جان- ليون جيروم «استقبال كونديه الكبير في فرساي»

جان- ليون جيروم «استقبال كونديه الكبير في فرساي»

كونديه الكبير هو الأمير لويس دي بوربون كونديه، الذي أمضى خمس عشرة سنة في المنفى بفعل تمرده على قريبه، الملك الفرنسي لويس الرابع عشر، غير  أنه بعد انتصاره على وليم أوف أورانج في معركة سينيف عام 1674م، وتمكّنه من درء خطر  الهولنديين عن فرنسا، عفا عنه الملك واستقبله في قصر فرساي.

رسم‭ ‬جيروم‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1878م،‭ ‬أي‭ ‬بعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قرنين‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬على‭ ‬الحدث‭. ‬واضطر‭ ‬لهذه‭ ‬الغاية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬دراسة‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬شخصيات‭ ‬ذاك‭ ‬الزمن‭ ‬وأزيائهم‭ ‬ليرسمها‭ ‬بأعلى‭ ‬حدٍ‭ ‬ممكن‭ ‬من‭ ‬الأمانة‭ ‬للأصل‭.‬

مقاييس‭ ‬اللوحة‭ ‬ليست‭ ‬كبيرة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الحدث‭ ‬الضخم‭ ‬الذي‭ ‬يفترض‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬تصوّره،‭ ‬لا‭ ‬بل‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إنها‭ ‬صغيرة‭ (‬96،5×140سم‭). ‬ولكن‭ ‬ولع‭ ‬الرسام‭ ‬الأكاديمي‭ ‬بإتقان‭ ‬التفاصيل‭ ‬وتمكّنه‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬بفعل‭ ‬قدراته‭ ‬التقنية‭ ‬الفذة،‭ ‬جعلاه‭ ‬يكتفي‭ ‬بهذه‭ ‬المساحة‭ ‬الصغيرة،‭ ‬ليزج‭ ‬فيها‭ ‬هذا‭ ‬الحشد‭ ‬الكبير‭ ‬من‭ ‬الناس‭.‬

تجري‭ ‬مراسم‭ ‬الاستقبال‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة،‭ ‬حيث‭ ‬جرت‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬قبل‭ ‬مائتي‭ ‬سنة‭: ‬على‭ ‬‮«‬سلم‭ ‬السفراء‮»‬‭ ‬الشهير‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬فرساي‭. ‬السلم‭ ‬وجدار‭ ‬القصر‭ ‬في‭ ‬الأعلى‭ ‬مرسومان‭ ‬بأمانة‭ ‬فوتوغرافية‭. ‬وفي‭ ‬أعلى‭ ‬السلم،‭ ‬يقف‭ ‬الملك‭ ‬بثيابه‭ ‬الموشاة‭ ‬بالذهب،‭ ‬وخلفه‭ ‬أفراد‭ ‬الأسرة‭ ‬المالكة‭ ‬وعلى‭ ‬السلالم‭ ‬الجانبية‭ ‬والشرفات‭ ‬الداخلية‭ ‬عشرات‭ ‬الأشخاص‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬البلاط‭. ‬وفي‭ ‬منتصف‭ ‬سلّم‭ ‬السفراء،‭ ‬ومن‭ ‬على‭ ‬مسافة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الملك،‭ ‬نرى‭ ‬كونديه‭ ‬الكبير‭ ‬من‭ ‬الخلف‭ ‬ينحني‭ ‬عربون‭ ‬الطاعة‭ ‬والولاء‭. ‬وعلى‭ ‬جانبي‭ ‬السلم‭ ‬اصطف‭ ‬جنود‭ ‬يعرضون‭ ‬أعلام‭ ‬الجيوش‭ ‬المهزومة،‭ ‬وتحتها‭ ‬على‭ ‬الدرجات‭ ‬السفلى‭ ‬أكاليل‭ ‬الغار‭ ‬مرمية‭ ‬أرضاً‭.‬

