ذكريات كويتية
كنا في أواخر شهر سبتمبر سنة 1983 حين هبطنا بالطائرة في مطار الكويت، كان المطار هادئاً إلا من حركة الواصلين معنا إلى المطار. وبعد أن أنهيت إجراءات الجوازات، بحثت في كل مكان عن مندوب جامعة الكويت الذي كان من المفترض أن يكون في استقبالنا ليصحبنا إلى دار الضيافة، ولكن مع الأسف لم أجد مندوباً من جامعة الكويت كما قيل لي، وبعد أن تأكدت أنه غير موجود، وأن لذة النوم في هذا الوقت ما بين الفجر وظهور أضواء الصباح أغرقته في نوم لذيذ، قررت أن أعتمد على نفسي، وأن أحمل مع زوجتي وابني وابنتي حقائبنا ونذهب إلى أحد الفنادق القريبة من المطار لكي نستريح من وعثاء السفر، ولا أدري لماذا أستخدم هذه الكلمة «وعثاء» التي هي من الوعث، أي المشقة والتعب.
لم يكن سفرنا من القاهرة إلى الكويت ينطوي على هذه الوعثاء التي تعلمناها من مسكوكات البلاغة القديمة، فقد كان السفر مريحا، وكنا نركب في الدرجة الأولى وننعم بميزاتها التي لم يكن فيها الوعثاء على الإطلاق. واصطحبت عائلتي وكنت ممسكاً في يدي ابنتي سهير (رحمها الله) وكانت زوجتي تصطحب ابني الأصغر، وخرجنا من باب المطار إلى الطريق، حيث التاكسيات تصطف على الرصيف الذي تطل عليه بوابة المطار، وتوجهت إلى أقرب سائق، وقلت له: من فضلك خذنا إلى أقرب فندق، فقد قررت ألا أنتظر مندوب جامعة الكويت، وأن أذهب إلى الفندق مباشرة، لكي أتناول الإفطار مع عائلتي ونستريح إلى أن تشرق الشمس وتفتح المصالح الحكومية أبوابها، وبعدها يمكن أن أهاتف الأصدقاء والزملاء الذين ينتظرون وصولي في هذا اليوم الذي وصلت فيه. وانطلق بنا السائق إلى فندق هوليداي إن، وكان من أحدث الفنادق المبنية في الكويت سنة 1983، وقريباً من المطار بالفعل.
وتوقف السائق أمام باب الفندق الذي رأيناه فخيماً، ودلفنا إلى باحته الجميلة المحاطة بطوابق الفندق، وفي أحد الأركان كان هناك المصعد الزجاجي الذي يرى منه الصاعد جمال مشهد الباحة الداخلية للفندق كله على امتداد طوابقه العديدة. وحجزت لنفسي وأسرتي بالطبع جناحاً عائلياً، وما إن وصلنا إلى الجناح القاطن بالدور السابع أو العاشر، لم أعد أذكر، حتى هرع ابني وابنتي إلى غرفة النوم الخاصة بهما واستغرقا في نوم عميق. وبعد أن تناولت وزوجتي (رحمة الله عليها) فطور الصباح الذي تعودنا عليه كل يوم، والذي كان يحتوي بالطبع على الفول المدمس الذي هو وجبة مقدسة عند المصريين في الفطور.
أستاذ معار إلى جامعة الكويت
أخذت أبحث في دليل التليفونات عن تليفونات جامعة الكويت وكلية الآداب التي كان مقرها الشويخ، وبالفعل عثرت على التليفونات وهاتفت صديقي الدكتور محمد رجب النجار (عليه رحمة الله)، وعميد الكلية الدكتور عبدالله الغنيم، وقالا لي كلاهما: لقد أحسنت التصرف، فابق في مكانك مستريحاً أنت والعائلة إلى أن نأتي إليك، ولا تفكر في أي شيء آخر سوى أن تستريح وتنتظر. وبالفعل فعلت كما قالا لي، وانتظرت إلى ما بعد العاشرة، وظهر محمد رجب النجار (عليه رحمة الله) فرحاً بقدومي مع عائلتي، وتبادلنا القبلات، وقال لي: اترك حقائبك في الفندق مع الزوجة والأولاد وسنذهب معاً إلى الجامعة وكلية الآداب في الشويخ، كي تتسلم عملك بوصفك أستاذاً معاراً إلى جامعة الكويت.
