الواحات.. بيوت الطين وظلال الحنين

الواحات.. بيوت الطين وظلال الحنين

نبدأ‭ ‬الرحلة‭ ‬من‭ ‬القاهرة،‭ ‬مخترقين‭ ‬الصحراء‭ ‬الغربية‭ ‬الشاسعة،‭ ‬حيث‭ ‬اختبأت‭ ‬الواحات‭ ‬قانعة‭ ‬بفضيلة‭ ‬الانعزال‭ ‬قروناً،‭ ‬عتَّقت‭ ‬خلالها‭ ‬على‭ ‬مهل‭ ‬تجارب‭ ‬الناس‭ ‬وفنونهم،‭ ‬مخلفة‭ ‬لنا‭ ‬تراثاً‭ ‬يتباين‭ ‬بين‭ ‬واحة‭ ‬وأخرى‭ ‬بإبهار‭. ‬إنها‭ ‬ليست‭ ‬زيارتنا‭ ‬الأولى‭ ‬للواحات‭ ‬المصرية،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬قررنا‭ ‬ألا‭ ‬نترك‭ ‬أنفسنا‭ ‬لغواية‭ ‬المكان،‭ ‬فقد‭ ‬حددنا‭ ‬مسبقاً‭ ‬هدفاً‭ ‬للرحلة،‭ ‬وهو‭ ‬اقتفاء‭ ‬أثر‭ ‬العمارة‭ ‬الطينية‭ ‬بفنونها‭ ‬واستطلاع‭ ‬أحوالها،‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬روائعها‭ ‬الباقية‭ ‬منذ‭ ‬قرون،‭ ‬ومحاولات‭ ‬إحيائها،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬صار‭ ‬فيه‭ ‬تراث‭ ‬كامل‭ ‬مهدداً‭.‬

‭ ‬الدافع‭ ‬وراء‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬إذن‭ ‬هو‭ ‬حنين‭ ‬ممتزج‭ ‬بالقلق‭, ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬البيوت‭ ‬الطينية‭ - ‬لا‭ ‬شك‭ - ‬هي‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬ذاكرة‭ ‬أجيال‭, ‬نحن‭ ‬آخرها‭, ‬حيث‭ ‬عاصرنا‭ ‬الطين‭ ‬بوصفه‭ ‬جسد‭ ‬جميع‭ ‬القرى‭ ‬المصرية‭, ‬ومادة‭ ‬بنائها‭ ‬حتى‭ ‬السبعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭. ‬وكنا‭ ‬أطفالاً‭ ‬نركب‭ ‬القطار‭, ‬وننظر‭ ‬من‭ ‬النافذة‭, ‬فنرى‭ ‬البيوت‭ ‬الطينية‭ ‬وهي‭ ‬تهرول‭ ‬عكس‭ ‬اتجاهه‭, ‬كقطعان‭ ‬تفر‭ ‬وسط‭ ‬مساحات‭ ‬شاسعة‭ ‬خضراء‭, ‬وخلف‭ ‬أعمدة‭ ‬الهاتف‭ ‬الخشبية‭ ‬الغليظة‭, ‬الملاصقة‭ ‬للخطوط‭ ‬الحديدية‭, ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تجري‭ ‬أسرع‭.‬

