التضمين والإشارة
التضمين في معناه البلاغي القديم هو استعارة كلام قديم وإدماجه في كلام جديد. وهو ما صاغه ابن رشيق - في كتابه «العمدة» - بقوله: «هو قصدك إلى البيت من الشعر أو القسيم فتأتي به في آخر شعرك أو وسطه كالمتمثل». وهو تعريف له ما يشبهه في كتب البلاغة القديمة.
ومنه قول جحظة البرمكي (من شعراء العصر العباسي):
أصبحتُ بين معاشرٍ هجروا الندى
وتقبّلُوا الأخلاقَ عن أسلافِهــــمْ
قومٌ أحاولُ نيلهــــــــــــُم فكأنَّمــــا
حاولتُ نتف الشّعر من آنافهـم
هات اسقنيها بالكبـــــــــير وغنّني
«ذهبَ الذينَ يعاشُ في أكنافِهِم»
والشطر الأخير من بيت لبيد بن ربيعة العامري:
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
وقد أتى به جحظة على سبيل التمثيل.
ولكن هذا الاستخدام للتضمين فارق حدوده القديمة وأصبح يؤدي وظائف متعددة تجاوز التمثل القديم في الشعر الحر الذي يحرص الشعراء على استخدام التضمين ليبرزوا التضاد الهائل بين عالمهم وعالم الشاعر القديم. ولذلك أحال بدر شاكر السيَّاب بيت الشاعر العباسي علي بن الجهم:
عيون المها بين الرصافة والجســر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
إلى:
عيون المها بين الرصافة والجســـر
ثقوب رصاص رقّشت صفحة البـــدر
ليبرز المفارقة بين بغداد التي عاشت صراع أبناء زمنه، وبغداد التي تعود ابن الجهم على التغزل بحسناواتها في زمن الخليفة المتوكل العباسي.
أما الإشارة فهي الإيماء أو التلميح المباشر أو غير المباشر إلى اسم أو موضوع أو موقف تراثي، وذلك بمعنى قريب من معنى الـ Allusion في الأدب الإنجليزي، وهي وسيلة بلاغية أفادها شعراء الشعر الحر من قراءتهم في الآداب الأوربية. ولذلك ذاع في شعرهم الإشارة إلى الصلب وأسماء الأعلام في الأساطير الأوربية، كما حدث في شعر السيَّاب أو أدونيس أو صلاح عبدالصبور. وهو التقليد الذي مضى في سياقه أمل دنقل، كما فعل في مطلع قصيدة «موت مغنية مغمورة»:
أغلقي المذياع
هذا زمن السكتة
«سالومي» تغني
من ترى يحمل رأس المعمدان؟ (155)
و«سالومي» هي ابنة هيروديا التي فتنت الملك هيرودس ورقصت له شبه عارية فسحرته، فسألها أن تطلب منه ما تشاء، فطلبت رأس يوحنا المعمداني الذي عمّد يسوع المسيح، فاستجاب لها هيرودس بأن أمر بقطع رقبة يوحنا المعمداني وتقديمها إليها، كي تمنحه نفسها.
ومن الممكن أن نعد الإشارة المباشرة فرعاً من «التضمين بمعناه البلاغي العربي»، ونراه امتداداً للتأثر بالشعر الغربي بوجه عام.
وكان أمل دنقل مغرماً بالتضمين لأكثر من سبب، أولها: إيمانه بضرورة العودة إلى الماضي، خصوصاً فترات المجد القومي، التي كان العرب فيها سادة الدنيا مقابل الحاضر الذي شهد الهوان العربي، كما حدث في تحويله بيت المتنبي:
عيد بأية حال عدت يا عيد؟
بما مضى أم بأمر فـــــيك تجديد
إلى:
عيد بأية حال عدت يا عيد.
بما مضى؟ أم لأرضي فيك تهويد؟
وهو بيت استخدم التضمين للسخرية المرة من الهزيمة القاتلة في عام 1967، تلك الهزيمة التي طارت بقلوبنا جميعاً وجعلتنا نمتلئ بالغضب على من كانوا السبب فيها.
