من حكايات 21 مارس

من حكايات 21 مارس

«فاقد الشيء لا يعطيه»... هذا كان رد إحداهن علي، وعلى أخريات حين تناقشنا حول كيفية استيعاب الأسر لاحتياجات الأبناء مع نموهم العمري.  فاقد الشيء لا يعطيه، كل كلمة من تلك المقولة ملأتني بالتفكير، استدعت ذكريات خلت أنني نسيتها وطواها الزمن، بل ظننت أنها أفعال اعتيادية لا شيء غريباً فيها. حين تفوهت بجملتها، أرادت إسكاتنا بأحقيتها في الحكم وإطلاق النتائج، لأنها ببساطة أم.  أزعجتني نبرة صوتها، فقد كانت متعالية، يعتريها جهل مطبق. لم يكن ذهني وقتها حاضراً للرد عليها، وأحمد الله على ذلك، فقد استغرقت وقتاً طويلاً لإمعان النظر في مواقف كثيرة كنت فيها أماً بالفطرة، استدعيت بعضها، وتساءلت: هل كانت طبيعية؟ سأنتهز شهر مارس شهر الاحتفاء بعطاء كل امرأة عربية أحبت واهتمت بمن حولها، للرد على أولئك الذين يرفعون شعار «فاقدة الأمومة لا تعطيها».  

عزيزتي،‭ ‬فاقد‭ ‬الشيء‭ ‬يعطيه،‭ ‬لأنه‭ ‬لولا‭ ‬الوجود‭ ‬الأصيل‭ ‬بالشيء‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬الفقد،‭ ‬ولا‭ ‬فقد‭ ‬لشيء‭ ‬غير‭ ‬موجود‭. ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬الأمومة،‭ ‬وهي‭ ‬مضمون‭ ‬حديثك،‭ ‬تفتقدها‭ ‬بعض‭ ‬السيدات‭ ‬بإرادتهن‭ ‬أو‭ ‬غصباً‭ ‬عنهن،‭ ‬فاعلمي‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬يد‭ ‬هزت‭ ‬مهداً‭ ‬واحتضنت‭ ‬وليداً‭ ‬ومسحت‭ ‬دمعة‭ ‬صغير‭ ‬وجبرت‭ ‬كسر‭ ‬أحدهم،‭ ‬هي‭ ‬يد‭ ‬أم‭. ‬وكل‭ ‬قلب‭ ‬تسارعت‭ ‬دقاته‭ ‬خوفاً‭ ‬وقلقاً‭ ‬على‭ ‬مصير‭ ‬أحدهم‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬جراء‭ ‬التفكير‭ ‬به،‭ ‬هو‭ ‬قلب‭ ‬أم‭. ‬الأمومة‭ ‬ليست‭ ‬دوراً‭ ‬يتقن‭ ‬أو‭ ‬زياً‭ ‬يفصل‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬لقباً‭ ‬يطلق،‭ ‬الأمومة‭ ‬مشاعر‭ ‬حانية‭ ‬وراقية‭ ‬تغرس‭ ‬في‭ ‬الوليد‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬منحه‭ ‬الحب‭ ‬والرعاية،‭ ‬لينشأ‭ ‬ليناً‭ ‬هيناً‭ ‬رحيماً،‭ ‬ولا‭ ‬تمييز‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬أنثى‭ ‬أو‭ ‬ذكراً،‭ ‬فالرحمة‭ ‬من‭ ‬الرب‭ ‬الرحيم،‭ ‬تلين‭ ‬بها‭ ‬القلوب‭ ‬وتهدأ‭ ‬بها‭ ‬النفوس‭. ‬فكم‭ ‬من‭ ‬أب‭ ‬بقلب‭ ‬أم،‭ ‬وكم‭ ‬من‭ ‬أم‭ ‬تجردت‭ ‬من‭ ‬أمومتها،‭ ‬وكم‭ ‬من‭ ‬أم‭ ‬فاضلة‭ ‬لم‭ ‬تعش‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬أمها،‭ ‬وكم‭ ‬من‭ ‬أم‭ ‬أنشأت‭ ‬أشباه‭ ‬أمهات‭!‬

