بنوك الوقت

بنوك الوقت

تعد بنوك الوقت المنتشرة في أكثر من أربعين دولة حول العالم مبادرات اجتماعية لتبادل المنافع والخدمات بين الأشخاص نظير  وحدات زمنية تكون بمنزلة النقود.  فإذا أنفق شخص ساعة في خدمة مريض أو تقليم أشجار، أو حلاقة، أو علاج، أو تعليم موسيقى أو لغة، على سبيل المثال، يكون قد اكتسب وحدة زمنية تودع في حسابه ويستطيع استخدامها في شراء خدمة أخرى في أي وقت. 

كنوع من التكافل الاجتماعي، تتساوى قيمة الخدمات في هذه البنوك، سواء جاءت من جراح أو من عاطل عن العمل، وتسمح بعض من هذه البنوك أحيانا بمشاركة المنظمات وباستبدال بضائع بالساعات.  
 
أول بنك للوقت
تشير الأدبيات المتعلقة ببنوك الوقت إلى أن البداية تعود إلى فكرة أطلقتها ربة بيت يابانية صاحبة رؤية تدعى تيروكو ميزوشيما في الخمسينيات من القرن الماضي، متأثرة بخبرات حياتية صعبة عاشتها في أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية؛ غير أنها لم تضعها في حيز التنفيذ إلا بعد أن تقاعدت من واجبات الأمومة في عام 1973، حيث أسس أول بنك للوقت في العالم بأوساكا تحت اسم «بنك العمل التطوعي»، الذي أصبح فيما بعد «شبكة العمل التطوعي»، وذلك من أجل خلق شكل جديد من العملة المتداولة التي تمكّن الناس من السيطرة على حياتهم بصورة أكبر، وتعزز الروابط المجتمعية في ما بينهم وتزيدها دفئا.  
كان أعضاء البنك يحصلون على منافع عديدة من بينها الانتماء إلى شبكات صداقة مساندة نجحت في أن تعوض فئة كالمتقاعدين عن بعض ما خسروه من زمالة، وممارسة لمهن ومهارات أنفقوا على اكتسابها عمرا؛ وأتاحت لهم في الوقت نفسه فرصا جديدة لتعلم أشياء ومهارات لم يعرفوها من قبل. 
وهكذا استطاع بنك الوقت في نسخته الأولى استحداث شكل جديد من أشكال رأس المال التبادلي الياباني التقليدي، ومنح لحياة المشاركين فيه أعمق المعاني.  

بنوك الوقت المعاصرة
شهدت ثمانينيات القرن الماضي ظهور بنوك الوقت المعاصرة تجسيدا لفكرة من ابتكار أستاذ القانون الأمريكي المتميز إدجار كاهن، الذي أسس أول بنك للوقت في ميامي بفلوريدا في منتصف الثمانينيات، ونجح من خلاله في إعادة بناء الشبكات الاجتماعية واستعادة دعم الجيران لبعضهم في استجابة موفقة لتخفيض الإنفاق بالولايات المتحدة وانهيار الإيمان بالنظم البنكية القائمة على الديون. 
وفي مقابلة منشــورة معه على «يوتيـــوب»، قال كاهن: «إننا بحــــاجة إلى بعضنا، وبحاجة إلى أن نستبدل بالمنافسة التعاون والصداقة الضرورية لبناء الثقة بين الناس».
وأكد «أن التحول من تداول عملة النقود إلى عملة الوقت كفيل بتغيير ديناميكيات المعاملات الاقتصادية برمتها، والتحـول من البحث عن الربح إلى ترسيخ الالتزام وتحمل المسؤوليـــة الاجتماعية».
وعلى الرغم من توقعه استمرار التعامل بالنقود مع حلول 2050، فإنه يتوقع مزيدا من الانتشار لفكرة بنوك الوقت وتنامي مساهماتها في عديد من المجالات، كتربية الصغار ورعاية المرضى والمهمشين. 
وتحدث عن الاقتصاد الأساس المعبر عن اقتصاد العائلة والجيرة، الذي عادة ما يكون خارج السوق، ولا يمكن قياسه بالمؤشرات الاقتصادية التقليدية، بينما يشكل ما بين 40 و50 بالمئة من النشاط الاقتصادي. وأضاف موضحا أنه لا يوجد مجتمع يملك من المال ما يشتري ما يلزم تربية الأطفال وتأمين الجوار ورعاية كبار السن ومخاطبة النظم غير العادلة؛ وأن الطريقة الوحيدة لحل المشكلات الاجتماعية تكمن في تحول كل من العميل والمستهلك إلى زملاء عمل وشركاء فاعلين في إعادة بناء هذا الاقتصاد. 

