التضمين والإشارة

التضمين والإشارة

التضمين في معناه البلاغي القديم هو استعارة كلام قديم وإدماجه في كلام جديد. وهو ما صاغه ابن رشيق - في كتابه «العمدة» - بقوله: «هو قصدك إلى البيت من الشعر أو القسيم فتأتي به في آخر شعرك أو وسطه كالمتمثل». وهو تعريف له ما يشبهه في كتب البلاغة القديمة.

ومنه‭ ‬قول‭ ‬جحظة‭ ‬البرمكي‭ (‬من‭ ‬شعراء‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭): ‬

أصبحتُ‭ ‬بين‭ ‬معاشرٍ‭ ‬هجروا‭ ‬الندى‭ 

وتقبّلُوا‭ ‬الأخلاقَ‭ ‬عن‭ ‬أسلافِهــــمْ

‭ ‬قومٌ‭ ‬أحاولُ‭ ‬نيلهــــــــــــُم‭ ‬فكأنَّمــــا

حاولتُ‭ ‬نتف‭ ‬الشّعر‭ ‬من‭ ‬آنافهـم

هات‭ ‬اسقنيها‭ ‬بالكبـــــــــير‭ ‬وغنّني‭ 

‮«‬ذهبَ‭ ‬الذينَ‭ ‬يعاشُ‭ ‬في‭ ‬أكنافِهِم‮»‬‭ ‬

والشطر‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬لبيد‭ ‬بن‭ ‬ربيعة‭ ‬العامري‭: ‬

ذهب‭ ‬الذين‭ ‬يُعاش‭ ‬في‭ ‬أكنافهم

وبقيت‭ ‬في‭ ‬خلف‭ ‬كجلد‭ ‬الأجرب

وقد‭ ‬أتى‭ ‬به‭ ‬جحظة‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬التمثيل‭. ‬

ولكن‭ ‬هذا‭ ‬الاستخدام‭ ‬للتضمين‭ ‬فارق‭ ‬حدوده‭ ‬القديمة‭ ‬وأصبح‭ ‬يؤدي‭ ‬وظائف‭ ‬متعددة‭ ‬تجاوز‭ ‬التمثل‭ ‬القديم‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الحر‭ ‬الذي‭ ‬يحرص‭ ‬الشعراء‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬التضمين‭ ‬ليبرزوا‭ ‬التضاد‭ ‬الهائل‭ ‬بين‭ ‬عالمهم‭ ‬وعالم‭ ‬الشاعر‭ ‬القديم‭. ‬ولذلك‭ ‬أحال‭ ‬بدر‭ ‬شاكر‭ ‬السيَّاب‭ ‬بيت‭ ‬الشاعر‭ ‬العباسي‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬الجهم‭: ‬

عيون‭ ‬المها‭ ‬بين‭ ‬الرصافة‭ ‬والجســر

جلبن‭ ‬الهوى‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬أدري‭ ‬ولا‭ ‬أدري

إلى‭: ‬

عيون‭ ‬المها‭ ‬بين‭ ‬الرصافة‭ ‬والجســـر‭ 

ثقوب‭ ‬رصاص‭ ‬رقّشت‭ ‬صفحة‭ ‬البـــدر

ليبرز‭ ‬المفارقة‭ ‬بين‭ ‬بغداد‭ ‬التي‭ ‬عاشت‭ ‬صراع‭ ‬أبناء‭ ‬زمنه،‭ ‬وبغداد‭ ‬التي‭ ‬تعود‭ ‬ابن‭ ‬الجهم‭ ‬على‭ ‬التغزل‭ ‬بحسناواتها‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الخليفة‭ ‬المتوكل‭ ‬العباسي‭. ‬

أما‭ ‬الإشارة‭ ‬فهي‭ ‬الإيماء‭ ‬أو‭ ‬التلميح‭ ‬المباشر‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬المباشر‭ ‬إلى‭ ‬اسم‭ ‬أو‭ ‬موضوع‭ ‬أو‭ ‬موقف‭ ‬تراثي،‭ ‬وذلك‭ ‬بمعنى‭ ‬قريب‭ ‬من‭ ‬معنى‭ ‬الـ‭ ‬Allusion‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الإنجليزي،‭ ‬وهي‭ ‬وسيلة‭ ‬بلاغية‭ ‬أفادها‭ ‬شعراء‭ ‬الشعر‭ ‬الحر‭ ‬من‭ ‬قراءتهم‭ ‬في‭ ‬الآداب‭ ‬الأوربية‭. ‬ولذلك‭ ‬ذاع‭ ‬في‭ ‬شعرهم‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬الصلب‭ ‬وأسماء‭ ‬الأعلام‭ ‬في‭ ‬الأساطير‭ ‬الأوربية،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬السيَّاب‭ ‬أو‭ ‬أدونيس‭ ‬أو‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭. ‬وهو‭ ‬التقليد‭ ‬الذي‭ ‬مضى‭ ‬في‭ ‬سياقه‭ ‬أمل‭ ‬دنقل،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬موت‭ ‬مغنية‭ ‬مغمورة‮»‬‭: ‬

أغلقي‭ ‬المذياع

هذا‭ ‬زمن‭ ‬السكتة

‮«‬سالومي‮»‬‭ ‬تغني

من‭ ‬ترى‭ ‬يحمل‭ ‬رأس‭ ‬المعمدان؟‭ (‬155‭) ‬

و«سالومي‮»‬‭  ‬هي‭ ‬ابنة‭ ‬هيروديا‭ ‬التي‭ ‬فتنت‭ ‬الملك‭ ‬هيرودس‭ ‬ورقصت‭ ‬له‭ ‬شبه‭ ‬عارية‭ ‬فسحرته،‭ ‬فسألها‭ ‬أن‭ ‬تطلب‭ ‬منه‭ ‬ما‭ ‬تشاء،‭ ‬فطلبت‭ ‬رأس‭ ‬يوحنا‭ ‬المعمداني‭ ‬الذي‭ ‬عمّد‭ ‬يسوع‭ ‬المسيح،‭ ‬فاستجاب‭ ‬لها‭ ‬هيرودس‭ ‬بأن‭ ‬أمر‭ ‬بقطع‭ ‬رقبة‭ ‬يوحنا‭ ‬المعمداني‭ ‬وتقديمها‭ ‬إليها،‭ ‬كي‭ ‬تمنحه‭ ‬نفسها‭. ‬

ومن‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬نعد‭ ‬الإشارة‭ ‬المباشرة‭ ‬فرعاً‭ ‬من‭ ‬‮«‬التضمين‭ ‬بمعناه‭ ‬البلاغي‭ ‬العربي‮»‬،‭ ‬ونراه‭ ‬امتداداً‭ ‬للتأثر‭ ‬بالشعر‭ ‬الغربي‭ ‬بوجه‭ ‬عام‭. ‬