وبالفعل خرجت معه إلى مقر إدارة الجامعة، وتنقلنا ما بين شؤون العاملين وقسم الإسكان، وانتهى الأمر إلى أن أصبحت أستاذاً في جامعة الكويت وانتقلنا إلى قسم الإسكان، حيث حصلت على مفتاح شقة مناسبة في مباني الجامعة الجديدة الموجودة في الكويت، والمخصصة لأعضاء هيئة تدريس الجامعة، وكانت تحتل مساحة لا بأس بها ومريحة تمتد إلى أن تتصل بعدد غير قليل من الـﭭيلات التي كان يسكنها الجيل الأسبق علينا في جامعة الكويت، مثل عبدالرحمن بدوي وأحمد أبوزيد (رحمة الله عليهما).
والحق أنني اخترت السكنى في عمارات الشويخ كما كانت تسمى، لأني شعرت بقدم وتهالك مباني الڤيلات التي لم أسترح لمرآها، لكنها على أي حال، كانت تحتل المسافة الواصلة بين عمارات هيئة التدريس ونادي الجامعة الذي كان يحتوي على حمام للسباحة وأماكن متعددة للنشاط الاجتماعي والثقافي.
ويبدو أنني صنعت مشكلة لإدارة الجامعة، دون أن أدري أو أقصد، فقد ذهبت إلى فندق هوليداي إن من نفسي وبقراري الشخصي، وكان منطقي في ذلك أن مندوب الجامعة مادام أنه لم يأت، ولم يكن في انتظاري كما هو متفق، فمن حقي أن أتصرف. وكنت عاقداً العزم على أنه إذا لم تتكفل الجامعة بتكاليف الفندق، فسوف أتكفل بها أنا
ما دمت قد اتخذت قراراً بأن أستريح في الفندق مع أسرتي قبل أن أبدأ عملي في الجامعة. المهم أنني بعد أن أنهيت الإجراءات الأولى لكي أكون أستاذاً في جامعة الكويت العزيزة، ذهبت مع صديقي الدكتور محمد رجب النجار إلى عميد الكلية الدكتور عبدالله الغنيم – مد الله في عمره - وهو أستاذ للجغرافيا، وأذكر أن الرجل كان بشوشا، عذب المعشر، رحب بي كل الترحيب واحتفى بي كل الحفاوة؛ مما جعلني أشعر بأنني مازلت في جامعة القاهرة، وهي جامعتي الأم التي لم أفارق العمل فيها إلى اليوم.
بين النقد التطبيقي والنظري
وجلسنا عنده نتحدث إلى أن شعرت بأنه يجب عليّ أن أستأذن منه، وأذهب إلى رئيس قسم اللغة العربية؛ كي أضع نفسي تحت تصرفه وليحدد لي الجدول الدراسي. وفي قسم اللغة العربية القريب من مكتب العميد، وجدت أخي وصديقي الحميم بعد ذلك الدكتور عبدالله العتيبي رئيس القسم، حيث قابلني ببشاشة لا حد لها، وأخذني بالأحضان، كما لو كنت صديقاً حميماً له، واعتبرت نفسي منذ هذه التحية الحميمة واحداً من أساتذة القسم وصديقاً لعبدالله العتيبي، قبل أن يفارقنا بعد ذلك بسنوات معدودة، رحمه الله رحمة واسعة.
