سيميائية المكان شارع بورقيبة في تونس واهب الاستعارات

سيميائية المكان شارع بورقيبة في تونس واهب الاستعارات

يقع شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة التونسية موقعَه من ذاكرة التونسيين ووعيهم بالمكان والزمان، يؤيّد ذلكَ ما هو معلوم من أنّ المكان يوفّر  لنا الأبعاد الثلاثة من حركتنا في الكون، ويمثل البعدَ الرابعَ من حركتنا فيه.  وبشكل عفويّ نقيس وعينا بالزمان - وهو المجرّد - على وعينا بالمكان، وهو المحسوس، حتى إنّ ابن عربيّ اختصر متباعدات المكان والزمان في عبارة مكثفة الدلالة، إذ قال: «الزمانُ مكانٌ سائلٌ، والمكانُ زمانٌ متجمِّد». 

من‭ ‬مسلَّمات‭ ‬الأنثروبولوجيا‭ ‬أنّ‭ ‬المكان‭ ‬مرتبط‭ ‬في‭ ‬الوجدان‭ ‬الإنسانيّ‭ ‬بحنينية‭ ‬مركوزة‭ ‬في‭ ‬النفس،‭ ‬إذ‭ ‬يمضي‭ ‬الزمان‭ ‬مجرَّدا،‭ ‬ويظلّ‭ ‬من‭ ‬المكان‭ ‬ما‭ ‬يثير‭ ‬الخاطر‭ ‬ويحرّك‭ ‬الروح،‭ ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬النوستالجيا‭ ‬يغدو‭ ‬المكان‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬الذاكرة‭ ‬الجماعية‭ ‬والفردية‭ ‬معاً؛‭ ‬فقد‭ ‬ارتبط‭ ‬المكان‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربيّ‭ ‬بحسّ‭ ‬فاجع‭ ‬يُغرق‭ ‬الشاعرَ‭ ‬في‭ ‬بكائيات‭ ‬الوقوف‭ ‬على‭ ‬أطلال‭ ‬ماضٍ‭ ‬ولّى،‭ ‬كأنه‭ ‬يستحييه‭ ‬ويبتعثه‭ ‬من‭ ‬رماد‭ ‬الذكرى،‭ ‬ومقابل‭ ‬ذلك‭ ‬الوعي‭ ‬الفردي‭ ‬الفاجع‭ ‬تجد‭ ‬للمكان‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬الجماعيّ‭ ‬مسحةَ‭ ‬تحدّ‭ ‬تُذكي‭ ‬في‭ ‬الفرد‭ ‬داخلَ‭ ‬المجموعةِ‭ ‬أُنْسَ‭ ‬المُسْتقوي‭ ‬بالوجود‭ ‬الجماعيّ،‭ ‬ولذلك‭ ‬تجد‭ ‬لكلّ‭ ‬الشعوب‭ ‬ساحاتٍ‭ ‬ترتبط‭ ‬بمناسبات‭ ‬جماعية،‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬الحالات‭ ‬ثورية‭ ‬تخطط‭ ‬فيها‭ ‬لمستقبلها،‭ ‬فكأن‭ ‬الفرد‭ ‬ذ‭ ‬وهو‭ ‬وحيد‭ ‬غربته‭ ‬في‭ ‬طلل‭ ‬قفر‭ - ‬هو‭ ‬فردٌ‭ ‬عبْدٌ‭ ‬لحنينيته‭ ‬التي‭ ‬تصرفه‭ ‬إلى‭ ‬البكاء‭ ‬على‭ ‬الماضي،‭ ‬وكأنه‭ - ‬حين‭ ‬يندمج‭ ‬في‭ ‬مجموعته‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الآهل‭ - ‬يغدو‭ ‬فرداً‭ ‬منتشياً‭ ‬بثوريَّتِه‭ ‬التي‭ ‬تصْرفه‭ ‬إلى‭ ‬التقرير‭ ‬للمستقبل‭.‬

ومن‭ ‬منظور‭ ‬إدراكيّ،‭ ‬يحتاج‭ ‬الذهن‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬ليجعله‭ ‬مساحة‭ ‬للمعنى‭ ‬وليلوذ‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬فزع‭ ‬الفراغ،‭ ‬فالمكان‭ ‬حاوٍ‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬امتلاء‭ ‬الكيان،‭ ‬وهو‭ ‬كذلك‭ ‬ملاذ‭ ‬في‭ ‬سياقات‭ ‬الضّيق،‭ ‬وشأن‭ ‬الفرد‭ ‬مع‭ ‬المكان‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬مع‭ ‬الجماعة؛‭ ‬فالمكان‭ ‬المستحوذ‭ ‬على‭ ‬الذاكرة‭ ‬الجماعية‭ ‬هو‭ ‬مَحجّ‭ ‬الجماعة‭ ‬وموضع‭ ‬تفريغها‭ ‬لما‭ ‬يشوبها‭ ‬من‭ ‬دنس‭ ‬وألم،‭ ‬وهو‭ ‬فضاء‭ ‬ضراعَتِها‭ ‬ونشدانِهَا‭ ‬تغييرَ‭ ‬حالها‭ ‬الفرديّ‭ ‬والجماعيّ‭. ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬يستقطب‭ ‬المكان‭ ‬أشدّ‭ ‬نوازع‭ ‬الإنسان‭ ‬حميمية‭ ‬وقداسة‭. ‬والمكان‭ ‬الذي‭ ‬يجمعنا‭ ‬بالآخر‭ ‬هو‭ ‬عين‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬نهرع‭ ‬إليه‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬ذواتنا‭ ‬في‭ ‬ذكرى‭ ‬أو‭ ‬معنى‭ ‬أو‭ ‬وهم‭. ‬