وكان‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬مغرماً‭ ‬بالتضمين‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬سبب،‭ ‬أولها‭: ‬إيمانه‭ ‬بضرورة‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الماضي،‭ ‬خصوصاً‭ ‬فترات‭ ‬المجد‭ ‬القومي،‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬العرب‭ ‬فيها‭ ‬سادة‭ ‬الدنيا‭ ‬مقابل‭ ‬الحاضر‭ ‬الذي‭ ‬شهد‭ ‬الهوان‭ ‬العربي،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬تحويله‭ ‬بيت‭ ‬المتنبي‭: ‬

عيد‭ ‬بأية‭ ‬حال‭ ‬عدت‭ ‬يا‭ ‬عيد؟‭ ‬

بما‭ ‬مضى‭ ‬أم‭ ‬بأمر‭ ‬فـــــيك‭ ‬تجديد

إلى‭: ‬

عيد‭ ‬بأية‭ ‬حال‭ ‬عدت‭ ‬يا‭ ‬عيد‭.‬

بما‭ ‬مضى؟‭ ‬أم‭ ‬لأرضي‭ ‬فيك‭ ‬تهويد؟

وهو‭ ‬بيت‭ ‬استخدم‭ ‬التضمين‭ ‬للسخرية‭ ‬المرة‭ ‬من‭ ‬الهزيمة‭ ‬القاتلة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1967،‭ ‬تلك‭ ‬الهزيمة‭ ‬التي‭ ‬طارت‭ ‬بقلوبنا‭ ‬جميعاً‭ ‬وجعلتنا‭ ‬نمتلئ‭ ‬بالغضب‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬كانوا‭ ‬السبب‭ ‬فيها‭. ‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬التضمين‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬السخرية‭ ‬دائماً‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬أمل‭ ‬دنقل،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬وظائفه‭ ‬متعددة،‭ ‬منها‭ ‬التأكيد‭ ‬والموازاة،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفقرة‭ ‬الرابعة‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬فقرات‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬الموت‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬نقرأ‭: ‬

فاجأني‭ ‬الخريف‭ ‬في‭ ‬نيسان

وطائر‭ ‬السمان‭... ‬

حط‭ ‬على‭ ‬شواطئ‭ ‬البحر‭ ‬الشماليهْ

طلبت‭ ‬من‭ ‬تحبه‭ ‬نفسي‭... ‬قبيل‭ ‬النوم

فلم‭ ‬أجد‭... ‬إلا‭ ‬عذاب‭ ‬الصوم

طلبت‭ ‬من‭ ‬تحبه‭ ‬نفسي

‭(‬في‭ ‬الظل‭ ‬والشمس‭) ‬

فلم‭ ‬أجد‭ ‬نفسي

فالتضمين‭ ‬يذكرنا‭ ‬بما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬سِفْر‭ ‬نشيد‭ ‬الإنشاد،‭ ‬حيث‭ ‬نقرأ‭: ‬

‮«‬في‭ ‬الليل‭ ‬على‭ ‬فراشي‭ ‬طلبت‭ ‬من‭ ‬تحبه‭ ‬نفسي،‭ ‬طلبته‭ ‬فما‭ ‬وجدته‭. ‬إني‭ ‬أقوم‭ ‬وأطوف‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬أطلب‭ ‬من‭ ‬تحبه‭ ‬نفسي‭ ‬فما‭ ‬وجدته‭. ‬وجدني‭ ‬الحرس‭ ‬في‭ ‬المدينة،‭ ‬فقلت‭ ‬أرأيتم‭ ‬من‭ ‬تحبه‭ ‬نفسي؟‭ ‬فما‭ ‬جاوزتهم‭ ‬إلا‭ ‬قليلاً‭ ‬حتى‭ ‬وجدت‭ ‬من‭ ‬تحبه‭ ‬نفسي‮»‬‭. ‬

والفارق‭ ‬بين‭ ‬النهاية‭ ‬السعيدة‭ ‬للباحثة‭ ‬عن‭ ‬حبيبها‭ ‬في‭ ‬نشيد‭ ‬الإنشاد‭ ‬والشاعر‭ ‬الباحث‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬هو‭ ‬التضاد‭ ‬بين‭ ‬إيجاب‭ ‬نهاية‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬النشيد‭ ‬القديم‭ ‬وسلبه‭ ‬في‭ ‬المقطع‭ ‬الحديث،‭ ‬فالشاعر‭ ‬الحديث‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬نفسه،‭ ‬كما‭ ‬تبحث‭ ‬فاتنة‭ ‬أورشليم‭ ‬عن‭ ‬حبيبها،‭ ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬فارق‭ ‬أساسي،‭ ‬هو‭ ‬أنها‭ ‬تجد‭ ‬حبيبها،‭ ‬أما‭ ‬الشاعر‭ ‬المعاصر‭ ‬فلا‭ ‬يجد‭ ‬حتى‭ ‬نفسه،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬حبيبته‭. ‬وهي‭ ‬مفارقة‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬تعميق‭ ‬دلالة‭ ‬التضاد‭ ‬بين‭ ‬الموقفين‭. ‬أما‭ ‬عذاب‭ ‬الصوم‭ ‬فهو‭ ‬كناية‭ ‬دالة‭ ‬على‭ ‬الحرمان‭ ‬والعطش،‭ ‬اللذين‭ ‬ينقضان‭ ‬معنى‭ ‬النوم‭ ‬الهانئ‭ ‬في‭ ‬حضن‭ ‬الحبيب،‭ ‬تماماً‭ ‬كما‭ ‬ضاعت‭ ‬الحبيبة‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬السمان‭ ‬والخريف‮»‬‭ ‬لنجيب‭ ‬محفوظ‭. ‬

أما‭ ‬إذا‭ ‬انتقلنا‭ ‬إلى‭ ‬الإصحاح‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬سرحان‭ ‬لا‭ ‬يتسلم‭ ‬مفاتيح‭ ‬القدس‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬نقرأ‭: ‬