ولم يكن التضمين يهدف إلى السخرية دائماً في شعر أمل دنقل، فقد كانت وظائفه متعددة، منها التأكيد والموازاة، كما في هذه الفقرة الرابعة من قصيدة «فقرات من كتاب الموت»، حيث نقرأ:
فاجأني الخريف في نيسان
وطائر السمان...
حط على شواطئ البحر الشماليهْ
طلبت من تحبه نفسي... قبيل النوم
فلم أجد... إلا عذاب الصوم
طلبت من تحبه نفسي
(في الظل والشمس)
فلم أجد نفسي
فالتضمين يذكرنا بما ورد في سِفْر نشيد الإنشاد، حيث نقرأ:
«في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي، طلبته فما وجدته. إني أقوم وأطوف في المدينة أطلب من تحبه نفسي فما وجدته. وجدني الحرس في المدينة، فقلت أرأيتم من تحبه نفسي؟ فما جاوزتهم إلا قليلاً حتى وجدت من تحبه نفسي».
والفارق بين النهاية السعيدة للباحثة عن حبيبها في نشيد الإنشاد والشاعر الباحث عن نفسه هو التضاد بين إيجاب نهاية البحث في النشيد القديم وسلبه في المقطع الحديث، فالشاعر الحديث يبحث عن نفسه، كما تبحث فاتنة أورشليم عن حبيبها، لكن مع فارق أساسي، هو أنها تجد حبيبها، أما الشاعر المعاصر فلا يجد حتى نفسه، فضلاً عن حبيبته. وهي مفارقة تسهم في تعميق دلالة التضاد بين الموقفين. أما عذاب الصوم فهو كناية دالة على الحرمان والعطش، اللذين ينقضان معنى النوم الهانئ في حضن الحبيب، تماماً كما ضاعت الحبيبة في رواية «السمان والخريف» لنجيب محفوظ.
أما إذا انتقلنا إلى الإصحاح الأول من قصيدة «سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس»، حيث نقرأ:
عائدون وأصغر إخوتهم (ذو العيون الحزينهْ)
يتقلب في الجب
أجمل إخوتهم... لا يعودْ!
وعجوز هي القدسُ (يشتعل الرأس شيبا)
تشم القميص. فتبيض أعينها بالبكاء!
فالجملة ما بين القوسين تضمين من الآية: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ...} (سورة مريم الآية: 4)، أما السطر الأخير فيشير إلى سورة يوسف بعد أن ألقاه إخوته في الجب وذهبوا إلى أبيهم كاذبين، فتقول سورة يوسف: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}. (سورة يوسف - الآية: 84), والمقطع يستدعي قصة يوسف، ولكن يستبدل به فلسطينيي الشتات الذين يعودون إلى أمهم القدس، ولكن بعد أن تخلوا عن أخيهم الذي يعود إلى أمه العجوز التي اشتعل رأسها شيباً، وتشم قميص ابنها الغائب، وتبكي إلى أن تبيض أعينها من البكاء، حزناً على فقدان أجمل أبنائها. والتحوير في القصة الأصلية مقصود، فالقدس تحل محل الأب يعقوب الذي خدعه أولاده الذين كانوا يكرهون أخاهم يوسف، ويغارون منه لإيثار أبيهم له، فيلقونه في الجب، ويعودون إلى أبيهم دونه، زاعمين أن الذئب قد أكله، فيشعر الأب بجرمهم، ويبكي إلى أن تبيض عيناه من البكاء. ويضيع النور من عينيه.