والتجلّي‭ ‬الأمثل‭ ‬لذلك‭ ‬هو‭ ‬طقوس‭ ‬الحجّ‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬الديانات‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ،‭ ‬فهي‭ ‬المناسبة‭ ‬التي‭ ‬تجدد‭ ‬بها‭ ‬الجماعات‭ ‬والأفراد‭ ‬انتماءها‭ ‬وتشحذ‭ ‬روح‭ ‬التغيير‭ ‬لديها،‭ ‬وتتجلى‭ ‬اجتماعياً‭ ‬فيما‭ ‬تضفيه‭ ‬الجماهير‭ ‬على‭ ‬مكان‭ ‬مّا‭ ‬من‭ ‬رمزية‭ ‬عالية،‭ ‬فيغدو‭ ‬مَحَجَّها‭ ‬ومجتمعها‭ ‬الذي‭ ‬تجدد‭ ‬فيه‭ ‬هويتها‭ ‬وتنطلق‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬غد‭ ‬تنشده‭ ‬أياً‭ ‬كانت‭ ‬رمزيته‭. ‬

وفي‭ ‬حضور‭ ‬المجموعة،‭ ‬يضاف‭ ‬إلى‭ ‬رمزية‭ ‬المعنى‭ ‬طاقة‭ ‬الوجود‭ ‬الجماعي‭ ‬بما‭ ‬يوفّره‭ ‬من‭ ‬أحاسيس‭ ‬الأمان‭ ‬والحماية‭ ‬والقوة،‭ ‬فذاك‭ ‬الفرد‭ ‬المهدَّدُ‭ ‬منعزلاً‭ ‬غدا‭ ‬القويَّ‭ ‬مُجتمِعاً‭. ‬

على‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬النفسيّ‭ ‬تتحقق‭ ‬الخصوصية‭ ‬في‭ ‬فضاءات‭ ‬مثل‭ ‬شارع‭ ‬الحبيب‭ ‬بورقيبة‭ ‬في‭ ‬تونس،‭ ‬وساحة‭ ‬التحرير‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬وساحة‭ ‬الفنا‭ ‬في‭ ‬المغرب،‭ ‬والساحة‭ ‬الحمراء‭ ‬في‭ ‬روسيا،‭ ‬وساحة‭ ‬مايو‭ ‬في‭ ‬الأرجنتين،‭ ‬وساحة‭ ‬ديل‭ ‬كامبو‭ ‬في‭ ‬إيطاليا،‭ ‬وساحة‭ ‬المدينة‭ ‬القديمة‭ ‬أولد‭ ‬تون‭ ‬في‭ ‬براغ‭ ‬بجمهورية‭ ‬التشيك،‭ ‬والساحة‭ ‬الخضراء‭ ‬في‭ ‬ليبيا،‭ ‬وساحة‭ ‬ترافلجار‭ ‬في‭ ‬لندن،‭ ‬وساحة‭ ‬تيانانمن‭ ‬في‭ ‬بكين‭ ‬بالصين،‭ ‬وساحة‭ ‬القديس‭ ‬بطرس‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬الفاتيكان،‭ ‬وتايمز‭ ‬سكوير‭ ‬في‭ ‬نيويورك‭ ‬بالولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬وساحة‭ ‬زوكالو‭ ‬في‭ ‬مكسيكو‭ ‬سيتي،‭ ‬وهي‭ ‬الساحة‭ ‬التي‭ ‬غدت‭ ‬تسمى‭ ‬اليوم‭ ‬رسمياً‭ ‬‮«‬بلازا‭ ‬دي‭ ‬لا‭ ‬كونستيتسيون‮»‬‭.‬

 

إبرة‭ ‬البوصلة

هذه‭ ‬الأماكن‭ ‬تؤثث‭ ‬الذاكرة‭ ‬الجماعية،‭ ‬فيتخذها‭ ‬الأفراد‭ ‬بمنزلة‭ ‬إبرة‭ ‬البوصلة‭ ‬التي‭ ‬يتحدد‭ ‬بها‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الأماكن،‭ ‬والأحداث‭ ‬التي‭ ‬ترتبط‭ ‬بها‭ ‬تغدو‭ ‬علاماتٍ‭ ‬فارقةً‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬شعوبها‭.‬

يسكن‭ ‬شارع‭ ‬الحبيب‭ ‬بورقيبة‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬العاصمة‭ ‬ذاكرة‭ ‬كلّ‭ ‬تونسي‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يزره،‭ ‬وهو‭ ‬الآن‭ ‬نقطة‭ ‬مرجعية‭ ‬زماناً‭ ‬ومكاناً‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬التونسي‭ ‬وفي‭ ‬انتظارات‭ ‬من‭ ‬يزور‭ ‬تونس‭ ‬لأوّل‭ ‬مرة‭.  ‬فهذا‭ ‬المكان‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬بلا‭ ‬سكّان،‭ ‬ولكنه‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬يسكن‭ ‬ذاكرة‭ ‬الجميع،‭ ‬وهو‭ ‬مصداق‭ ‬قول‭ ‬رولان‭ ‬بارت‭ (‬1915‭ - ‬1980‭) ‬واصفاً‭ ‬وسط‭ ‬بعض‭ ‬الأماكن‭ ‬ذات‭ ‬الرمزية‭ ‬العالية‭ ‬بعبارة‭ ‬جعلها‭ ‬عنواناً‭ ‬مسجوعاً‭ ‬لفصل‭ ‬في‭ ‬‮«‬كتابه‭ ‬إمبراطورية‭ ‬العلامات‮»‬‭: ‬‮«‬وسط‭ ‬المدينة‭ ‬وسط‭ ‬خاوٍ‮»‬‭. ‬