عائدون‭ ‬وأصغر‭ ‬إخوتهم‭ (‬ذو‭ ‬العيون‭ ‬الحزينهْ‭) ‬

يتقلب‭ ‬في‭ ‬الجب

أجمل‭ ‬إخوتهم‭... ‬لا‭ ‬يعودْ‭! ‬

وعجوز‭ ‬هي‭ ‬القدسُ‭ (‬يشتعل‭ ‬الرأس‭ ‬شيبا‭) ‬

تشم‭ ‬القميص‭. ‬فتبيض‭ ‬أعينها‭ ‬بالبكاء‭! ‬

فالجملة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬القوسين‭ ‬تضمين‭ ‬من‭ ‬الآية‭: ‬‭{‬قَالَ‭ ‬رَبِّ‭ ‬إِنِّي‭ ‬وَهَنَ‭ ‬الْعَظْمُ‭ ‬مِنِّي‭ ‬وَاشْتَعَلَ‭ ‬الرَّأْسُ‭ ‬شَيْبًا‭ ‬وَلَمْ‭ ‬أَكُنْ‭ ‬بِدُعَائِكَ‭ ‬رَبِّ‭ ‬شَقِيًّا‮ ‬‭...‬‭}‬‭ (‬سورة‭ ‬مريم‭ ‬الآية‭: ‬4‭)‬،‭ ‬أما‭ ‬السطر‭ ‬الأخير‭ ‬فيشير‭ ‬إلى‭ ‬سورة‭ ‬يوسف‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ألقاه‭ ‬إخوته‭ ‬في‭ ‬الجب‭ ‬وذهبوا‭ ‬إلى‭ ‬أبيهم‭ ‬كاذبين،‭ ‬فتقول‭ ‬سورة‭ ‬يوسف‭: ‬‭{‬وَتَوَلَّى‭ ‬عَنْهُمْ‭ ‬وَقَالَ‭ ‬يَا‭ ‬أَسَفَى‭ ‬عَلَى‭ ‬يُوسُفَ‭ ‬وَابْيَضَّتْ‭ ‬عَيْنَاهُ‭ ‬مِنَ‭ ‬الْحُزْنِ‭ ‬فَهُوَ‭ ‬كَظِيمٌ‭}‬‭. (‬سورة‭ ‬يوسف‭ - ‬الآية‭: ‬84‭)‬‭,‬‭ ‬والمقطع‭ ‬يستدعي‭ ‬قصة‭ ‬يوسف،‭ ‬ولكن‭ ‬يستبدل‭ ‬به‭ ‬فلسطينيي‭ ‬الشتات‭ ‬الذين‭ ‬يعودون‭ ‬إلى‭ ‬أمهم‭ ‬القدس،‭ ‬ولكن‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تخلوا‭ ‬عن‭ ‬أخيهم‭ ‬الذي‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬أمه‭ ‬العجوز‭ ‬التي‭ ‬اشتعل‭ ‬رأسها‭ ‬شيباً،‭ ‬وتشم‭ ‬قميص‭ ‬ابنها‭ ‬الغائب،‭ ‬وتبكي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تبيض‭ ‬أعينها‭ ‬من‭ ‬البكاء،‭ ‬حزناً‭ ‬على‭ ‬فقدان‭ ‬أجمل‭ ‬أبنائها‭. ‬والتحوير‭ ‬في‭ ‬القصة‭ ‬الأصلية‭ ‬مقصود،‭ ‬فالقدس‭ ‬تحل‭ ‬محل‭ ‬الأب‭ ‬يعقوب‭ ‬الذي‭ ‬خدعه‭ ‬أولاده‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يكرهون‭ ‬أخاهم‭ ‬يوسف،‭ ‬ويغارون‭ ‬منه‭ ‬لإيثار‭ ‬أبيهم‭ ‬له،‭ ‬فيلقونه‭ ‬في‭ ‬الجب،‭ ‬ويعودون‭ ‬إلى‭ ‬أبيهم‭ ‬دونه،‭ ‬زاعمين‭ ‬أن‭ ‬الذئب‭ ‬قد‭ ‬أكله،‭ ‬فيشعر‭ ‬الأب‭ ‬بجرمهم،‭ ‬ويبكي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تبيض‭ ‬عيناه‭ ‬من‭ ‬البكاء‭. ‬ويضيع‭ ‬النور‭ ‬من‭ ‬عينيه‭. ‬

لكن‭ ‬هذا‭ ‬الجزء‭ ‬من‭ ‬قصة‭ ‬يوسف‭ ‬الأصلية‭ ‬يتعمد‭ ‬أمل‭ ‬تحويره‭ ‬ليؤدي‭ ‬وظائف‭ ‬مغايرة‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬سرحان‭ ‬الفلسطيني‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬والذي‭ ‬غضب‭ ‬من‭ ‬تصريحات‭ ‬روبرت‭ ‬كينيدي‭ ‬الداعمة‭ ‬لموقف‭ ‬الصهاينة‭ ‬الذين‭ ‬اغتصبوا‭ ‬فلسطين،‭ ‬فيقوم‭ ‬باغتيال‭ ‬كينيدي‭ ‬تعبيراً‭ ‬عن‭ ‬غضبه‭. ‬ولذلك‭ ‬فهو‭ ‬يشبه‭ ‬في‭ ‬غضبته‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬فلسطين‭ ‬التي‭ ‬يحبها‭ ‬يوسف،‭ ‬عليه‭ ‬السلام،‭ ‬الذي‭ ‬فرقت‭ ‬يد‭ ‬الغدر‭ ‬والخيانة‭ ‬بينه‭ ‬وأبيه‭ ‬يعقوب‭ ‬الذي‭ ‬تستبدل‭ ‬به‭ ‬القصيدة‭ ‬القدس‭ ‬التي‭ ‬تصبح‭ ‬امرأة‭ ‬عجوزاً،‭ ‬تحول‭ ‬خيانة‭ ‬الأبناء‭ ‬بينها‭ ‬وأجمل‭ ‬أبنائها‭. ‬ومن‭ ‬السهل‭ ‬أن‭ ‬نرى‭ - ‬في‭ ‬سياق‭ ‬رمزية‭ ‬القصيدة‭ - ‬الأبناء‭ ‬في‭ ‬مقام‭ ‬الأقطار‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬تخلت‭ ‬عن‭ ‬أخيها‭ ‬المقتول،‭ ‬وباعته‭ ‬في‭ ‬مباحثات‭ ‬سلام،‭ ‬هي‭ ‬والاستسلام‭ ‬سواء‭. ‬وهو‭ ‬تفسير‭ ‬يؤكده‭ ‬ما‭ ‬يرد‭ ‬في‭ ‬الإصحاح‭ ‬السادس‭ ‬من‭ ‬القصيدة‭: ‬

عندما‭ ‬أطلق‭ ‬النار‭ ‬كانت‭ ‬يد‭ ‬القدس‭ ‬فوق‭ ‬الزناد

‭ (‬ويد‭ ‬الله‭ ‬تخلع‭ ‬عن‭ ‬جسد‭ ‬القدس‭ ‬ثوب‭ ‬الحداد‭) ‬

ليس‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يتفجر‭ ‬نفط‭ ‬الجزيرة،‭ ‬