عزيزتي،‭ ‬الأمومة‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬عملية‭ ‬بيولوجية‭ ‬قاصرة‭ ‬على‭ ‬الحمل‭ ‬والولادة،‭ ‬فكل‭ ‬الحيوانات‭ ‬والدواب‭ ‬تحمل‭ ‬وتلد،‭ ‬بل‭ ‬وترفق‭ ‬بوليدها،‭ ‬وإن‭ ‬أساءت‭ ‬له‭ ‬فلا‭ ‬حرج‭ ‬عليها‭ ‬فهي‭ ‬‮«‬بهيمة‮»‬،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬العجب‭ ‬كله‭ ‬سيكون‭ ‬ممن‭ ‬فضله‭ ‬الخالق‭ ‬بعقل‭ ‬وكلفه‭ ‬بالإعمار‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يتجرد‭ ‬من‭ ‬مشاعر‭ ‬الأمومة‭! ‬حين‭ ‬تربي‭ ‬الأم‭ ‬صغيرها‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الجدة‭ ‬أم‭ ‬ثانية،‭ ‬والخالة‭ ‬تسد‭ ‬غيابها،‭ ‬والأخت‭ ‬الكبيرة‭ ‬تمتلك‭ ‬قلبها،‭ ‬ستحيط‭ ‬صغيرها‭ ‬بمرافئ‭ ‬آمنة،‭ ‬صلبة،‭ ‬ستزرع‭ ‬في‭ ‬قلبه‭ ‬الصغير‭ ‬الثقة،‭ ‬والقوة،‭ ‬فلا‭ ‬الغياب‭ ‬يكسره،‭ ‬ولا‭ ‬الغد‭ ‬يقلقه‭. ‬وستجعل‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الصغير‭ ‬الآمن‭ ‬أباً‭ ‬بقلب‭ ‬أم‭. ‬

من‭ ‬لطائف‭ ‬ربي‭ ‬اللطيف‭ ‬علي،‭ ‬أنه‭ ‬خصني‭ ‬بأم‭ ‬لطيفة‭ ‬كنت‭ ‬آخر‭ ‬إنتاجها‭ ‬البشري،‭ ‬لن‭ ‬أقول‭ ‬إنها‭ ‬علمتني‭ ‬وربتني،‭ ‬فهذا‭ ‬الدور‭ ‬المفترض‭ ‬لكل‭ ‬أم،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬يميزها‭ ‬أنها‭ ‬ألبست‭ ‬كل‭ ‬أبنائها‭ ‬من‭ ‬رجل‭ ‬وامرأة‭ ‬ثوب‭ ‬اللطف‭ ‬بالأشخاص‭ ‬والأشياء،‭ ‬كنا‭ ‬ستة‭ ‬إخوة،‭ ‬ولم‭ ‬نر‭ ‬منها‭ ‬شيئاً‭ ‬من‭ ‬القسوة‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬تأديب‭ ‬أو‭ ‬تهذيب‭ ‬الأم‭ ‬لأبنائها‭. ‬ما‭ ‬اجتمعنا‭ ‬حولها‭ ‬للاحتفاء‭ ‬بها‭ ‬إلا‭ ‬وذكرتنا‭ ‬بمن‭ ‬احتضنها‭ ‬ورعاها‭ ‬واهتم‭ ‬بها،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬جدة‭ ‬أو‭ ‬حماة‭ ‬أو‭ ‬عاملة‭. ‬أمي‭ ‬لم‭ ‬تحظ‭ ‬بحضن‭ ‬أمها،‭ ‬لأنها‭ ‬فقدتها‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬مبكرة،‭ ‬أمي‭ ‬تربت‭ ‬وكبرت‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬جدتها،‭ ‬وعاشت‭ ‬مع‭ ‬أم‭ ‬زوجها‭ ‬ونادتها‭ ‬بـ«أمي‮»‬‭.‬

عزيزتي،‭ ‬في‭ ‬الختام‭ ‬وددت‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬لك،‭ ‬إن‭ ‬الرقة‭ ‬بالقول‭ ‬والتأدب‭ ‬في‭ ‬الطرح،‭ ‬بانتقاء‭ ‬مفرداتك‭ ‬ومراعاة‭ ‬ظروف‭ ‬الآخرين‭ ‬من‭ ‬حولك‭ ‬في‭ ‬المجالس،‭ ‬من‭ ‬صفات‭ ‬الأمومة‭ ‬التي‭ ‬تتمتعين‭ ‬بها‭ ‬ونفتقدها،‭ ‬ولن‭ ‬أبحث‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬أو‭ ‬القصائد‭ ‬لتدعيم‭ ‬رأيي،‭ ‬فلا‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬قول‭ ‬المولى‭ ‬عز‭ ‬وجل‭ ‬‭{‬وَقُلْنَ‭ ‬قَوْلًا‭ ‬مَعْرُوفًا‭}‬‭ (‬سورة‭ ‬الأحزاب‭ - ‬الآية‭ ‬32‭) ‬