شارع‭ ‬الحبيب‭ ‬بورقيبة‭ ‬مكان‭ ‬ساكن‭ ‬غير‭ ‬مسكون،‭ ‬فهو‭ ‬بوصلة‭ ‬المقيم‭ ‬والزائر،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬التونسي‭ ‬سجلٌّ‭ ‬لذاكرة‭ ‬جماعية،‭ ‬أو‭ ‬لعله‭ ‬أريد‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬كذلك،‭ ‬فالذي‭ ‬سمّاه‭ ‬يعلم‭ ‬بأن‭ ‬للاسم‭ ‬سلطة،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬للأسماء‭ ‬الفرنسية‭ ‬سطوتها‭ ‬وسلطانها‭ ‬في‭ ‬المخيال‭ ‬التونسي،‭ ‬فقبل‭ ‬الاسم‭ ‬الحالي‭ ‬لشارع‭ ‬بورقيبة‭ ‬أطلقت‭ ‬عليه‭ ‬أسماء‭ ‬تطبع‭ ‬حقبتها،‭ ‬فقد‭ ‬ظلّ‭ ‬يسمى‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬على‭ ‬منوال‭ ‬الفرنسيين‭ ‬في‭ ‬تسمياتهم‭ ‬‮«‬متنزه‭ ‬البحر‮»‬،‭ ‬ثمّ‭ ‬أصبح‭ ‬يسمى‭ ‬شارع‭ ‬البحرية،‭ ‬واستقرّ‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1900‭ ‬حاملاً‭ ‬اسم‭ ‬وزير‭ ‬الحماية‭ ‬الفرنسية،‭ ‬فأصبح‭ ‬‮«‬شارع‭ ‬جول‭ ‬فيري‮»‬‭. ‬

وحين‭ ‬استقلت‭ ‬تونس‭ (‬1956‭) ‬استقر‭ ‬للمكان‭ ‬اسم‭ ‬يقرّ‭ ‬نسبته‭ ‬إلى‭ ‬أهل‭ ‬المكان،‭ ‬فغدا‭ ‬باسمه‭ ‬الذي‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬اليوم‭ ‬‮«‬شارع‭ ‬الحبيب‭ ‬بورقيبة‮»‬،‭ ‬وذلك‭ ‬بكلّ‭ ‬ما‭ ‬تعنيه‭ ‬الإضافة‭ ‬المباشرة‭ ‬في‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬معانٍ،‭ ‬وهي‭ ‬ما‭ ‬تترجمه‭ ‬الزائدة‭ ‬الوسيطة‭ ‬بين‭ ‬المضاف‭ ‬والمضاف‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬الفرنسية‭ (‬de‭).‬

ليست‭ ‬نسبة‭ ‬المكان‭ ‬بعد‭ ‬الاستقلال‭ ‬إلى‭ ‬بورقيبة‭ ‬بالنسبة‭ ‬الاعتباطية‭ ‬على‭ ‬نهج‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مألوف‭ ‬في‭ ‬وسم‭ ‬اللسانيين‭ ‬للعلاقة‭ ‬بين‭ ‬الدالّ‭ ‬والمدلول‭ ‬في‭ ‬اللغة،‭ ‬فتسمية‭ ‬كلّ‭ ‬شيء‭ ‬هي‭ ‬خلق‭ ‬جديد‭ ‬له‭. ‬وبهذا‭ ‬المعيار‭ ‬كأنّ‭ ‬تغيير‭ ‬نسبة‭ ‬المكان‭ ‬من‭ ‬جول‭ ‬فيري‭ ‬إلى‭ ‬الحبيب‭ ‬بورقيبة‭ ‬هي‭ ‬استرداد‭ ‬صاحب‭ ‬المكان‭ ‬لحقّه‭ ‬فيه‭. ‬

وقد‭ ‬يتفاوت‭ ‬رأي‭ ‬البلاغيّ‭ ‬والحرْفيّ‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬النسبة،‭ ‬فيرى‭ ‬الأوّل‭ ‬أن‭ ‬نسبة‭ ‬المكان‭ ‬إلى‭ ‬بورقيبة‭ ‬ليست‭ ‬إلا‭ ‬نسبة‭ ‬مجازية،‭ ‬فبورقيبة‭ ‬علَم‭ ‬على‭ ‬عموم‭ ‬التونسيين‭. ‬وقد‭ ‬يعترض‭ ‬الحرْفيّ‭ ‬ويرى‭ ‬في‭ ‬النسبة‭ ‬استئثاراً‭ ‬بالمكان‭ ‬وحيْفاً‭ ‬في‭ ‬إظهار‭ ‬الاختصاص‭ ‬به،‭ ‬ولكلّ‭ ‬من‭ ‬الرأيين‭ ‬وجاهةٌ‭ ‬يستمدها‭ ‬من‭ ‬منظوره‭ ‬الخاصّ‭.‬