5 قيم أساسية 
وضع كاهن خمس قيم أساسية لبنوك الوقت، أولاها أننا جميعا أصول ولدينا من المواهب والمهارات ما يمكن أن نساهم به في خدمة الآخرين؛ وثانيتها إعادة تعريف العمل، والاعتراف بأن هناك من الأعمال ما لا يمكن تقديره بثمن كتوثيق العلاقات، وتحقيق العدالة الاجتماعية والتماسك الأسري، والعمل على استدامة كوكــــب الأرض؛ وثالثتهـــا التــــبادل، حيث تعمل المساعدة بصورة أفضل عندما يكون هناك أخذ وعطاء، وبدلا من طرح سؤال «كيف يمكنني مساعدتك؟» يطرح سؤال «كيف يمكننا مساعدة بعضنا في بناء عالم نعيش فيه جميعا؟»؛ والرابعة، الشبكات الاجتماعية التي تكون أقوى من الأفراد متفرقين، والتي تعني أننا في حاجة لبعضنا، كما يستطيع المشاركون في الشبكات إعادة صوغ مجتمعات الدعم والمساندة والقوة والثقة؛ أما القيمة الخامسة، فهي الاحترام، فكل شخص في هذه البنوك محترم ويشكل قيمة كبرى مهما كان تواضع مهاراته أو طبقته الاجتماعية، بغض النظر عن دينه وانتمائه. 
وتعتبر نماذج بنوك الوقت شبكات مرنة يتمتع الأعضاء فيها بخلفيات متباينة، ويتراوح الأعضاء فيها ما بين بضعة أشخاص إلى بضعة آلاف من الأشخاص، وأعدادها متنامية ومنتشرة في إطار منظمات كالمستشفيات والمدارس ووكالات الخدمات الاجتماعية للعمل على خدمة المهمشين اجتماعيا واقتصاديا والأطفال وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة. 
وتساعد هذه البنوك الأعضاء المشاركين على استكشاف قدراتهم وتعزيز ثقتهم بأنفسهم عندما ينجحون في إتمام مهمة، كما تقدم حلولا لمن يعانون البطالة أو لا يجدون من المال ما ينجز لهم الأعمال التي يرغبون القيام بها. 

من الجار إلى الجار 
أكد المشاركون في هذه الحركة أنهم تعلموا الكثير وتعرفوا على أشخاص أثروا في حياتهم واستعادوا علاقة الجيرة التي تدهورت في السنوات الماضية من خلال برامج «من الجار إلى الجار». 
ومن الأمثلة الناجحة بنك الوقت في مستشفى ليهاي في فيلادلفيا، الذي تتم من خلاله مساعدة المرضى في المستشفى وفي البيوت أثناء فترة النقاهة، وعندما يتماثلون للشفاء يطلب منهم مساعدة أشخاص آخرين. ونتيجة لهذه الخدمة لاحظ المسؤولون في المستشفى انخفاض معدلات عودة المتشافين إلى المستشفى. 
  ويرى المراقبون أن الوقت هو الثروة الجديدة التي يمكن استخدامها لتحسين الخدمات العامة، وأن لبنوك الوقت عديدا من الفوائد، كتحفيز الإنتاج المشترك، والمساعدة على خلق خدمات أفضل، بما في ذلك خدمات الصحة الذهنية والجسدية والخدمات الموجهة للأطفال وكبار السن. 
ويعد الإنتاج المشترك نظرية قائمة على مقدمة مفادها أن المجتمعات تزدهر بصورة أسرع عندما تكون العلاقات مبنية على نحو متساوٍ ومتبادل، أي تمكين الأفراد من العطاء بحرية وتسهيل الأمور أمامهم كي يأخذوا مقابل ما قدموه من وقت ومعرفة ومهارات وتعاطف وأصول.  

برمجيات بنوك الوقت
إلى جانب المواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي المعروفة، هناك جهود دؤوبة لتطوير مزيد من البرمجيات التي يمكن استخدامها في بنوك الوقت، بحيث يتمكن الأعضاء من تسجيل مهاراتهم وما يمكن أن يقدموه، ويعرفون في الوقت ذاته الخدمات المتاحة لهم. 
وفقا لشبكة أورورلد العالمية لمساعدة الجيران لجيرانهم، التي تضم ما يزيد على  44 ألفا من الأعضاء القاطنين في 527 مجتمعا مختلفا، قاموا بمنح وتلقي قرابة المليونين ونصف المليون من الساعات، مولت مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية فريقا بحثيا من مركز بحوث باولو ألتو وجامعة ولاية بنسلفانيا لإجراء بحث علمي على بنوك الوقت من أجل فهم الممارسات والدور الذي يمكن أن تلعبه التكنولوجيا الجديدة في تسهيل عمل هذه البنوك وزيادة شعبيتها. 
وتسعى جهات أخرى، كالشبكة المذكورة وبعض مصممي البرمجيات إلى دعم هذه الجهود وإتاحة مصادر مفتوحة لمنصات تبادل الخدمات التابعة لبنوك الوقت على شكل تطبيقات هواتف ذكية.
كما تسعى سويسرا، التي تمتلك عشرات الآليات المختلفة لإدارة بنوك الوقت، إلى التحديث التكنولوجي تمهيدا لجعل هذه البنوك جزءا من خطة التقاعد. 
وعلى المستوى العربي، يبقى الأمل قائما لتعميم مثل هذه المبادرات التي تتخطى حواجز الفقر المالي وتتحدى مشكلات البطالة والتفكك الاجتماعي■