الذكرى السبعون للأرض السليبة... فلسطين الحبيبة

«مذكرات القادة» تأريخ للأحداث السياسية، ولكن من نوع مختلف، يُسَجِّل فيها القائد رؤيته من منظور أكثر اتساعاً وأدقّ تفصيلاً إذا ما قارناه بالأديب أو المؤرخ، وأقلّ عاطفة مقارنة بالروائي أو الشاعر. يستطيع من أراد توثيقاً لأحداث مضت أن يستند إلى المذكرات كمصدر أساسي في تقييم مرحلة تاريخية، شرط مقارنة النَّصّ والرجوع إلى معرفة السيرة الذاتية والعقيدة السياسية للمؤلف، خاصة أنّ مثل هذا التوثيق لا يخلو من طغيان الهوى وعصف الميول، فالمعاصرة للحدث وتسجيله لا يعتبران تأريخاً، وإنما يعتبران ذِكْراً وتسجيلاً وتوثيقاً، فتعالوا نتلو عليكم من بعضها ذِكْراً.
جواهر لال نهرو، واحد من كبار قادة العالم في القرن العشرين، وأحد المؤسسين لكتلة عدم الانحياز، عندما كان العالم بين كتلتين: كتلة شرقية، يمثلها الاتحاد السوفييتي «السابق» بنظامه الاشتراكي، وكتلة غربية تدور في فلك الولايات المتحدة الأمريكية ونظامها الرأسمالي. تعتبر سياسة نهرو امتداداً لسياسة المهاتما غاندي السلمية، فهو أحد أبرز تلاميذه في السياسة، وتولى مناصب عليا في الحكومة الهندية، ليغدو رئيساً لوزراء الهند مرات عدة. بدأ نهرو بكتابة «لمحات من تاريخ العالم» في رأس سنة 1931 وانتهى من كتابته في 9 أغسطس عام 1933، وكانت كتاباته على شكل رسائل إلى ابنته أنديرا، (أنديرا غاندي) التي غدت رئيسة وزراء الهند في ما بعد، ليقول لها في رسالته الأولى:
«فِكْري يَشّت حين أفكر فيما عساه أن يجري خارج السجن، ما الذي يفعله غيري؟ وما الذي كان يمكن أن أفعله لو كنت طليقاً مثله؟ إنني مشغول بالحاضر والمستقبل لدرجة لا تدع لي مجالاً للتفكير بالماضي».
وقد ترجم الأستاذ أحمد بهاء الدين، الرئيس الثاني لتحرير مجلة العربي، مجموعة كبيرة من تلك الرسائل وأصدرها في كتاب بعنوان «الثورات الكبرى». وعلى الرغم من أنّ الكتاب المطبوع الذي بين أيدينا، والذي استندنا إليه في النصوص المنقولة في هذه المقالة، قد نقل حرفياً ترجمة الأستاذ أحمد بهاء الدين، فإنّ الناشر لم يشر إلى ذلك من قريب أو بعيد، حيث اكتفى بالإشارة إلى أنّ من نقل الكتاب إلى العربية «لجنة من الأساتذة الجامعيين»! وهذا ما لا يتفق والأمانة العلمية.
كثير من رسائل نهرو كانت عن العالم العربي، يشرح فيها بعض الظروف السياسية آنذاك. وقد استوقفتني رسالته التي كتبها في 29 مايو 1933، تلك التي يتحدث فيها عن فلسطين:
تقع فلسطين إلى الجنوب من سورية، وتحكمها بريطانيا المنتدبة من عصبة الأمم، وهي بلد صغير لا يزيد عدد سكانه على مليون نسمة، ولكنها بلدة مهمة جداً بالنظر لتاريخها وما تضمه من أماكن يقدسها اليهود والمسيحيون والمسلمون. ومعظم سكانها عرب مسلمون يطالبون بالحرية والاتحاد مع سورية. ولكن السياسة الإنجليزية خلقت من اليهود الأقلية مشكلة، وساند اليهودَ الإنجليزُ في معارضة طلبات العرب خوفاً من أن يحكمهم هؤلاء. وبدأ كل جانب يشد من جهة، فلم يكن هناك بد من وقوع الصراع. يمتاز العرب بكثرة عددهم، ويمتاز اليهود بمواردهم المالية الضخمة، وتأييد المنظمات اليهودية العالمية. وكانت إنجلترا تضرب اليهود بالعرب، وتقول إنه لابدّ من وجودها هناك لحفظ السلام بينهما. إنّها اللعبة نفسها التي نراها في سائر الأقطار التي ترزح تحت النير الاستعماري. أما الغريب فيها فهي أنها تتكرر وتعاد دائماً... يُسَمون القدس «صهيون» أو الأرض الموعودة، ومنها كلمة «الصهيونية» التي تعني نداء الماضي للعودة إلى القدس. اتخذت هذه الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر طابعاً استعمارياً، وهاجر كثير من اليهود واستوطنوا فلسطين، وبدأوا في إحياء اللغة العبرية... حدثت في أغسطس 1929 اضطرابات بين العرب واليهود... وبعد أن قُمعت تلك الاضطرابات، استمر الصراع بين الفريقين بأشكال مختلفة أخرى. ومن المدهش حقاً أنّ جميع المسيحيين كانوا يؤيدون المسلمين تأييداً تاماً، واشتركوا معهم في الإضرابات والتظاهرات. وهذا دليل على أنّ المشكلة الحقيقية ليست دينية، بل هي صراع اقتصادي بين قادمين ومقيمين. وقد انتقدت عصبة الأمم المتحدة الإدارة البريطانية على فشلها في القيام بواجباتها التي انتدبت من أجلها، وخصوصاً أنها فشلت في منع حدوث الاضطرابات في سنة 1929, وقد حاول العرب التعاون معهم (أي اليهود) في سبيل الكفاح من أجل الحرية وتأليف حكومة ديمقراطية، ولكنهم رفضوا ذلك، وفضلوا أن يتعاونوا مع الدولة الحاكمة الأجنبية، وبذلك عرقلوا سعي أغلبية الشعب في الحصول على الحرية. فليس من المستغرب أبداً أن يقاوم العرب، مسلموهم ومسيحيوهم، اليهود.
