ذكريات كويتية

ذكريات كويتية

كنا‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬شهر‭ ‬سبتمبر‭ ‬سنة‭ ‬1983‭ ‬حين‭ ‬هبطنا‭ ‬بالطائرة‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬الكويت،‭ ‬كان‭ ‬المطار‭  ‬هادئاً‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬حركة‭ ‬الواصلين‭ ‬معنا‭ ‬إلى‭ ‬المطار‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬أنهيت‭ ‬إجراءات‭ ‬الجوازات،‭ ‬بحثت‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬عن‭ ‬مندوب‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬استقبالنا‭ ‬ليصحبنا‭ ‬إلى‭ ‬دار‭  ‬الضيافة،‭ ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬الأسف‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬مندوباً‭ ‬من‭  ‬جامعة‭ ‬الكويت‭ ‬كما‭ ‬قيل‭ ‬لي،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬تأكدت‭ ‬أنه‭ ‬غير‭  ‬موجود،‭ ‬وأن‭ ‬لذة‭ ‬النوم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الفجر‭  ‬وظهور‭  ‬أضواء‭ ‬الصباح‭ ‬أغرقته‭ ‬في‭ ‬نوم‭ ‬لذيذ،‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬أعتمد‭ ‬على‭ ‬نفسي،‭ ‬وأن‭ ‬أحمل‭ ‬مع‭ ‬زوجتي‭ ‬وابني‭ ‬وابنتي‭ ‬حقائبنا‭ ‬ونذهب‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬الفنادق‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬المطار‭  ‬لكي‭ ‬نستريح‭ ‬من‭ ‬وعثاء‭ ‬السفر،‭ ‬ولا‭ ‬أدري‭ ‬لماذا‭ ‬أستخدم‭ ‬هذه‭ ‬الكلمة‭ ‬‮«‬وعثاء‮»‬‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬الوعث،‭ ‬أي‭ ‬المشقة‭ ‬والتعب‭. ‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬سفرنا‭ ‬من‭ ‬القاهرة‭ ‬إلى‭ ‬الكويت‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الوعثاء‭ ‬التي‭ ‬تعلمناها‭ ‬من‭ ‬مسكوكات‭ ‬البلاغة‭ ‬القديمة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬السفر‭ ‬مريحا،‭ ‬وكنا‭ ‬نركب‭ ‬في‭ ‬الدرجة‭ ‬الأولى‭ ‬وننعم‭ ‬بميزاتها‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬فيها‭ ‬الوعثاء‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭. ‬واصطحبت‭ ‬عائلتي‭ ‬وكنت‭ ‬ممسكاً‭ ‬في‭ ‬يدي‭ ‬ابنتي‭ ‬سهير‭ (‬رحمها‭ ‬الله‭) ‬وكانت‭ ‬زوجتي‭ ‬تصطحب‭ ‬ابني‭ ‬الأصغر،‭ ‬وخرجنا‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬المطار‭ ‬إلى‭ ‬الطريق،‭ ‬حيث‭ ‬التاكسيات‭ ‬تصطف‭ ‬على‭ ‬الرصيف‭ ‬الذي‭ ‬تطل‭ ‬عليه‭ ‬بوابة‭ ‬المطار،‭ ‬وتوجهت‭ ‬إلى‭ ‬أقرب‭ ‬سائق،‭ ‬وقلت‭ ‬له‭: ‬من‭ ‬فضلك‭ ‬خذنا‭ ‬إلى‭ ‬أقرب‭ ‬فندق،‭ ‬فقد‭ ‬قررت‭ ‬ألا‭ ‬أنتظر‭ ‬مندوب‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت،‭ ‬وأن‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬الفندق‭ ‬مباشرة،‭ ‬لكي‭ ‬أتناول‭ ‬الإفطار‭ ‬مع‭ ‬عائلتي‭ ‬ونستريح‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تشرق‭ ‬الشمس‭ ‬وتفتح‭ ‬المصالح‭ ‬الحكومية‭ ‬أبوابها،‭ ‬وبعدها‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬أهاتف‭ ‬الأصدقاء‭ ‬والزملاء‭ ‬الذين‭ ‬ينتظرون‭ ‬وصولي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬وصلت‭ ‬فيه‭. ‬وانطلق‭ ‬بنا‭ ‬السائق‭ ‬إلى‭ ‬فندق‭ ‬هوليداي‭ ‬إن،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أحدث‭ ‬الفنادق‭ ‬المبنية‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬سنة‭ ‬1983،‭ ‬وقريباً‭ ‬من‭ ‬المطار‭ ‬بالفعل‭. ‬

وتوقف‭ ‬السائق‭ ‬أمام‭ ‬باب‭ ‬الفندق‭ ‬الذي‭ ‬رأيناه‭ ‬فخيماً،‭ ‬ودلفنا‭ ‬إلى‭ ‬باحته‭ ‬الجميلة‭ ‬المحاطة‭ ‬بطوابق‭ ‬الفندق،‭ ‬وفي‭ ‬أحد‭ ‬الأركان‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬المصعد‭ ‬الزجاجي‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬منه‭ ‬الصاعد‭ ‬جمال‭ ‬مشهد‭ ‬الباحة‭ ‬الداخلية‭ ‬للفندق‭ ‬كله‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬طوابقه‭ ‬العديدة‭. ‬وحجزت‭ ‬لنفسي‭ ‬وأسرتي‭ ‬بالطبع‭ ‬جناحاً‭ ‬عائلياً،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬الجناح‭ ‬القاطن‭ ‬بالدور‭ ‬السابع‭ ‬أو‭ ‬العاشر،‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬أذكر،‭ ‬حتى‭ ‬هرع‭ ‬ابني‭ ‬وابنتي‭ ‬إلى‭ ‬غرفة‭ ‬النوم‭ ‬الخاصة‭ ‬بهما‭ ‬واستغرقا‭ ‬في‭ ‬نوم‭ ‬عميق‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬تناولت‭ ‬وزوجتي‭ (‬رحمة‭ ‬الله‭ ‬عليها‭) ‬فطور‭ ‬الصباح‭ ‬الذي‭ ‬تعودنا‭ ‬عليه‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬يحتوي‭ ‬بالطبع‭ ‬على‭ ‬الفول‭ ‬المدمس‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬وجبة‭ ‬مقدسة‭ ‬عند‭ ‬المصريين‭ ‬في‭ ‬الفطور‭. ‬

