الذكرى السبعون للأرض السليبة... فلسطين الحبيبة

الذكرى السبعون للأرض السليبة... فلسطين الحبيبة

‮«‬مذكرات‭ ‬القادة‮»‬‭ ‬تأريخ‭ ‬للأحداث‭ ‬السياسية،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬مختلف،‭ ‬يُسَجِّل‭ ‬فيها‭ ‬القائد‭ ‬رؤيته‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬أكثر‭ ‬اتساعاً‭ ‬وأدقّ‭ ‬تفصيلاً‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬قارناه‭ ‬بالأديب‭ ‬أو‭ ‬المؤرخ،‭ ‬وأقلّ‭ ‬عاطفة‭ ‬مقارنة‭ ‬بالروائي‭ ‬أو‭ ‬الشاعر‭. ‬يستطيع‭ ‬من‭ ‬أراد‭ ‬توثيقاً‭ ‬لأحداث‭ ‬مضت‭ ‬أن‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬المذكرات‭ ‬كمصدر‭ ‬أساسي‭ ‬في‭ ‬تقييم‭ ‬مرحلة‭ ‬تاريخية،‭ ‬شرط‭ ‬مقارنة‭ ‬النَّصّ‭ ‬والرجوع‭ ‬إلى‭ ‬معرفة‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬والعقيدة‭ ‬السياسية‭ ‬للمؤلف،‭ ‬خاصة‭ ‬أنّ‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬التوثيق‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬طغيان‭ ‬الهوى‭ ‬وعصف‭ ‬الميول،‭ ‬فالمعاصرة‭ ‬للحدث‭ ‬وتسجيله‭ ‬لا‭ ‬يعتبران‭ ‬تأريخاً،‭ ‬وإنما‭ ‬يعتبران‭ ‬ذِكْراً‭ ‬وتسجيلاً‭ ‬وتوثيقاً،‭ ‬فتعالوا‭ ‬نتلو‭ ‬عليكم‭ ‬من‭ ‬بعضها‭ ‬ذِكْراً‭.‬

جواهر‭ ‬لال‭ ‬نهرو،‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬قادة‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وأحد‭ ‬المؤسسين‭ ‬لكتلة‭ ‬عدم‭ ‬الانحياز،‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬العالم‭ ‬بين‭ ‬كتلتين‭: ‬كتلة‭ ‬شرقية،‭ ‬يمثلها‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬‮«‬السابق‮»‬‭ ‬بنظامه‭ ‬الاشتراكي،‭ ‬وكتلة‭ ‬غربية‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬فلك‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬ونظامها‭ ‬الرأسمالي‭. ‬تعتبر‭ ‬سياسة‭ ‬نهرو‭ ‬امتداداً‭ ‬لسياسة‭ ‬المهاتما‭ ‬غاندي‭ ‬السلمية،‭ ‬فهو‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬تلاميذه‭ ‬في‭ ‬السياسة،‭ ‬وتولى‭ ‬مناصب‭ ‬عليا‭ ‬في‭ ‬الحكومة‭ ‬الهندية،‭ ‬ليغدو‭ ‬رئيساً‭ ‬لوزراء‭ ‬الهند‭ ‬مرات‭ ‬عدة‭. ‬بدأ‭ ‬نهرو‭ ‬بكتابة‭ ‬‮«‬لمحات‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬العالم‮»‬‭ ‬في‭ ‬رأس‭ ‬سنة‭ ‬1931‭ ‬وانتهى‭ ‬من‭ ‬كتابته‭ ‬في‭ ‬9‭ ‬أغسطس‭ ‬عام‭ ‬1933،‭ ‬وكانت‭ ‬كتاباته‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬رسائل‭ ‬إلى‭ ‬ابنته‭ ‬أنديرا،‭ (‬أنديرا‭ ‬غاندي‭) ‬التي‭ ‬غدت‭ ‬رئيسة‭ ‬وزراء‭ ‬الهند‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد،‭ ‬ليقول‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬رسالته‭ ‬الأولى‭:‬‭ ‬

