الحداثة ومسألة الـ «ما بعد»
لا أعتقد أن الحديث عن «ما بعد الحداثة» عند المفكرين الغربيين يتمّ بالسهولة عينها والخصوبة ذاتها اللتين يتم بهما في الكتابات العربية. يميل كثير من كتابنا إلى التقسيمات والتحقيبات، فيسارعون إلى تقسيم الحداثة إلى ما قبلها وما بعدها. ولعل تحديدهم الزمني للحداثة هو الذي يجرهم إلى ذلك. عندما تُحدِّد الحداثةَ على أنها «مرحلة» عرفها الفكر الغربي في حقبة بعينها، فلا مفرّ لك من أن تتساءل عما قبل تلك الحقبة وعما بعدها.
قد يقال إن مفهوم «ما بعد الحداثة» ذاته قد نُقل إلينا عبر المفكرين الغربيين أنفسهم، إلا أننا لو وقفنا عند استعمال ذلك المفهوم عند المنظرين الغربيين، فإننا لا نجد ربما الإفراط نفسه في الاستخدام. ففيما يتعلق بالفكر الفرنكفوني، إذا استثنينا كتاب «الشرط ما بعد الحداثي» لـجان فرانسوا ليوتار، فإننا لا نكاد نعثر على توظيف للمفهوم، ولا وقوف عند تحديده. أما الفكر الأنجلوساكسوني، فإن كان يكثر هو أيضاً من توظيف المفهوم، فليس في المجال النظري الصرف، وهو يكاد يقصره على بعض الفنون كالتشكيل والمعمار.
لعل ندرة توظيف المفهوم في المجال النظري عند الكتاب الفرنكفونيين راجعة بالأساس إلى نفورهم من التحديد الزمني للحداثة، وعدم اقتصارهم على أن ينظروا إليها من حيث هي مرحلة تاريخية، وإنما ينظرون إليها باعتبارها موقفاً. فهم يميزون في هذا الصدد بين موقفين متعارضين أشد التعارض: موقف بارد واصف ينشغل بتعيين الأحقاب، وتحديد الملامح وحصر السمات، وموقف مضاد ينظر إلى الحداثة على أنها استراتيجية. يتعارض هذان الموقفان تعارضَ الهدنة مع التوتّر. فبينما يتميز الموقف المهادن بهوَسه التأريخي، وبرودته الوصْفية، وسمته التقريرية التي تكتفي بالتحقيب ورصد المحددات، يعتبر الموقف الثاني أن الحداثة «عصر» بالمعنى الذي يعطيه م. هايدغر للكلمة، أي ليس من حيث إن العصر فترة زمنية تمتد بين تاريخين، بل من حيث هو علاقة متفجرة للماضي بالمستقبل. فعند كل عصر، بحسب الفيلسوف الألماني، يطلّ بالنسبة للإنسان عالم جديد، وتنكشف علاقة جديدة للماضي بالمستقبل.
فأن تكون «إنسانَ الحداثة»، وفق هذه الرؤية، ليس هو أن تتعرف على سير التاريخ وتقف عند حركته الدؤوبة، وإنما أن تتخذ موقفا منها. ليس أن «تقف على»، وإنما أن «تقف من».
يتعلق الأمر إذاً بمفهومين عن الحداثة: مفهوم يعتبر أن الانفصال ليس محدِّداً للحداثة، وأن هذه سرعان ما تصبح تقليداً بالنظر إلى ما بعدها، ومفهوم مخالف لهذا أشد المخالفة، يجعل الحداثة دائماً «ما بعد». هنا تغدو الحداثة علاقة متوترة مع الراهن، ونمطاً من التفكير والإحساس، وطريقة في التفكير والسلوك ينبغي الاضطلاع بها. إنها استراتيجية مناضلة تقوم أمام استراتيجية مضادة تبديها قوة التقليد، من حيث إن التقليد مقاومات مستمرة، وتكيّف ماكر يتلبس ألف قناع لامتصاص الحديث وإفراغه من محتواه، تشبثاً بما هو كائن، ومقاومة لكل انفصال.
على هذا النحو تغدو الحداثة موقفاً نضالياً ينبني على وعي بالحركة المتقطعة، لا للزمن فحسب، بل للكائن أيضاً، بحيث لا يعود الكائن مترابط العناصر، سواء أكان ذلك على مستوى المعرفة أو المجتمع، وتظهر الانشطارات داخل ما يُعتبر مواقع انسجام، و«يتبخّر كل ما هو صلب».
من هذا المنظور لا تقابل الحداثة ما قبلها ولا ما بعدها، وإنما تقابل ما ليس إياها، أي تقابل التقليد. ولا يمكنها بالتالي أن تُقطّع إلى «ما قبل» و«ما بعد» لأنها هي نفسها حركة قطْع وانفصال. فهي ليست حقبة تبدأ عند نقطة وتنتهي عند أخرى، لأنها بداية متجدّدة، ونشأة مستأنفة، وانفصال لامتناه. إنها «ما بعدية» في جوهرها وعلى الدوام. و«الما بعد» لا يشكّل لحظة تأتي بعد، وهو ليس مقولة زمانية، وإنما حال تطبع الحداثة بما هي حداثة. إنه مكوّن من مكونات الحداثة ومحدّد من محدداتها، وليس حقبة تعقبها ولا مرحلة تليها. فنحن لا يمكننا الذهاب أبعد من الحداثة مادامت الحداثة تجعل المابعدية صميم حركتها.
الحداثة هجرة متواصلة وانفصال موصول، وكل «ما بعد» ليس إلا «حداثة الحداثة». فحتى إن تشبثنا بالحديث عـ«ما بعد»، فلن يعني إلا كون الحداثة البعدية حداثة أكثر عمقاً ورسوخاً، لأنها أكثر مرونة، أكثر قدرة على احتواء نقائضها، ولن يكون ذلك إلا تجاوباً عميقاً مع ماهية الحداثة نفسها من حيث إنها تجاوز مستمر، وقطيعة متواصلة، وتنكّر دؤوب لذاتها.
فنحن ينبغي ألا ننسى أن الحداثة تحديث متواصل، إنها ما تفتأ تجاوز ذاتها، وهي حركة تاريخية غير راضية عن نفسها. وما يميّزها في مختلف أبعادها هو هذا التنكّر للذات، هذا «العقوق»، وهذا السّعي نحو التضادّ والميل إلى عدم الرضا والانفصال اللامتناهي. فهي لا ترضى عن مؤسّساتها السياسية، ولا عن منجزاتها التقنية، ولا عن غزواتها الفلكية، ولا عن اكتساحاتها المعرفية. إنها لا ترتاح للمفهوم الذي أرسته عن الفرد، ولا للمعنى الذي أعطته للحرية، ولا للدلالة التي رسّختها عن العقل، ولا للكيفية التي بنت عليها الديمقراطية، ولا للشكل الذي أرست عليه الحقوق. فهي حركة لا تركن إلى سكون، ولا تخلد إلى راحة ولا تقنع ولا تقتنع، إنها «ما بعدية» على الدوام .