 

أستاذ‭ ‬معار‭ ‬إلى‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت‭ ‬

أخذت‭ ‬أبحث‭ ‬في‭ ‬دليل‭ ‬التليفونات‭ ‬عن‭ ‬تليفونات‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت‭ ‬وكلية‭ ‬الآداب‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬مقرها‭ ‬الشويخ،‭ ‬وبالفعل‭ ‬عثرت‭ ‬على‭ ‬التليفونات‭ ‬وهاتفت‭ ‬صديقي‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬رجب‭ ‬النجار‭ (‬عليه‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭)‬،‭ ‬وعميد‭ ‬الكلية‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالله‭ ‬الغنيم،‭ ‬وقالا‭ ‬لي‭ ‬كلاهما‭: ‬لقد‭ ‬أحسنت‭ ‬التصرف،‭ ‬فابق‭ ‬في‭ ‬مكانك‭ ‬مستريحاً‭ ‬أنت‭ ‬والعائلة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نأتي‭ ‬إليك،‭ ‬ولا‭ ‬تفكر‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬تستريح‭ ‬وتنتظر‭. ‬وبالفعل‭ ‬فعلت‭ ‬كما‭ ‬قالا‭ ‬لي،‭ ‬وانتظرت‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬العاشرة،‭ ‬وظهر‭ ‬محمد‭ ‬رجب‭ ‬النجار‭ (‬عليه‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭) ‬فرحاً‭ ‬بقدومي‭ ‬مع‭ ‬عائلتي،‭ ‬وتبادلنا‭ ‬القبلات،‭ ‬وقال‭ ‬لي‭: ‬اترك‭ ‬حقائبك‭ ‬في‭ ‬الفندق‭ ‬مع‭ ‬الزوجة‭ ‬والأولاد‭ ‬وسنذهب‭ ‬معاً‭ ‬إلى‭ ‬الجامعة‭ ‬وكلية‭ ‬الآداب‭ ‬في‭ ‬الشويخ،‭ ‬كي‭ ‬تتسلم‭ ‬عملك‭ ‬بوصفك‭ ‬أستاذاً‭ ‬معاراً‭ ‬إلى‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت‭. ‬

وبالفعل‭ ‬خرجت‭ ‬معه‭ ‬إلى‭ ‬مقر‭ ‬إدارة‭ ‬الجامعة،‭ ‬وتنقلنا‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬شؤون‭ ‬العاملين‭ ‬وقسم‭ ‬الإسكان،‭ ‬وانتهى‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أصبحت‭ ‬أستاذاً‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت‭ ‬وانتقلنا‭ ‬إلى‭ ‬قسم‭ ‬الإسكان،‭ ‬حيث‭ ‬حصلت‭ ‬على‭ ‬مفتاح‭ ‬شقة‭ ‬مناسبة‭ ‬في‭ ‬مباني‭ ‬الجامعة‭ ‬الجديدة‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬الكويت،‭ ‬والمخصصة‭ ‬لأعضاء‭ ‬هيئة‭ ‬تدريس‭ ‬الجامعة،‭ ‬وكانت‭ ‬تحتل‭ ‬مساحة‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬بها‭ ‬ومريحة‭ ‬تمتد‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تتصل‭ ‬بعدد‭ ‬غير‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬الـﭭيلات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يسكنها‭ ‬الجيل‭ ‬الأسبق‭ ‬علينا‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت،‭ ‬مثل‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بدوي‭ ‬وأحمد‭ ‬أبوزيد‭ (‬رحمة‭ ‬الله‭ ‬عليهما‭). ‬

والحق‭ ‬أنني‭ ‬اخترت‭ ‬السكنى‭ ‬في‭ ‬عمارات‭ ‬الشويخ‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬تسمى،‭ ‬لأني‭ ‬شعرت‭ ‬بقدم‭ ‬وتهالك‭ ‬مباني‭ ‬الڤيلات‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬أسترح‭ ‬لمرآها،‭ ‬لكنها‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬حال،‭ ‬كانت‭ ‬تحتل‭ ‬المسافة‭ ‬الواصلة‭ ‬بين‭ ‬عمارات‭ ‬هيئة‭ ‬التدريس‭ ‬ونادي‭ ‬الجامعة‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحتوي‭ ‬على‭ ‬حمام‭ ‬للسباحة‭ ‬وأماكن‭ ‬متعددة‭ ‬للنشاط‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والثقافي‭.‬