‮«‬فِكْري‭ ‬يَشّت‭ ‬حين‭ ‬أفكر‭ ‬فيما‭ ‬عساه‭ ‬أن‭ ‬يجري‭ ‬خارج‭ ‬السجن،‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يفعله‭ ‬غيري؟‭ ‬وما‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬أفعله‭ ‬لو‭ ‬كنت‭ ‬طليقاً‭ ‬مثله؟‭ ‬إنني‭ ‬مشغول‭ ‬بالحاضر‭ ‬والمستقبل‭ ‬لدرجة‭ ‬لا‭ ‬تدع‭ ‬لي‭ ‬مجالاً‭ ‬للتفكير‭ ‬بالماضي‮»‬‭.‬

وقد‭ ‬ترجم‭ ‬الأستاذ‭ ‬أحمد‭ ‬بهاء‭ ‬الدين،‭ ‬الرئيس‭ ‬الثاني‭ ‬لتحرير‭ ‬مجلة‭ ‬العربي،‭ ‬مجموعة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الرسائل‭ ‬وأصدرها‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬الثورات‭ ‬الكبرى‮»‬‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنّ‭ ‬الكتاب‭ ‬المطبوع‭ ‬الذي‭ ‬بين‭ ‬أيدينا،‭ ‬والذي‭ ‬استندنا‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬النصوص‭ ‬المنقولة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المقالة،‭ ‬قد‭ ‬نقل‭ ‬حرفياً‭ ‬ترجمة‭ ‬الأستاذ‭ ‬أحمد‭ ‬بهاء‭ ‬الدين،‭ ‬فإنّ‭ ‬الناشر‭ ‬لم‭ ‬يشر‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬قريب‭ ‬أو‭ ‬بعيد،‭ ‬حيث‭ ‬اكتفى‭ ‬بالإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬من‭ ‬نقل‭ ‬الكتاب‭ ‬إلى‭ ‬العربية‭ ‬‮«‬لجنة‭ ‬من‭ ‬الأساتذة‭ ‬الجامعيين‮»‬‭! ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يتفق‭ ‬والأمانة‭ ‬العلمية‭.‬

كثير‭ ‬من‭ ‬رسائل‭ ‬نهرو‭ ‬كانت‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬يشرح‭ ‬فيها‭ ‬بعض‭ ‬الظروف‭ ‬السياسية‭ ‬آنذاك‭. ‬وقد‭ ‬استوقفتني‭ ‬رسالته‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬في‭ ‬29‭ ‬مايو‭ ‬1933،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬يتحدث‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬فلسطين‭:‬

