المفارقة الكبرى بين ربيع الشعر وربيع الواقع

المفارقة الكبرى بين ربيع الشعر وربيع الواقع

على الرغم من تغيّر الأجواء وتقلب المناخ عمّا عُرِف منذ آلاف السنين، وفوات عصور الجليد وظهور الاحتباس الحراري، لا يزال كثيرون يحتفلون في الحادي والعشرين من هذا الشهر، شهر مارس/آذار، إعلاناً لبدء فصل الربيع. في هذا اليوم تتقارب الأوقات وتتساوى ساعات النهار وساعات الليل، ويعتدل الجو بين الحرارة والبرودة، فتطيب النفوس وتهدأ الأرواح وتصفو القلوب، ويغرد الطير ويكسو الأرض العشب والزهر، ليشبع فيه الدواب ويهنأ البشر، بتوافر الماء والكلأ والطعام. 

لم‭ ‬يكن‭ ‬الاحتفال‭ ‬بقدوم‭ ‬الربيع‭ ‬جديداً،‭ ‬ولكنه‭ ‬قديم‭ ‬قدم‭ ‬بدء‭ ‬حضارات‭ ‬فارس‭ ‬والعراق‭ ‬ومصر‭ ‬واليونان،‭ ‬وأطلقوا‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الاحتفال‭ ‬أسماء‭ ‬لها‭ ‬معانٍ‭ ‬شتى‭: ‬نيروز،‭ ‬عيد‭ ‬الحصاد،‭ ‬عيد‭ ‬الفصح،‭ ‬عيد‭ ‬القيامة،‭ ‬الذي‭ ‬يأتي‭ ‬بعده‭ ‬مباشرة‭ ‬‮«‬شمّ‭ ‬النسيم‮»‬‭. ‬وكلمة‭ ‬‮«‬نيروز‮»‬‭ ‬الفارسية‭ ‬تعني‭ ‬العام‭ ‬الجديد،‭ ‬حيث‭ ‬يبدأ‭ ‬العام‭ ‬الفلكي‭ ‬عند‭ ‬شعوب‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬في‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬مارس،‭ ‬وهي‭ ‬كلمة‭ ‬من‭ ‬مقطعين‭: ‬‮«‬ني‮»‬‭ ‬التي‭ ‬يتطابق‭ ‬جذرها‭ ‬اللغوي‭ ‬الفارسي‭ ‬وكلمة‭ ‬‮«‬نيو‭ ‬new‮»‬‭ ‬وتعني‭ ‬‮«‬جديد‮»‬،‭ ‬أما‭ ‬‮«‬روز‮»‬‭ ‬فتعني‭ ‬‮«‬تقويم‮»‬،‭ ‬ومنها‭ ‬جاءت‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬روزنامة‮»‬‭ ‬بمعنى‭ ‬‮«‬كتاب‭ ‬التقويم‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬المناسبة‭ ‬نفسها،‭ ‬وهي‭ ‬الاعتدال‭ ‬الربيعي،‭ ‬كان‭ ‬المصريون‭ ‬القدماء‭ ‬يحتفلون‭ ‬بالنيل،‭ ‬منذ‭ ‬عصر‭ ‬الفراعنة‭ ‬ثم‭ ‬البطالمة‭ ‬إلى‭ ‬عصر‭ ‬انتشار‭ ‬الدعوة‭ ‬المسيحية،‭ ‬حيث‭ ‬نرى‭ ‬المصريين‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬يؤكدون‭ ‬هذا‭ ‬الاحتفال‭ ‬بما‭ ‬أسموه‭ ‬يوم‭ ‬‮«‬شمّ‭ ‬النسيم‮»‬‭.‬

‭ ‬وعلى‭ ‬مختلف‭ ‬تسمياته،‭ ‬وعلى‭ ‬مختلف‭ ‬مشارب‭ ‬البشر‭ ‬ومذاهبهم‭ ‬الدينية‭ ‬وجنسياتهم،‭ ‬يحتفل‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬ثلاثمائة‭ ‬مليون‭ ‬نسمة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬بهذا‭ ‬العيد،‭ ‬أغلبهم‭ ‬من‭ ‬إيران‭ ‬وتركيا‭ ‬وأفغانستان‭ (‬مذكرة‭ ‬اليونسكو‭- ‬الجلسة‭ ‬71‭/‬23‭ ‬فبراير‭ ‬2010م‭). ‬

