كبيرًا، لكنه لم يظلل بفكر الذات الإنسانية، نظرًا إلى السرعة والضخامة اللتين أثّر بهما في حياة الإنسان، ولم تتيسر لها فلسفة تستوعب أبعادها، ولذلك نراها تمشي بالضد من تناسق مظاهر الطبيعة والحياة على الأرض مع الإنسان، فشكّلت نكوصًا عن صيرورة الحياة المبدعة. 
وأخيرًا أرجو ألا يتصور القارئ أنني ضد التقدم العلمي في ميدان الحاسوب وتطوير أساليبه، فقد تقدمت البشرية أشواطًا هائلة بتقدم الحاسوب، وكنت بالطبع من المستفيدين من تطور الحاسوب في البحث العلمي، ولكن كأداة وليس كموجه لنشاطات الإنسان وأسلوب حياته، فلن تستطيع بوابات الحاسوب الجامدة، أبدًا، أن تكون ندًّا للذات الإنسانية المبدعة، بروحها، وعقلها، وحرية إرادتها.
على حكماء البشرية أن يعيدوا الآلة إلى حجمها الحقيقي أمام الذات الإنسانية، بعد أن أبهر البشر سحر هذه الآلة، فغشت أبصارهم عن مصير لا تُحمد عقباه■