ويبدو‭ ‬أنني‭ ‬صنعت‭ ‬مشكلة‭ ‬لإدارة‭ ‬الجامعة،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أدري‭ ‬أو‭ ‬أقصد،‭ ‬فقد‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬فندق‭ ‬هوليداي‭ ‬إن‭ ‬من‭ ‬نفسي‭ ‬وبقراري‭ ‬الشخصي،‭ ‬وكان‭ ‬منطقي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬مندوب‭ ‬الجامعة‭ ‬مادام‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يأت،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬انتظاري‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬متفق،‭ ‬فمن‭ ‬حقي‭ ‬أن‭ ‬أتصرف‭. ‬وكنت‭ ‬عاقداً‭ ‬العزم‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تتكفل‭ ‬الجامعة‭ ‬بتكاليف‭ ‬الفندق،‭ ‬فسوف‭ ‬أتكفل‭ ‬بها‭ ‬أنا‭ ‬
ما‭ ‬دمت‭ ‬قد‭ ‬اتخذت‭ ‬قراراً‭ ‬بأن‭ ‬أستريح‭ ‬في‭ ‬الفندق‭ ‬مع‭ ‬أسرتي‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أبدأ‭ ‬عملي‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭. ‬المهم‭ ‬أنني‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أنهيت‭ ‬الإجراءات‭ ‬الأولى‭ ‬لكي‭ ‬أكون‭ ‬أستاذاً‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت‭ ‬العزيزة،‭ ‬ذهبت‭ ‬مع‭ ‬صديقي‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬رجب‭ ‬النجار‭ ‬إلى‭ ‬عميد‭ ‬الكلية‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالله‭ ‬الغنيم‭ ‬–‭ ‬مد‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬عمره‭ - ‬وهو‭ ‬أستاذ‭ ‬للجغرافيا،‭ ‬وأذكر‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬كان‭ ‬بشوشا،‭ ‬عذب‭ ‬المعشر،‭ ‬رحب‭ ‬بي‭ ‬كل‭ ‬الترحيب‭ ‬واحتفى‭ ‬بي‭ ‬كل‭ ‬الحفاوة؛‭ ‬مما‭ ‬جعلني‭ ‬أشعر‭ ‬بأنني‭ ‬مازلت‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة،‭ ‬وهي‭ ‬جامعتي‭ ‬الأم‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬أفارق‭ ‬العمل‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭. ‬

 

بين‭ ‬النقد‭ ‬التطبيقي‭ ‬والنظري

وجلسنا‭ ‬عنده‭ ‬نتحدث‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬شعرت‭ ‬بأنه‭ ‬يجب‭ ‬عليّ‭ ‬أن‭ ‬أستأذن‭ ‬منه،‭ ‬وأذهب‭ ‬إلى‭ ‬رئيس‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية؛‭ ‬كي‭ ‬أضع‭ ‬نفسي‭ ‬تحت‭ ‬تصرفه‭ ‬وليحدد‭ ‬لي‭ ‬الجدول‭ ‬الدراسي‭. ‬وفي‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬القريب‭ ‬من‭ ‬مكتب‭ ‬العميد،‭ ‬وجدت‭ ‬أخي‭ ‬وصديقي‭ ‬الحميم‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالله‭ ‬العتيبي‭ ‬رئيس‭ ‬القسم،‭ ‬حيث‭ ‬قابلني‭ ‬ببشاشة‭ ‬لا‭ ‬حد‭ ‬لها،‭ ‬وأخذني‭ ‬بالأحضان،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كنت‭ ‬صديقاً‭ ‬حميماً‭ ‬له،‭ ‬واعتبرت‭ ‬نفسي‭ ‬منذ‭ ‬هذه‭ ‬التحية‭ ‬الحميمة‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬أساتذة‭ ‬القسم‭ ‬وصديقاً‭ ‬لعبدالله‭ ‬العتيبي،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يفارقنا‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بسنوات‭ ‬معدودة،‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬رحمة‭ ‬واسعة‭.‬

وهكذا‭ ‬بدأت‭ ‬عامي‭ ‬الدراسي‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭ ‬بجامعة‭ ‬الكويت،‭ ‬وكانت‭ ‬الدروس‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أقوم‭ ‬بتدريسها‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬تسع‭ ‬ساعات‭ ‬في‭ ‬الأسبوع،‭ ‬وهي‭ ‬موزعة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬النقد‭ ‬التطبيقي‭ ‬والنقد‭ ‬النظري‭ ‬والتراثي‭ ‬في‭ ‬آن‭. ‬وكانت‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت‭ ‬–‭ ‬ولعلها‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ - ‬تسير‭ ‬على‭ ‬نظام‭ ‬الساعات‭ ‬المعتمدة،‭ ‬وهو‭ ‬نظام‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬غريباً‭ ‬عليه،‭ ‬فقد‭ ‬كنت‭ ‬على‭ ‬ألفة‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬عملي‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬وسكنسن‭ ‬ماديسون‭ ‬لعام‭ ‬كامل‭ ‬سنة‭ ‬1977،‭ ‬وانتقالي‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬للعمل‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬استكهولم‭ ‬في‭ ‬السويد‭ ‬عاماً‭ ‬آخر‭ ‬سنة‭ ‬1982،‭ ‬وكلتا‭ ‬الجامعتين‭ ‬–‭ ‬في‭ ‬السويد‭ ‬أو‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ - ‬تقوم‭ ‬الدراسة‭ ‬فيهما‭ ‬على‭ ‬نظام‭ ‬الساعات‭ ‬المعتمدة،‭ ‬ولذلك‭ ‬بدأت‭ ‬العمل‭ ‬فوراً،‭ ‬ودخلت‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الثاني‭ ‬للطلاب،‭ ‬وكانت‭ ‬أمتع‭ ‬المحاضرات‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أقوم‭ ‬بتدريسها‭ ‬لهم‭ ‬هي‭ ‬محاضرات‭ ‬النقد‭ ‬التطبيقي‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الطلاب‭ ‬والطالبات‭ ‬متلهفين‭ ‬إلى‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬تجارب‭ ‬شعرية‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬أستاذ‭ ‬متحمس‭ ‬لهذه‭ ‬التجارب،‭ ‬ومناصر‭ ‬للحداثة‭ ‬الشعرية‭ ‬بوجه‭ ‬عام‭. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬برز‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬طلابي‭ ‬عدد‭ ‬غير‭ ‬قليل‭ ‬لاحظت‭ ‬التميز‭ ‬في‭ ‬أدائهم‭ ‬والرغبة‭ ‬الحماسية‭ ‬في‭ ‬استيعاب‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المعارف‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬جديدة‭ ‬عليهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬وأذكر‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الطلاب‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬النجوم‭ ‬الذين‭ ‬أصبحوا‭ ‬أساتذة‭ ‬مرموقين‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت،‭ ‬وفي‭ ‬الإعلام‭ ‬بوجه‭ ‬خاص‭. ‬