(جواهر لال نهرو: لمحات من تاريخ العالم، ط1، يونيو 1957).
ومن رسائل نهرو، ننتقل إلى مذكرات أحمد الشقيري (عاش بين 1908 و1980)، الذي عمل محامياً ثم أصبح أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1964. عاصر الشقيري الانتداب البريطاني لفلسطين، وعاش مع اليهود العرب، ورأى هجرة اليهود الوافدين من كل مكان يستوطنون فلسطين. ومع مشارف الحرب العالمية الثانية يتذكر الشقيري الأحداث اليومية في عام 1942، فيقول في مذكراته:
وكنت ذات يوم في طبريا لأترافع في إحدى القضايا أمام المحكمة، وفي طبريا جالية يهودية كبيرة، بعضها من المستوطنين القدامى وبعضها من المهاجرين الجدد، ودعيت لتناول الغداء في مطعم شاطئ البحيرة، يملكه ويديره أحد اليهود القدامى... وجلسنا على مائدة الطعام، وأخذ كوهين صاحب المطعم يقدم لنا أطباق السمك على أشهى ما تكون جودة وطعماً، وكان يبالغ بالعناية بي. ولاحظت أنّ كوهين كان يضع الأطباق ويرفعها والدموع ملء عينيه. فقلت له: خيراً إن شاء الله، لماذا تبكي يا كوهين؟ قال: أبكي على حالي يا سيدي. قلت: لماذا؟ ما جرى؟ قال: أنا يا سيدي لست صهيونياً، أنا يهودي عربي، وعائلتي تقيم في طبريا منذ أربعمائة سنة، وقبلها كانت عائلتي في دمشق لثلاثمائة سنة – وخنقته العبرات وتوقف كوهين عن الكلام -. قلت: وماذا بعد ذلك؟ تكلم يا كوهين. قال: الألمان أصبحوا قريبين من فلسطين، وإخواننا المسلمون قد اتفقوا علينا. قلت له: كيف اتفقوا عليكم؟ قال: لقد اجتمعوا في هذا الأسبوع وقرروا أن يذبحونا، حينما يصل رومل، ولقد وزعوا بيوتنا وأملاكنا على بعضهم بعضاً، وهذا المطعم الذي أنشأته بدم قلبي قد خصصوه لآل الطبري. قلت له: لا تصدق هذا الكلام، وآل الطبري لا يعتدون عليك ولا يطمعون في المطعم، ولا يريدون شراً بصاحب المطعم. قال: وحياة ديني، وحياة موسى ومحمد هذا صحيح. قلت له: وماذا تريدني أن أفعل. قال: يا سيدي، الصهيونيون اذبحوهم وخذوا بيوتهم وأملاكهم، أما نحن اليهود العرب فاتركونا... نحن عرب، مثلنا مثلكم. قلت له: هوّن عليك، بعد الغداء تأتي معنا في السيارة... ذهبنا بعد الغداء، الضيوف وكوهين وأنا، إلى ديوان آل الطبري, وسردت لآل الطبري ما حدثني به كوهين، وناشدتهم أن يكون اليهود في جوارهم وحماهم حسب التقاليد العربية، وخاصة القدامى منهم، فلا يذبحونهم ولا يأخذون أملاكهم وبيوتهم، إذا وصلت حملة رومل إلى فلسطين وإلى طبريا.