وهكذا بدأت عامي الدراسي الأول في كلية الآداب بجامعة الكويت، وكانت الدروس التي كنت أقوم بتدريسها لا تتجاوز تسع ساعات في الأسبوع، وهي موزعة ما بين النقد التطبيقي والنقد النظري والتراثي في آن. وكانت جامعة الكويت – ولعلها لا تزال - تسير على نظام الساعات المعتمدة، وهو نظام لم أكن غريباً عليه، فقد كنت على ألفة به من عملي في جامعة وسكنسن ماديسون لعام كامل سنة 1977، وانتقالي بعد ذلك للعمل في جامعة استكهولم في السويد عاماً آخر سنة 1982، وكلتا الجامعتين – في السويد أو الولايات المتحدة - تقوم الدراسة فيهما على نظام الساعات المعتمدة، ولذلك بدأت العمل فوراً، ودخلت في اليوم الثاني للطلاب، وكانت أمتع المحاضرات التي كنت أقوم بتدريسها لهم هي محاضرات النقد التطبيقي في الشعر، فقد كان الطلاب والطالبات متلهفين إلى التعرف على تجارب شعرية جديدة من أستاذ متحمس لهذه التجارب، ومناصر للحداثة الشعرية بوجه عام. وسرعان ما برز من بين طلابي عدد غير قليل لاحظت التميز في أدائهم والرغبة الحماسية في استيعاب الكثير من المعارف التي كانت جديدة عليهم في ذلك الوقت، وأذكر من هؤلاء الطلاب عدداً من النجوم الذين أصبحوا أساتذة مرموقين في جامعة الكويت، وفي الإعلام بوجه خاص.
وكان أولهم علي عاشور، وثانيهم عباس الحداد، وثالثهم سعدية مفرح التي أصبحت شاعرة، وأصدرت أكثر من ديوان أحدث أصداء متميزة في حركة الشعر العربي المعاصر.
أجمل سنوات عمري
ولا أزال أفخر بهؤلاء التلامذة وأمثالهم عندما أسمع عن كل ما حققوه أو يحققونه من إنجازات. فقد اعتبرت هؤلاء الثلاثة إلى جانب أسماء أخرى هم البذور التي استطعت غرسها في جامعة الكويت، وظللت أفرح وأنا أشاهدها تتبرعم وتقوى أعوادها وتتجذّر في تربة الحياة الأدبية للكويت. فلقد قضيت في جامعة الكويت خمس سنوات، كانت من أجمل سنوات عمري، فما أكثر الصداقات التي كونتها في هذا البلد الكريم المضياف! وما أكثر الأجيال التي علمتها في جامعة الكويت، والتي أصبحت مرموقة بعد ذلك.
وأذكر أنه بعد أن انتهت إعارتي للكويت وعدت إلى القاهرة سمعت وأنا في طريقي إلى مكتب صديقي المرحوم لطفي الخولي في مؤسسة الأهرام عن الغزو العراقي الفاشل على الكويت، ولم ينقبض قلبي حزناً فقط، وإنما انفطر هذا القلب، وأظن أنني كتبت مقالة شهيرة في ذلك الوقت البعيد بعنوان «إلى ابني علي»، وكنت أعني علي عاشور تلميذي الذي كان يحضر معي دروس النقد التطبيقي، والذي ذهب إلى الولايات المتحدة بعد ذلك، وحصل منها على درجة الدكتوراه التي أهلته لكي يكون أستاذاً في جامعة الكويت. ورغم أن الزمن قد باعد بيني وبينه، وباعد بيني وزملائه، فإنني لا أزال أتذكر نوادرهم وطرائفهم، فأشعر بالسعادة لأنني استطعت أن أسهم مع غيري في غرس بذور طيبة، سرعان ما أثمرت نباتاً يانعاً يافعاً، لايزال يقدم عطاءه للآخرين. وفقهم الله جميعاً في حياتهم، فقد كانوا بمنزلة أبناء لي، ولزوجي التي كانت تستقبلهم في منزلها بمحبة وحنان.