تقع‭ ‬فلسطين‭ ‬إلى‭ ‬الجنوب‭ ‬من‭ ‬سورية،‭ ‬وتحكمها‭ ‬بريطانيا‭ ‬المنتدبة‭ ‬من‭ ‬عصبة‭ ‬الأمم،‭ ‬وهي‭ ‬بلد‭ ‬صغير‭ ‬لا‭ ‬يزيد‭ ‬عدد‭ ‬سكانه‭ ‬على‭ ‬مليون‭ ‬نسمة،‭ ‬ولكنها‭ ‬بلدة‭ ‬مهمة‭ ‬جداً‭ ‬بالنظر‭ ‬لتاريخها‭ ‬وما‭ ‬تضمه‭ ‬من‭ ‬أماكن‭ ‬يقدسها‭ ‬اليهود‭ ‬والمسيحيون‭ ‬والمسلمون‭. ‬ومعظم‭ ‬سكانها‭ ‬عرب‭ ‬مسلمون‭ ‬يطالبون‭ ‬بالحرية‭ ‬والاتحاد‭ ‬مع‭ ‬سورية‭. ‬ولكن‭ ‬السياسة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬خلقت‭ ‬من‭ ‬اليهود‭ ‬الأقلية‭ ‬مشكلة،‭ ‬وساند‭ ‬اليهودَ‭ ‬الإنجليزُ‭ ‬في‭ ‬معارضة‭ ‬طلبات‭ ‬العرب‭ ‬خوفاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يحكمهم‭ ‬هؤلاء‭. ‬وبدأ‭ ‬كل‭ ‬جانب‭ ‬يشد‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬وقوع‭ ‬الصراع‭. ‬يمتاز‭ ‬العرب‭ ‬بكثرة‭ ‬عددهم،‭ ‬ويمتاز‭ ‬اليهود‭ ‬بمواردهم‭ ‬المالية‭ ‬الضخمة،‭ ‬وتأييد‭ ‬المنظمات‭ ‬اليهودية‭ ‬العالمية‭. ‬وكانت‭ ‬إنجلترا‭ ‬تضرب‭ ‬اليهود‭ ‬بالعرب،‭ ‬وتقول‭ ‬إنه‭ ‬لابدّ‭ ‬من‭ ‬وجودها‭ ‬هناك‭ ‬لحفظ‭ ‬السلام‭ ‬بينهما‭. ‬إنّها‭ ‬اللعبة‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬نراها‭ ‬في‭ ‬سائر‭ ‬الأقطار‭ ‬التي‭ ‬ترزح‭ ‬تحت‭ ‬النير‭ ‬الاستعماري‭. ‬أما‭ ‬الغريب‭ ‬فيها‭ ‬فهي‭ ‬أنها‭ ‬تتكرر‭ ‬وتعاد‭ ‬دائماً‭... ‬يُسَمون‭ ‬القدس‭ ‬‮«‬صهيون‮»‬‭ ‬أو‭ ‬الأرض‭ ‬الموعودة،‭ ‬ومنها‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬الصهيونية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تعني‭ ‬نداء‭ ‬الماضي‭ ‬للعودة‭ ‬إلى‭ ‬القدس‭. ‬اتخذت‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬الصهيونية‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬طابعاً‭ ‬استعمارياً،‭ ‬وهاجر‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬اليهود‭ ‬واستوطنوا‭ ‬فلسطين،‭ ‬وبدأوا‭ ‬في‭ ‬إحياء‭ ‬اللغة‭ ‬العبرية‭... ‬حدثت‭ ‬في‭ ‬أغسطس‭ ‬1929‭ ‬اضطرابات‭ ‬بين‭ ‬العرب‭ ‬واليهود‭... ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬قُمعت‭ ‬تلك‭ ‬الاضطرابات،‭ ‬استمر‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الفريقين‭ ‬بأشكال‭ ‬مختلفة‭ ‬أخرى‭. ‬ومن‭ ‬المدهش‭ ‬حقاً‭ ‬أنّ‭ ‬جميع‭ ‬المسيحيين‭ ‬كانوا‭ ‬يؤيدون‭ ‬المسلمين‭ ‬تأييداً‭ ‬تاماً،‭ ‬واشتركوا‭ ‬معهم‭ ‬في‭ ‬الإضرابات‭ ‬والتظاهرات‭. ‬وهذا‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬المشكلة‭ ‬الحقيقية‭ ‬ليست‭ ‬دينية،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬صراع‭ ‬اقتصادي‭ ‬بين‭ ‬قادمين‭ ‬ومقيمين‭. ‬وقد‭ ‬انتقدت‭ ‬عصبة‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬الإدارة‭ ‬البريطانية‭ ‬على‭ ‬فشلها‭ ‬في‭ ‬القيام‭ ‬بواجباتها‭ ‬التي‭ ‬انتدبت‭ ‬من‭ ‬أجلها،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬أنها‭ ‬فشلت‭ ‬في‭ ‬منع‭ ‬حدوث‭ ‬الاضطرابات‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1929‭, ‬وقد‭ ‬حاول‭ ‬العرب‭ ‬التعاون‭ ‬معهم‭ (‬أي‭ ‬اليهود‭) ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الكفاح‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحرية‭ ‬وتأليف‭ ‬حكومة‭ ‬ديمقراطية،‭ ‬ولكنهم‭ ‬رفضوا‭ ‬ذلك،‭ ‬وفضلوا‭ ‬أن‭ ‬يتعاونوا‭ ‬مع‭ ‬الدولة‭ ‬الحاكمة‭ ‬الأجنبية،‭ ‬وبذلك‭ ‬عرقلوا‭ ‬سعي‭ ‬أغلبية‭ ‬الشعب‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الحرية‭. ‬فليس‭ ‬من‭ ‬المستغرب‭ ‬أبداً‭ ‬أن‭ ‬يقاوم‭ ‬العرب،‭ ‬مسلموهم‭ ‬ومسيحيوهم،‭ ‬اليهود‭. ‬