وقد تعاهدنا على ذلك، وخرج كوهين من الديوان وهو يكفكف دموعه ويدعو لي ولآل الطبري بطول العمر، ولا ينفك يتمتم: الله يعمر بيوتكم ويطول أعماركم. وكرت الأيام والليالي، وأطل القدر العجيب، وما أكثر سخرياته في قضية فلسطين. وجاء عام 1948، وقام اليهود في طبريا بحملات مسلحة على المسلمين والمسيحيين، العُزّل من السلاح، وهرب آل الطبري مُخَلفين وراءهم قصورهم الفخمة ينهبها اليهود، ومزارعهم اليانعة يسلبها اليهود، وكان في طليعة العصابات اليهودية المسلحة اليهود القدامى - اليهود العرب، كوهين وأضرابه وأمثاله, وكان من عجائب القدر أن تكون هجرة آل الطبري بعد كارثة 1948 إلى مناطق الغور في الأردن، وفي الجبال السورية المشرفة على طبريا... وهم يرون كل صباح ومساء، عبر هذه السنين بيوتهم ومزارعهم على مرمى البصر، فلا يستطيعون الدنو منها، وكوهين وأضرابه وأمثاله ناعمون فيها فاكهون. هذه هي الصهيونية بلحمها، وهذه هي إسرائيل بدمها، وهكذا كانت قضية فلسطين تقف على عتبات القدر أثناء الحرب العالمية الثانية، ولم يطل الزمن كثيراً، فقد وضعت الحرب أوزارها، وانتصرت دول الحلفاء على دولتي المحور، وسارت القضية الفلسطينية ومعها القضايا العربية في فَلَك آخر.
(مذكرات أحمد الشقيري، ج1، ط1، دار العودة، بيروت 1973).
سبعون عاماً من الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين، تقلب أعزة قومها أذلة، وتسلب كلّ أرض عربية غصباً. عصابة مجرمة أسست دولة، فماذا ترتجي من قوانين دولة المجرمين؟! سبعون عاماً من التصريحات التي تستنكر وترفض وتشجب تَمَدُّد الأيادي النجسة على الأرض والعرض، حتى طالت فغالت من فلسطين إلى الجولان وسيناء وجنوب لبنان. ومهما تغيرت المسميات، وزعم الطغاة بأنّ الكيان الصهيوني صار دولة، فلن يغير التاريخ سطوره، وسيمحو كلمات من حاول تزويره، فالرمل يزول عن الجبل وتبقى صخوره. وسنُعَلم أبناءنا أنّ كل أرض فلسطين للفلسطينيين، وأنّ القدس لكل العرب... لنا، وسنُذكّر الأجيال بأنّ عودة فلسطين إلى أهلها غاية المنى. السلام عليكم أهل فلسطين, وسلام على الراحل محمود درويش وهو مَن قال:
أيها المارّون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا
واسرقوا ما شئتمُ من صوَرٍ، كي تعرفوا
أنّكم لن تعرفوا
كيف يبني حَجَرٌ من أرضنا سَقف السماء
أيها المارّون بين الكلمات العابرة
منكم السَيْفُ ومنّا دَمُنا
منكم الفولاذُ والنار ومنا لَحْمُنا
منكم دّبّابةٌ أخرى ومنا حَجَرُ
منكم قنبلة الغاز ومنا المطرُ
وعلينا ما عليكم من سماءٍ وهواء
فخذوا حصّتكم من دَمِنا وانصرفوا
وادخلوا حفلَ عشاءٍ راقصٍ وانصرفوا
فعلينا نحن أن نحرس وَرد الشهداء
وعلينا نحن أن نحيا كما نحن نشاء
أيها المارّون بين الكلمات العابرة
كدّسوا أوهامكم في حفرةٍ وانصرفوا
كالغُبارِ المرّ، مرّوا أينما شئتم ولكن
لا تمروا بيننا كالحشرات الطائرة
ولنا قمح نربيه ونسقيه ندى أجسادنا
فلنا ما ليس يرضيكم، لنا المستقبل
ولنا في أرضنا ما نعمل
أيها المارّون بين الكلمات العابرة
كدّسوا أوهامكم في حفرة وانصرفوا
وأعيدوا عقرب الوقت إلى شرعية العِجْلِ المقدس
أو إلى توقيت موسيقى المُسَدّس
فلنا ما ليس يرضيكم هنا، فانصرفوا
ولنا ما ليس فيكم، وطن ينزف شعباً ينزف
وَطَنَا يصلح للنسيان أو للذاكرة
أيها المارّون بين الكلمات العابرة
آن أن تنصرفوا
وتُقيموا أينما شئتم ولكن لا تُقيموا بيننا
آن أن تنصرفوا
وتموتوا أينما شئتم ولكن لا تموتوا بيننا
فلنا في أرضنا ما نعمل
ولنا الماضي هنا
ولنا صوت الحياة الأوّل
ولنا الحاضر والحاضر والمستقبَل
ولنا الدنيا هنا
والآخرة
فاخرجوا من أرضنا
من برنا، من بحْرِنا
من قمْحِنا، من مِلْحِنا، من جُرحِنا
من كلّ شيء
واخرجوا من مفردات الذاكرة
أيها المارّون بين الكلمات العابرة .