شبهة تقرب
وبالطبع كان لابد أن أتعرف على الحياة الثقافية في الكويت، سواء في اتحاد الكتاب أو الأدباء أو في المجلس الوطني الكويتي للثقافة والفنون والآداب أو في الصحافة الكويتية. وكنت مشتركاً في الصحف الثلاث التي كانت تصدر في الكويت إلى أن غادرتها سنة 1988. ورغم علاقاتي الوثيقة مع القائمين على الإعلام في الكويت، سواء كان منظوراً أو مقروءاً أو مسموعاً، فقد عاهدت نفسي على ألا أكتب عن شخصية كويتية قط، مادمت موجوداً في الكويت حتى لا تكون هناك شبهة تقرب من أصحاب النفوذ أو المصلحة. وكنت في ذلك على النقيض من صديقي المرحوم فؤاد زكريا الذي كان له مقال أسبوعي في أكثر الجرائد الكويتية انتشاراً في ذلك الوقت. ولعل أهم وأجرأ مقالاته، في ذلك الوقت، هي تلك التي كان يتحدث فيها عن «البتروإسلام» وخصائصه. وكان من الطبيعي أن أقترب من فؤاد زكريا الذي كان رئيساً لقسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة الكويت.
نوادر عبدالرحمن بدوي
وكان من أبرز أساتذة القسم على الإطلاق هو المرحوم الدكتور عبدالرحمن بدوي الذي انتهت به الحال إلى العمل أستاذاً في قسم الفلسفة الذي كان يرأسه تلميذه فؤاد زكريا. وكان عبدالرحمن بدوي يلتقي أسبوعياً مع أحمد
أبو زيد رئيس تحرير مجلة «عالم الفكر» في ذلك الوقت، فضلاً عن مجموعة قليلة من الأساتذة الذين كانوا يشاركون هذين الاثنين اهتماماتهما، وقد حضرت لقاءهم الأسبوعي مرتين أو ثلاثاً، ولكني لم أسترح نفسياً إلى الطريقة المتعالية التي يتحدث بها المرحوم عبدالرحمن بدوي، الذي كانت له نوادره التي أتذكرها الآن بعد انقضاء هذه السنوات كلها.
ومن أطرف هذه النوادر التي تخصني، هي بخله الشديد وحرصه على جمع المال، رحمة الله عليه. وأذكر أنني سافرت مدعواً إلى تونس في سنة 1984، وكانت تونس تحتفل بخمسينية أبي القاسم الشابي في عهد رئيس الوزراء الأسبق محمد مزالي ووزير الثقافة الأسبق البشير بن سلامة. وقد ذهبت مع بحث لكي أشترك به في الاحتفال بهذه الخمسينية، وكان بحثي بعنوان «الخيال الشعري عند الشابي»، وأذكر أن هذا البحث قد وجد صدى جيداً وفتح لي أبواب صداقات تونسية جديدة لاأزال معتزاً بها، لكن ما لم أكن أنساه في هذا المؤتمر أن ناشراً تونسياً، هو الأستاذ أبوالقاسم كرو، جاء لي وقال لي: بما أنك تعمل في الكويت، فمن فضلك خذ هذه النقود وسلمها إلى الأستاذ الدكتور عبدالرحمن بدوي، وأعطاني مظروفاً يضم خمسة آلاف دولار، وأخذت المظروف ووعدت الرجل بتسليمه إلى بدوي الذي لم أكن أعرفه في ذلك الوقت معرفة وثيقة.
ثأرت لنفسي
وبالفعل عندما عدت إلى الكويت تصادف أن قابلت بدوي في الردهة ذاهباً إلى مكتبه في عجلة واضحة، وناديته محاولاً إيقافه، لكنه ظنني - مع الأسف - طالباً أو صحفياً يريد أن يأخذ منه حواراً لجريدته، فأشاح بيديه كي أعرف أنه لا يريد أن يتوقف للحديث معي، وحاولت مراراً أن أفهمه ما أريد، ولكنه كان يكتفي بتشويح يديه والانطلاق إلى مكتبه، فتركته غاضباً وذهبت بعد ذلك إلى المرحوم الدكتور فؤاد زكريا كي أشكو إليه، وابتسم زكريا قائلاً: إنني رئيس القسم الذي يعمل فيه، ورغم أنه أستاذ لي وأحترمه كل الاحترام فإنه لم يقل لي صباح الخير أو تحية من هذا القبيل لست سنوات مضت، وإذا كان قد أغلظ لك القول أو سلك معك سلوكاً فظاً، فأستاذيته لنا تبرر لي أن أطلب منك التسامح، وأن تغض الطرف عن غضبته عليك، فالرجل سيء الظن بالبشر وأحسبه عدك كاتباً صحفياً، وهو لا يحب الصحفيين ومن في حكمهم.