إنّ‭ ‬الذي‭ ‬يسترد‭ ‬المكان‭ ‬يظلّ‭ ‬غريباً‭ ‬فيه‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يُلْقِ‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬أسمائه‭. ‬والذي‭ ‬يطلق‭ ‬الأسماء‭ ‬يستحوذ‭ ‬على‭ ‬رمزية‭ ‬المكان‭ ‬ويصنع‭ ‬ذاكرته‭. ‬وحسْبُ‭ ‬المرء‭ ‬أن‭ ‬يمعن‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬توزع‭ ‬الشوارع‭ ‬حول‭ ‬شارع‭ ‬بورقيبة‭ ‬ليدرك‭ ‬أنّ‭ ‬المكان‭ ‬قد‭ ‬وقعت‭ ‬هيكلته‭ ‬على‭ ‬رؤية‭ ‬دقيقة‭ ‬ووفق‭ ‬منظور‭ ‬يُخرج‭ ‬المكان‭ ‬على‭ ‬منوال‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الذهن؛‭ ‬فشارع‭ ‬بورقيبة‭ ‬امتداد‭ ‬لمدينة‭ ‬تونس‭ ‬العربية‭ ‬العتيقة‭ ‬التي‭ ‬يتوسطها‭ ‬جامع‭ ‬الزيتونة‭ ‬ويحيطها‭ ‬سور‭ ‬متين‭ ‬ذو‭ ‬أبواب‭ ‬عديدة،‭ ‬أشهرها‭: ‬باب‭ ‬البحر،‭ ‬وباب‭ ‬الخضراء،‭ ‬وباب‭ ‬العسل،‭ ‬وباب‭ ‬سيدي‭ ‬عبدالسلام،‭ ‬وباب‭ ‬سعدون،‭ ‬وباب‭ ‬البنات،‭ ‬وباب‭ ‬المنارة،‭ ‬وباب‭ ‬الفلة‭. ‬

ويمثل‭ ‬شارع‭ ‬بورقيبة‭ ‬امتداداً‭ ‬للمدينة‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬باب‭ ‬البحر،‭ ‬يربطه‭ ‬بالمدينة‭ ‬العتيقة‭ ‬شارع‭ ‬واصل‭ ‬فاصل‭ ‬هو‭ ‬شارع‭ ‬فرنسا،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬ذو‭ ‬فائض‭ ‬دلاليّ‭ ‬غير‭ ‬خفيّ،‭ ‬وللمرء‭ ‬أن‭ ‬يتأَوَّل‭ ‬هذا‭ ‬الفاصل‭ ‬المكانيّ‭ ‬فاصلاً‭ ‬زمانياً‭ ‬حضارياً‭ ‬أيضاً‭.‬

لقد‭ ‬قُدّ‭ ‬المكان‭ ‬وأطلقت‭ ‬أسماؤه‭ ‬لتكون‭ ‬ترجمة‭ ‬وأمارة‭ ‬لطريقة‭ ‬في‭ ‬رؤية‭ ‬تونس‭ ‬المستقلة‭ ‬وكيف‭ ‬يراد‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تكون،‭ ‬فبورقيبة‭ ‬الذي‭ ‬التصقت‭ ‬به‭ ‬صفة‭ ‬‮«‬بَانِي‭ ‬تونس‮»‬‭ ‬منتمٍ‭ ‬إلى‭ ‬تونس،‭ ‬ولادةً‭ ‬وتنشئةً،‭ ‬ومتجذر‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬تحصيلاً‭ ‬جامعياً‭ ‬وثقافةً‭. ‬

وقد‭ ‬ارتبط‭ ‬هاجس‭ ‬بناء‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬ذهنه‭ ‬بالمنوال‭ ‬الأوربي،‭ ‬الذي‭ ‬انبهر‭ ‬به‭ ‬وظلّ‭ ‬بعد‭ ‬عودته‭ ‬من‭ ‬فرنسا‭ ‬مسكوناً‭ ‬به‭. ‬وإن‭ ‬الحصيف‭ ‬الناظر‭ ‬في‭ ‬أسماء‭ ‬الشوارع‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬امتداداً‭ ‬لشارع‭ ‬بورقيبة‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬يقرأ‭ ‬جغرافية‭ ‬عقل‭ ‬الرجل‭ ‬في‭ ‬جغرافية‭ ‬شوارع‭ ‬المكان،‭ ‬فهذه‭ ‬الشوارع‭ ‬متصلة‭ ‬بشارع‭ ‬الحبيب‭ ‬بورقيبة‭ ‬على‭ ‬مراتب،‭ ‬ولكل‭ ‬شارع‭ ‬اسم‭ ‬يلتصق‭ ‬به‭ ‬التصاق‭ ‬الشيء‭ ‬بصاحب‭ ‬الشيء،‭ ‬فأن‭ ‬تقول‭ ‬‮«‬شارع‭ ‬بورقيبة‮»‬‭ ‬يعني‭ ‬في‭ ‬المستوى‭ ‬النحوي‭ ‬التركيبي‭ ‬المفضي‭ ‬إلى‭ ‬كلّ‭ ‬دلالة‭ ‬رمزية‭ ‬مجازية‭ ‬أنك‭ ‬تنسب‭ ‬المكان‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬الشخص‭ ‬وتخصه‭ ‬به‭. ‬