ليس‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يتفاوض‭ ‬من‭ ‬يتفاوض

من‭ ‬حول‭ ‬مائدة‭ ‬مستديرة

ليس‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يأكل‭ ‬السادة‭ ‬الكستناء

والمقطع‭ ‬كله‭ ‬يصب‭ ‬في‭ ‬دلالة‭ ‬الرمزية‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬أخذ‭ ‬بالقوة،‭ ‬لا‭ ‬يسترد‭ ‬إلا‭ ‬بالقوة‭. ‬ولذلك‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬يد‭ ‬سرحان‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬ضغطت‭ ‬على‭ ‬زناد‭ ‬المسدس‭ ‬الذي‭ ‬قتل‭ ‬روبرت‭ ‬كينيدي،‭ ‬بل‭ ‬يد‭ ‬القدس‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬كاظمة‭ ‬ثأرها،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أخذته‭ ‬بيد‭ ‬أجمل‭ ‬أبنائها،‭ ‬استعادة‭ ‬لحقها‭ ‬المشروع‭ ‬الذي‭ ‬لن‭ ‬يعيده‭ ‬التفاوض‭ ‬ولا‭ ‬السلام‭ ‬غير‭ ‬العادل‭. ‬وهذه‭ ‬هي‭ ‬الدلالة‭ ‬التي‭ ‬يؤكدها‭ ‬المقطع‭ ‬أو‭ ‬الإصحاح‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬القصيدة‭: ‬

ليغفر‭ ‬الرصاص‭ ‬من‭ ‬ذنبك‭ ‬ما‭ ‬تأخر

ليغفر‭ ‬الرصاص‭... ‬يا‭ ‬كيسنجر‭!!‬

وتؤكد‭ ‬دلالة‭ ‬الغضب‭ ‬المتراكم‭ ‬في‭ ‬صدر‭ ‬سرحان‭ - ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬تسليم‭ ‬الأقطار‭ ‬العربية‭ ‬واستسلامها‭ ‬لدعوات‭ ‬سلام‭ ‬غير‭ ‬عادل،‭ ‬حيث‭ ‬تسترجع‭ ‬ذاكرة‭ ‬سرحان‭: ‬

منظر‭ ‬جانبي‭ ‬لعمان‭ ‬

والحرس‭ ‬الملكي‭ ‬يُفتّشُ‭ ‬ثوبَ‭ ‬الخليفهْ

وهو‭ ‬يسير‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬إيلياء‮»‬‭ ‬

وتغيبُ‭ ‬البيوتُ‭ ‬وراءَ‭ ‬الدخان

وتغيب‭ ‬عيون‭ ‬الضحايا‭ ‬وراء‭ ‬النجوم‭ ‬الصغيرة

في‭ ‬العلم‭ ‬الأجنبي

ويعلو‭ ‬وراء‭ ‬نوافذ‭ ‬‮«‬بسمان‮»‬‭ ‬عزف‭ ‬البيان‭! ‬

‭ ‬وقد‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الطبري‭ ‬ما‭ ‬خلاصته‭ ‬أن‭ ‬النبي‭ ‬إلياس‭ (‬إيلياء‭) ‬لما‭ ‬دعا‭ ‬بني‭ ‬إسرائيل‭ ‬إلى‭ ‬نبذ‭ ‬عبادة‭ ‬الأصنام،‭ ‬وعبادة‭ ‬الله‭ ‬الواحد‭ ‬الأحد،‭ ‬فأبوا‭ ‬واستكبروا،‭ ‬فدعا‭ ‬إلياس‭ ‬ربه،‭ ‬فحكّمه‭ ‬فيهم‭. ‬فقال‭ ‬إلياس‭: ‬‮«‬اللهم‭ ‬فأمسك‭ ‬عليهم‭ ‬المطر‮»‬‭. ‬فحبس‭ ‬المطر‭ ‬عنهم‭ ‬ثلاث‭ ‬سنين‭... ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬إلياس‭ ‬قال‭ ‬لقومه‭: ‬إذا‭ ‬تركتم‭ ‬عبادة‭ ‬الأصنام‭ ‬دعوت‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬يفرج‭ ‬عنكم،‭ ‬ففعلوا،‭ ‬ففرج‭ ‬الله‭ ‬عنهم‭. ‬ولكنهم‭ ‬عادوا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هم‭ ‬عليه،‭ ‬فيأس‭ ‬منهم‭ ‬إلياس،‭ ‬ودعا‭ ‬ربه‭ ‬أن‭ ‬يقبضه‭ ‬إليه،‭ ‬فقبضه‭ ‬ورفعه‭. 

هل‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬التضمين‭ ‬يلعب‭ ‬دوره‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬سرحان‭ ‬لا‭ ‬يتسلم‭ ‬مفاتيح‭ ‬القدس‮»‬‭ ‬بوصفه‭ ‬موازياً‭ ‬تاريخياً‭ ‬للأحداث‭ ‬المعاصرة،‭ ‬وذلك‭ ‬لإكسابها‭ ‬بعداً‭ ‬تراثياً،‭ ‬يردّها‭ ‬إلى‭ ‬جذور‭ ‬قديمة‭ ‬تكمن‭ ‬وراءها؟‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬التجربة‭ ‬المعاصرة‭ - ‬في‭ ‬سياقات‭ ‬التضمين‭ - ‬يوازي‭ ‬فيها‭ ‬الحاضر‭ ‬الماضي،‭ ‬كأنه‭ ‬صورة‭ ‬محدثة‭ ‬منه؟‭ ‬أم‭ ‬نقول‭: ‬ما‭ ‬أشبه‭ ‬الليلة‭ ‬بالبارحة‭. ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬التاريخ‭ ‬يعيد‭ ‬نفسه؟‭ ‬أم‭ ‬نقول‭ ‬بعبارة‭ ‬أخيرة‭: ‬إن‭ ‬الغضب‭ ‬القومي‭ ‬يبرز‭ ‬نفسه‭ ‬بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬تاريخه‭ ‬الحي‭ ‬في‭ ‬وجدان‭ ‬أبنائه‭ ‬فيزداد‭ ‬عمق‭ ‬إحساسهم‭ ‬بالمأساة؟‭ ‬إن‭ ‬الإجابة‭ ‬بالإيجاب‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬ممكنة‭ ‬ومتضمنة‭ ‬في‭ ‬الإشارات‭ ‬التاريخية‭ ‬والدينية‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬أمل،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬مستخدمة‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬السخرية‭ ‬من‭ ‬الحاضر‭ ‬بقياسه‭ ‬على‭ ‬ماضٍ‭ ‬مجيد،‭ ‬أو‭ ‬مستخدمة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إضفاء‭ ‬بُعد‭ ‬تاريخي،‭ ‬يؤكد‭ ‬التواصل‭ ‬بين‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬من‭ ‬وجه‭ ‬التشابه‭. ‬وهو‭ ‬توظيف‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬المراد‭ ‬منه‭ ‬بدعم‭ ‬الحاضر‭ ‬بواسطة‭ ‬الماضي،‭ ‬خصوصاً‭ ‬الذي‭ ‬لايزال‭ ‬حياً‭ ‬في‭ ‬الوجدان‭ ‬والذاكرة‭ ‬الجمعية‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬

وربما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أوضح‭ ‬الأمثلة‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬لا‭ ‬وقت‭ ‬للبكاء‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬تأبين‭ ‬الاتحاد‭ ‬الاشتراكي‭ ‬العربي‭ ‬للزعيم‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬بعد‭ ‬وفاته‭ ‬في‭ ‬الثامن‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬سبتمبر‭ ‬1970،‭ ‬وهي‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬نقرأ‭ ‬فيها‭: ‬

وأمي‭ ‬التي‭ ‬تظل‭ ‬في‭ ‬فناء‭ ‬البيت‭ ‬منكبهْ

مقروحة‭ ‬العينين،‭ ‬مسترسلة‭ ‬الرثاء

تنكث‭ ‬بالعود‭ ‬على‭ ‬التربهْ‭: ‬

رأيتها‭: ‬الخنساء

ترثي‭ ‬شبابها‭ ‬المستشهدين‭ ‬في‭ ‬الصحراء

رأيتها‭: ‬أسماء

تبكي‭ ‬ابنها‭ ‬المقتول‭ ‬في‭ ‬الكعبهْ،

رأيتها‭: ‬شجرة‭ ‬الدر‭... ‬

ترد‭ ‬خلفها‭ ‬الباب‭ ‬على‭ ‬جثمان‭ (‬نجم‭ ‬الدين‭) ‬

تعلق‭ ‬صدرها‭ ‬على‭ ‬الطعنة‭ ‬والسكين

فالجند‭ ‬في‭ ‬الدلتا

ليس‭ ‬لهم‭ ‬أن‭ ‬ينظروا‭ ‬إلى‭ ‬الوراء

أو‭ ‬يدفنوا‭ ‬الموتى

إلا‭ ‬صبيحة‭ ‬الغد‭ ‬المنتصر‭ ‬الميمون

والمقطع‭ ‬يصل‭ ‬الحاضر‭ ‬بالماضي،‭ ‬ويرده‭ ‬على‭ ‬أمجاده‭. ‬ولذلك‭ ‬يتحدث‭ ‬الشاعر‭ ‬عن‭ ‬أمه‭ ‬التي‭ ‬تبكي‭ ‬عبدالناصر‭ (‬أو‭ ‬أباه‭) ‬في‭ ‬فناء‭ ‬بيتها،‭ ‬مقروحة‭ ‬العينين‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬البكاء‭. ‬ويرى‭ ‬في‭ ‬حضور‭ ‬أمه‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬حضور‭ ‬الخنساء‭ ‬أبرز‭ ‬الشاعرات‭ ‬العربيات‭ ‬في‭ ‬الجاهلية،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬بسبب‭ ‬مراثيها‭ ‬في‭ ‬أخويها‭ ‬صخر‭ ‬ومعاوية‭. ‬ويمضي‭ ‬الاستدعاء‭ ‬من‭ ‬التاريخ،‭ ‬فتتحول‭ ‬الأم‭ ‬إلى‭ ‬صورة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬أسماء‭ ‬ابنة‭ ‬أبي‭ ‬بكر‭ ‬الصديق‭ (‬‭]‬‭) ‬زوجة‭ ‬الزبير‭ ‬بن‭ ‬العوام،‭ ‬وهو‭ (‬أحد‭ ‬العشرة‭ ‬المبشرين‭ ‬بالجنة‭)‬،‭ ‬ووالدة‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬الزبير‭ ‬الذي‭ ‬قتله‭ ‬الحجاج‭ ‬،‭ ‬فبكته‭ ‬أمه‭ ‬أسماء‭. ‬أما‭ ‬المثال‭ ‬الأخير‭ ‬فهو‭ ‬شجرة‭ ‬الدر‭ ‬الملكة‭ ‬المصرية‭ ‬التي‭ ‬أخفت‭ ‬خبر‭ ‬وفاة‭ ‬زوجها‭ ‬الصالح‭ ‬نجم‭ ‬الدين‭ ‬أيوب‭ ‬عن‭ ‬الجند‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬مشغولين‭ ‬بقتال‭ ‬الفرنسيين،‭ ‬في‭ ‬الحملة‭ ‬الصليبية‭ ‬السابعة‭. ‬ولم‭ ‬تعلن‭ ‬خبر‭ ‬وفاته‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تحقق‭ ‬النصر،‭ ‬وتم‭ ‬أسر‭ ‬لويس‭ ‬التاسع‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬ابن‭ ‬لقمان‭. ‬

والدلالة‭ ‬المتكررة‭ ‬الرجع‭ ‬في‭ ‬الإشارة‭ ‬هي‭ ‬دعم‭ ‬موقف‭ ‬الحاضر‭ ‬بصور‭ ‬الماضي‭ ‬المجيد،‭ ‬فحين‭ ‬تكون‭ ‬الأم‭ ‬المصرية‭ ‬الباكية‭ ‬على‭ ‬فقد‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬صورة‭ ‬متكررة‭ ‬من‭ ‬الخنساء‭ ‬وأسماء‭ ‬وشجرة‭ ‬الدر،‭ ‬فإن‭ ‬المقارنة‭ ‬المتضمنة‭ ‬تعني‭ ‬أن‭ ‬النصر‭ ‬على‭ ‬العدو‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬قادم‭ ‬لا‭ ‬محالة‭. ‬وهذه‭ ‬هي‭ ‬الدلالة‭ ‬التي‭ ‬يحملها‭ ‬المقطع‭ ‬الذي‭ ‬يلحقه‭ ‬بالمقطع‭ ‬السابق‭ ‬مباشرة،‭ ‬حيث‭ ‬نقرأ‭: ‬