لكن هذا الجزء من قصة يوسف الأصلية يتعمد أمل تحويره ليؤدي وظائف مغايرة في القصيدة التي تتحدث عن سرحان الفلسطيني الذي يعيش في الولايات المتحدة، والذي غضب من تصريحات روبرت كينيدي الداعمة لموقف الصهاينة الذين اغتصبوا فلسطين، فيقوم باغتيال كينيدي تعبيراً عن غضبه. ولذلك فهو يشبه في غضبته من أجل فلسطين التي يحبها يوسف، عليه السلام، الذي فرقت يد الغدر والخيانة بينه وأبيه يعقوب الذي تستبدل به القصيدة القدس التي تصبح امرأة عجوزاً، تحول خيانة الأبناء بينها وأجمل أبنائها. ومن السهل أن نرى - في سياق رمزية القصيدة - الأبناء في مقام الأقطار العربية التي تخلت عن أخيها المقتول، وباعته في مباحثات سلام، هي والاستسلام سواء. وهو تفسير يؤكده ما يرد في الإصحاح السادس من القصيدة:
عندما أطلق النار كانت يد القدس فوق الزناد
(ويد الله تخلع عن جسد القدس ثوب الحداد)
ليس من أجل أن يتفجر نفط الجزيرة،
ليس من أجل أن يتفاوض من يتفاوض
من حول مائدة مستديرة
ليس من أجل أن يأكل السادة الكستناء
والمقطع كله يصب في دلالة الرمزية السياسية التي ترى أن ما أخذ بالقوة، لا يسترد إلا بالقوة. ولذلك لم تكن يد سرحان هي التي ضغطت على زناد المسدس الذي قتل روبرت كينيدي، بل يد القدس التي ظلت كاظمة ثأرها، إلى أن أخذته بيد أجمل أبنائها، استعادة لحقها المشروع الذي لن يعيده التفاوض ولا السلام غير العادل. وهذه هي الدلالة التي يؤكدها المقطع أو الإصحاح الأخير من القصيدة:
ليغفر الرصاص من ذنبك ما تأخر
ليغفر الرصاص... يا كيسنجر!!
وتؤكد دلالة الغضب المتراكم في صدر سرحان - بالإضافة إلى تسليم الأقطار العربية واستسلامها لدعوات سلام غير عادل، حيث تسترجع ذاكرة سرحان:
منظر جانبي لعمان
والحرس الملكي يُفتّشُ ثوبَ الخليفهْ
وهو يسير إلى «إيلياء»
وتغيبُ البيوتُ وراءَ الدخان
وتغيب عيون الضحايا وراء النجوم الصغيرة
في العلم الأجنبي
ويعلو وراء نوافذ «بسمان» عزف البيان!
وقد جاء في تاريخ الطبري ما خلاصته أن النبي إلياس (إيلياء) لما دعا بني إسرائيل إلى نبذ عبادة الأصنام، وعبادة الله الواحد الأحد، فأبوا واستكبروا، فدعا إلياس ربه، فحكّمه فيهم. فقال إلياس: «اللهم فأمسك عليهم المطر». فحبس المطر عنهم ثلاث سنين... ثم إن إلياس قال لقومه: إذا تركتم عبادة الأصنام دعوت الله أن يفرج عنكم، ففعلوا، ففرج الله عنهم. ولكنهم عادوا إلى ما هم عليه، فيأس منهم إلياس، ودعا ربه أن يقبضه إليه، فقبضه ورفعه.
هل نقول إن التضمين يلعب دوره في قصيدة «سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس» بوصفه موازياً تاريخياً للأحداث المعاصرة، وذلك لإكسابها بعداً تراثياً، يردّها إلى جذور قديمة تكمن وراءها؟ أم أن التجربة المعاصرة - في سياقات التضمين - يوازي فيها الحاضر الماضي، كأنه صورة محدثة منه؟ أم نقول: ما أشبه الليلة بالبارحة. كما لو كان التاريخ يعيد نفسه؟ أم نقول بعبارة أخيرة: إن الغضب القومي يبرز نفسه بالعودة إلى تاريخه الحي في وجدان أبنائه فيزداد عمق إحساسهم بالمأساة؟ إن الإجابة بالإيجاب عن كل هذه الأسئلة ممكنة ومتضمنة في الإشارات التاريخية والدينية في شعر أمل، سواء كانت مستخدمة على سبيل السخرية من الحاضر بقياسه على ماضٍ مجيد، أو مستخدمة من أجل إضفاء بُعد تاريخي، يؤكد التواصل بين الماضي والحاضر على أساس من وجه التشابه. وهو توظيف لا يخلو المراد منه بدعم الحاضر بواسطة الماضي، خصوصاً الذي لايزال حياً في الوجدان والذاكرة الجمعية على السواء.
