رسائل من روتينولوجي

رسائل من روتينولوجي

إن الفرد البالغ في الأسرة العربية يتعرض لضغوط نفسية واجتماعية في المنزل أو العمل، وذلك أمر طبيعي، إلا أن ما استجد في الأمر هو بحثه عن مدرب معتمد في التنمية الذاتية وتطوير الذات، ذلك المسمى الوظيفي بدأ يكتسح مجتمعاتنا، ويناله الفرد باجتيازه دورة تدريب تنتهي بحصوله على شهادة معتمدة من البورد الأمريكي للمدربين، وشهادة إعداد مدرب معتمد، وكلتاهما تكفل له اختراق عالم التدريب في مجال التنمية الذاتية، وإقامة الدورات، التي عادة ما تأتي للباحث عنها وكأنها حلول سحرية، ووصفات علاجية وشفائية، لما يعانيه الفرد في محيطه من مشكلات ليست بالجديدة كالقلق والخوف، الحاجة وسوء الأحوال المعيشية، الاغتراب وصعوبات التكيف، الفوضى والتشتت الذهني، وكثير غيرها. 

في المقابل تأتي تلك الدورات بعناوين لا تقاوم، كمفاتيح السعادة، أسرار النجاح، الوصول إلى القمة، الملياردير القادم، والعديد غيرها.
وبغضّ النظر عن فاعليتها ومدى استفادة مرتاديها، فلا بد من الإشارة إلى ضرورة متابعة المدرب لأحوال المتدربين، والتزام هؤلاء بالتطبيقات والتدريبات التي تضمنتها الدورة، والأكثر أهمية من ذلك هو قناعة وإيمان المتدربين بجدية وقدرة محتوى الدورة على حل مشكلاتهم وتجاوز أزماتهم. إن التنمية الذاتية - على ما يبدو - أصبحت أحد أهم مواضيع الأدب، حيث صدرت في العقد الأخير روايات تناولت هذا الموضوع جملة وتفصيلًا، كتّابها إما باحث ومختص بالتنمية وإما حاضر ومتأثر بإحدى الدورات، وبفضلها تغيرت أحواله للأفضل، ورغب في مشاركة الآخرين بها. 
«حياتك الثانية تبدأ حين تدرك أن لديك حياة واحدة» لرافاييل جيوردانو، رواية صنفت من قراءات تنمي الذات، ووصفت بجملة أضيفت في أسفل الغلاف «الكتاب الذي أسعد أكثر من مليون قارئ». 
وبغضّ النظر عن حقيقة كونها تنمي ذات قارئها أو تسعده، فقد قاربت بمضمونها وحبكتها عشرات الروايات المكتوبة والمحكية حول الفشل وتحقيق النجاح، إلا أنها تميزت بابتكار مسمى وظيفي جديد في عالم التنمية الذاتية أطلقت عليه الكاتبة الروتينولوجي وعرفته بأنه «خبير دعم ورعاية في فن العثور على السعادة المفقودة»، يحصل عليه من وقع تحت وطأة الروتين الحاد الممل والسلبي، ثم سعى وواظب تحت إشراف روتينولوجي إلى تصحيح مسار روتينه وجعله روتينًا إيجابيًا، وعلى إثر ذلك تغيرت مسارات حياته وبدت أكثر انفراجًا وانفتاحًا، وأصبح قادرًا بخبرته التي اكتسبها على مساعدة آخر ورعايته ليحقق سعادته.
 
داء الروتين الحاد... أعراضه ومخاطره
وفقًا لكاتبة الرواية، فإن شعورنا باليأس والفراغ، يُحدث اضطرابًا في الروح، ويغيب عنا الشعور بالسعادة، وإن كنا نملك كل مقوماتها من صحة ومال وعائلة ومكانة اجتماعية. فبطلة الرواية كانت تملك الشهادة العلمية، والوظيفة، والأسرة (زوج، ابن، أم، أب)، المنزل، لكنها كانت تعاني داء الروتين الحاد وأعراضه: 
 انخفاض في درجة الحافز. 
 نوبات دورية من الكآبة .
 •صعوبة الشعور بالسعادة على الرغم من رغم وفرة الخيرات المادية. 
 •خيبات أمل وشعور بالإرهاق والتعب.
 إن التطرق لأعراض الروتين الحاد دعوة لعدم الاستهانة به، والتقليل من شأنه، فقد أشارت الكاتبة إلى أن خطره يكمن في أن المصاب به عرضه لإصابته بالتكارث، أي تضخيم الأحداث، وصبغها بالسواد الأعظم، وجعلها كوارث، نظرًا لمزاجهم السوداوي طوال الوقت. ويتفاقم خطر داء الروتين الحاد بانتشاره، فكلما انتشر وارتفعت أعداد المصابين به تقلصت السعادة، وبالتالي انخفضت روح الدعابة وفقدت المتعة من الحياة. وللحد من هذا الخطر يجب أخذ حقيقتين بعين الاعتبار: 
الأولى: لا ينبغي لنا مقارنة ما لا يمكن مقارنته، بمعنى أن مقياس سعادة أحدهم مغاير تمامًا لمقياس سعادة آخر. 
الثانية: أن الروتين الحاد وما يصاحبه من كآبة ليس قدرًا مكتوبًا، أي أنه قرار يمكن العيش فيه أو رفضه والبحث عن نمط روتيني إيجابي باعث للسعادة. 
والحقيقة هذه تولد حقيقة ثالثة مفادها أن المرء قادر على التغيير، واستبدال أفكار مفرحة وإيجابية بالأفكار السلبية المكونة للروتين الحاد، من خلال المثابرة والمواظبة والمنهج. 

