عندما نتقلّد عبق الماضي عقد السّخاب (المحلب)

عندما نتقلّد عبق الماضي عقد السّخاب (المحلب)

حينما يكون للحليّ رائحة... متى يأخذ من حواسك فيتجاوز  النظر  إلى دغدغة أنوفنا... تتيقّظ الحواس إلى حدّ الرّهافة للإلمام بالجوانب الحسيّة للمعطى الجديد، هي الرّغبة في التعمّق بهذا المحسوس وتمام إدراكه، وذلك بإيجاد معادلات لمفاهيم حسّية بصريّة في آن... إنك في حضور عقد السّخاب.   

السّخاب اصطلاحًا هو «قلادة تُتّخَذُ من قَرَنْفل وسُكٍّ ومَحْلَب، ليس فيها من اللؤلؤ والجوهر شيء». وعِقدْ السخاب هو حُليّ تتزين بها المرأة، تعبق منها روائح المسك والعنبر وغيرهما من المكونات، روائح لا تزول منه لسنين طوال مهما تعدّد ملبسه أو درجات حرارة محيطه وموضعه.
عقد مصنوع من مجموعة من المواد الطبيعية المعطرة، على غرار القرنفل والعنبر ونحوهما، يشكل يدويًا، ويعتبر شرطًا لازمًا للعروس. وتتشابه صناعة السخاب في مدن وقرى الجنوب التونسي كثيرًا بمثيلاتها من مناطق المغرب العربي على غرار الجزائر وليبيا. تجتمع مختلف مناطق الجنوب التونسي على طريقة إعداد السخاب مع اختلاف بسيط في مكوناته والحليات المضافة إليه عند نظمه (ذهب، فضة ونحوهما). ولمعرفة طريقة صناعة السخاب المحلي قمنا بزيارة لولاية مدنين بالجنوب الشرقي للبلاد التونسية، وتحديدًا معتمدية بنقردان المعروفة بجودة منتوجها من السخاب المحلي وإجادتها تصنيع هذا العقد التراثي، حيث نزلنا ضيوفًا عند عائلة تعدّ لحفلة زفاف ابنتهم. 
وسط صخب الأغاني وأهازيج النسوة وهنّ في حضرة العروس، تبدأ مُحدّثتي كلامها: يدوم العُرس سبعة أيام بلياليها. ثالث أيام العُرس نجتمع نحن النسوة صباحًا عند العروس ونسمّي هذا اليوم بيوم السّخاب، أي تُحوّل مادة السّخاب إلى عقد تُنظم عناصره لتتزين به العروس ليلة زفافها. ولعلّ مكوّنات عقد السخاب ولوازم إعداده يجلبها العريس (الزوج المستقبلي) يوم «الكسوة» وتُسمّى «عُلّيقة» (قفة)، والتي تحتوي على القرنفل والمحلب وشوشة الورد والعنبر والمستكة والجاوي والسواك والصمغ العربي. 
وتضيف محدّثتي: تُنظم أعواد القرنفل في خيط ويُدق «الطّلوٍق» بالمهراس، ويطلق عليه كذلك اسم «طلوق العذارى». وفي مرحلة ثانية ينظّف المحلب ويُنقّى من الشّوائب ويدقّ جيدًا بالمهراس ويصفّى بالغربال بعد فصل زيته الذي تستخدمه النسوة كعطر، ويضاف إليه الجاوي والمستكة والعنبر و«الصمغ العربي» والياسمين ليُخلط المزيج في إناء بقليل من الماء المنقوع فيه كل من القرنفل «السّواك العربي» وعطر الورد، فتتكون بذلك عجينة صناعة السخاب.
بعدما تترك العجينة لترتاح ما يُقارب نصف الساعة وقبل جفافها وتصلبها، تقوم النسوة بتقطيعها وتجزيئها إلى عشرات القطع الصغيرة باستعمال أصابع اليدين الاثنتين «السبابة والإبهام عن كل يد» لتتشكل على هيئة شواكل مختلفة, إما كريات أو على شكل مثلثاث صغيرة، ثم ثقب كل جزء بإبرة كبيرة الحجم تسهيلًا لمرور وإشراك هذه القطع في بعضها البعض باستعمال خيط رفيع ومتين يسمى محليًا بخيط الصنارة أو خيوط من شعر ذيل الحصان، وتوضع على الغربال بعد قلبه لتجف. أخيرًا يتزين السخاب ببعض القطع الذهبية أو الفضية مثل الخمسة والصّيد والحوتة لا غير، «فكُلّ قْـديرْ وقَدْرُوا»، يعني كلّ حسب مقدرته. 
في بعض المناطق من جنوبنا التونسي، تحتفظ العروس بسخابها إلى أن تتزوج ابنتها البكر، فتقدمه لها هدية في زواجها من أجل الحفاظ على هذا المكسب التراثي والعمل على عدم اندثاره كعنوان لأصالة المنطقة وتراثها. فهذا النوع من الحلي يعيش عمرًا مديدًا، وقد يتوارث من الجدات إلى الحفيدات. لعلّ الحبوب العطرية التي توجد ضمن محتويات «العُلاقة» التي تصنع منها روائح العروس لا تقتصر فيها النسوة فقط على صنع «العقد»، فإلى جانب «عقد السّخاب» أو «الصّخاب» ينظمن قلادة الصخاب، التي تعرف عند البعض بـ «خنّاق المحلب»، وكانت تستعمل من قبل البدو قديمًا وحضر الجبل والواحات، ويرجع السبب في ذلك إلى اعتقاد الناس والمعتقد الشعبي بأن أمنا حواء عند خروجها من الجنة ندمت وبكت، فنبت من دموعها القرنفل والطيب. 
وتلبس قلادة المحلب فوق الحليّ الفضية وتصنع من حبات القرنفل بعد وضعها في الماء لتصبح رطبة، ثم تنضم في خيط من سبيب الخيل بواسطة الإبرة، ويضاف اليها بعض الخرز المصنوع من الفضة أو العقيق الملون العادي، وفي بعض الأحيان الأخرى تصنع من معجون العنبر المعطر الذي يعرف محليًا بالمحلب.  ويُعد عقد السخاب التقليدي من التراث المغاربي الأصيل ومصدر رزق ممتهنات هذه الحرفة وبعض الصائغين، إلا أن صناعته تراجعت خلال السنوات الأخيرة بحكم العصرنة ودخول الإكسسوارات المصنعة في السوق المحلية، غير أنها عادت أخيرًا ضمن الحليّ المرغوبة لدى العروس، حيث يُعرف العقد ببعض دول الخليج بعقد العنبر الذي يحافظ على عطره المميز سنوات طويلة. 
تجاوز «السّخاب» كمادّة طيّعة دائرته إلى وظائف أخرى، فلم يعد عقدًا يزيّن عنق العروس وصدرها وتخطّاه إلى محامل أخرى ليستحيل جزءًا من الديكور ليشكّله الصّاغة تحفًا فنّية للزينة على غرار «شجرة الزيتون» و«مشموم العنبر» وغيرهما ■