وعموماً،‭ ‬تتصل‭ ‬الشوارع‭ ‬بشارع‭ ‬الحبيب‭ ‬بورقيبة‭ ‬على‭ ‬ثلاث‭ ‬مراتب؛‭ ‬فالشوارع‭ ‬المتصلة‭ ‬به‭ ‬مباشرة‭ ‬هي‭ ‬شوارع‭ ‬وأنهج‭ ‬أوسعها‭ ‬وأشهرها‭ ‬وأفخرها‭ ‬ذات‭ ‬أسماء‭ ‬فرنسية‭ ‬مثل‭ ‬شارع‭ ‬فرنسا‭ ‬وشارع‭ ‬مرسيليا‭ ‬وشارع‭ ‬باريس،‭ ‬وتوازيها‭ ‬أنهج‭ ‬ضيقة‭ ‬صغيرة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ثقل‭ ‬تجاري‭ ‬أو‭ ‬اتساع‭ ‬مكانيّ،‭ ‬فمنها‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬لمدن‭ ‬مثل‭ ‬نهج‭ ‬القاهرة‭ ‬ونهج‭ ‬تركيا‭ ‬ونهج‭ ‬الجزائر،‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬لأفراد‭ ‬مثل‭ ‬نهج‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬ونهج‭ ‬حسين‭ ‬بوزيان‭ ‬ونهج‭ ‬عبدالرزاق‭ ‬الشرايبي‭ ‬ونهج‭ ‬كمال‭ ‬أتاتورك‭ ‬ونهج‭ ‬الهادي‭ ‬نويرة‭ ‬ونهج‭ ‬بيار‭ ‬دي‭ ‬كوبرتان‭ ‬ونهج‭ ‬علي‭ ‬باش‭ ‬حامبة‭ ‬ونهج‭ ‬فارس‭ ‬الخوري‭ ‬ونهج‭ ‬سعد‭ ‬زغلول،‭ ‬وفي‭ ‬كلّ‭ ‬هذه‭ ‬الشوارع‭ ‬للأسماء‭ ‬الفرنسية‭ ‬بريقها‭ ‬وألقها‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬التونسية،‭ ‬ولها‭ ‬عند‭ ‬النطق‭ ‬بها‭ ‬معاني‭ ‬المدنيّة‭ ‬والحداثة،‭ ‬حتى‭ ‬إنّ‭ ‬شارع‭ ‬الحبيب‭ ‬بورقيبة‭ ‬نفسه‭ ‬أصبح‭ ‬يُختصَر‭ ‬في‭ ‬لفظ‭ ‬‮«‬لافيني‮»‬‭ ‬L‭,‬avenue‭ ‬من‭ ‬الاسم‭ ‬الفرنسي‭ ‬الكامل‭ ‬Avenue‭ ‬Habib‭ ‬Bourguiba‭.‬

ولهذه‭ ‬الشوارع‭ ‬المتصلة‭ ‬مباشرة‭ ‬من‭ ‬شارع‭ ‬بورقيبة‭ ‬ميزتان؛‭ ‬فهي‭ ‬متفاوتة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الأبهة‭ ‬والاتساع‭ ‬ومن‭ ‬حيث‭ ‬ما‭ ‬تحتويه‭ ‬بحسب‭ ‬حظوتها‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬الجماعية،‭ ‬فإنك‭ ‬تجد‭ ‬شارعي‭ ‬فرنسا‭ ‬وباريس‭ ‬أهمّ‭ ‬هذه‭ ‬الشوارع،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬مصدر‭ ‬الميزة‭ ‬الثانية،‭ ‬فالأكثر‭ ‬حظوة‭ ‬هو‭ ‬الأكثر‭ ‬تداولاً‭ ‬في‭ ‬كلام‭ ‬الناس‭ ‬حين‭ ‬يضبطون‭ ‬مواعيدهم‭ ‬وأماكن‭ ‬التقائهم،‭ ‬فبذلك‭ ‬تحقَّقَ‭ ‬لأسماء‭ ‬هذه‭ ‬الشوارع‭ ‬تداول‭ ‬أمّن‭ ‬لها‭ ‬مساحة‭ ‬لغوية‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬الكلام‭ ‬اليومي‭ ‬للناس‭.‬

‭ ‬إن‭ ‬التفاوت‭ ‬في‭ ‬حظوة‭ ‬هذه‭ ‬الأماكن‭ ‬يترجم‭ ‬حظوة‭ ‬كلّ‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬ذهن‭ ‬‮«‬الزعيم‭ ‬المؤسس‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يتوسط‭ ‬شارعُه‭ ‬هذه‭ ‬الشوارع‭ ‬ويسمح‭ ‬لكل‭ ‬منها‭ ‬بتفرع‭ ‬منه‭ ‬كبير‭ ‬أو‭ ‬صغير،‭ ‬مهمّ‭ ‬أو‭ ‬هامشي‭. ‬ولذلك‭ ‬يعدّ‭ ‬التمثال‭ ‬الذي‭ ‬ينتصب‭ ‬في‭ ‬أوّل‭ ‬شارع‭ ‬بورقيبة‭ ‬عيناً‭ ‬تحدد‭ ‬مساحة‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬بورقيبة‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يأْذن‭ ‬برؤيته‭ ‬للناس‭. ‬