‭(‬جواهر‭ ‬لال‭ ‬نهرو‭: ‬لمحات‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬العالم،‭ ‬ط1،‭ ‬يونيو‭ ‬1957‭).‬

ومن‭ ‬رسائل‭ ‬نهرو،‭ ‬ننتقل‭ ‬إلى‭ ‬مذكرات‭ ‬أحمد‭ ‬الشقيري‭ (‬عاش‭ ‬بين‭ ‬1908‭ ‬و1980‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬عمل‭ ‬محامياً‭ ‬ثم‭ ‬أصبح‭ ‬أول‭ ‬رئيس‭ ‬لمنظمة‭ ‬التحرير‭ ‬الفلسطينية‭ ‬عام‭ ‬1964‭. ‬عاصر‭ ‬الشقيري‭ ‬الانتداب‭ ‬البريطاني‭ ‬لفلسطين،‭ ‬وعاش‭ ‬مع‭ ‬اليهود‭ ‬العرب،‭ ‬ورأى‭ ‬هجرة‭ ‬اليهود‭ ‬الوافدين‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬يستوطنون‭ ‬فلسطين‭. ‬ومع‭ ‬مشارف‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬يتذكر‭ ‬الشقيري‭ ‬الأحداث‭ ‬اليومية‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1942،‭ ‬فيقول‭ ‬في‭ ‬مذكراته‭:‬