وكان‭ ‬أولهم‭ ‬علي‭ ‬عاشور،‭ ‬وثانيهم‭ ‬عباس‭ ‬الحداد،‭ ‬وثالثهم‭ ‬سعدية‭ ‬مفرح‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬شاعرة،‭ ‬وأصدرت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ديوان‭ ‬أحدث‭ ‬أصداء‭ ‬متميزة‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭.‬

 

أجمل‭ ‬سنوات‭ ‬عمري

ولا‭ ‬أزال‭ ‬أفخر‭ ‬بهؤلاء‭ ‬التلامذة‭ ‬وأمثالهم‭ ‬عندما‭ ‬أسمع‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬حققوه‭ ‬أو‭ ‬يحققونه‭ ‬من‭ ‬إنجازات‭. ‬فقد‭ ‬اعتبرت‭ ‬هؤلاء‭ ‬الثلاثة‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬أسماء‭ ‬أخرى‭ ‬هم‭ ‬البذور‭ ‬التي‭ ‬استطعت‭ ‬غرسها‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت،‭ ‬وظللت‭ ‬أفرح‭ ‬وأنا‭ ‬أشاهدها‭ ‬تتبرعم‭ ‬وتقوى‭ ‬أعوادها‭ ‬وتتجذّر‭ ‬في‭ ‬تربة‭ ‬الحياة‭ ‬الأدبية‭ ‬للكويت‭. ‬فلقد‭ ‬قضيت‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت‭ ‬خمس‭ ‬سنوات،‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬سنوات‭ ‬عمري،‭ ‬فما‭ ‬أكثر‭ ‬الصداقات‭ ‬التي‭ ‬كونتها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬الكريم‭ ‬المضياف‭! ‬وما‭ ‬أكثر‭ ‬الأجيال‭ ‬التي‭ ‬علمتها‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت،‭ ‬والتي‭ ‬أصبحت‭ ‬مرموقة‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭.‬

وأذكر‭ ‬أنه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انتهت‭ ‬إعارتي‭ ‬للكويت‭ ‬وعدت‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬سمعت‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬طريقي‭ ‬إلى‭ ‬مكتب‭ ‬صديقي‭ ‬المرحوم‭ ‬لطفي‭ ‬الخولي‭ ‬في‭ ‬مؤسسة‭ ‬الأهرام‭ ‬عن‭ ‬الغزو‭ ‬العراقي‭ ‬الفاشل‭ ‬على‭ ‬الكويت،‭ ‬ولم‭ ‬ينقبض‭ ‬قلبي‭ ‬حزناً‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬انفطر‭ ‬هذا‭ ‬القلب،‭ ‬وأظن‭ ‬أنني‭ ‬كتبت‭ ‬مقالة‭ ‬شهيرة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬البعيد‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬إلى‭ ‬ابني‭ ‬علي‮»‬،‭ ‬وكنت‭ ‬أعني‭ ‬علي‭ ‬عاشور‭ ‬تلميذي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحضر‭ ‬معي‭ ‬دروس‭ ‬النقد‭ ‬التطبيقي،‭ ‬والذي‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬وحصل‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬التي‭ ‬أهلته‭ ‬لكي‭ ‬يكون‭ ‬أستاذاً‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت‭. ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬الزمن‭ ‬قد‭ ‬باعد‭ ‬بيني‭ ‬وبينه،‭ ‬وباعد‭ ‬بيني‭ ‬وزملائه،‭ ‬فإنني‭ ‬لا‭ ‬أزال‭ ‬أتذكر‭ ‬نوادرهم‭ ‬وطرائفهم،‭ ‬فأشعر‭ ‬بالسعادة‭ ‬لأنني‭ ‬استطعت‭ ‬أن‭ ‬أسهم‭ ‬مع‭ ‬غيري‭ ‬في‭ ‬غرس‭ ‬بذور‭ ‬طيبة،‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬أثمرت‭ ‬نباتاً‭ ‬يانعاً‭ ‬يافعاً،‭ ‬لايزال‭ ‬يقدم‭ ‬عطاءه‭ ‬للآخرين‭. ‬وفقهم‭ ‬الله‭ ‬جميعاً‭ ‬في‭ ‬حياتهم،‭ ‬فقد‭ ‬كانوا‭ ‬بمنزلة‭ ‬أبناء‭ ‬لي،‭ ‬ولزوجي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تستقبلهم‭ ‬في‭ ‬منزلها‭ ‬بمحبة‭ ‬وحنان‭.‬

 

شبهة‭ ‬تقرب

وبالطبع‭ ‬كان‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬أتعرف‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬الكويت،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬اتحاد‭ ‬الكتاب‭ ‬أو‭ ‬الأدباء‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬المجلس‭ ‬الوطني‭ ‬الكويتي‭ ‬للثقافة‭ ‬والفنون‭ ‬والآداب‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬الكويتية‭. ‬وكنت‭ ‬مشتركاً‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬الثلاث‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تصدر‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬غادرتها‭ ‬سنة‭ ‬1988‭. ‬ورغم‭ ‬علاقاتي‭ ‬الوثيقة‭ ‬مع‭ ‬القائمين‭ ‬على‭ ‬الإعلام‭ ‬في‭ ‬الكويت،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬منظوراً‭ ‬أو‭ ‬مقروءاً‭ ‬أو‭ ‬مسموعاً،‭ ‬فقد‭ ‬عاهدت‭ ‬نفسي‭ ‬على‭ ‬ألا‭ ‬أكتب‭ ‬عن‭ ‬شخصية‭ ‬كويتية‭ ‬قط،‭ ‬مادمت‭ ‬موجوداً‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬شبهة‭ ‬تقرب‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬النفوذ‭ ‬أو‭ ‬المصلحة‭. ‬وكنت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬النقيض‭ ‬من‭ ‬صديقي‭ ‬المرحوم‭ ‬فؤاد‭ ‬زكريا‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬مقال‭ ‬أسبوعي‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬الجرائد‭ ‬الكويتية‭ ‬انتشاراً‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭. ‬ولعل‭ ‬أهم‭ ‬وأجرأ‭ ‬مقالاته،‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬هي‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يتحدث‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬‮«‬البتروإسلام‮»‬‭ ‬وخصائصه‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬أقترب‭ ‬من‭ ‬فؤاد‭ ‬زكريا‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬رئيساً‭ ‬لقسم‭ ‬الفلسفة‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭ ‬بجامعة‭ ‬الكويت‭. ‬

