أدب البوح
ما فعله المغربي الراحل محمد شكري في رواية «الخبز الحافي» يعد نقلة نوعية في عالم الكتابة الإبداعية العربية، فقد خاض فيما يعد محرماً في قائمة الأعراف الموروثة، وهو الكشف عن مشاعره تجاه أمه وأبيه ذ كتابة - وهنا بيت القصيد، أما ما كتبه عن مجتمع مدينة مراكش في ثلاثينيات القرن الماضي، فليس من الصعوبة أن تجد من يكتب عن مدينته أو قريته، سواء عبر الرواية أو التاريخ أو أي حقل آخر.
لقد كتب محمد شكري ما كتب قبل زمان الفورة الروائية التي نعيشها اليوم، إذ صدرت «الخبز الحافي» باللغة الإنجليزية عام 1973، وبالعربية بعد تسع سنوات، وحتى اليوم لا تكاد تجد عملاً بارزاً يضاهي «الخبز الحافي» على الرغم من التنوع والجرأة في المئات من الروايات التي تملأ معارض الكتب والمكتبات، لأن منظومة الأعراف والقيم من ناحية، والرقيب الذاتي من ناحية أخرى، لا تسمح بأكثر من التمويه عبر اختلاق شخصية يودعها الكاتب كل صفاته وأسراره، وقد يزيد التمويه ليبعثر نفسه على أكثر من شخصية، وحتى هذا التمويه ليس كافياً للتهرب من أسئلة الفضوليين حول مدى التشابه بين شخصية الكاتب وأحد أبطال روايته.
إن ما درجت تسميته بأدب الاعتراف يعيش بانتعاش كبير في المجتمعات الغربية التي تؤمن بأن الاعتراف هو السبيل الوحيد للخلاص من الذنوب والحصول على المغفرة، في المقابل نجد أن مجتمعات الشرق، ومن بينها مجتمعاتنا العربية والإسلامية، تؤمن بالعكس وهو أن «الستر زين» وما ستره الله بالليل لا يجب فضحه في النهار، خاصة إذا كان مكتوباً في وعاء مرشح للخلود وهو الرواية.
وقد يفهم من مصطلح أدب الاعتراف أنه تمهيد للحديث في أشكال محددة من المحرمات علانية، ولكنه بخلاف المتوقع يشمل ذكر كل الصفات المتناقضة الملتصقة بكل الناس المحيطين بنا، مثل البخل أو العصبية الزائدة، وأدب الاعتراف يسجل النوايا الحقيقية للكاتب في اللحظات التي يتخذ فيها قرارات ظاهرها النبل وباطنها كل الخبث.
ختاماً، لا أجد نفسي ميالاً لتصنيف رواية «الخبز الحافي» ضمن أدب الاعتراف، لأن محمد شكري لم يرتكب جريمة حتى يكشف عنها ويخفف على نفسه مما أصابها من آلام تأنيب الضمير، والأقرب إلى نفسي هو «البوح»، لأنه عنوان كبير تندرج أسفله الأسرار المخفية والمشاعر المكبوتة والنوايا العارية، وهي تراكمات تكفي لبناء عالم روائي أغلبه من أحجار الواقع وكميات كافية من رمال وأسمنت الخيال ■