‭ ‬كانت‭ ‬البيوت‭ ‬رمادية‭ ‬في‭ ‬الغالب‭, ‬ملونة‭ ‬أحياناً‭, ‬مكونة‭ ‬من‭ ‬طابق‭, ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬من‭ ‬طابقين‭, ‬تعلوها‭ ‬أكوام‭ ‬من‭ ‬القش‭, ‬كنا‭ ‬نراها‭ ‬بأعين‭ ‬الطفولة‭ ‬بمنزلة‭ ‬الشعر‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬بشرية‭, ‬أعينها‭ ‬النوافذ‭, ‬وفمها‭ ‬بوابة‭ ‬الدار‭ ‬المفتوحة‭, ‬وكان‭ ‬التجول‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القرى‭ ‬أحياناً‭, ‬ومشاهدة‭ ‬تلك‭ ‬البيوت‭ ‬الطينية‭ ‬للفلاحين‭ ‬الفقراء‭ ‬والكرماء‭, ‬مرتبطين‭ ‬بروائح‭ ‬خير‭ ‬ونماء‭, ‬من‭ ‬منتجات‭ ‬ألبان‭ ‬تُصنع‭ ‬منزلياً‭, ‬وتوضع‭ ‬في‭ ‬غرف‭ ‬الخزين‭ ‬الطينية‭ ‬المظلمة‭, ‬وذات‭ ‬الفتحات‭ ‬الضيقة‭ ‬قرب‭ ‬السقف‭, ‬إلى‭ ‬رائحة‭ ‬الحطب‭ ‬المحترق‭, ‬ودخان‭ ‬أخشاب‭ ‬الكافور‭ ‬المعطرة‭, ‬مختلطة‭ ‬بروائح‭ ‬الطعام‭ ‬المطهو‭ ‬على‭ ‬‮«‬الكوانين‮»‬‭ ‬والخبز‭ ‬الخارج‭ ‬من‭ ‬الأفران‭ ‬المقببة‭, ‬وذات‭ ‬الفتحات‭ ‬نصف‭ ‬الدائرية‭, ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تبتلع‭ ‬أرغفة‭ ‬العجين‭, ‬وتلفظها‭ ‬بعد‭ ‬دقائق‭ ‬ساخنة‭ ‬وشهية‭, ‬تلسع‭ ‬أيدي‭ ‬الأطفال‭ ‬المتعجلين‭. ‬كانت‭ ‬الروائح‭ ‬التي‭ ‬تسري‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬الطينية‭ ‬الضيقة‭ ‬هي‭ ‬حصيلة‭ ‬عرق‭ ‬الفلاحين‭, ‬وأساس‭ ‬معاشهم‭.‬

‭ ‬اليوم‭ ‬اندثرت‭ ‬بيوت‭ ‬الطين‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬القرى‭, ‬وحل‭ ‬محلها‭ ‬الطوب‭ ‬الأحمر‭ ‬والأسمنت‭ ‬المسلَّح‭, ‬حاد‭ ‬الأركان‭ ‬والزوايا‭, ‬التي‭ ‬تمددت‭ ‬وزحفت‭ ‬بتوحش‭ ‬على‭ ‬المساحة‭ ‬الخضراء‭, ‬التي‭ ‬انهزمت‭ ‬وتقلصت‭, ‬آخذة‭ ‬معها‭ ‬روائح‭ ‬الماضي‭ ‬الجميل‭.‬

‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬هي‭ ‬بحث‭ ‬عن‭ ‬الطين‭ ‬المبني‭ ‬بيوتاً‭, ‬والمصفوف‭ ‬شوارع‭ ‬وأزقة‭, ‬والمفرغ‭ ‬نوافذ‭ ‬وأبواباً‭ ‬تنفتح‭ ‬على‭ ‬روح‭ ‬الوجود‭, ‬وتنغلق‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬بمذاق‭ ‬الحنين‭.‬

 

طريق‭ ‬الواحات

الطريق‭ ‬إلى‭ ‬الواحات‭ ‬الخارجة‭, ‬مقصدنا‭ ‬الأول‭, ‬طويل‭, ‬يمتد‭ ‬عبر‭ ‬الصحراء‭ ‬غرب‭ ‬النيل‭, ‬إلى‭ ‬مشارف‭ ‬محافظة‭ ‬أسيوط‭ ‬أولاً‭, ‬ولمسافة‭ ‬تزيد‭ ‬على‭ ‬أربعمائة‭ ‬كيلومتر‭, ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نكمل‭ ‬إلى‭ ‬طريق‭ ‬الواحات‭, ‬الذي‭ ‬يمتد‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬مائتي‭ ‬كيلومتر‭. ‬وبحكم‭ ‬الخبرة‭ ‬في‭ ‬السفر‭ ‬إلى‭ ‬الواحات‭, ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬أفضل‭ ‬الطرق‭ ‬البرية‭, ‬مقارنة‭ ‬بالطريق‭ ‬الزراعي‭ ‬المزدحم‭, ‬الذي‭ ‬يمر‭ ‬بمدن‭ ‬وقرى‭ ‬الصعيد‭ ‬الأدنى‭, ‬من‭ ‬الجيزة‭ ‬فبني‭ ‬سويف‭ ‬والمنيا‭ ‬وأخيراً‭ ‬أسيوط‭, ‬وحتى‭ ‬الطريق‭ ‬الشرقي‭.‬

