تزييف الوقائع في تلفزيون الواقع
من أهم المخاطر والتحديات التي تواجه الثقافة العربية، شيوع النموذج الاستهلاكي الذي يُسهم في خلخلة وتمزيق القيم والقواعد الأخلاقية، حيث تمارس وسائل الاتصال الجماهيري دورها في تحقيق تفوق المنتج الغربي المُسيطر على المستهلك العربي في ظل تردٍ كبير للواقع العربي، والأسوأ في ظل التحولات العالمية انتشار «الاستهلاك العشوائي» للبرامج الإعلامية المُتمثل في قضاء الجمهور أوقاتاً طويلة أمام برامج تعمل على ترويج النمط الاستهلاكي، وتعزيز الفردية ونبذ الخصوصية والهرولة وراء الغرائزية، بعيداً عن المشاركة الفعالة في المجتمع.
إن الاختراق الحالي في بنية الإعلام العربي، يسعى إلى تكريس منظومة جديدة من القيم تتفاعل داخل المجتمعات، وتسري ببطء وبثبات لتقضي على أي محاولة للنهوض أو الاستقلال أو التمايز الثقافي، بسبب وفرة استخدام تكنولوجيا الاتصال، وتعدد الوسائط والوسائل التي ألغت الحدود الجغرافية وقرّبت المسافات، وأتاحت فرص الحصول على المعلومات من أيّ مكان، وتجميعها وتخزينها وبثّها بشكل فوري، متخطية قيود الزمان والمكان.
فلسفة تلفزيون الواقع
إن حاجة الإنسان الأساسية للترفيه مكّنت من يقوم على الخطط البرامجية في الإعلام العربي من تقديم ساعات طوال من البرامج بمحتوى ترفيهي مهزوز وضعيف، وهي بذلك تعزز من الشعور بالتغريب والانعزال الأيديولوجي، وبهذا يصبح الترفيه وسيلة للهرب من الواقع.
ومع ظهور تلفزيون الواقع وشيوعه عالمياً وعربياً لترويج الحلم الجماعي، أُطلق على برامج تلفزيون الواقع اتلفزيون القمامةب TRASH TV، حيث يصبح المشاهد فاعلاً أساسياً تقوده نزعته الاستكشافية للتحول إلى كائن فضولي، وفي المقابل إصرار عنيد لوسائل الإعلام على انتشار الطابع الاستهلاكي الذي يعتمد على مبدأ الاستقلالية الفردية والمساواة والحرية بلاحدود، وعلى هذا تقوم فلسفة برامج تلفزيون الواقع:
- التسلية والإمتاع، ولهذا تبتعد برامج الواقع عن معالجة أي قضايا جدية.
- برامج سريعة الزوال، ومن ثم فإن برامج تلفزيون الواقع مادة لحظية، وغالباً ما تكون هروباً من الواقع، أو لتحقيق حالة مؤقتة من الاسترخاء.
- بعيدة عن السياسة والاقتصاد والثقافة والجدية.
تدعو برامج تلفزيون الواقع إلى المجتمع الاستهلاكي، وتنشر قيماً تتمثل في الأنانية والفردية المقترنة بالمنافسة العنيفة، وتروج للسعادة المتعلقة بامتلاك الأشياء، وتساعد الخاسر على التسليم والخضوع، وفي هذا يصبح التلصص ومراقبة الأشخاص في تلفزيون الواقع وإن كان في الحياة العامة غير مقبول؛ إلا أنه في تلفزيون الواقع معترف به تماماً ومقبول.
أما الملابس التي نشاهدها في برامج تلفزيون الواقع فهي ليست إلا محاولة للتعريف بأحدث صيحات الموضة وتجسيدها في نمط حياة المتلقي، وبهذا يتحول المشاهد إلى كائن استهلاكي من ناحية اقتصادية، وصولاً إلى النواحي الاجتماعية من التقاليد والآداب والذوق العام، وهنا تنشأ مشكلة أخرى يشعر بها من يكسب في برامج تلفزيون الواقع ألا وهي مشكلة التكيف مع البنية الاجتماعية والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الحقيقي بعد شهور من الاغتراب عن الذات، والانخداع بالمظاهر الاستهلاكية.
إشكالية تلفزيون الواقع عربياً
معظم التوصيف لتلفزيون الواقع يركز على االواقعيةب والنص غير المكتوب Unscripted، لذلك لا يوجد تعريف متفق عليه حول مفهومه، حيث ثمة فرق كبير بين الحقيقة والواقع، فالواقع هو الأشياء كما هي، أما الحقيقة فهي فهمنا للأشياء والكيفية التي ننقلها إلى أذهاننا عبر لغتنا وأدبنا وثقافتنا عن هذا العالم.
ووفق تلك الإشكالية، وبصرف النظر عن دقتها من عدمها، هذا ما يفعله تلفزيون الواقع، حتى إن عبارة اتلفزيون الواقعب والتي هي الصناعة التلفزيونية Television Industry، من الصعب أن تكون واقعية، فالعمل الذي قدمته ريتشارد كوستون ذ على سبيل المثال - في هيئة الإذاعة البريطانية عام 1969م حول االعائلة المالكةب، اعتقد البريطانيون من خلاله أنه سيكشف الصورة الطبيعية للملكة، وسيسمح للجمهور بأن يطّلع على المسائل غير الرسمية، وقد تناولت الصحافة حينها الصدمة التي أصيب بها الشعب البريطاني عندما رأى الملكة تقود السيارة وتتحدث مع بعض الخدم بغير تكلُّف، وكانت الجملة التي رددتها الصحف البريطانية على لسان عموم الشعب البريطاني: اامرأة عادية في مواقف عادية تعيش حياة غير عاديةب.