 

نوادر‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بدوي

وكان‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬أساتذة‭ ‬القسم‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭ ‬هو‭ ‬المرحوم‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بدوي‭ ‬الذي‭ ‬انتهت‭ ‬به‭ ‬الحال‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬أستاذاً‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬الفلسفة‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرأسه‭ ‬تلميذه‭ ‬فؤاد‭ ‬زكريا‭. ‬وكان‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بدوي‭ ‬يلتقي‭ ‬أسبوعياً‭ ‬مع‭ ‬أحمد‭ ‬
أبو‭ ‬زيد‭ ‬رئيس‭ ‬تحرير‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬عالم‭ ‬الفكر‮»‬‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬مجموعة‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬الأساتذة‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يشاركون‭ ‬هذين‭ ‬الاثنين‭ ‬اهتماماتهما،‭ ‬وقد‭ ‬حضرت‭ ‬لقاءهم‭ ‬الأسبوعي‭ ‬مرتين‭ ‬أو‭ ‬ثلاثاً،‭ ‬ولكني‭ ‬لم‭ ‬أسترح‭ ‬نفسياً‭ ‬إلى‭ ‬الطريقة‭ ‬المتعالية‭ ‬التي‭ ‬يتحدث‭ ‬بها‭ ‬المرحوم‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بدوي،‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬نوادره‭ ‬التي‭ ‬أتذكرها‭ ‬الآن‭ ‬بعد‭ ‬انقضاء‭ ‬هذه‭ ‬السنوات‭ ‬كلها‭. ‬

ومن‭ ‬أطرف‭ ‬هذه‭ ‬النوادر‭ ‬التي‭ ‬تخصني،‭ ‬هي‭ ‬بخله‭ ‬الشديد‭ ‬وحرصه‭ ‬على‭ ‬جمع‭ ‬المال،‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭ ‬عليه‭. ‬وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬سافرت‭ ‬مدعواً‭ ‬إلى‭ ‬تونس‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1984،‭ ‬وكانت‭ ‬تونس‭ ‬تحتفل‭ ‬بخمسينية‭ ‬أبي‭ ‬القاسم‭ ‬الشابي‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬الأسبق‭ ‬محمد‭ ‬مزالي‭ ‬ووزير‭ ‬الثقافة‭ ‬الأسبق‭ ‬البشير‭ ‬بن‭ ‬سلامة‭. ‬وقد‭ ‬ذهبت‭ ‬مع‭ ‬بحث‭ ‬لكي‭ ‬أشترك‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬الاحتفال‭ ‬بهذه‭ ‬الخمسينية،‭ ‬وكان‭ ‬بحثي‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬الخيال‭ ‬الشعري‭ ‬عند‭ ‬الشابي‮»‬،‭ ‬وأذكر‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬البحث‭ ‬قد‭ ‬وجد‭ ‬صدى‭ ‬جيداً‭ ‬وفتح‭ ‬لي‭ ‬أبواب‭ ‬صداقات‭ ‬تونسية‭ ‬جديدة‭ ‬لاأزال‭ ‬معتزاً‭ ‬بها،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أنساه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المؤتمر‭ ‬أن‭ ‬ناشراً‭ ‬تونسياً،‭ ‬هو‭ ‬الأستاذ‭ ‬أبوالقاسم‭ ‬كرو،‭ ‬جاء‭ ‬لي‭ ‬وقال‭ ‬لي‭: ‬بما‭ ‬أنك‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬الكويت،‭ ‬فمن‭ ‬فضلك‭ ‬خذ‭ ‬هذه‭ ‬النقود‭ ‬وسلمها‭ ‬إلى‭ ‬الأستاذ‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بدوي،‭ ‬وأعطاني‭ ‬مظروفاً‭ ‬يضم‭ ‬خمسة‭ ‬آلاف‭ ‬دولار،‭ ‬وأخذت‭ ‬المظروف‭ ‬ووعدت‭ ‬الرجل‭ ‬بتسليمه‭ ‬إلى‭ ‬بدوي‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرفه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬معرفة‭ ‬وثيقة‭. ‬

 