وكانت سكرتيرة فؤاد زكريا في ذلك الوقت تستمع إلى هذا الحوار، فقلت لها: أخبريه بأنني معي مظروف له به خمسة آلاف دولار أتيت به من ناشر تونسي إليه، وأني لن أخاطبه أبدا، لكني سوف أنتظره في مكتبي بقسم اللغة العربية إلى أن يأتي إليّ ويطلب مني في مودة وشكر أن أسلمه المظروف الذي فيه دولاراته، وإلا فإنني لن أسلمه الظرف أبداً. وكنت أعرف مدى حرصه الشديد على المال، وبخله الشديد أيضا. وما إن أبلغته السكرتيرة بذلك حتى حاول أن يرسلها لتحصل على المظروف مني، ولكني رفضت وأصررت على أن يحضر بنفسه ويطلب مني شاكراً نقوده التي أرسلها له الناشر والأديب التونسي أبوالقاسم كرو. ولم يكن أمامه في آخر الأمر إلا أن يأتي إلى مكتبي ويطلب المظروف منى ويشكرني، رغم أنفه. وما إن سلمته إياه حتى خرج غاضباً من الغرفة مظهراً علامات هذا الغضب بكل الوسائل الممكنة، لكني ابتسمت فقد ثأرت لنفسي لما فعله بي من قبل.
الآباء المؤسسون
والحق أن جامعة الكويت قد جمعت أعلام الأساتذة في المجالات العلمية المختلفة في داخل جامعتها الوليدة، فقد كنت أتلفت حولي فأرى في كل مكان أهم الأساتذة الجامعيين على امتداد الأمة العربية تحتفي بهم جامعة الكويت وتحتضنهم باعتبارهم الآباء المؤسسين لهذه الجامعة التي نشأت نشأة بالغة القوة وأسست بأفضل العناصر الجامعية على امتداد الوطن العربي. أذكر أنني حين كنت أنظر في قسم الفلسفة أرى فهمي جدعان الأردني، وفي قسم التاريخ أرى عبداللطيف إبراهيم وسعيد عاشور، وهما من أهم المؤرخين في تخصصاتهما.
أما قسم اللغة العربية، فقد رأيت فيه عبدالسلام هارون المحقق الكبير وغيره من الدارسين الذين لا أنكر فضلهم، وأذكر بالعرفان حفاوتهم بي، مثل الدكتور عبدالهادي محبوبة وزوجه نازك الملائكة وعشرات الأسماء التي تكاد تهرب من ذاكرتي، لكن لم أنس منهم أحمد عمر مختار، أستاذ اللغويات الذي درس في كمبردج وحصل منها على درجة الدكتوراه في اللغويات، وكان نعم الصديق والراعي، ولن أنسى أنه فور وصولي إلى سكني زارني ورحب بي ترحيباً حاراً، وأصر على أن يعطيني مبلغاً كبيراً من الدينارات لأتدبر بها أحوالي العاجلة وأردها إليه حين ميسرة. ولم أنس كذلك الصديق فتوح أحمد الذي اشترك في محاولات استقدامي إلى الكويت مع المرحوم محمد رجب النجار الذي كان نعم الصديق والراعي. والحق أن النجار كان أقرب الأصدقاء إلى نفسي، فقد أصبحت عائلته عائلتي وعائلتي عائلته.