وربما كان من أوضح الأمثلة على ذلك ما ورد في قصيدة «لا وقت للبكاء» التي كتبها أمل في تأبين الاتحاد الاشتراكي العربي للزعيم جمال عبدالناصر بعد وفاته في الثامن والعشرين من سبتمبر 1970، وهي القصيدة التي نقرأ فيها:
وأمي التي تظل في فناء البيت منكبهْ
مقروحة العينين، مسترسلة الرثاء
تنكث بالعود على التربهْ:
رأيتها: الخنساء
ترثي شبابها المستشهدين في الصحراء
رأيتها: أسماء
تبكي ابنها المقتول في الكعبهْ،
رأيتها: شجرة الدر...
ترد خلفها الباب على جثمان (نجم الدين)
تعلق صدرها على الطعنة والسكين
فالجند في الدلتا
ليس لهم أن ينظروا إلى الوراء
أو يدفنوا الموتى
إلا صبيحة الغد المنتصر الميمون
والمقطع يصل الحاضر بالماضي، ويرده على أمجاده. ولذلك يتحدث الشاعر عن أمه التي تبكي عبدالناصر (أو أباه) في فناء بيتها، مقروحة العينين من كثرة البكاء. ويرى في حضور أمه على هذا النحو حضور الخنساء أبرز الشاعرات العربيات في الجاهلية، وكان ذلك بسبب مراثيها في أخويها صخر ومعاوية. ويمضي الاستدعاء من التاريخ، فتتحول الأم إلى صورة أخرى من أسماء ابنة أبي بكر الصديق (]) زوجة الزبير بن العوام، وهو (أحد العشرة المبشرين بالجنة)، ووالدة عبدالله بن الزبير الذي قتله الحجاج ، فبكته أمه أسماء. أما المثال الأخير فهو شجرة الدر الملكة المصرية التي أخفت خبر وفاة زوجها الصالح نجم الدين أيوب عن الجند الذين كانوا مشغولين بقتال الفرنسيين، في الحملة الصليبية السابعة. ولم تعلن خبر وفاته إلا بعد أن تحقق النصر، وتم أسر لويس التاسع في دار ابن لقمان.
والدلالة المتكررة الرجع في الإشارة هي دعم موقف الحاضر بصور الماضي المجيد، فحين تكون الأم المصرية الباكية على فقد جمال عبدالناصر صورة متكررة من الخنساء وأسماء وشجرة الدر، فإن المقارنة المتضمنة تعني أن النصر على العدو الإسرائيلي قادم لا محالة. وهذه هي الدلالة التي يحملها المقطع الذي يلحقه بالمقطع السابق مباشرة، حيث نقرأ:
لقد رأيت يومها: سفائن الإفرنج
تغوص تحت الموج
وملك الإفرنج
يغوص تحت السرج
وراية الإفرنج
تغوص، والأقدام تفري وجهها المعوج!
ولافت للانتباه رؤيا المستقبل الآني بالنصر، حيث تغرق سفن الإفرنج ورايتهم، ويؤسر ملك الإفرنج، كما لو كان التاريخ سيعيد ما كان، ويسقط راية الأعداء تحت الأقدام التي تمزقها، كما تتمزق سفن الإفرنج الغارقة في البحر. وتكتمل الصورة التي يصوغها مبدأ الرغبة بنجمة داود التي تسقط في التراب، بينما تعلو الراية التي تحمل نسر صلاح الدين وترفرف في الهواء الحر. ولكي يتأكد معنى الرؤيا التي يصوغها مبدأ الرغبة، ويسري في الحلم التخييلي معنى إمكان التحقق. أعني الإمكان الذي ينطقه المقطع الأخير على النحو التالي:
لقد رأيت ليلة الثامن والعشرين
من سبتمبر الحزين
رأيت في هتاف شعبي الجريح
(رأيت خلف الصورة)
وجهك... يا منصورهْ،
وجه لويس التاسع المأسور في يدَي صبيح،
... ... ...
رأيت في صبيحة الأول من تشرين
جندك... يا حطين
يبكون،
لا يدرون...