ويبدو‭ ‬أنّ‭ ‬معظم‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬آثرت‭ ‬الاحتفال‭ ‬بهذا‭ ‬اليوم‭ ‬ليكون‭ ‬ذكرى‭ ‬إنسانية‭ ‬عالمية،‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬النيروز،‭ ‬تكون‭ ‬‮«‬الأم‮»‬‭ ‬فيها‭ ‬مركز‭ ‬الاهتمام‭ ‬الأول‭ ‬ورمز‭ ‬الوفاء،‭ ‬ليكون‭ ‬وفاء‭ ‬الأسرة‭ ‬منصباً‭ ‬على‭ ‬عطاء‭ ‬الأم‭ ‬وتضحياتها‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬تشكيل‭ ‬النواة‭ ‬الأولى‭ ‬للمجتمع‭. ‬وكان‭ ‬الاحتفال‭ ‬بهذا‭ ‬اليوم‭ ‬عيداً‭ ‬للأم‭ ‬عند‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬التي‭ ‬أعلنت‭ ‬رسمياً‭ ‬عيد‭ ‬الأم‭ ‬في‭ ‬21‭ ‬مارس،‭ ‬وهو‭ ‬أول‭ ‬أيام‭ ‬فصل‭ ‬الربيع‭. ‬تلك‭ ‬المبادرة‭ ‬بدأتها‭ ‬مصر‭ ‬عام‭ ‬1956م،‭ ‬ثم‭ ‬تبعتها‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬سورية‭ ‬والعراق‭ ‬ولبنان‭ ‬والأردن‭ ‬وفلسطين‭ ‬والكويت‭ ‬وعمان‭ ‬والبحرين‭ ‬وقطر‭ ‬والإمارات‭ ‬العربية‭ ‬المتحدة‭ ‬وليبيا‭ ‬والسودان‭ ‬والجزائر‭ ‬واليمن‭ ‬وموريتانيا‭ ‬والصومال‭ ‬وجيبوتي‭.‬

وفي‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬نبارك‭ ‬للأم‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم،‭ ‬ونشجع‭ ‬الاحتفال‭ ‬بيومها‭ ‬وندعو‭ ‬إلى‭ ‬البِّر‭ ‬بها‭{‬وبالوالدين‭ ‬إحسانا‭}‬‭. ‬وما‭ ‬أجمل‭ ‬قصيدة‭ ‬شاعر‭ ‬النيل‭ ‬حافظ‭ ‬إبراهيم‭ ‬التي‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭:‬

إني‭ ‬لتطربني‭ ‬الخلال‭ ‬الكريمة

طرب‭ ‬الغريب‭ ‬بأوْبةٍ‭ ‬وتلاقِ

وتهزني‭ ‬ذكرى‭ ‬المروءة‭ ‬والندى

بين‭ ‬الشمائل‭ ‬هزة‭ ‬المشتاقِ

الأم‭ ‬مدرسة‭ ‬إذا‭ ‬أعددتها

أعددت‭ ‬شعباً‭ ‬طيّب‭ ‬الأعراقِ

الأم‭ ‬أستاذ‭ ‬الأساتذة‭ ‬الأُلى

شغلت‭ ‬مآثرهم‭ ‬مدى‭ ‬الآفاقِ

ومهما‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬أمر،‭ ‬فإنّ‭ ‬الربيع‭ ‬كان‭ ‬ولايزال‭ ‬أجمل‭ ‬فصول‭ ‬السنة،‭ ‬لما‭ ‬يعكسه‭ ‬من‭ ‬جمال‭ ‬حسٍّ‭ ‬ناتج‭ ‬عن‭ ‬اعتدال‭ ‬في‭ ‬الطقس‭ ‬يؤثر‭ ‬على‭ ‬المزاج‭ ‬والنفس‭. ‬قال‭ ‬البحتري‭:‬

أتاك‭ ‬الربيع‭ ‬الطلق‭ ‬يختال‭ ‬ضاحكاً

من‭ ‬الحُسْن‭ ‬حتى‭ ‬كاد‭ ‬أنْ‭ ‬يتكلما

وقد‭ ‬نبّه‭ ‬النوروز‭ ‬في‭ ‬غلس‭ ‬الدجى

أوائل‭ ‬وردٍ‭ ‬كُنَّ‭ ‬بالأمسِ‭ ‬نُوّما

يفتقها‭ ‬برد‭ ‬الندى‭ ‬فكأنّه

يبثّ‭ ‬حديثاً‭ ‬كان‭ ‬قبل‭ ‬مكتماً

ومن‭ ‬شجرٍ‭ ‬رَدَّ‭ ‬الربيع‭ ‬لباسُهُ

عليه‭ ‬كما‭ ‬نشرت‭ ‬وشْياً‭ ‬منمنما

أحلّ‭ ‬فأبدى‭ ‬للعيون‭ ‬بشاشة

وكان‭ ‬قذى‭ ‬للعين‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬مُحْرِما

ورقّ‭ ‬نسيم‭ ‬الريح‭ ‬حتى‭ ‬حسبته

يجيء‭ ‬بأنفاس‭ ‬الأحبة‭ ‬نُعّما

وفي‭ ‬الربيع‭ ‬أيضاً‭ ‬قال‭ ‬شوقي‭:‬

آذار‭ ‬أقبل،‭ ‬قم‭ ‬بنا‭ ‬يا‭ ‬صاح

حيّ‭ ‬الربيع‭ ‬حديقة‭ ‬الأرواحِ

الورد‭ ‬في‭ ‬سرر‭ ‬الغصون‭ ‬مُفَتّح

متقابل‭ ‬يثني‭ ‬على‭ ‬الفتّاحِ

وشقائق‭ ‬النسرين‭ ‬في‭ ‬أغصانها

كالدرِّ‭ ‬رُكِّب‭ ‬في‭ ‬صدور‭ ‬رماحِ

والياسمين‭ ‬لطيفه‭ ‬ونقيّه

كسريرة‭ ‬المتنزه‭ ‬المِسماحِ

والجُلَّنار‭ ‬دمٌ‭ ‬على‭ ‬أوراقِه

قاني‭ ‬الحروفِ،‭ ‬كخاتم‭ ‬السفاحِ

وكأنّ‭ ‬مخزون‭ ‬البنفسج‭ ‬ثاكل

يَلْقى‭ ‬القضاءَ‭ ‬بخشية‭ ‬وصلاحِ

إني‭ ‬لأذكر‭ ‬بالربيع‭ ‬وحُسنِه

عهد‭ ‬الشباب‭ ‬وطِرفِهِ‭ ‬الممراحِ

هل‭ ‬كان‭ ‬إلا‭ ‬زهرةً‭ ‬كزهورِهِ

عَجْلَ‭ ‬الفَناءِ‭ ‬لها‭ ‬بغيرِ‭ ‬جُناحِ؟

كسائر‭ ‬شعوب‭ ‬العالم،‭ ‬كان‭ ‬العربي‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬الربيع‭ ‬إلا‭ ‬الجمال‭ ‬والراحة‭ ‬والاستمتاع،‭ ‬حتى‭ ‬تمخضت‭ ‬يد‭ ‬الشياطين‭ ‬عن‭ ‬مؤامرة‭ ‬جديدة،‭ ‬فغرست‭ ‬أظفارها‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬وألبستها‭ ‬ثوب‭ ‬الدم‭ ‬والخسران،‭ ‬فأصبحنا‭ ‬لا‭ ‬ندري‭ ‬أي‭ ‬ثوبٍ‭ ‬لَبِسْنا،‭ ‬وبأي‭ ‬دم‭ ‬اصطبغنا‭! ‬أَلبِسْنا‭ ‬ثوب‭ ‬الحرية‭ ‬أم‭ ‬بدلة‭ ‬المسجون‭ ‬المحكوم‭ ‬عليه‭ ‬بالإعدام؟‭ ‬والدماء‭ ‬التي‭ ‬تجري،‭ ‬أهي‭ ‬من‭ ‬دم‭ ‬القاتل‭ ‬أم‭ ‬المقتول،‭ ‬هل‭ ‬هي‭ ‬دماء‭ ‬الإثم‭ ‬أم‭ ‬دماء‭ ‬البراءة؟‭ ‬ألا‭ ‬ليت‭ ‬شعري‭ ‬ماذا‭ ‬يريد‭ ‬الآثم‭ ‬من‭ ‬سفك‭ ‬دماء‭ ‬الأبرياء،‭ ‬ولمن‭ ‬سيكون‭ ‬النصر‭ ‬ولمن‭ ‬ستكون‭ ‬الهزيمة؟‭ ‬