ثأرت‭ ‬لنفسي

وبالفعل‭ ‬عندما‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬الكويت‭ ‬تصادف‭ ‬أن‭ ‬قابلت‭ ‬بدوي‭ ‬في‭ ‬الردهة‭ ‬ذاهباً‭ ‬إلى‭ ‬مكتبه‭ ‬في‭ ‬عجلة‭ ‬واضحة،‭ ‬وناديته‭ ‬محاولاً‭ ‬إيقافه،‭ ‬لكنه‭ ‬ظنني‭ - ‬مع‭ ‬الأسف‭ - ‬طالباً‭ ‬أو‭ ‬صحفياً‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يأخذ‭ ‬منه‭ ‬حواراً‭ ‬لجريدته،‭ ‬فأشاح‭ ‬بيديه‭ ‬كي‭ ‬أعرف‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يتوقف‭ ‬للحديث‭ ‬معي،‭ ‬وحاولت‭ ‬مراراً‭ ‬أن‭ ‬أفهمه‭ ‬ما‭ ‬أريد،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬يكتفي‭ ‬بتشويح‭ ‬يديه‭ ‬والانطلاق‭ ‬إلى‭ ‬مكتبه،‭ ‬فتركته‭ ‬غاضباً‭ ‬وذهبت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬المرحوم‭ ‬الدكتور‭ ‬فؤاد‭ ‬زكريا‭ ‬كي‭ ‬أشكو‭ ‬إليه،‭ ‬وابتسم‭ ‬زكريا‭ ‬قائلاً‭: ‬إنني‭ ‬رئيس‭ ‬القسم‭ ‬الذي‭ ‬يعمل‭ ‬فيه،‭ ‬ورغم‭ ‬أنه‭ ‬أستاذ‭ ‬لي‭ ‬وأحترمه‭ ‬كل‭ ‬الاحترام‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يقل‭ ‬لي‭ ‬صباح‭ ‬الخير‭ ‬أو‭ ‬تحية‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القبيل‭ ‬لست‭ ‬سنوات‭ ‬مضت،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬أغلظ‭ ‬لك‭ ‬القول‭ ‬أو‭ ‬سلك‭ ‬معك‭ ‬سلوكاً‭ ‬فظاً،‭ ‬فأستاذيته‭ ‬لنا‭ ‬تبرر‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أطلب‭ ‬منك‭ ‬التسامح،‭ ‬وأن‭ ‬تغض‭ ‬الطرف‭ ‬عن‭ ‬غضبته‭ ‬عليك،‭ ‬فالرجل‭ ‬سيء‭ ‬الظن‭ ‬بالبشر‭ ‬وأحسبه‭ ‬عدك‭ ‬كاتباً‭ ‬صحفياً،‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يحب‭ ‬الصحفيين‭ ‬ومن‭ ‬في‭ ‬حكمهم‭. ‬

وكانت‭ ‬سكرتيرة‭ ‬فؤاد‭ ‬زكريا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬تستمع‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الحوار،‭ ‬فقلت‭ ‬لها‭: ‬أخبريه‭ ‬بأنني‭ ‬معي‭ ‬مظروف‭ ‬له‭ ‬به‭ ‬خمسة‭ ‬آلاف‭ ‬دولار‭ ‬أتيت‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬ناشر‭ ‬تونسي‭ ‬إليه،‭ ‬وأني‭ ‬لن‭ ‬أخاطبه‭ ‬أبدا،‭ ‬لكني‭ ‬سوف‭ ‬أنتظره‭ ‬في‭ ‬مكتبي‭ ‬بقسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬إليّ‭ ‬ويطلب‭ ‬مني‭ ‬في‭ ‬مودة‭ ‬وشكر‭ ‬أن‭ ‬أسلمه‭ ‬المظروف‭ ‬الذي‭ ‬فيه‭ ‬دولاراته،‭ ‬وإلا‭ ‬فإنني‭ ‬لن‭ ‬أسلمه‭ ‬الظرف‭ ‬أبداً‭. ‬وكنت‭ ‬أعرف‭ ‬مدى‭ ‬حرصه‭ ‬الشديد‭ ‬على‭ ‬المال،‭ ‬وبخله‭ ‬الشديد‭ ‬أيضا‭. ‬وما‭ ‬إن‭ ‬أبلغته‭ ‬السكرتيرة‭ ‬بذلك‭ ‬حتى‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يرسلها‭ ‬لتحصل‭ ‬على‭ ‬المظروف‭ ‬مني،‭ ‬ولكني‭ ‬رفضت‭ ‬وأصررت‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يحضر‭ ‬بنفسه‭ ‬ويطلب‭ ‬مني‭ ‬شاكراً‭ ‬نقوده‭ ‬التي‭ ‬أرسلها‭ ‬له‭ ‬الناشر‭ ‬والأديب‭ ‬التونسي‭ ‬أبوالقاسم‭ ‬كرو‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬أمامه‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬الأمر‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬إلى‭ ‬مكتبي‭ ‬ويطلب‭ ‬المظروف‭ ‬منى‭ ‬ويشكرني،‭ ‬رغم‭ ‬أنفه‭. ‬وما‭ ‬إن‭ ‬سلمته‭ ‬إياه‭ ‬حتى‭ ‬خرج‭ ‬غاضباً‭ ‬من‭ ‬الغرفة‭ ‬مظهراً‭ ‬علامات‭ ‬هذا‭ ‬الغضب‭ ‬بكل‭ ‬الوسائل‭ ‬الممكنة،‭ ‬لكني‭ ‬ابتسمت‭ ‬فقد‭ ‬ثأرت‭ ‬لنفسي‭ ‬لما‭ ‬فعله‭ ‬بي‭ ‬من‭ ‬قبل‭. ‬

‭ ‬

الآباء‭ ‬المؤسسون

والحق‭ ‬أن‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت‭ ‬قد‭ ‬جمعت‭ ‬أعلام‭ ‬الأساتذة‭ ‬في‭ ‬المجالات‭ ‬العلمية‭ ‬المختلفة‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬جامعتها‭ ‬الوليدة،‭ ‬فقد‭ ‬كنت‭ ‬أتلفت‭ ‬حولي‭ ‬فأرى‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬أهم‭ ‬الأساتذة‭ ‬الجامعيين‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬تحتفي‭ ‬بهم‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت‭ ‬وتحتضنهم‭ ‬باعتبارهم‭ ‬الآباء‭ ‬المؤسسين‭ ‬لهذه‭ ‬الجامعة‭ ‬التي‭ ‬نشأت‭ ‬نشأة‭ ‬بالغة‭ ‬القوة‭ ‬وأسست‭ ‬بأفضل‭ ‬العناصر‭ ‬الجامعية‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭. ‬أذكر‭ ‬أنني‭ ‬حين‭ ‬كنت‭ ‬أنظر‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬الفلسفة‭ ‬أرى‭ ‬فهمي‭ ‬جدعان‭ ‬الأردني،‭ ‬وفي‭ ‬قسم‭ ‬التاريخ‭ ‬أرى‭ ‬عبداللطيف‭ ‬إبراهيم‭ ‬وسعيد‭ ‬عاشور،‭ ‬وهما‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المؤرخين‭ ‬في‭ ‬تخصصاتهما‭. ‬