أن كل واحد من الماشين
فيه... صلاح الدين!
الغريب أن نبوءة أمل تحققت ليس في الأول من تشرين أول، وإنما في العاشر منه سنة 1973، فقد اقتحم الجيش المصري أصعب مانع مائي، واسترد كرامته في حرب أكتوبر (تشرين أول) وأخذ ثأره.
هكذا تستبدل الرؤيا بالإشارة التسـمية، فتعيد إلى الذاكرة أسر لويس التاسع في المنصورة على يدي القائد المملوكي الذي أخذه أسيراً، ووضعه في دار ابن لقمان مع عدد من قادته، وأوكل حراستهم إلى الطواشي جمال الدين صبيح. وهو ما ورد في قصيدة للشاعر المصري جمال الدين يحيى بن مطروح، الذي شارك في حرب الصليبــييــــن مع الملــــك الــــصالح أيوب.
وقد بلغه أن الملك الفرنسي الذي افتدى أسره ومن معه بعشرة ملايين فــرنك فرنسي، يعد العدة لحملة صليبية أخرى، فكتب له قائلاً:
قل للفرنسيس إذا جئته
مقال حق من قؤول فصيح
... ... ...
دار ابن لقمان على حالها
والقيد باق والطواشي صبيح
وأذكر أننا كنا نحفظ هذين البيتين لابن مطروح الشاعر المصري ونرددهما في فخر بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956. ولذلك يدمج أمل في رؤاه التخييلية وجه لويس التاسع المأسور في يدي صبيح لكي يضم المنصورة إلى حطين في سلسلة الانتصارات الوطنية على جنود الإفرنج الغزاة، الأمر الذي يؤكد - تخييلياً - أن نجمة داود ستسقط في الأرض، وأن مبدأ الرغبة سينتصر على مبدأ الواقع، وسيغدو كل مصري صلاح الدين، كي يتحقق الحلم القومي بالنصر، فتسطع راية العقاب (نسر صلاح الدين) على كل الأرض العربية السليبة.
هذا المنزع في استخدام التضمين والإشارة، نراه حتى في قصيدة «إلى محمود حسن إسماعيل في ذكراه» الذي كان مقطعها الأول مفاجئاً لنا عندما استمعنا للمرة الأولى لصوت أمل، وهو يقول:
واحد من جنودك يا سيدي
قطعوا يوم مؤتة مني اليدين
فاحتضنت لواءك بالمرفقين
واحتسبت لوجهك مستشهدي!
وكان مصدر المفاجأة أننا لم ندرك لأول وهلة مَنْ الـمُخَاطَب (بفتح الطاء): هل هو محمود حسن إسماعيل الذي مات في الكويت، بعد أن رحل ليعمل فيها؟ ولكن الحيرة لم تطل، فسرعان ما عرفنا أن الخطاب موجه إلى الشعر نفسه:
واحد من جنودك - يا أيها الشعر -
هل يصل الصوت؟
... ...
أم يصل الموت
فأدركنا أن المقصود بالخطاب هو الشعر الذي لابد للشاعر من الاستشهاد في سبيله - إذا اقتضى الأمر - فهذا هو ثمن الإخلاص في زمن الهزيمة والنفاق، حيث يكثر الشعراء المماليك والشعراء المتسولون. وليس معنى الاستشهاد بعيداً عن سياق المقطع، فالشاعر الذي يتحدث يذكِّر سامعيه بما فعله جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة، حين قاتل قتالاً منقطع النظير، دفاعاً عن راية المسلمين، وظل ممسكاً بالراية حتى قطعت يـــمينه، فأمسكها بشماله، وظل يقاتل حتى قطعت شماله، فاحتضن الراية بعـــــضديه، ولم يـــزل رافعاً إياهـــــا حـــــتى قتل. والتحويل المجازي للتضمين ينطوي على دلالة تحويل الشعر إلى معنى مقدس، يستحق التضحية التي يبذلها الشاعر الحق في سبيله على نحو شبيه في الدلالة بالمعنى الذي استشهد في سبيله جعفر بن أبي طالب
].