تتجسد‭ ‬عبقرية‭ ‬جيروم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬عنصر‭ ‬واحد‭. ‬فقد‭ ‬أخلى‭ ‬وسط‭ ‬اللوحة‭ ‬للسلم‭ ‬الكبير‭ ‬بخطوطه‭ ‬المتوازية‭ ‬والرتيبة،‭ ‬ليسمح‭ ‬ببروز‭ ‬الحضور‭ ‬الكبير‭ ‬للملك‭ ‬والأمير‭ ‬العائد‭ ‬اللذين‭ ‬يستقطبان‭ ‬النظر‭ ‬فوراً‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الشخصيات‭ ‬المحتشدة‭ ‬في‭ ‬الأعلى‭ ‬على‭ ‬الجانبين‭ ‬مرسومة‭ ‬بأحجام‭ ‬صغيرة‭ ‬جداً،‭ ‬فإنها‭ ‬تشير‭ ‬بوضوح‭ ‬إلى‭ ‬ضخامة‭ ‬الحاشية‭ ‬الملكية،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الناس‭ ‬مرسومون‭ ‬بأمانة‭ ‬لما‭ ‬كانت‭ ‬عليهم‭ ‬هيئاتهم‭ ‬فعلاً‭. ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬المساحة‭ ‬الكبيرة‭ ‬المخصصة‭ ‬للسلم‭ ‬الرخامي‭ ‬وللجدار‭ ‬العلوي‭ ‬المكسو‭ ‬بالجرانيت‭ ‬الأخضر‭ ‬والوردي‭ ‬قد‭ ‬جاءت‭ ‬بألوان‭ ‬فاتحة‭ ‬وباردة،‭ ‬فإن‭ ‬جانبي‭ ‬اللوحة‭ ‬باحتشاد‭ ‬الناس‭ ‬فيهما‭ ‬وبالبيارق‭ ‬العسكرية‭ ‬الكثيرة‭ ‬الزخارف،‭ ‬عوّضا‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الفراغ‮»‬‭ ‬في‭ ‬الوسط‭ ‬وحفظا‭ ‬للوحة‭ ‬توازنها‭ ‬وغناها‭ ‬بالألوان‭.‬

عندما‭ ‬رسم‭ ‬جيروم‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة،‭ ‬كان‭ ‬يأمل‭ ‬في‭ ‬بيعها‭ ‬للدوق‭ ‬دومال‭ ‬الفرنسي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يستعد‭ ‬للانتقال‭ ‬والسكن‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬‮«‬شانتيي‮»‬،‭ ‬المقر‭ ‬القديم‭ ‬لأمراء‭ ‬كونديه،‭ ‬ولكن‭ ‬الصفقة‭ ‬لم‭ ‬تتم‭. ‬فباعها‭ ‬لهاوٍ‭ ‬أمريكي‭ ‬يدعى‭ ‬وليم‭ ‬فاندربولت،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬اللوحة‭ ‬بقيت‭ ‬ذائعة‭ ‬الصيت‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬صورها‭. ‬وطبعت‭ ‬صورتها‭ ‬في‭ ‬الكتب‭ ‬المدرسية‭ ‬الفرنسية‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬وبدايات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬للدلالة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬الأبهة‭ ‬الملكية‭ ‬والحياة‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬فرساي‭ ‬على‭ ‬عهد‭ ‬لويس‭ ‬الرابع‭ ‬عشر‭. ‬وبقيت‭ ‬اللوحة‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬حتى‭ ‬عام‭ ‬2004،‭ ‬عندما‭ ‬طرحها‭ ‬مالكوها‭ ‬للبيع‭ ‬في‭ ‬مزاد‭ ‬علني،‭ ‬فسارعت‭ ‬الحكومة‭ ‬الفرنسية‭ ‬إلى‭ ‬شرائها‭ ‬بمبلغ‭ ‬1.3‭ ‬مليون‭ ‬دولار،‭ ‬لتعود‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬وطنها،‭ ‬حيث‭ ‬تستقر‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬‮«‬متحف‭ ‬أورساي‮»‬‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