لقد‭ ‬رأيت‭ ‬يومها‭: ‬سفائن‭ ‬الإفرنج

تغوص‭ ‬تحت‭ ‬الموج

وملك‭ ‬الإفرنج

يغوص‭ ‬تحت‭ ‬السرج

وراية‭ ‬الإفرنج

تغوص،‭ ‬والأقدام‭ ‬تفري‭ ‬وجهها‭ ‬المعوج‭! ‬

ولافت‭ ‬للانتباه‭ ‬رؤيا‭ ‬المستقبل‭ ‬الآني‭ ‬بالنصر،‭ ‬حيث‭ ‬تغرق‭ ‬سفن‭ ‬الإفرنج‭ ‬ورايتهم،‭ ‬ويؤسر‭ ‬ملك‭ ‬الإفرنج،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬التاريخ‭ ‬سيعيد‭ ‬ما‭ ‬كان،‭ ‬ويسقط‭ ‬راية‭ ‬الأعداء‭ ‬تحت‭ ‬الأقدام‭ ‬التي‭ ‬تمزقها،‭ ‬كما‭ ‬تتمزق‭ ‬سفن‭ ‬الإفرنج‭ ‬الغارقة‭ ‬في‭ ‬البحر‭. ‬وتكتمل‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬يصوغها‭ ‬مبدأ‭ ‬الرغبة‭ ‬بنجمة‭ ‬داود‭ ‬التي‭ ‬تسقط‭ ‬في‭ ‬التراب،‭ ‬بينما‭ ‬تعلو‭ ‬الراية‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬نسر‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬وترفرف‭ ‬في‭ ‬الهواء‭ ‬الحر‭. ‬ولكي‭ ‬يتأكد‭ ‬معنى‭ ‬الرؤيا‭ ‬التي‭ ‬يصوغها‭ ‬مبدأ‭ ‬الرغبة،‭ ‬ويسري‭ ‬في‭ ‬الحلم‭ ‬التخييلي‭ ‬معنى‭ ‬إمكان‭ ‬التحقق‭. ‬أعني‭ ‬الإمكان‭ ‬الذي‭ ‬ينطقه‭ ‬المقطع‭ ‬الأخير‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬التالي‭: ‬

لقد‭ ‬رأيت‭ ‬ليلة‭ ‬الثامن‭ ‬والعشرين

من‭ ‬سبتمبر‭ ‬الحزين

رأيت‭ ‬في‭ ‬هتاف‭ ‬شعبي‭ ‬الجريح

‭ (‬رأيت‭ ‬خلف‭ ‬الصورة‭) ‬

وجهك‭... ‬يا‭ ‬منصورهْ،

وجه‭ ‬لويس‭ ‬التاسع‭ ‬المأسور‭ ‬في‭ ‬يدَي‭ ‬صبيح،

‭ ... ... ... ‬

رأيت‭ ‬في‭ ‬صبيحة‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬تشرين

جندك‭... ‬يا‭ ‬حطين

يبكون،

لا‭ ‬يدرون‭... ‬

أن‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬الماشين

فيه‭... ‬صلاح‭ ‬الدين‭! ‬

الغريب‭ ‬أن‭ ‬نبوءة‭ ‬أمل‭ ‬تحققت‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬تشرين‭ ‬أول،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬العاشر‭ ‬منه‭ ‬سنة‭ ‬1973،‭ ‬فقد‭ ‬اقتحم‭ ‬الجيش‭ ‬المصري‭ ‬أصعب‭ ‬مانع‭ ‬مائي،‭ ‬واسترد‭ ‬كرامته‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬أكتوبر‭ (‬تشرين‭ ‬أول‭) ‬وأخذ‭ ‬ثأره‭. ‬

هكذا‭ ‬تستبدل‭ ‬الرؤيا‭ ‬بالإشارة‭ ‬التسـمية،‭ ‬فتعيد‭ ‬إلى‭ ‬الذاكرة‭ ‬أسر‭ ‬لويس‭ ‬التاسع‭ ‬في‭ ‬المنصورة‭ ‬على‭ ‬يدي‭ ‬القائد‭ ‬المملوكي‭ ‬الذي‭ ‬أخذه‭ ‬أسيراً،‭ ‬ووضعه‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬ابن‭ ‬لقمان‭ ‬مع‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬قادته،‭ ‬وأوكل‭ ‬حراستهم‭ ‬إلى‭ ‬الطواشي‭ ‬جمال‭ ‬الدين‭ ‬صبيح‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬للشاعر‭ ‬المصري‭ ‬جمال‭ ‬الدين‭ ‬يحيى‭ ‬بن‭ ‬مطروح،‭ ‬الذي‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬الصليبــييــــن‭ ‬مع‭ ‬الملــــك‭ ‬الــــصالح‭ ‬أيوب‭. ‬

وقد‭ ‬بلغه‭ ‬أن‭ ‬الملك‭ ‬الفرنسي‭ ‬الذي‭ ‬افتدى‭ ‬أسره‭ ‬ومن‭ ‬معه‭ ‬بعشرة‭ ‬ملايين‭ ‬فــرنك‭ ‬فرنسي،‭ ‬يعد‭ ‬العدة‭ ‬لحملة‭ ‬صليبية‭ ‬أخرى،‭ ‬فكتب‭ ‬له‭ ‬قائلاً‭: ‬

قل‭ ‬للفرنسيس‭ ‬إذا‭ ‬جئته‭ 

مقال‭ ‬حق‭ ‬من‭ ‬قؤول‭ ‬فصيح

‭...  ...  ... ‬

دار‭ ‬ابن‭ ‬لقمان‭ ‬على‭ ‬حالها

والقيد‭ ‬باق‭ ‬والطواشي‭ ‬صبيح

وأذكر‭ ‬أننا‭ ‬كنا‭ ‬نحفظ‭ ‬هذين‭ ‬البيتين‭ ‬لابن‭ ‬مطروح‭ ‬الشاعر‭ ‬المصري‭ ‬ونرددهما‭ ‬في‭ ‬فخر‭ ‬بعد‭ ‬فشل‭ ‬العدوان‭ ‬الثلاثي‭ ‬على‭ ‬مصر‭ ‬سنة‭ ‬1956‭. ‬ولذلك‭ ‬يدمج‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬رؤاه‭ ‬التخييلية‭ ‬وجه‭ ‬لويس‭ ‬التاسع‭ ‬المأسور‭ ‬في‭ ‬يدي‭ ‬صبيح‭ ‬لكي‭ ‬يضم‭ ‬المنصورة‭ ‬إلى‭ ‬حطين‭ ‬في‭ ‬سلسلة‭ ‬الانتصارات‭ ‬الوطنية‭ ‬على‭ ‬جنود‭ ‬الإفرنج‭ ‬الغزاة،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يؤكد‭ - ‬تخييلياً‭ - ‬أن‭ ‬نجمة‭ ‬داود‭ ‬ستسقط‭ ‬في‭ ‬الأرض،‭ ‬وأن‭ ‬مبدأ‭ ‬الرغبة‭ ‬سينتصر‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬الواقع،‭ ‬وسيغدو‭ ‬كل‭ ‬مصري‭ ‬صلاح‭ ‬الدين،‭ ‬كي‭ ‬يتحقق‭ ‬الحلم‭ ‬القومي‭ ‬بالنصر،‭ ‬فتسطع‭ ‬راية‭ ‬العقاب‭ (‬نسر‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭) ‬على‭ ‬كل‭ ‬الأرض‭ ‬العربية‭ ‬السليبة‭. ‬