وكان نعم الصديق والزميل الذي لم يخذلني. وكان متخصصاً في الأدب الشعبي، وله كتابات عدة، أذكر منها كتابه عن الفوازير الكويتية، وكم ضحكنا معاً عندما أقبل عجوز كويتي يسأل عنه بوصفه الأستاذ الذي يكتب عن «الخرابيط». ومثل المرحوم محمد النجار، كان العزيز إمام عبدالفتاح إمام المعروف بدراساته عن
هيجل الفيلسوف. وقد ضمن له كتابه «الطاغية» الذي نشره في «عالم المعرفة» درجة كبيرة من الشهرة وذيوع الصيت، خصوصاً أن موضوع الكتاب كان عن الاستبداد والمستبد.
وقتي بين المحاضرات والحياة الأدبية
وكان إمام عبدالفتاح – مد الله في عمره - غزير الإنتاج متفرغاً تماماً للعمل الذي كانت الأجواء في كلية الآداب تشجع عليه. يكفي أن أقول إن قسم الفلسفة كان يضم إلى جانب إمام عبدالفتاح ومحمود رجب الذي سرعان ما اقتربت منه، أستاذنا محمد عبدالهادي أبو ريدة الذي كان علماً وقمة في كتاباته وترجماته النموذجية. وقد سعدت بزمالتي له لعام دراسي كامل قبل أن يعود إلى القاهرة، شأنه في ذلك شأن أساطين علم التاريخ الذين ضمهم قسم التاريخ، وأذكر منهم الدكتور أحمد عبدالرحيم مصطفى في التاريخ الحديث والعبادي في التاريخ الأندلسي، وغيرهم كثر، فقد كانت جامعة الكويت حريصة على استقدام القمم الشامخة في كل مجال من مجالات المعرفة.
وكان وقتي موزعاً بين المحاضرات والذهاب إلى المكتبة والاشتراك في الحياة الأدبية التي كانت تضم خليفة الوقيان وسليمان العسكري، وكلاهما كان معاوناً لأحمد مشاري العدواني الذي كان أميناً للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وشاعراً مرموقاً في الكويت. وأظن أنه صاحب النشيد الوطني الكويتي، وهو النشيد الذي لايزال يؤثر في نفسي كلما استمعت إليه ويردني إلى أجمل خمس سنوات من عمري قضيتها في هذا البلد المضياف. ولذلك لاأزال أشعر بالحنين لسنوات الكويت كلما سمعت:
وطني الكويت سلمت للمجد
وعلى جبينك طالع السعد
وأشعر بالبهجة لذكريات هذا البلد العزيز الذي صار وطناً لي لخمس سنوات كاملة. والحق أنه قد ربطتني علاقة وثيقة بالعاملين في المجلس الوطني، ابتداء من أحمد العدواني وانتهاء بالأستاذ صدقي حطاب الذي كان يعمل في المجلس، والذي كان نعم العون على استقراري في الكويت وتعريفي بأعلام كتّابها وشعرائها. وكان يتشارك في ذلك مع عبدالله العتيبي الذي ظل صديقاً لي، وكنت معجباً بشعره، كما كنت معجبا بالشعراء المعاصرين له في الكويت، رحمهم الله جميعاً، فقد كانوا نعم الأصدقاء. هكذا أمضيت العامين الأولين من حياتي الأكاديمية في جامعة الكويت، وقد كانا عامين مثمرين بالفعل ترجمت فيهما كتاب «عصر البنيوية» لـ إيدس كرزويل، وراجعت ترجمتي لكتاب «الماركسية والنقد الأدبي» لتيري إيجلتون، وكتبت عديداً من الأبحاث التي شاركت بها في المؤتمرات، وكان الزمان غضاً طرياً.
والكويت تبدو بمنزلة جنة تتحقق فيها كل الأحلام ويتعرف فيها المرء على أجمل الشخصيات الجامعية والثقافية. ولكن كان لابد لهذين العامين أن ينقضيا كي أدخل في أعوام ثلاثة باقية تحملت فيها مسؤولية الإشراف على الجانب الأكاديمي من كلية الآداب، وذلك مع مجيء صديقي الأعز خلدون النقيب إلى العمادة، مصحوباً بتصور حداثي لكلية الآداب مع استراتيـجية جديدة في مسارها العلمي والأكاديمي. (وللحديث بقية)