‭ ‬قبيل‭ ‬أسيوط‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬التوقف‭ ‬للراحة‭, ‬البعض‭ ‬يستريح‭ ‬مرتين‭. ‬وهنا‭ ‬الفرصة‭ ‬مواتية‭, ‬لمراجعة‭ ‬برنامج‭ ‬الجولة‭, ‬بحيث‭ ‬نستطيع‭ ‬الإلمام‭ ‬بأحوال‭ ‬العمارة‭ ‬الطينية‭, ‬ورصد‭ ‬وتصوير‭ ‬جمالياتها‭, ‬من‭ ‬دون‭ ‬الغرق‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬مكررة‭, ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الصحراء‭ ‬الغربية‭ ‬تضم‭ ‬بضع‭ ‬واحات‭, ‬أهمها‭ ‬الخارجة‭ ‬والداخلة‭ ‬والفرافرة‭ ‬وباريس‭, ‬وكلها‭ ‬ضمن‭ ‬نطاق‭ ‬محافظة‭ ‬الوادي‭ ‬الجديد‭ ‬الصحراوية‭, ‬وتقل‭ ‬مساحتها‭ ‬عن‭ ‬نصف‭ ‬مساحة‭ ‬مصر‭ ‬قليلاً‭, ‬بالإضافة‭ ‬للواحات‭ ‬البحرية‭, ‬التي‭ ‬تتبع‭ ‬محافظة‭ ‬الجيزة‭, ‬ثم‭ ‬واحة‭ ‬سيوة‭ ‬التي‭ ‬تتبع‭ ‬محافظة‭ ‬مطروح‭ ‬الساحلية‭. ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬سنقطع‭ ‬خلالها‭ ‬حوالي‭ ‬ثلاثة‭ ‬آلاف‭ ‬وستمائة‭ ‬كيلومتر‭ ‬عبر‭ ‬الصحراء‭, ‬والواحات‭ ‬الست‭ ‬المذكورة‭ ‬هي‭ ‬مقاصدنا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاستطلاع‭.‬

‭ ‬أسترجع‭ ‬زيارات‭ ‬عديدة‭ ‬قمت‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬الواحات‭, ‬لتوثيق‭ ‬تراثها‭ ‬وتصوير‭ ‬كنوزها‭, ‬وبرغم‭ ‬غناها‭ ‬بالمناظر‭ ‬الطبيعية‭ ‬وبالتراث‭ ‬الحرفي‭, ‬فإن‭ ‬أبنيتها‭ ‬الطينية‭ ‬كانت‭ ‬دائماً‭ ‬أهم‭ ‬ملامح‭ ‬جمالها‭, ‬فأبنية‭ ‬الطين‭ ‬النابتة‭ ‬من‭ ‬قلب‭ ‬الطبيعة‭ ‬القاسية‭ ‬تبدو‭ ‬طيبة‭, ‬وهي‭ ‬تلقي‭ ‬بظلالها‭ ‬التي‭ ‬تربت‭ ‬بحنو‭ ‬على‭ ‬أهل‭ ‬المكان‭, ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬عاشوا‭ ‬فيها‭ ‬لآلاف‭ ‬السنين‭, ‬قبل‭ ‬نشأة‭ ‬الحضارة‭ ‬المصرية‭. ‬بل‭ ‬يرى‭ ‬جمال‭ ‬حمدان‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬شخصية‭ ‬مصر‮»‬‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬المصري‭ ‬الأول‭ ‬نشأ‭ ‬هنا‭, ‬حيث‭ ‬ترك‭ ‬آثار‭ ‬عصره‭ ‬الحجري‭ ‬التي‭ ‬ترجع‭ ‬إلى‭ ‬ثمانين‭ ‬ألف‭ ‬سنة‭, ‬في‭ ‬واحة‭ ‬بلاط‭, ‬وفي‭ ‬العوينات‭, ‬وحول‭ ‬بحيرات‭ ‬عصر‭ ‬مطير‭, ‬وودع‭ ‬المنطقة‭ ‬قبل‭ ‬اثني‭ ‬عشر‭ ‬ألف‭ ‬عام‭, ‬ماأدى‭ ‬إلى‭ ‬هجرة‭ ‬سكان‭ ‬تلك‭ ‬الجنان‭ ‬وفيرة‭ ‬الماء‭ ‬والزاد‭, ‬إلى‭ ‬وادي‭ ‬النيل‭, ‬وفي‭ ‬اتجاهات‭ ‬أخرى‭, ‬ليبدأ‭ ‬مرحلة‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬والمعاناة‭ ‬التي‭ ‬أجبرته‭ ‬على‭ ‬الانتماء‭ ‬إلى‭ ‬مجموعات‭, ‬يتعاون‭ ‬معها‭, ‬مدشناً‭ ‬أولى‭ ‬الحضارات‭ ‬المعروفة‭.‬