وكنت‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬في‭ ‬طبريا‭ ‬لأترافع‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬القضايا‭ ‬أمام‭ ‬المحكمة،‭ ‬وفي‭ ‬طبريا‭ ‬جالية‭ ‬يهودية‭ ‬كبيرة،‭ ‬بعضها‭ ‬من‭ ‬المستوطنين‭ ‬القدامى‭ ‬وبعضها‭ ‬من‭ ‬المهاجرين‭ ‬الجدد،‭ ‬ودعيت‭ ‬لتناول‭ ‬الغداء‭ ‬في‭ ‬مطعم‭ ‬شاطئ‭ ‬البحيرة،‭ ‬يملكه‭ ‬ويديره‭ ‬أحد‭ ‬اليهود‭ ‬القدامى‭... ‬وجلسنا‭ ‬على‭ ‬مائدة‭ ‬الطعام،‭ ‬وأخذ‭ ‬كوهين‭ ‬صاحب‭ ‬المطعم‭ ‬يقدم‭ ‬لنا‭ ‬أطباق‭ ‬السمك‭ ‬على‭ ‬أشهى‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬جودة‭ ‬وطعماً،‭ ‬وكان‭ ‬يبالغ‭ ‬بالعناية‭ ‬بي‭. ‬ولاحظت‭ ‬أنّ‭ ‬كوهين‭ ‬كان‭ ‬يضع‭ ‬الأطباق‭ ‬ويرفعها‭ ‬والدموع‭ ‬ملء‭ ‬عينيه‭. ‬فقلت‭ ‬له‭: ‬خيراً‭ ‬إن‭ ‬شاء‭ ‬الله،‭ ‬لماذا‭ ‬تبكي‭ ‬يا‭ ‬كوهين؟‭ ‬قال‭: ‬أبكي‭ ‬على‭ ‬حالي‭ ‬يا‭ ‬سيدي‭. ‬قلت‭: ‬لماذا؟‭ ‬ما‭ ‬جرى؟‭ ‬قال‭: ‬أنا‭ ‬يا‭ ‬سيدي‭ ‬لست‭ ‬صهيونياً،‭ ‬أنا‭ ‬يهودي‭ ‬عربي،‭ ‬وعائلتي‭ ‬تقيم‭ ‬في‭ ‬طبريا‭ ‬منذ‭ ‬أربعمائة‭ ‬سنة،‭ ‬وقبلها‭ ‬كانت‭ ‬عائلتي‭ ‬في‭ ‬دمشق‭ ‬لثلاثمائة‭ ‬سنة‭ ‬–‭ ‬وخنقته‭ ‬العبرات‭ ‬وتوقف‭ ‬كوهين‭ ‬عن‭ ‬الكلام‭ -. ‬قلت‭: ‬وماذا‭ ‬بعد‭ ‬ذلك؟‭ ‬تكلم‭ ‬يا‭ ‬كوهين‭. ‬قال‭: ‬الألمان‭ ‬أصبحوا‭ ‬قريبين‭ ‬من‭ ‬فلسطين،‭ ‬وإخواننا‭ ‬المسلمون‭ ‬قد‭ ‬اتفقوا‭ ‬علينا‭. ‬قلت‭ ‬له‭: ‬كيف‭ ‬اتفقوا‭ ‬عليكم؟‭ ‬قال‭: ‬لقد‭ ‬اجتمعوا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الأسبوع‭ ‬وقرروا‭ ‬أن‭ ‬يذبحونا،‭ ‬حينما‭ ‬يصل‭ ‬رومل،‭ ‬ولقد‭ ‬وزعوا‭ ‬بيوتنا‭ ‬وأملاكنا‭ ‬على‭ ‬بعضهم‭ ‬بعضاً،‭ ‬وهذا‭ ‬المطعم‭ ‬الذي‭ ‬أنشأته‭ ‬بدم‭ ‬قلبي‭ ‬قد‭ ‬خصصوه‭ ‬لآل‭ ‬الطبري‭. ‬قلت‭ ‬له‭: ‬لا‭ ‬تصدق‭ ‬هذا‭ ‬الكلام،‭ ‬وآل‭ ‬الطبري‭ ‬لا‭ ‬يعتدون‭ ‬عليك‭ ‬ولا‭ ‬يطمعون‭ ‬في‭ ‬المطعم،‭ ‬ولا‭ ‬يريدون‭ ‬شراً‭ ‬بصاحب‭ ‬المطعم‭. ‬قال‭: ‬وحياة‭ ‬ديني،‭ ‬وحياة‭ ‬موسى‭ ‬ومحمد‭ ‬هذا‭ ‬صحيح‭. ‬قلت‭ ‬له‭: ‬وماذا‭ ‬تريدني‭ ‬أن‭ ‬أفعل‭. ‬قال‭: ‬يا‭ ‬سيدي،‭ ‬الصهيونيون‭ ‬اذبحوهم‭ ‬وخذوا‭ ‬بيوتهم‭ ‬وأملاكهم،‭ ‬أما‭ ‬نحن‭ ‬اليهود‭ ‬العرب‭ ‬فاتركونا‭... ‬نحن‭ ‬عرب،‭ ‬مثلنا‭ ‬مثلكم‭. ‬قلت‭ ‬له‭: ‬هوّن‭ ‬عليك،‭ ‬بعد‭ ‬الغداء‭ ‬تأتي‭ ‬معنا‭ ‬في‭ ‬السيارة‭... ‬ذهبنا‭ ‬بعد‭ ‬الغداء،‭ ‬الضيوف‭ ‬وكوهين‭ ‬وأنا،‭ ‬إلى‭ ‬ديوان‭ ‬آل‭ ‬الطبري‭, ‬وسردت‭ ‬لآل‭ ‬الطبري‭ ‬ما‭ ‬حدثني‭ ‬به‭ ‬كوهين،‭ ‬وناشدتهم‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬اليهود‭ ‬في‭ ‬جوارهم‭ ‬وحماهم‭ ‬حسب‭ ‬التقاليد‭ ‬العربية،‭ ‬وخاصة‭ ‬القدامى‭ ‬منهم،‭ ‬فلا‭ ‬يذبحونهم‭ ‬ولا‭ ‬يأخذون‭ ‬أملاكهم‭ ‬وبيوتهم،‭ ‬إذا‭ ‬وصلت‭ ‬حملة‭ ‬رومل‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭ ‬وإلى‭ ‬طبريا‭. ‬