وبين‭ ‬تمثال‭ ‬بورقيبة‭ ‬الواقع‭ ‬آخر‭ ‬الشارع‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬البحر‭ ‬وتمثال‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬الواقع‭ ‬آخر‭ ‬الشارع‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬المدينة‭ ‬العتيقة،‭ ‬تتحدد‭ ‬مساحة‭ ‬رمزية‭ ‬من‭ ‬الوئام‭ ‬تارة‭ ‬ومن‭ ‬الصدام‭ ‬أطواراً،‭ ‬حتى‭ ‬إنّ‭ ‬التونسيين‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬صاغوا‭ ‬بخيالهم‭ ‬الخلاق‭ ‬نكتاً‭ ‬مبنية‭ ‬على‭ ‬المفارقة‭ ‬بين‭ ‬تمثال‭ ‬الزعيم‭ ‬بورقيبة‭ ‬وهو‭ ‬يمتطي‭ ‬صهوة‭ ‬جواد‭ ‬ويحمل‭ ‬بزة‭ ‬إفرنجية،‭ ‬وبين‭ ‬تمثال‭ ‬العالم‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬وهو‭ ‬مترجل‭ ‬على‭ ‬قدميه‭ ‬ببرنسه‭ ‬التونسي‭ ‬ويحمل‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬كتاباً‭ ‬عظيماً،‭ ‬وهذا‭ ‬التناظر‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬أتاح‭ ‬مساحة‭ ‬من‭ ‬الرمزية‭ ‬استطاعت‭ ‬احتواء‭ ‬كلّ‭ ‬المفارقات‭ ‬التي‭ ‬يُنشئها‭ ‬الخيال‭ ‬الخلاق‭ ‬ويستحدثها‭ ‬الواقع‭ ‬المفاجئ‭ ‬بكل‭ ‬جديد‭.‬

أما‭ ‬الشوارع‭ ‬التي‭ ‬تمتد‭ ‬من‭ ‬شارع‭ ‬بورقيبة‭ ‬بدرجة‭ ‬ثانية،‭ ‬فكأنها‭ ‬مساحات‭ ‬من‭ ‬الفكر‭ ‬والحضارة‭ ‬كان‭ ‬بورقيبة‭ ‬يراها‭ ‬غير‭ ‬ذات‭ ‬أولوية‭ ‬قياساً‭ ‬بالمنهل‭ ‬الفرنكفوني،‭ ‬فمن‭ ‬ذلك‭ ‬أنهج‭ ‬روسيا‭ ‬وألمانيا‭ ‬ويوغوسلافيا‭ ‬وغانا‭ ‬وروما‭ ‬ومالطة‭ ‬الصغيرة،‭ ‬فكل‭ ‬منها‭ ‬يتصل‭ ‬بشارع‭ ‬بورقيبة‭ ‬بدرجة‭ ‬ثانية‭. ‬وما‭ ‬يظهر‭ ‬بدرجة‭ ‬ثالثة‭ ‬هو‭ ‬أنهج‭ ‬وشوارع‭ ‬قيمتها‭ ‬الاسمية‭ ‬ليست‭ ‬بدرجة‭ ‬القيمة‭ ‬الاسمية‭ ‬نفسها‭ ‬لشوارع‭ ‬المرتبتين‭ ‬الأولى‭ ‬والثانية‭. ‬

من‭ ‬كلّ‭ ‬ذلك‭ ‬يخلص‭ ‬قارئ‭ ‬جغرافية‭ ‬المكان‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬شارع‭ ‬بورقيبة‭ ‬قد‭ ‬قُدَّ‭ ‬على‭ ‬منوال‭ ‬عقل‭ ‬مؤسس‭ ‬هو‭ ‬الحبيب‭ ‬بورقيبة‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مشدوداً‭ ‬إلى‭ ‬المنوال‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬الهوس،‭ ‬فقد‭ ‬أراد‭ ‬بورقيبة‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الشارع‭ ‬نظيراً‭ ‬للشانزيليزيه‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬وألقى‭ ‬عليه‭ ‬رمزية‭ ‬عالية‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬القرارات‭ ‬الرمزية‭ ‬المهمة‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬بورقيبة‭ ‬وتونس،‭ ‬ففي‭ ‬هذا‭ ‬الشارع‭ ‬خلع‭ ‬بورقيبة‭ ‬عن‭ ‬التونسية‭ ‬الوشاح‭ ‬الذي‭ ‬يغطّي‭ ‬رأسها،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬يسميه‭ ‬التونسيون‭ ‬‮«‬السفساري‮»‬،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬رمزية‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬قرار‭ ‬مُتماهٍ‭ ‬مع‭ ‬روح‭ ‬الحداثة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬بورقيبة‭ ‬يَنْشُدها‭ ‬في‭ ‬مظهرها‭ ‬وعمقها‭ ‬الفرنسيين‭. ‬