وعلى‭ ‬شاكلة‭ ‬شعار‭ ‬‮«‬الربيع‮»‬‭ ‬الجميل،‭ ‬أُطلقت‭ ‬شعارات‭ ‬وعبارات‭ ‬أَغَرّت‭ ‬وأغْرَت‭ ‬البسطاء‭ ‬الذين‭ ‬ينتظرون‭ ‬نهاية‭ ‬‮«‬الحلم‭ ‬العربي‮»‬،‭ ‬فآثروا‭ ‬أن‭ ‬يناموا‭ ‬سنين‭ ‬عدداً،‭ ‬ليصبح‭ ‬الحلم‭ ‬العربي‭ ‬كابوساً‭ ‬مخيفاً‭. ‬حلمنا‭ ‬القديم‭ ‬بالوحدة‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية‭ ‬والحضن‭ ‬الذي‭ ‬سيضمنا‭ ‬كلنا‭ ‬في‭ ‬حِجره،‭ ‬قد‭ ‬استيقظ‭ ‬بعضنا‭ ‬منه،‭ ‬ولما‭ ‬تبين‭ ‬الواقع،‭ ‬فإذا‭ ‬بالوحدة‭ ‬صارت‭ ‬اختناقاً‭ ‬وافتراقاً‭ ‬وشكاةً‭ ‬وشتاتاً،‭ ‬والحضن‭ ‬غدا‭ ‬ساحة‭ ‬قتال‭ ‬يسفك‭ ‬العرب‭ ‬فيها‭ ‬دماء‭ ‬العرب،‭ ‬ويقتل‭ ‬المسلمون‭ ‬المسلمين،‭ ‬ونُرهِب‭ ‬أنفسنا‭ ‬بأنفسنا،‭ ‬وبتنا‭ ‬نطلب‭ ‬النجاة‭ ‬والعون‭ ‬واللجوء‭ ‬ممن‭ ‬كنا‭ ‬نعدهم‭ ‬خصوماً‭ ‬وأعداء‭ ‬ومستعمرين،‭ ‬وها‭ ‬نحن‭ ‬نخسر‭ ‬الإخوة‭ ‬والأصدقاء‭. ‬رحم‭ ‬الله‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي،‭ ‬فقد‭ ‬جعلوا‭ ‬من‭ ‬حديقة‭ ‬أرواحه‭ ‬مقبرة،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬استشرف‭ ‬المستقبل،‭ ‬فقال‭:‬

إلامَ‭ ‬الخُلْفُ‭ ‬بينكمُ؟‭ ‬إلاما؟

وهذي‭ ‬الضجة‭ ‬الكبرى‭ ‬علاما؟

وفيمَ‭ ‬يكيد‭ ‬بعضُكُمُ‭ ‬لبعضٍ

وتُبدون‭ ‬العداوة‭ ‬والخِصاما؟

وأين‭ ‬ذهبتمُ‭ ‬بالحقّ‭ ‬لما

ركبتم‭ ‬في‭ ‬قضيته‭ ‬الظلاما؟

تراميتم‭ ‬فقال‭ ‬الناس‭: ‬قومٌ

إلى‭ ‬الخذلان‭ ‬أمرهم‭ ‬ترامَى

فأُبْنا‭ ‬بالتخاذل‭ ‬والتلاحي

وآبَ‭ ‬بما‭ ‬ابتغى‭ ‬منا‭ ‬وراما

ويقصد‭ ‬بالتلاحي‭: ‬التلاعن‭ ‬وإلقاء‭ ‬اللوم‭ ‬على‭ ‬الآخر،‭ ‬أليس‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يفعله‭ ‬الكثيرون‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬السياسة‭ ‬والإعلام،‭ ‬ويتبناه‭ ‬السذّج‭ ‬فيتداولونه‭ ‬وينشرونه‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬حتى‭ ‬أصبح‭ ‬البذيء‭ ‬اللعّان‭ ‬الناعق‭ ‬نعيق‭ ‬الشؤم‭ ‬يتصدر‭ ‬قائمة‭ ‬‮«‬المغرّدين‮»‬‭ ‬بعدد‭ ‬المتابعين‭ ‬لنعيقه؟‭! ‬فسلاماً‭ ‬سلاماً‭ ‬عندما‭ ‬يصبح‭ ‬السفيه‭ ‬علاّمة،‭ ‬ويكون‭ ‬التافه‭ ‬إماما،‭ ‬ويصير‭ ‬خير‭ ‬العمل‭ ‬كلاما‭. ‬لقد‭ ‬انقلبت‭ ‬موازين‭ ‬كثيرة،‭ ‬وتبعثرت‭ ‬مفاهيم‭ ‬أساسية،‭ ‬لتصبح‭ ‬أكثر‭ ‬المصطلحات‭ ‬شيوعاً‭ ‬أكثرها‭ ‬مغالطة،‭ ‬لينقلب‭ ‬معنى‭ ‬الحرية‭ ‬إلى‭ ‬فوضى،‭ ‬ولا‭ ‬تُخنق‭ ‬الحرية‭ ‬بقفاز‭ ‬القمع‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬القفاز‭ ‬من‭ ‬الحرير،‭ ‬فيُفهم‭ ‬هذا‭ ‬القمع‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬أمن‭ ‬دولة،‭ ‬أو‭ ‬تتحول‭ ‬الثورة‭ ‬من‭ ‬تجديد‭ ‬إلى‭ ‬رجعية،‭ ‬فكل‭ ‬ثورة‭ ‬بلا‭ ‬أهداف‭ ‬واضحة‭ ‬وبرنامج‭ ‬عمل‭ ‬كامل‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬منظومة‭ ‬فكرية‭ ‬شاملة،‭ ‬لها‭ ‬قواعدها‭ ‬الواضحة‭ ‬سياسياً‭ ‬واقتصادياً‭ ‬واجتماعياً‭ ‬وتربوياً‭ ‬وصحياً،‭ ‬وما‭ ‬لم‭ ‬تأتِ‭ ‬بالأفضل،‭ ‬فهي‭ ‬ثورة‭ ‬فاشلة‭.‬