أما‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬فقد‭ ‬رأيت‭ ‬فيه‭ ‬عبدالسلام‭ ‬هارون‭ ‬المحقق‭ ‬الكبير‭ ‬وغيره‭ ‬من‭ ‬الدارسين‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬أنكر‭ ‬فضلهم،‭ ‬وأذكر‭ ‬بالعرفان‭ ‬حفاوتهم‭ ‬بي،‭ ‬مثل‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالهادي‭ ‬محبوبة‭ ‬وزوجه‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭ ‬وعشرات‭ ‬الأسماء‭ ‬التي‭ ‬تكاد‭ ‬تهرب‭ ‬من‭ ‬ذاكرتي،‭ ‬لكن‭ ‬لم‭ ‬أنس‭ ‬منهم‭ ‬أحمد‭ ‬عمر‭ ‬مختار،‭ ‬أستاذ‭ ‬اللغويات‭ ‬الذي‭ ‬درس‭ ‬في‭ ‬كمبردج‭ ‬وحصل‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬في‭ ‬اللغويات،‭ ‬وكان‭ ‬نعم‭ ‬الصديق‭ ‬والراعي،‭ ‬ولن‭ ‬أنسى‭ ‬أنه‭ ‬فور‭ ‬وصولي‭ ‬إلى‭ ‬سكني‭ ‬زارني‭ ‬ورحب‭ ‬بي‭ ‬ترحيباً‭ ‬حاراً،‭ ‬وأصر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يعطيني‭ ‬مبلغاً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬الدينارات‭ ‬لأتدبر‭ ‬بها‭ ‬أحوالي‭ ‬العاجلة‭ ‬وأردها‭ ‬إليه‭ ‬حين‭ ‬ميسرة‭. ‬ولم‭ ‬أنس‭ ‬كذلك‭ ‬الصديق‭ ‬فتوح‭ ‬أحمد‭ ‬الذي‭ ‬اشترك‭ ‬في‭ ‬محاولات‭ ‬استقدامي‭ ‬إلى‭ ‬الكويت‭ ‬مع‭ ‬المرحوم‭ ‬محمد‭ ‬رجب‭ ‬النجار‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬نعم‭ ‬الصديق‭ ‬والراعي‭. ‬والحق‭ ‬أن‭ ‬النجار‭ ‬كان‭ ‬أقرب‭ ‬الأصدقاء‭ ‬إلى‭ ‬نفسي،‭ ‬فقد‭ ‬أصبحت‭ ‬عائلته‭ ‬عائلتي‭ ‬وعائلتي‭ ‬عائلته‭. ‬

وكان‭ ‬نعم‭ ‬الصديق‭ ‬والزميل‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يخذلني‭. ‬وكان‭ ‬متخصصاً‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الشعبي،‭ ‬وله‭ ‬كتابات‭ ‬عدة،‭ ‬أذكر‭ ‬منها‭ ‬كتابه‭ ‬عن‭ ‬الفوازير‭ ‬الكويتية،‭ ‬وكم‭ ‬ضحكنا‭ ‬معاً‭ ‬عندما‭ ‬أقبل‭ ‬عجوز‭ ‬كويتي‭ ‬يسأل‭ ‬عنه‭ ‬بوصفه‭ ‬الأستاذ‭ ‬الذي‭ ‬يكتب‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الخرابيط‮»‬‭. ‬ومثل‭ ‬المرحوم‭ ‬محمد‭ ‬النجار،‭ ‬كان‭ ‬العزيز‭ ‬إمام‭ ‬عبدالفتاح‭ ‬إمام‭ ‬المعروف‭ ‬بدراساته‭ ‬عن
هيجل‭ ‬الفيلسوف‭. ‬وقد‭ ‬ضمن‭ ‬له‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الطاغية‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬نشره‭ ‬في‭ ‬‮«‬عالم‭ ‬المعرفة‮»‬‭ ‬درجة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الشهرة‭ ‬وذيوع‭ ‬الصيت،‭ ‬خصوصاً‭ ‬أن‭ ‬موضوع‭ ‬الكتاب‭ ‬كان‭ ‬عن‭ ‬الاستبداد‭ ‬والمستبد‭. ‬

 

وقتي‭ ‬بين‭ ‬المحاضرات‭ ‬والحياة‭ ‬الأدبية

وكان‭ ‬إمام‭ ‬عبدالفتاح‭ ‬–‭ ‬مد‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬عمره‭ - ‬غزير‭ ‬الإنتاج‭ ‬متفرغاً‭ ‬تماماً‭ ‬للعمل‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬الأجواء‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭ ‬تشجع‭ ‬عليه‭. ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬قسم‭ ‬الفلسفة‭ ‬كان‭ ‬يضم‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬إمام‭ ‬عبدالفتاح‭ ‬ومحمود‭ ‬رجب‭ ‬الذي‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬اقتربت‭ ‬منه،‭ ‬أستاذنا‭ ‬محمد‭ ‬عبدالهادي‭ ‬أبو‭ ‬ريدة‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬علماً‭ ‬وقمة‭ ‬في‭ ‬كتاباته‭ ‬وترجماته‭ ‬النموذجية‭. ‬وقد‭ ‬سعدت‭ ‬بزمالتي‭ ‬له‭ ‬لعام‭ ‬دراسي‭ ‬كامل‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة،‭ ‬شأنه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬شأن‭ ‬أساطين‭ ‬علم‭ ‬التاريخ‭ ‬الذين‭ ‬ضمهم‭ ‬قسم‭ ‬التاريخ،‭ ‬وأذكر‭ ‬منهم‭ ‬الدكتور‭ ‬أحمد‭ ‬عبدالرحيم‭ ‬مصطفى‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الحديث‭ ‬والعبادي‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الأندلسي،‭ ‬وغيرهم‭ ‬كثر،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت‭ ‬حريصة‭ ‬على‭ ‬استقدام‭ ‬القمم‭ ‬الشامخة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مجال‭ ‬من‭ ‬مجالات‭ ‬المعرفة‭.‬