ومن‭ ‬طريف‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬شارع‭ ‬بورقيبة‭ ‬أنه‭ ‬لما‭ ‬آل‭ ‬الحكم‭ ‬إلى‭ ‬خَلَف‭ ‬بورقيبة‭ ‬وجد‭ ‬الرئيس‭ ‬المنقلب‭ ‬في‭ ‬رمزية‭ ‬الشارع‭ ‬ما‭ ‬ينغّص‭ ‬عليه‭ ‬نشوة‭ ‬رئاسته،‭ ‬فظنّ‭ ‬أنّ‭ ‬إزاحة‭ ‬تمثال‭ ‬بورقيبة‭ ‬من‭ ‬شارعه‭ ‬كفيلة‭ ‬بأن‭ ‬تحجب‭ ‬سطوته‭ ‬على‭ ‬المخيال‭ ‬الجماعيّ،‭ ‬وغاب‭ ‬عن‭ ‬وعي‭ ‬الرئيس‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬الجهاز‭ ‬العسكريّ‭ ‬أنّ‭ ‬للغة‭ ‬سلطاناً‭ ‬فوق‭ ‬سلطة‭ ‬ما‭ ‬تراه‭ ‬العين‭ ‬المجردة‭. ‬

وبضرب‭ ‬من‭ ‬الهوس‭ ‬الدالّ‭ ‬تمّ‭ ‬وضع‭ ‬ساعةٍ‭ ‬مكان‭ ‬بمنزلة‭ ‬بورقيبة،‭ ‬والحقّ‭ ‬أنّ‭ ‬التمثال‭ ‬نفسه‭ ‬هو‭ ‬بمنزلة‭ ‬ساعة‭ ‬رمزية‭ ‬أرادها‭ ‬واضعها‭ ‬مؤشراً‭ ‬ينضبط‭ ‬له‭ ‬التونسيون‭ ‬في‭ ‬مدارج‭ ‬الحداثة،‭ ‬وإحلال‭ ‬الساعة‭ ‬الحقيقية‭ ‬محلّ‭ ‬الساعة‭ ‬الرمزية‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬منه‭ ‬ما‭ ‬ضاعف‭ ‬نوستالجيا‭ ‬الجماهير‭ ‬إلى‭ ‬تمثال‭ ‬بورقيبة‭ ‬الذي‭ ‬استقر‭ ‬في‭ ‬المخيال‭ ‬الجماعيِّ‭ ‬رمزَ‭ ‬الساعةِ‭ ‬الأصدقَ‭ ‬في‭ ‬ضبط‭ ‬التوقيت‭ ‬على‭ ‬الحداثة‭.‬

 

سيكولوجية‭ ‬الجماهير

إن‭ ‬لسيكولوجية‭ ‬الجماهير‭ ‬أثراً‭ ‬مهمّاً‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬بالمكان‭ ‬والزمان‭ ‬معاً،‭ ‬فلذلك‭ ‬تجد‭ ‬المكان‭ ‬طللاً‭ ‬بالياً‭ ‬حزيناً‭ ‬في‭ ‬السياقات‭ ‬الفردية‭ ‬حين‭ ‬يرحل‭ ‬الجميع‭ ‬ويظلّ‭ ‬الفرد‭ ‬وحيداً‭ ‬في‭ ‬المكان،‭ ‬وهو‭ ‬شأن‭ ‬الشاعر‭ ‬العربيّ‭ ‬في‭ ‬اللازمة‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬فتئت‭ ‬توشّي‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬القديم،‭ ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬تجد‭ ‬الساحات‭ ‬العامة‭ ‬التي‭ ‬اقترن‭ ‬أكثرها‭ ‬بنضالات‭ ‬الشعوب‭ ‬أماكن‭ ‬ذات‭ ‬وهج‭ ‬عاطفيّ‭ ‬ودفق‭ ‬جيّاش‭ ‬يحرّك‭ ‬الأفراد‭ ‬ويستنهض‭ ‬الهمم‭ ‬للتغيير،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬السياقات‭ ‬الجماعية‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬المكان‭.‬

إنّ‭ ‬رمزية‭ ‬شارع‭ ‬بورقيبة‭ ‬ونظائره‭ ‬من‭ ‬الأماكن‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬جعلها‭ ‬إبان‭ ‬الثورات‭ ‬وبعدها‭ ‬محلّ‭ ‬الصراع‭ ‬على‭ ‬الفضاء‭ ‬العموميّ،‭ ‬فهذه‭ ‬الساحات‭ ‬تغدو‭ ‬موضوع‭ ‬صراع‭ ‬محموم‭ ‬بين‭ ‬الفاعلين‭ ‬على‭ ‬اختلافهم؛‭ ‬إذ‭ ‬الذي‭ ‬يفوز‭ ‬بالمكان‭ ‬العموميّ‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يكتسب‭ ‬الشرعية‭ ‬والغلبة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬له‭ ‬شوكة‭ ‬بحسب‭ ‬المصطلح‭ ‬الخلدونيّ‭. ‬

ولذلك‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬يتحوّل‭ ‬الصراع‭ ‬على‭ ‬المكان‭ ‬إلى‭ ‬صراع‭ ‬لغويّ‭ ‬على‭ ‬التسمية،‭ ‬فلا‭ ‬معنى‭ ‬للمكان‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تلق‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬أسمائك‭ ‬ما‭ ‬يؤصّل‭ ‬ملكيته‭ ‬ويجذّرها‭ ‬في‭ ‬اللغة،‭ ‬فمن‭ ‬استتباعات‭ ‬الثورات‭ ‬العربية‭ ‬أنّ‭ ‬الفاعلين‭ ‬السياسيين‭ ‬خاضوا‭ ‬معركة‭ ‬أسماء،‭ ‬ففي‭ ‬تونس‭ ‬غدا‭ ‬اسم‭ ‬محمد‭ ‬البوعزيزي‭ ‬مدخل‭ ‬شرعية‭ ‬ومطيةً‭ ‬لتحصيل‭ ‬جدارة‭ ‬لافتكاك‭ ‬الفضاء‭ ‬العامّ‭. ‬