وقد‭ ‬تعاهدنا‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬وخرج‭ ‬كوهين‭ ‬من‭ ‬الديوان‭ ‬وهو‭ ‬يكفكف‭ ‬دموعه‭ ‬ويدعو‭ ‬لي‭ ‬ولآل‭ ‬الطبري‭ ‬بطول‭ ‬العمر،‭ ‬ولا‭ ‬ينفك‭ ‬يتمتم‭: ‬الله‭ ‬يعمر‭ ‬بيوتكم‭ ‬ويطول‭ ‬أعماركم‭. ‬وكرت‭ ‬الأيام‭ ‬والليالي،‭ ‬وأطل‭ ‬القدر‭ ‬العجيب،‭ ‬وما‭ ‬أكثر‭ ‬سخرياته‭ ‬في‭ ‬قضية‭ ‬فلسطين‭. ‬وجاء‭ ‬عام‭ ‬1948،‭ ‬وقام‭ ‬اليهود‭ ‬في‭ ‬طبريا‭ ‬بحملات‭ ‬مسلحة‭ ‬على‭ ‬المسلمين‭ ‬والمسيحيين،‭ ‬العُزّل‭ ‬من‭ ‬السلاح،‭ ‬وهرب‭ ‬آل‭ ‬الطبري‭ ‬مُخَلفين‭ ‬وراءهم‭ ‬قصورهم‭ ‬الفخمة‭ ‬ينهبها‭ ‬اليهود،‭ ‬ومزارعهم‭ ‬اليانعة‭ ‬يسلبها‭ ‬اليهود،‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬طليعة‭ ‬العصابات‭ ‬اليهودية‭ ‬المسلحة‭ ‬اليهود‭ ‬القدامى‭ - ‬اليهود‭ ‬العرب،‭ ‬كوهين‭ ‬وأضرابه‭ ‬وأمثاله‭, ‬وكان‭ ‬من‭ ‬عجائب‭ ‬القدر‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هجرة‭ ‬آل‭ ‬الطبري‭ ‬بعد‭ ‬كارثة‭ ‬1948‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬الغور‭ ‬في‭ ‬الأردن،‭ ‬وفي‭ ‬الجبال‭ ‬السورية‭ ‬المشرفة‭ ‬على‭ ‬طبريا‭... ‬وهم‭ ‬يرون‭ ‬كل‭ ‬صباح‭ ‬ومساء،‭ ‬عبر‭ ‬هذه‭ ‬السنين‭ ‬بيوتهم‭ ‬ومزارعهم‭ ‬على‭ ‬مرمى‭ ‬البصر،‭ ‬فلا‭ ‬يستطيعون‭ ‬الدنو‭ ‬منها،‭ ‬وكوهين‭ ‬وأضرابه‭ ‬وأمثاله‭ ‬ناعمون‭ ‬فيها‭ ‬فاكهون‭. ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬الصهيونية‭ ‬بلحمها،‭ ‬وهذه‭ ‬هي‭ ‬إسرائيل‭ ‬بدمها،‭ ‬وهكذا‭ ‬كانت‭ ‬قضية‭ ‬فلسطين‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬عتبات‭ ‬القدر‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬ولم‭ ‬يطل‭ ‬الزمن‭ ‬كثيراً،‭ ‬فقد‭ ‬وضعت‭ ‬الحرب‭ ‬أوزارها،‭ ‬وانتصرت‭ ‬دول‭ ‬الحلفاء‭ ‬على‭ ‬دولتي‭ ‬المحور،‭ ‬وسارت‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬ومعها‭ ‬القضايا‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬فَلَك‭ ‬آخر‭. ‬