هذا‭ ‬المنزع‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬التضمين‭ ‬والإشارة،‭ ‬نراه‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬إلى‭ ‬محمود‭ ‬حسن‭ ‬إسماعيل‭ ‬في‭ ‬ذكراه‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مقطعها‭ ‬الأول‭ ‬مفاجئاً‭ ‬لنا‭ ‬عندما‭ ‬استمعنا‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬لصوت‭ ‬أمل،‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭: ‬

واحد‭ ‬من‭ ‬جنودك‭ ‬يا‭ ‬سيدي

قطعوا‭ ‬يوم‭ ‬مؤتة‭ ‬مني‭ ‬اليدين

فاحتضنت‭ ‬لواءك‭ ‬بالمرفقين

واحتسبت‭ ‬لوجهك‭ ‬مستشهدي‭!‬‭ ‬

وكان‭ ‬مصدر‭ ‬المفاجأة‭ ‬أننا‭ ‬لم‭ ‬ندرك‭ ‬لأول‭ ‬وهلة‭ ‬مَنْ‭ ‬الـمُخَاطَب‭ (‬بفتح‭ ‬الطاء‭): ‬هل‭ ‬هو‭ ‬محمود‭ ‬حسن‭ ‬إسماعيل‭ ‬الذي‭ ‬مات‭ ‬في‭ ‬الكويت،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رحل‭ ‬ليعمل‭ ‬فيها؟‭ ‬ولكن‭ ‬الحيرة‭ ‬لم‭ ‬تطل،‭ ‬فسرعان‭ ‬ما‭ ‬عرفنا‭ ‬أن‭ ‬الخطاب‭ ‬موجه‭ ‬إلى‭ ‬الشعر‭ ‬نفسه‭: ‬

واحد‭ ‬من‭ ‬جنودك‭ - ‬يا‭ ‬أيها‭ ‬الشعر‭ - ‬

هل‭ ‬يصل‭ ‬الصوت؟

‭ ... ... ‬

أم‭ ‬يصل‭ ‬الموت

فأدركنا‭ ‬أن‭ ‬المقصود‭ ‬بالخطاب‭ ‬هو‭ ‬الشعر‭ ‬الذي‭ ‬لابد‭ ‬للشاعر‭ ‬من‭ ‬الاستشهاد‭ ‬في‭ ‬سبيله‭ - ‬إذا‭ ‬اقتضى‭ ‬الأمر‭ - ‬فهذا‭ ‬هو‭ ‬ثمن‭ ‬الإخلاص‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الهزيمة‭ ‬والنفاق،‭ ‬حيث‭ ‬يكثر‭ ‬الشعراء‭ ‬المماليك‭ ‬والشعراء‭ ‬المتسولون‭. ‬وليس‭ ‬معنى‭ ‬الاستشهاد‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬سياق‭ ‬المقطع،‭ ‬فالشاعر‭ ‬الذي‭ ‬يتحدث‭ ‬يذكِّر‭ ‬سامعيه‭ ‬بما‭ ‬فعله‭ ‬جعفر‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬طالب‭ ‬في‭ ‬غزوة‭ ‬مؤتة،‭ ‬حين‭ ‬قاتل‭ ‬قتالاً‭ ‬منقطع‭ ‬النظير،‭ ‬دفاعاً‭ ‬عن‭ ‬راية‭ ‬المسلمين،‭ ‬وظل‭ ‬ممسكاً‭ ‬بالراية‭ ‬حتى‭ ‬قطعت‭ ‬يـــمينه،‭ ‬فأمسكها‭ ‬بشماله،‭ ‬وظل‭ ‬يقاتل‭ ‬حتى‭ ‬قطعت‭ ‬شماله،‭ ‬فاحتضن‭ ‬الراية‭ ‬بعـــــضديه،‭ ‬ولم‭ ‬يـــزل‭ ‬رافعاً‭ ‬إياهـــــا‭ ‬حـــــتى‭ ‬قتل‭. ‬والتحويل‭ ‬المجازي‭ ‬للتضمين‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬دلالة‭ ‬تحويل‭ ‬الشعر‭ ‬إلى‭ ‬معنى‭ ‬مقدس،‭ ‬يستحق‭ ‬التضحية‭ ‬التي‭ ‬يبذلها‭ ‬الشاعر‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬سبيله‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬شبيه‭ ‬في‭ ‬الدلالة‭ ‬بالمعنى‭ ‬الذي‭ ‬استشهد‭ ‬في‭ ‬سبيله‭ ‬جعفر‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬طالب‭ ‬
‭]‬‭. ‬

وعندما‭ ‬ينتقل‭ ‬الخطاب‭ ‬الشعري‭ ‬إلى‭ ‬محمود‭ ‬حسن‭ ‬إسماعيل‭ ‬الذي‭ ‬يتقمص‭ ‬الشاعر‭ ‬حضوره،‭ ‬فنقرأ‭: ‬

أين‭ ‬المفر؟‭ ‬وأين‭ ‬المقر؟

للخفافيش‭ ‬أسماؤها‭ ‬التي‭ ‬تتسمى‭ ‬بها

فلمن‭ ‬تتسمى‭ ‬إذا‭ ‬انتسب‭ ‬النور‭! ‬

والنور‭ ‬لا‭ ‬ينتمي‭ ‬الآن‭ ‬للشمس

وبانت‭ ‬سعاد

تراها‭ ‬تبين‭ ‬من‭ ‬البردة‭ ‬النبوية؟

أم‭ ‬من‭ ‬قلنسوة‭ ‬الكاهنين‭ ‬الخزر؟

وينقلب‭ ‬الموقف‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقطع،‭ ‬وتتحول‭ ‬بلاغة‭ ‬التضــميــــن‭ ‬والإشــــارة‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬السخرية‭ ‬السوداء‭ ‬التي‭ ‬تثير‭ ‬الأسى‭ ‬في‭ ‬النفس،‭ ‬فأين‭ ‬المفر؟‭ ‬عنوان‭ ‬أحد‭ ‬دواوين‭ ‬محمود‭ ‬حسن‭ ‬إسماعيل‭. ‬أما‭ ‬أين‭ ‬المقر،‭ ‬فهو‭ ‬سؤال‭ ‬عن‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يستقر‭ ‬فيه‭ ‬الشاعر،‭ ‬باحثاً‭ ‬عن‭ ‬نور‭ ‬الإلهام‭ ‬الشعري‭.‬‭ ‬لكن‭ ‬الشاعر‭ ‬الراحل‭ ‬يعلم‭ ‬أن‭ ‬الخفافيش‭ ‬التي‭ ‬تكره‭ ‬النور‭ - ‬أي‭ ‬نور‭ - ‬لها‭ ‬أسماؤها‭ ‬التي‭ ‬تتسمى‭ ‬بها،‭ ‬فلمن‭ ‬يتسمى‭ ‬الشاعر‭ ‬الباحث‭ ‬عن‭ ‬النور،‭ ‬والنور‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬ينتسب‭ ‬إلى‭ ‬الشمس‭ ‬التي‭ ‬نعرفها‭ ‬؟