‭ ‬وترى‭ ‬وتسمع‭ ‬مشاهد‭ ‬وصيحات‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬وهناك،‭ ‬فلا‭ ‬ترى‭ ‬إلا‭ ‬سراباً‭ ‬ولا‭ ‬تسمع‭ ‬إلا‭ ‬نشازاً،‭ ‬وإن‭ ‬تتبعت‭ ‬مصدرها‭ ‬يأتيك‭ ‬الشكّ‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬جهة،‭ ‬فبعضها‭ ‬عميل‭ ‬والآخر‭ ‬يتقيأ‭ ‬صيحات‭ ‬الثورة‭ ‬من‭ ‬الشبع‭. ‬كل‭ ‬ما‭ ‬نخشاه‭ ‬على‭ ‬الجيل‭ ‬القادم‭ ‬هو‭ ‬انغماسه‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬افتراضي‭ ‬خيالي،‭ ‬عالم‭ ‬يُبعد‭ ‬عقله‭ ‬وتفكيره‭ ‬عن‭ ‬عالمه‭ ‬الحقيقي،‭ ‬ليُحلّق‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يحدد‭ ‬كيفية‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬الواقع،‭ ‬وما‭ ‬أسهل‭ ‬التيه‭ ‬عند‭ ‬التجرد‭ ‬من‭ ‬عاطفة‭ ‬الانتماء‭. ‬

إنّ‭ ‬إصلاح‭ ‬الدولة‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬إلا‭ ‬بإصلاح‭ ‬أفرادها،‭ ‬فهُم‭ ‬الثروة‭ ‬الحقيقية‭ ‬لبنائها‭ ‬واستمراريتها‭ ‬ونجاح‭ ‬مسيرتها،‭ ‬فمتى‭ ‬ما‭ ‬توافرت‭ ‬سبل‭ ‬الحياة‭ ‬الكريمة‭ ‬لهم‭ ‬زاد‭ ‬عطاؤهم‭ ‬لبلادهم،‭ ‬وكرامة‭ ‬الأفراد‭ ‬في‭ ‬أوطانــــهم‭ ‬لا‭ ‬تأتي‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬الإحساس‭ ‬بالأمن‭ ‬والاستقرار،‭ ‬والأمن‭ ‬لا‭ ‬يستتب‭ ‬إلا‭ ‬بسيادة‭ ‬القانون،‭ ‬وما‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬القوانيـــــن‭ ‬واضحة‭ ‬وصريحة‭ ‬ومفهومة‭ ‬لدى‭ ‬المواطنين،‭ ‬فإن‭ ‬زيادة‭ ‬ثغراتها‭ ‬واردة‭ ‬والتحايل‭ ‬على‭ ‬النصوص‭ ‬سوف‭ ‬يأتي‭ ‬لا‭ ‬محالة‭ ‬من‭ ‬المجرمين‭ ‬واللصوص،‭ ‬وكلما‭ ‬زادت‭ ‬الثغرات‭ ‬زادت‭ ‬العثرات،‭ ‬مما‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تـــنازع‭ ‬وتضــــارب‭ ‬وفوضــــى‭ ‬في‭ ‬سنّ‭ ‬التشريعات‭. ‬