سمات المقبل على العلاج
نثرت الكاتبة بشكل مدروس في الفصول الأولى للرواية السمات التي يجب أن يتحلى بها من يريد التخلص من هذا الداء، وهي بمنزلة مرحلة الاستعداد للانطلاق في العلاج، وهي: 
العناية بالنفس، بأن يراجع المصاب وضعه وعلاقاته مع محيطه، وأن تكون (نفسه) محور اهتمامه، فيعيد النظر في كل علاقة تسببت له بأذى، قللت من شأنه ولم تحقق له إشباعًا أو تقدمًا ملحوظًا.
الالتزام الكامل بخطوات التغيير، وتطبيقها عمليًا، مرحلة بمرحلة، وبخطوات صغيرة متعاقبة، فالنجاح بالعلاج يتم بالالتزام بالفعل كل يوم حتى بلوغ النهاية المرجوة. 
الشعور بالفخر والشجاعة، منذ اندلاع الرغبة بالتغيير والعلاج، حتى تطبيق الخطوات، والعمل على إحيائه إن خمد. 
الثقة بالآخر (الروتينولوجي)، وتقاسم المعارف، والدعم المتبادل غير المشروط، حتى بلوغ الهدف.
الجرأة، والقدرة على زعزعة ما هو راسخ، ومتوقع، ومتفق عليه، لبث الحماسة للانطلاق على أسس جديدة.