وتمضي‭ ‬السخرية‭ ‬في‭ ‬الأسطر‭ ‬التي‭ ‬تشير‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬قصيدة‭ ‬البردة‭ ‬التي‭ ‬أنشدها‭ ‬كعب‭ ‬بن‭ ‬زهير‭ ‬في‭ ‬حضرة‭ ‬النبي،‭ ‬‭[‬،،‭ ‬فخلع‭ ‬عليه‭ ‬بردته‭ ‬إعجاباً‭ ‬بالقصيدة‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬تعرف‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬بانت‭ ‬سعاد‮»‬‭ ‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬مطلعها‭: ‬

بانت‭ ‬سعاد‭ ‬فقلبي‭ ‬اليوم‭ ‬متبول

متيم‭ ‬إثرها‭ ‬لم‭ ‬يُفد‭ ‬مكبول

أما‭ ‬قلنسوة‭ ‬الكاهنين‭ ‬الخزر،‭ ‬فإشارة‭ ‬إلى‭ ‬اليهود‭ ‬الذين‭ ‬ظلوا‭ ‬يكيدون‭ ‬للنبي،‭ ‬‭[‬،‭ ‬في‭ ‬المدينة،‭ ‬ومناط‭ ‬السخرية‭ ‬معروف،‭ ‬وواضح‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬التضمين‭ ‬النقضي‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬نقرأ‭ ‬في‭ ‬الأسطر‭: ‬

وطني‭ ‬لو‭ ‬شغلت‭ ‬بالخلد‭ ‬عنه

نازعتني‭ - ‬لمجلس‭ ‬الأمن‭ - ‬نفسي‭! ‬

والأصل‭ ‬عند‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭: ‬

وطني‭ ‬لو‭ ‬شغلت‭ ‬بالخلد

عنه‭ ‬نازعتني‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬الخلد‭ ‬نفسي

وهو‭ ‬من‭ ‬سينية‭ ‬شوقي‭ ‬الشهيرة‭ ‬التي‭ ‬يحن‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬مصر،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نفاه‭ ‬الإنجليز‭ ‬إلى‭ ‬إسبانيا،‭ ‬فكتب‭ ‬سينيته‭ ‬هذه‭ ‬معارضاً‭ ‬سينية‭ ‬البحتري‭: ‬

صنت‭ ‬نفسي‭ ‬عمّا‭ ‬يدنس‭ ‬نفسي

وترفعت‭ ‬عن‭ ‬جَدا‭ ‬كل‭ ‬جبس

ومن‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬المقصود‭ ‬من‭ ‬التضمين‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬أمل‭ ‬هو‭ ‬المعارضة‭ ‬النقضية‭ ‬التي‭ ‬تستبدل‭ ‬بالخلد‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬على‭ ‬سنة‭ ‬زمن‭ ‬الهزائم‭. ‬

وأخيراً،‭ ‬نقرأ‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬نفسها‭: ‬

جبل‭ ‬التوباد‭ ‬حياك‭ ‬الحيا

وسقى‭ ‬الله‭ ‬ثرانا‭ ‬الأجنبي

والأصل‭ ‬هو‭ ‬بيت‭ ‬شوقي،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬شعره‭ ‬المسرحي،‭ ‬في‭ ‬مسرحية‭ ‬مجنون‭ ‬ليلى‭: ‬

جبل‭ ‬التوباد‭ ‬حياك‭ ‬الحيا

وسقى‭ ‬الله‭ ‬صبانا‭ ‬ورعى

والإشارة‭ - ‬مرة‭ ‬أخيرة‭ - ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬الأرض‭ ‬العربية‭ ‬المحتلة‭ ‬بعد‭ ‬1967،‭ ‬فقد‭ ‬أصبحت‭ ‬هذه‭ ‬الأراضي‭ ‬مستعمرات‭ ‬أجنبية،‭ ‬فحق‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬ثرانا‭ ‬الأجنبي‭. ‬

والحق‭ ‬أننـــــي‭ ‬ركـــــزت‭ ‬علـــــى‭ ‬أشكال‭ ‬التضمـــــين‭ ‬المتصلة‭ ‬بالتراث،‭ ‬وتجاهلت‭ ‬ما‭ ‬عداها‭ ‬عمداً،‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬الإنكار،‭ ‬ففي‭ ‬شعر‭ ‬أمل‭ ‬إشارات‭ ‬إلى‭ ‬الأدب‭ ‬الفرعوني،‭ ‬وإلى‭ ‬اليونانيــــــة،‭ ‬وإلى‭ ‬المسيح‭ ‬والمسيحية‭. ‬ولكني‭ ‬توقفت‭ ‬عند‭ ‬ما‭ ‬يعود‭ ‬بنا‭ ‬إلى‭ ‬الجذور‭ ‬القومية‭ ‬ذات‭ ‬المخـــزون‭ ‬الشعوري‭ ‬لدى‭ ‬القراء‭. ‬وهو‭ ‬المخزون‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬أمل‭ ‬يستثيره‭ ‬ويستنهض‭ ‬الشعور‭ ‬به‭.‬

‭ ‬وسوف‭ ‬أشير‭ - ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬الأخير‭ - ‬إلى‭ ‬تجربته‭ ‬العملية‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬بلويس‭ ‬عوض‭. ‬

وهي‭ ‬التجربة‭ ‬التي‭ ‬دفعته‭ ‬إلى‭ ‬تراثه‭ ‬القومي‭ ‬بحكم‭ ‬أنه‭ ‬التراث‭ ‬الذي‭ ‬يتيح‭ ‬له‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬الجماهير‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يتوجه‭ ‬إليها‭ ‬بشعره،‭ ‬ولأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يقرأ‭ ‬شعراً‭ ‬بلغة‭ ‬أجنبية،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يكتفي‭ ‬بالمتاح‭ ‬مترجماً‭. ‬ولذلك‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يفعل‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬السيَّاب‭ ‬أو‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور،‭ ‬اللذان‭ ‬كان‭ ‬لكل‭ ‬منهما‭ ‬إشاراته‭ ‬وتضميناته‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬الأجنبي‭ ‬