إن هذا يدل على أن تلفزيون الواقع يخلق بيئة مصطنعة واضحة، ثم يضع الشخصيات فيها ويسجل النتائج، ولهذا أجد أن التعريف الأقرب لتلفزيون الواقع هو نوع من المراقبة الوقائعية المتلاعب بها، لتُبث في عرض مكشوف، فالمشاهد يستطيع متابعة الحياة كاملة أمام الشاشة، وهو الذي يقرر المشترك الرابح من الخاسر.
إن البث اليومي والمباشر لتلفزيون الواقع يدل على أن هذا النوع من البرامج بات يشكل سمة لمعظم الفضائيات العربية، وأصبح الشغل الشاغل للمشاهدين مع تدفق أنواع جديدة من برامج الواقع، وهي في ذلك تعمق الانحراف الاجتماعي، وتدمر قيم الشباب الإيجابية، وهويتهم الثقافية لاكتسابهم ثقافة إعلامية لا تعتمد على المقاييس الفنية والجمالية بقدر اعتمادها على الجذب والإثارة والإباحية لتسطيح الفكر والحياة، وخلق الوعي المشوّه والبسيط نحو الجماليات، فضلاً عن هدر الأوقات.
إن برامج تلفزيون الواقع بنسختها العربية ما هي إلا عملية استنساخ مشوهة لما أنتجه الغرب، وهي تنفيس لأزمة افكرية وماليةب كبرى تعانيها الفضائيات العربية، لأن القائمين عليها اعتقدوا أن القناة الفضائية مجرد استديو وترددٍ على قمر اصطناعي، وأهملوا المضمون، حيث اقتصرت برامجها على الإثارة والترفيه، لذا يؤمن كثير من الفضائيات بأن برامج تلفزيون الواقع وسيلة لرفد القناة بالمعلنين.
إن التوصيف الأقرب لحقيقة مآلات تلفزيون الواقع ما كتبه كريستوفر دنكلي، وهو صحفي في االفايننشال تايمزب، إذ أشار إلى أن هذا النوع من البرامج له طابعه الجماهيري، ويتيح للمهمشين فرصة جديدة للظهور على شاشة التلفزيون كنجوم، ويُنظر إليه على أنه يقدم خليطاً من التفاهة والإباحية، ويذهب إلى أبعد من ذلك ويصفه بتلفزيون الإذلال والمهانة، والسبب في ذلك تعمده البذاءة ودفع الشرائح الواسعة من الجمهور إلى الغثيان، لأن صُناع تلفزيون الواقع يتدخلون علانية من البداية حتى النهاية، ويحددون كل شيء بشكل ملائم لغاياتهم في عروض هزلية وألعاب ومسابقات.
عربياً نجد أن برامج تلفزيون الواقع التي حققت نسب مشاهدة عالية اقتصرت على فئة المسابقات الغنائية، أما التصرفات التي تظهرها فقرات البرنامج فظهرت بشكل غريب في سلوكهم ومتمثلة بالتقمص والتشبه بالغير، وتقديم ترفيه جماعي يخاطب الغرائز الذي هو انعكاس للفراغ القيمي الذي نعيشه اليوم، وإغراق المشاهدين في مناقشات حادة بشأن صدق المشاركين ومدى ما يتعرضون له من توجيه وتلاعب.
أما مشاهد الرقص والغناء واللهو وتكرارها في تلفزيون الواقع؛ فالمصائب التي حفلت بها مشاهد الدراما العربية بشكل غير مبرر وغير مقبول فنياً، أصبحت في برامج تلفزيون الواقع ظاهرة مسلَّماً بها، وتحرر مشاهد تلفزيون الواقع من كل قيد شرعي أو سقف عرفي، وأصبح انجومب تلفزيون الواقع يعبرون عن أفكار ليست من أفكارهم، ويستخدمون مواقف كُتبت لهم مسبقاً.
الأثر الاجتماعي
إن الأثر الاجتماعي لتلك البرامج يتضح في خلخلة قيمنا الاجتماعية، ونسف معاييرنا الأخلاقية حول اللائق وغير اللائق، والحلال والحرام، والمحترم والمشين، حيث تعمل وسائل الإعلام على تثبيت قيم المجتمع من خلال نقلها من جيل إلى آخر، فالتكرار الذي نشاهده في تلفزيون الواقع يعمل على تثبيت القيم وترسيخها لدى الجمهور، وعرض وسائل الإعلام لقيمة معينة موجودة أو حديثة في المجتمع وتكرارها يجعلها تترسخ في ذهن المتلقي.
إن هذا النوع من البرامج دائماً ما يوجه الجمهور إلى أهمية المال والشهرة والجمال الظاهري، والاندماج في الحياة من دون سقف شرعي أو عرفي، كما أنها تخلق توقعات غير معقولة ذات علاقة بنمط الحياة، ولا يدرك غالبية المشاهدين أن منتجي هذه البرامج يبذلون جهداً كبيراً حتى تخرج الحلقات بشكل جذاب بطريقة السيناريو المحدد على أيدي معدين ومؤلفين على قدر كبير من المهارة للتحكم في سير الحلقات، ويمكن بيان أبرز سلبيات برامج تلفزيون الواقع:
< اختفاء الخصوصية والتواضع واحترام الذات.
< الهروب من الواقع وإضعاف الروابط الأسرية وتعميق المشاعر الذاتية.
< تعزيز ثقافة الإقصاء على حساب التسامح والقبول بالآخر.
< استنزاف الأموال في أمور سطحية.
< تكريس الفردية والروح الاستهلاكية على حساب الالتزام الجماعي.
< تغذية التعصب القُطري، حيث ينقسم الجمهور ليناصر القُطر الذي ينتمي إليه .