خطوات العلاج من داء الروتين الحاد 
يتضح تناول الكاتبة خطوات العلاج على مستويين؛ الأول في علاقة الفرد بنفسه، وعنيت به كثيرًا، وجاءت كالتالي: 
القيام بعملية «البياض العظيم»، وتتضمن عملية تنظيف داخلي، حيث إزالة كل ما ضر النفس بكتابة قائمة للأمور غير المرغوب فيها، تبدأ بـ «لم أعد أريد الشجار مع شريكي، لم أعد أريد زيادة وزني»، وتنظيف خارجي، حيث إزالة الأشياء التالفة وغير المفيدة من أثاث وملابس. 
كتابة الجملة التالية «أنا وحدي المسؤول عن حياتي وسعادتي»، في دفتر الملاحظات، وتمعين النظر بها يوميًا، بهدف تغيير الحوار الداخلي الموجهة للنفس من خلال إدراج أغنية أو عبارة تبث بداخلكم الطاقة، وتزيد التأكيدات والأحكام الإيجابية عن النفس والمحيط، مثل «يوم جميل، شكل مهندم».
انتهاز لحظة هادئة لعمل «إرساء إيجابي»، أي الوقوف على ذكرى سعيدة واسترجاع مشاعرها الجميلة، وإعادة معايشتها، وربطها بكلمة أو صورة أو حركة، لاسترجاع تلك الحالة العاطفية عند الحاجة. بعدها التخلص من قائمة الأشياء غير المرغوب فيها، ورقيًا وذهنيًا. 
إعداد قائمة بكل المزايا الجيدة والصفات الحميدة، والغور في الداخل لنبش المواقف والتجارب للكشف عنها، وبذلك تمرين الدماغ للكف عن السلبية وتعزيز للإيجابية بالفكر والكلمة وإحياء الشعور بالفخر، مثل «كريم، دقيق، مسؤول».
رسم الصورة التي يرغب بأن يصبح عليها، كأن يكون ذا مظهر صحي، واثقًا بنفسه، متحدثًا لبقًا، وبالتزامن مع ذلك، يشغل ما أطلقت عليه الكاتبة آلة التصوير الخيالية، التي تعيد صوركم عن الواقع، فترصد كل ما هو جميل، وتركز انتباهكم على الأشياء الممتعة والمستحبة.
الوعي بأحداث الماضي، التي تشكل صوراً سلبية راسخة ومكبوتة في النفس، تعيق التغيير والسعادة المرجوة، وقطعها وتحريرها من خلال الكتابة أو الحديث مع معالج. واستمرار العمل الشخصي على التغذية الإيجابية للنفس، وللعلاقات مع الآخرين.
الالتزام بمنهج سمارت، عند رسم الصورة المرغوب في بلوغها، ولأنها عبارة عن أهداف مثل المظهر الصحي، فهي لابد أن تكون محددة وواضحة، قابلة للقياس، يمكن بلوغها وإنجازها، واقعية، ولها زمن مستغرق لتحقيقها. 
انتقاء نماذج لشخصيات واقعية أو خيالية مشهورة أو محببة عندكم، تمتلك سمات تتوق أنفسكم للتحلي بها، سواء بالشكل أو بالطباع، وجمعها لتكون حاضرة ذهنيًا لديكم في موقف ما، كأناقة ولباقة الأميرة ديانا، صمت وحكمة جدك. 
الحلم بما تريد، واكتب أحلامك «الحكمة هي أن نمتلك أحلامًا كبيرة بما فيه الكفاية لكيلا نضيعها حينما نلاحقها»، (أوسكار وايلد). 
والحذر من السلبية والاستسلام للإحباط، والتصرف بتقنية «كما لو أن» الوضع الذي يضايقكم أو الأمر الذي ينبغي عليكم فعله أو نفرتم منه، هو الوضع الأكثر إثارة في العالم. ومعايشته بنسبة 400 بالمئة، ثم العمل على تنفيذ ما تريدون فعلًا تحقيقه، وتأكدوا أن التغيير لن يأتي من الخارج.  
رسم ابتسامة على الوجه قدر الإمكان، طبيعية أو مصطنعة، فقد ثبت أنها تؤثر على المزاج وتحسّن من حالته، ثم العمل على صنع ابتسامة داخلية دائمة، وهي كفيلة بتحقيق السعادة والسلام الداخلي.
تنفس بعمق، ومارس التأمل، باختيارك مدة زمنية تلتزم بها بالهدوء والصمت، وتأخذ شهيقًا وزفيرًا بتمعن 7 مرات في الدقيقة الواحدة لمدة خمس دقائق، ما يكفل الراحة لأعضاء الجسم، وتحسين القدرات التنفسية. وليكن علاج لحظات التوتر والغضب بالتنفس العميق. خصص لك وقتًا للاسترخاء والتمتع باللحظة، بترك كل ما يجول في تفكيرك يطفو، والاكتفاء بهنا والآن، فاليوم هو هدية، ولهذا السبب نسميه الحاضر. 
في نهاية اليوم، أذكر ثلاثة أشياء أو أحداث كان لها وقع ممتع أو إيجابي، في النفس، أو في العلاقات مع الآخرين. 
أما على المستوى الثاني، فعلاقة الفرد بالآخرين، وعليه القيام بالآتي: 
رسم حدود عند التعامل مع الآخرين، فالإصغاء لهم، ومسايرتهم، وإبداء التعاطف الجاف، الذي يتيح مسافة تكفل لك تدرعا وحصانة عن أمزجتهم السلبية، وتحاشي التعاطف الرطب الذي يمتص مشاعرهم السلبية. وعند الدخول بعلاقة مع الآخر، ابتعد عن لعب أحد الأدوار الثلاثة «المضطهد، الضحية، المنقذ»، لأن ذلك سيقود إلى علاقة سلبية غير ناجحة. 
التحلي بالجرأة في التعبير أولًا فأولًا عما نشعر به من استياء أو ضيق من تصرفات الآخرين، بشكل تدريجي ولطيف، لا يضر ولا يجرح. وتطلق الكاتبة على هذا «نزع الطوابع» التي لصقناها لفترات طويلة. 
الانتقاد بسلاسة دون عنف، بثلاث مراحل: 1 - ذكر الواقعة المزعجة بحياد. 2 - وصف الشعور الذي انتابكم لحظتها. 3 - إيجاد أرضية للتفاهم، كفيلة للوصول إلى نتيجة ترضي كل الأطراف. 
خلق تصور إيجابي وجريء للمستقبل، سواء لأنفسكم أو لعلاقاتكم مع الآخرين، من خلال تدوين كل أفكاركم التي تتوالد في مخيلتكم بحرية دون رقابة أو نقد، مهما بلغت غرابتها، فالهدف هو تعزيز الجرأة على الابتكار. 
منح الآخر (شخص لا نتفق معه) فرصة، يسبقها عملية نسف لكل ما تم جمعه عنه من أحكام مسبقة، وانطباعات، وتفسيرات، ومن ثم إعادة التواصل معه، فقد نجد صديقًا ودودًا.
التدريب على الصياغة الإيجابية فكرًا وقولًا. وذلك بانتقاء المفردة اللطيفة والمناسبة والبعيدة عن التكلف والمبالغة في الحوار الداخلي مع النفس أو في الحوار الخارجي مع الآخر. فللكلمة تردد واهتزاز بالغ الأثر على مجريات الحياة. بل والتدرب أيضًا على الصياغة الإيجابية بالمظهر، فقف منتصبًا، مبتسمًا. 
وفي الختام، إن المدرب تنمية ذاتية، والمعالج النفسي، والروتينولوجي، ما هم إلا مساعدين لك لديهم إلمام بسلسلة التقنيات المساندة والمكملة لبعضها البعض، توصل الملتزم بها لمرحلة النجاح. ولكنهم لا يصنعون لك الراحة أو السعادة مطلقا، ما لم تستعد أنت زمام الأمور بذهنك، وتقرر العيش على نحو جيد، حتى في ظل حدوث الأمور المزعجة، والبحث عما هو إيجابي فيما هو سلبي، ليتقارب في لحظة الوجود التي تغيّر كل شيء ■