‭(‬مذكرات‭ ‬أحمد‭ ‬الشقيري،‭ ‬ج1،‭ ‬ط1،‭ ‬دار‭ ‬العودة،‭ ‬بيروت‭ ‬1973‭).‬

سبعون‭ ‬عاماً‭ ‬من‭ ‬الاحتلال‭ ‬الصهيوني‭ ‬لأرض‭ ‬فلسطين،‭ ‬تقلب‭ ‬أعزة‭ ‬قومها‭ ‬أذلة،‭ ‬وتسلب‭ ‬كلّ‭ ‬أرض‭ ‬عربية‭ ‬غصباً‭. ‬عصابة‭ ‬مجرمة‭ ‬أسست‭ ‬دولة،‭ ‬فماذا‭ ‬ترتجي‭ ‬من‭ ‬قوانين‭ ‬دولة‭ ‬المجرمين؟‭! ‬سبعون‭ ‬عاماً‭ ‬من‭ ‬التصريحات‭ ‬التي‭ ‬تستنكر‭ ‬وترفض‭ ‬وتشجب‭ ‬تَمَدُّد‭ ‬الأيادي‭ ‬النجسة‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬والعرض،‭ ‬حتى‭ ‬طالت‭ ‬فغالت‭ ‬من‭ ‬فلسطين‭ ‬إلى‭ ‬الجولان‭ ‬وسيناء‭ ‬وجنوب‭ ‬لبنان‭. ‬ومهما‭ ‬تغيرت‭ ‬المسميات،‭ ‬وزعم‭ ‬الطغاة‭ ‬بأنّ‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬صار‭ ‬دولة،‭ ‬فلن‭ ‬يغير‭ ‬التاريخ‭ ‬سطوره،‭ ‬وسيمحو‭ ‬كلمات‭ ‬من‭ ‬حاول‭ ‬تزويره،‭ ‬فالرمل‭ ‬يزول‭ ‬عن‭ ‬الجبل‭ ‬وتبقى‭ ‬صخوره‭. ‬وسنُعَلم‭ ‬أبناءنا‭ ‬أنّ‭ ‬كل‭ ‬أرض‭ ‬فلسطين‭ ‬للفلسطينيين،‭ ‬وأنّ‭ ‬القدس‭ ‬لكل‭ ‬العرب‭... ‬لنا،‭ ‬وسنُذكّر‭ ‬الأجيال‭ ‬بأنّ‭ ‬عودة‭ ‬فلسطين‭ ‬إلى‭ ‬أهلها‭ ‬غاية‭ ‬المنى‭. ‬السلام‭ ‬عليكم‭ ‬أهل‭ ‬فلسطين‭, ‬وسلام‭ ‬على‭ ‬الراحل‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭ ‬وهو‭ ‬مَن‭ ‬قال‭:‬