 

تكنيةٌ‭ ‬مقلوبةٌ

وفي‭ ‬ليبيا‭ ‬تعدّ‭ ‬الساحة‭ ‬المسماة‭ ‬الآن‭ ‬ميدان‭ ‬الشهداء‭ ‬عيّنة‭ ‬على‭ ‬حركية‭ ‬الاسم‭ ‬التابعة‭ ‬لحركية‭ ‬الواقع‭ ‬السياسيّ،‭ ‬فهذه‭ ‬الساحة‭ ‬كانت‭ ‬تسمى‭ ‬ساحة‭ ‬إيطاليا‭ ‬زمن‭ ‬الاستعمار‭ ‬الإيطاليّ،‭ ‬ولمّا‭ ‬آلت‭ ‬الأمور‭ ‬إلى‭ ‬القذافي‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬الساحة‭ ‬الخضراء‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬تكنيةٌ‭ ‬مقلوبةٌ‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬الحمراء‭ ‬في‭ ‬روسيا‭. ‬وبعموم‭ ‬وصف‭ ‬‮«‬الأخضر‮»‬‭ ‬لما‭ ‬تعلّق‭ ‬بالقذافي،‭ ‬كان‭ ‬الرجل‭ ‬يزعم‭ ‬له‭ ‬نظرية‭ ‬عالمية‭ ‬ثالثة‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬فُرضت‭ ‬القداسة‭ ‬على‭ ‬اللون‭ ‬الأخضر‭ ‬فرضاً،‭ ‬استقرّ‭ ‬هذا‭ ‬اللونُ‭ ‬بغيضاً‭ ‬في‭ ‬أنفس‭ ‬الناس،‭ ‬والأكيد‭ ‬أنّ‭ ‬تلك‭ ‬الكراهية‭ ‬ليست‭ ‬لكراهة‭ ‬أصلية‭ ‬تجاه‭ ‬اللون،‭ ‬فالعكس‭ ‬أوْلى‭ ‬إزاء‭ ‬اللون‭ ‬الأخضر‭ ‬في‭ ‬أذهان‭ ‬الناس،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬إحساس‭ ‬جارف‭ ‬لدى‭ ‬الناس‭ ‬برغبة‭ ‬في‭ ‬إعلان‭ ‬الانعتاق‭ ‬من‭ ‬اللون‭ ‬وصاحب‭ ‬اللون،‭ ‬فكان‭ ‬أن‭ ‬سُمّيت‭ ‬‮«‬الساحة‭ ‬الخضراء‮»‬‭ ‬ساحة‭ ‬الشهداء،‭ ‬وهو‭ ‬اسم‭ ‬يرسّخ‭ ‬النفَس‭ ‬الثوريّ‭ ‬وَيُذْكيه‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬الجماعية،‭ ‬لاسيما‭ ‬والثورة‭ ‬الليبية‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬الثورات‭ ‬دمويةً‭. ‬

إنّ‭ ‬المكان‭ ‬ذاكرة‭ ‬الشعوب،‭ ‬ولذلك‭ ‬تتعلق‭ ‬الشعوب‭ ‬بالأماكن‭ ‬التي‭ ‬تستلهم‭ ‬منها‭ ‬روح‭ ‬الفعل‭ ‬والتغيير‭. ‬ومعارك‭ ‬الشعوب‭ ‬على‭ ‬الأماكن‭ ‬حاضنتها‭ ‬اللغوية‭ ‬هي‭ ‬الأخطر،‭ ‬لأنها‭ ‬هي‭ ‬الأبقى‭ ‬والأرسخ،‭ ‬فاستعارات‭ ‬المكان‭ ‬ليست‭ ‬طارئة‭ ‬على‭ ‬اللغة‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬صميمها،‭ ‬لأن‭ ‬المكان‭ ‬ذ‭ ‬وهو‭ ‬الزمان‭ ‬متجمداً‭ - ‬هو‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬تُرى‭ ‬وتُدرك‭ ‬من‭ ‬معاناة‭ ‬من‭ ‬مضَوْا‭ ‬وأوقدوا‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬شموعاً‭ ‬لحريةِ‭ ‬من‭ ‬يَلُونَهُمْ‭ ‬في‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭. ‬ومنذ‭ ‬القديم‭ ‬ظلّ‭ ‬المكان‭ ‬مهرب‭ ‬الإنسان‭ ‬إزاء‭ ‬كلّ‭ ‬إحساس‭ ‬فاجع‭ ‬بالزمان‭ ‬الهارب‭ ‬أبداً،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬الطلل‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬مبعث‭ ‬فجيعة‭ ‬الفرد‭ ‬وانكساره،‭ ‬فإنّ‭ ‬ذاكرة‭ ‬الساحات‭ ‬العامة‭ ‬في‭ ‬الحس‭ ‬الجماعيّ‭ ‬هي‭ ‬نُسْغ‭ ‬إرادة‭ ‬الشعوب‭ ‬ومولّد‭ ‬شعاراتها‭ ‬واستعاراتها‭ ‬الجماعية‭ ‬