وعندما ينتقل الخطاب الشعري إلى محمود حسن إسماعيل الذي يتقمص الشاعر حضوره، فنقرأ:
أين المفر؟ وأين المقر؟
للخفافيش أسماؤها التي تتسمى بها
فلمن تتسمى إذا انتسب النور!
والنور لا ينتمي الآن للشمس
وبانت سعاد
تراها تبين من البردة النبوية؟
أم من قلنسوة الكاهنين الخزر؟
وينقلب الموقف في هذا المقطع، وتتحول بلاغة التضــميــــن والإشــــارة إلى نوع من السخرية السوداء التي تثير الأسى في النفس، فأين المفر؟ عنوان أحد دواوين محمود حسن إسماعيل. أما أين المقر، فهو سؤال عن المكان الذي يستقر فيه الشاعر، باحثاً عن نور الإلهام الشعري. لكن الشاعر الراحل يعلم أن الخفافيش التي تكره النور - أي نور - لها أسماؤها التي تتسمى بها، فلمن يتسمى الشاعر الباحث عن النور، والنور لم يعد ينتسب إلى الشمس التي نعرفها ؟
وتمضي السخرية في الأسطر التي تشير بعد ذلك إلى قصيدة البردة التي أنشدها كعب بن زهير في حضرة النبي، [،، فخلع عليه بردته إعجاباً بالقصيدة التي أصبحت تعرف باسم «بانت سعاد» نسبة إلى مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يُفد مكبول
أما قلنسوة الكاهنين الخزر، فإشارة إلى اليهود الذين ظلوا يكيدون للنبي، [، في المدينة، ومناط السخرية معروف، وواضح في غير ذلك من أشكال التضمين النقضي على نحو ما نقرأ في الأسطر:
وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني - لمجلس الأمن - نفسي!
والأصل عند أحمد شوقي:
وطني لو شغلت بالخلد
عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهو من سينية شوقي الشهيرة التي يحن فيها إلى مصر، بعد أن نفاه الإنجليز إلى إسبانيا، فكتب سينيته هذه معارضاً سينية البحتري:
صنت نفسي عمّا يدنس نفسي
وترفعت عن جَدا كل جبس
ومن الواضح أن المقصود من التضمين في شعر أمل هو المعارضة النقضية التي تستبدل بالخلد مجلس الأمن على سنة زمن الهزائم.
وأخيراً، نقرأ في القصيدة نفسها:
جبل التوباد حياك الحيا
وسقى الله ثرانا الأجنبي
والأصل هو بيت شوقي، لكن من شعره المسرحي، في مسرحية مجنون ليلى:
جبل التوباد حياك الحيا
وسقى الله صبانا ورعى
والإشارة - مرة أخيرة - تشير إلى الأرض العربية المحتلة بعد 1967، فقد أصبحت هذه الأراضي مستعمرات أجنبية، فحق عليها أن تكون ثرانا الأجنبي.
والحق أننـــــي ركـــــزت علـــــى أشكال التضمـــــين المتصلة بالتراث، وتجاهلت ما عداها عمداً، لا على سبيل الإنكار، ففي شعر أمل إشارات إلى الأدب الفرعوني، وإلى اليونانيــــــة، وإلى المسيح والمسيحية. ولكني توقفت عند ما يعود بنا إلى الجذور القومية ذات المخـــزون الشعوري لدى القراء. وهو المخزون الذي كان أمل يستثيره ويستنهض الشعور به.
وسوف أشير - في الكتاب الأخير - إلى تجربته العملية التي أدت به إلى ذلك في علاقته بلويس عوض.
وهي التجربة التي دفعته إلى تراثه القومي بحكم أنه التراث الذي يتيح له التواصل مع الجماهير العربية التي كان يتوجه إليها بشعره، ولأنه لم يكن يستطيع أن يقرأ شعراً بلغة أجنبية، فقد كان يكتفي بالمتاح مترجماً. ولذلك فإنه لم يفعل ما فعله السيَّاب أو صلاح عبدالصبور، اللذان كان لكل منهما إشاراته وتضميناته من الشعر الأجنبي ■