أيها‭ ‬المارّون‭ ‬بين‭ ‬الكلمات‭ ‬العابرة

احملوا‭ ‬أسماءكم‭ ‬وانصرفوا

واسحبوا‭ ‬ساعاتكم‭ ‬من‭ ‬وقتنا،‭ ‬وانصرفوا

واسرقوا‭ ‬ما‭ ‬شئتمُ‭ ‬من‭ ‬صوَرٍ،‭ ‬كي‭ ‬تعرفوا

أنّكم‭ ‬لن‭ ‬تعرفوا

كيف‭ ‬يبني‭ ‬حَجَرٌ‭ ‬من‭ ‬أرضنا‭ ‬سَقف‭ ‬السماء

أيها‭ ‬المارّون‭ ‬بين‭ ‬الكلمات‭ ‬العابرة

منكم‭ ‬السَيْفُ‭ ‬ومنّا‭ ‬دَمُنا

منكم‭ ‬الفولاذُ‭ ‬والنار‭ ‬ومنا‭ ‬لَحْمُنا

منكم‭ ‬دّبّابةٌ‭ ‬أخرى‭ ‬ومنا‭ ‬حَجَرُ

منكم‭ ‬قنبلة‭ ‬الغاز‭ ‬ومنا‭ ‬المطرُ

وعلينا‭ ‬ما‭ ‬عليكم‭ ‬من‭ ‬سماءٍ‭ ‬وهواء

فخذوا‭ ‬حصّتكم‭ ‬من‭ ‬دَمِنا‭ ‬وانصرفوا

وادخلوا‭ ‬حفلَ‭ ‬عشاءٍ‭ ‬راقصٍ‭ ‬وانصرفوا

فعلينا‭ ‬نحن‭ ‬أن‭ ‬نحرس‭ ‬وَرد‭ ‬الشهداء

وعلينا‭ ‬نحن‭ ‬أن‭ ‬نحيا‭ ‬كما‭ ‬نحن‭ ‬نشاء‭ ‬

أيها‭ ‬المارّون‭ ‬بين‭ ‬الكلمات‭ ‬العابرة

كدّسوا‭ ‬أوهامكم‭ ‬في‭ ‬حفرةٍ‭ ‬وانصرفوا

كالغُبارِ‭ ‬المرّ،‭ ‬مرّوا‭ ‬أينما‭ ‬شئتم‭ ‬ولكن

لا‭ ‬تمروا‭ ‬بيننا‭ ‬كالحشرات‭ ‬الطائرة

ولنا‭ ‬قمح‭ ‬نربيه‭ ‬ونسقيه‭ ‬ندى‭ ‬أجسادنا

فلنا‭ ‬ما‭ ‬ليس‭ ‬يرضيكم،‭ ‬لنا‭ ‬المستقبل

ولنا‭ ‬في‭ ‬أرضنا‭ ‬ما‭ ‬نعمل

أيها‭ ‬المارّون‭ ‬بين‭ ‬الكلمات‭ ‬العابرة

كدّسوا‭ ‬أوهامكم‭ ‬في‭ ‬حفرة‭ ‬وانصرفوا

وأعيدوا‭ ‬عقرب‭ ‬الوقت‭ ‬إلى‭ ‬شرعية‭ ‬العِجْلِ‭ ‬المقدس

أو‭ ‬إلى‭ ‬توقيت‭ ‬موسيقى‭ ‬المُسَدّس

فلنا‭ ‬ما‭ ‬ليس‭ ‬يرضيكم‭ ‬هنا،‭ ‬فانصرفوا

ولنا‭ ‬ما‭ ‬ليس‭ ‬فيكم،‭ ‬وطن‭ ‬ينزف‭ ‬شعباً‭ ‬ينزف

وَطَنَا‭ ‬يصلح‭ ‬للنسيان‭ ‬أو‭ ‬للذاكرة

أيها‭ ‬المارّون‭ ‬بين‭ ‬الكلمات‭ ‬العابرة

آن‭ ‬أن‭ ‬تنصرفوا

وتُقيموا‭ ‬أينما‭ ‬شئتم‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬تُقيموا‭ ‬بيننا

آن‭ ‬أن‭ ‬تنصرفوا

وتموتوا‭ ‬أينما‭ ‬شئتم‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬تموتوا‭ ‬بيننا

فلنا‭ ‬في‭ ‬أرضنا‭ ‬ما‭ ‬نعمل

ولنا‭ ‬الماضي‭ ‬هنا

ولنا‭ ‬صوت‭ ‬الحياة‭ ‬الأوّل

ولنا‭ ‬الحاضر‭ ‬والحاضر‭ ‬والمستقبَل

ولنا‭ ‬الدنيا‭ ‬هنا

والآخرة

فاخرجوا‭ ‬من‭ ‬أرضنا‭ ‬

من‭ ‬برنا،‭ ‬من‭ ‬بحْرِنا

من‭ ‬قمْحِنا،‭ ‬من‭ ‬مِلْحِنا،‭ ‬من‭ ‬جُرحِنا

من‭ ‬كلّ‭ ‬شيء

واخرجوا‭ ‬من‭ ‬مفردات‭ ‬الذاكرة

أيها‭ ‬المارّون‭ ‬بين‭ ‬الكلمات‭ ‬العابرة‭ .