وكان‭ ‬وقتي‭ ‬موزعاً‭ ‬بين‭ ‬المحاضرات‭ ‬والذهاب‭ ‬إلى‭ ‬المكتبة‭ ‬والاشتراك‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الأدبية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تضم‭ ‬خليفة‭ ‬الوقيان‭ ‬وسليمان‭ ‬العسكري،‭ ‬وكلاهما‭ ‬كان‭ ‬معاوناً‭ ‬لأحمد‭ ‬مشاري‭ ‬العدواني‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬أميناً‭ ‬للمجلس‭ ‬الوطني‭ ‬للثقافة‭ ‬والفنون‭ ‬والآداب،‭ ‬وشاعراً‭ ‬مرموقاً‭ ‬في‭ ‬الكويت‭. ‬وأظن‭ ‬أنه‭ ‬صاحب‭ ‬النشيد‭ ‬الوطني‭ ‬الكويتي،‭ ‬وهو‭ ‬النشيد‭ ‬الذي‭ ‬لايزال‭ ‬يؤثر‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬كلما‭ ‬استمعت‭ ‬إليه‭ ‬ويردني‭ ‬إلى‭ ‬أجمل‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬عمري‭ ‬قضيتها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬المضياف‭. ‬ولذلك‭ ‬لاأزال‭ ‬أشعر‭ ‬بالحنين‭ ‬لسنوات‭ ‬الكويت‭ ‬كلما‭ ‬سمعت‭:‬

وطني‭ ‬الكويت‭ ‬سلمت‭ ‬للمجد

وعلى‭ ‬جبينك‭ ‬طالع‭ ‬السعد

وأشعر‭ ‬بالبهجة‭ ‬لذكريات‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬العزيز‭ ‬الذي‭ ‬صار‭ ‬وطناً‭ ‬لي‭ ‬لخمس‭ ‬سنوات‭ ‬كاملة‭. ‬والحق‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬ربطتني‭ ‬علاقة‭ ‬وثيقة‭ ‬بالعاملين‭ ‬في‭ ‬المجلس‭ ‬الوطني،‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬أحمد‭ ‬العدواني‭ ‬وانتهاء‭ ‬بالأستاذ‭ ‬صدقي‭ ‬حطاب‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬المجلس،‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬نعم‭ ‬العون‭ ‬على‭ ‬استقراري‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬وتعريفي‭ ‬بأعلام‭ ‬كتّابها‭ ‬وشعرائها‭. ‬وكان‭ ‬يتشارك‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬عبدالله‭ ‬العتيبي‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬صديقاً‭ ‬لي،‭ ‬وكنت‭ ‬معجباً‭ ‬بشعره،‭ ‬كما‭ ‬كنت‭ ‬معجبا‭ ‬بالشعراء‭ ‬المعاصرين‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬الكويت،‭ ‬رحمهم‭ ‬الله‭ ‬جميعاً،‭ ‬فقد‭ ‬كانوا‭ ‬نعم‭ ‬الأصدقاء‭. ‬هكذا‭ ‬أمضيت‭ ‬العامين‭ ‬الأولين‭ ‬من‭ ‬حياتي‭ ‬الأكاديمية‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت،‭ ‬وقد‭ ‬كانا‭ ‬عامين‭ ‬مثمرين‭ ‬بالفعل‭ ‬ترجمت‭ ‬فيهما‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬عصر‭ ‬البنيوية‮»‬‭ ‬لـ‭ ‬إيدس‭ ‬كرزويل،‭ ‬وراجعت‭ ‬ترجمتي‭ ‬لكتاب‭ ‬‮«‬الماركسية‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبي‮»‬‭ ‬لتيري‭ ‬إيجلتون،‭ ‬وكتبت‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬الأبحاث‭ ‬التي‭ ‬شاركت‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬المؤتمرات،‭ ‬وكان‭ ‬الزمان‭ ‬غضاً‭ ‬طرياً‭. ‬

والكويت‭ ‬تبدو‭ ‬بمنزلة‭ ‬جنة‭ ‬تتحقق‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬الأحلام‭ ‬ويتعرف‭ ‬فيها‭ ‬المرء‭ ‬على‭ ‬أجمل‭ ‬الشخصيات‭ ‬الجامعية‭ ‬والثقافية‭. ‬ولكن‭ ‬كان‭ ‬لابد‭ ‬لهذين‭ ‬العامين‭ ‬أن‭ ‬ينقضيا‭ ‬كي‭ ‬أدخل‭ ‬في‭ ‬أعوام‭ ‬ثلاثة‭ ‬باقية‭ ‬تحملت‭ ‬فيها‭ ‬مسؤولية‭ ‬الإشراف‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬الأكاديمي‭ ‬من‭ ‬كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬وذلك‭ ‬مع‭ ‬مجيء‭ ‬صديقي‭ ‬الأعز‭ ‬خلدون‭ ‬النقيب‭ ‬إلى‭ ‬العمادة،‭ ‬مصحوباً‭ ‬بتصور‭ ‬حداثي‭ ‬لكلية‭ ‬الآداب‭ ‬مع‭ ‬استراتيـجية‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬مسارها‭ ‬العلمي‭ ‬والأكاديمي‭. (‬وللحديث‭ ‬بقية‭)‬