ولابد‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نأخذ‭ ‬بعين‭ ‬الاعتبار‭ ‬أنّ‭ ‬العمل‭ ‬أساس‭ ‬رقي‭ ‬الدول،‭ ‬حيث‭ ‬يقاس‭ ‬تقدم‭ ‬الدولة‭ ‬بإنتاج‭ ‬الفرد‭ ‬فيها،‭ ‬وكلما‭ ‬زادت‭ ‬العمالة‭ ‬الوافدة‭ ‬عن‭ ‬العمالة‭ ‬الوطنية،‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬مؤشراً‭ ‬سيئاً‭ ‬لابدّ‭ ‬لقيادة‭ ‬الدولة‭ ‬من‭ ‬معالجته‭. ‬لذا،‭ ‬تخطط‭ ‬الدول‭ ‬المتقدمة‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬نسبة‭ ‬العمالة‭ ‬الوافدة‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يخلّ‭ ‬بالتركيبة‭ ‬السكانية،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬توفير‭ ‬الرعاية‭ ‬السكنية‭ ‬والصحية‭ ‬والتعليمية‭. ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬نأخذ‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي‭ ‬مثلاً،‭ ‬فعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬فتح‭ ‬الحدود‭ ‬السياسية‭ ‬فيما‭ ‬بينها،‭ ‬إلا‭ ‬أنّ‭ ‬المواطنين‭ ‬العاملين‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬دولة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الدول‭ ‬يشكّلون‭ ‬النسبة‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬العمل‭ ‬عندها،‭ ‬مما‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬إعطاء‭ ‬المواطن‭ ‬الأولوية‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬بدولته‭ ‬ومرافقها‭ ‬العامة‭ ‬والخاصة‭. ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬يعزز‭ ‬ولاء‭ ‬الدولة‭ ‬لمواطنيها‭ ‬ليعكس‭ ‬ولاء‭ ‬المواطن‭ ‬لدولته،‭ ‬فإن‭ ‬قلّت‭ ‬فرص‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬الدولة،‭ ‬بحث‭ ‬مواطنوها‭ ‬عن‭ ‬فرص‭ ‬أخرى‭ ‬خارج‭ ‬بلادهم‭. ‬

واستناداً‭ ‬إلى‭ ‬تقارير‭ ‬جامعة‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬والبنك‭ ‬الدولي،‭ ‬تأتي‭ ‬دول‭ ‬شريط‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط‭ ‬لتشكل‭ ‬أكبر‭ ‬نسبة‭ ‬هجرة‭ ‬لمواطنيها‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬فقبل‭ ‬أحداث‭ ‬الصراع‭ ‬في‭ ‬سورية‭ ‬كانت‭ ‬مصر‭ ‬والمغرب‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬هاجر‭ ‬منها‭ ‬مواطنوها،‭ ‬أما‭ ‬لبنان‭ ‬فتصل‭ ‬نسبة‭ ‬المهاجرين‭ ‬من‭ ‬مواطنيه‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬40‭ ‬في‭ ‬المائة،‭ ‬ثم‭ ‬تأتي‭ ‬الجزائر‭ ‬فليبيا‭. ‬ووفقاً‭ ‬لما‭ ‬يذكره‭ ‬التاريخ،‭ ‬فإنّ‭ ‬الهجرات‭ ‬العربية‭ ‬الكبرى‭ ‬جاءت‭ ‬من‭ ‬اليمن،‭ ‬ويشهد‭ ‬التاريخ‭ ‬الحديث‭ ‬على‭ ‬هجرة‭ ‬يمنية‭ ‬تقدر‭ ‬بالملايين‭ ‬إلى‭ ‬بريطانيا‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬مناجم‭ ‬الفحم‭ ‬والحديد‭ ‬البريطانية‭ ‬والمصانع‭ ‬الأمريكية‭.‬

نحن‭ ‬أمة‭ ‬مثقــفة‭ ‬ذات‭ ‬ماضٍ‭ ‬جزل،‭ ‬وديـــن‭ ‬يحث‭ ‬على‭ ‬العمل،‭ ‬ومبادئ‭ ‬تعيب‭ ‬الكسل‭... ‬آن‭ ‬الأوان‭ ‬أن‭ ‬نترك‭ ‬الذَنْب‭ ‬وندرك‭ ‬الرّكْب،‭ ‬ونهجر‭ ‬اللعـــــن‭ ‬بـــينــــنا‭ ‬والــسبّ،‭ ‬لنستظلّ‭ ‬بالسلام‭ ‬والحبّ‭ ‬