‭ ‬ومنذ‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭, ‬كان‭ ‬الطين‭ ‬هو‭ ‬الرفيق‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬الحياة‭ ‬ممكنة‭ ‬بعد‭ ‬تغير‭ ‬المناخ‭, ‬وفي‭ ‬مواجهة‭ ‬زحف‭ ‬الجفاف‭ ‬والتصحر‭. ‬ولما‭ ‬فر‭ ‬الإنسان‭ ‬البدائي‭ ‬إلى‭ ‬ضفتي‭ ‬النهر‭, ‬بقيت‭ ‬أعداد‭ ‬قليلة‭ ‬في‭ ‬المنخفضات‭ ‬التي‭ ‬احتفظت‭ ‬بالماء‭ ‬المخزون‭ ‬لفترات‭ ‬أطول‭, ‬سواء‭ ‬على‭ ‬السطح‭ ‬في‭ ‬بحيرات‭ ‬صغيرة‭, ‬أو‭ ‬في‭ ‬باطن‭ ‬الأرض‭ ‬غير‭ ‬بعيد‭, ‬وهؤلاء‭ ‬هم‭ ‬سكان‭ ‬الواحات‭, ‬الذين‭ ‬انعزلوا‭ ‬نسبياً‭ ‬لفترات‭ ‬طويلة‭, ‬بلورت‭ ‬ثقافة‭ ‬خاصة‭ ‬بهم‭, ‬ومنها‭ ‬معمارهم‭ ‬الطيني‭ ‬الفريد‭.‬

 

قباب‭ ‬ورسوم

نستأنف‭ ‬الرحلة‭ ‬من‭ ‬مشارف‭ ‬أسيوط‭, ‬ونتجه‭ ‬يميناً‭ ‬إلى‭ ‬طريق‭ ‬الواحات‭, ‬وهو‭ ‬طريق‭ ‬يدخل‭ ‬مباشرة‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬الصحراء‭ ‬متجهاً‭ ‬إلى‭ ‬الجنوب‭ ‬الغربي‭, ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ ‬النقب‭, ‬وهي‭ ‬حافة‭ ‬منخفض‭ ‬الواحات‭ ‬بعمق‭ ‬حوالي‭ ‬أربعمائة‭ ‬متر‭, ‬والتي‭ ‬تبدو‭ ‬كأنما‭ ‬قطعت‭ ‬بآلة‭ ‬حادة‭ ‬عملاقة‭ ‬شكلت‭ ‬حواف‭ ‬شبه‭ ‬قائمة‭, ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬استدعى‭ ‬التحايل‭ ‬على‭ ‬الطبيعة‭ ‬ونحت‭ ‬طريق‭ ‬ثعباني‭, ‬يروح‭ ‬ويجيء‭ ‬ليهبط‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬درجة‭ ‬واحدة‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬طريق‭ ‬النقب‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬خطرا‭, ‬وسبب‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬الحوادث‭, ‬لكن‭ ‬جرى‭ ‬تحديثه‭ ‬منذ‭ ‬فترة‭, ‬وصار‭ ‬آمناً‭, ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬يضيع‭ ‬بعض‭ ‬الوقت‭ ‬لاعتبارات‭ ‬البطء‭ ‬اللازم‭ ‬للنزول‭ ‬الآمن‭. ‬ومن‭ ‬بعد‭ ‬النقب‭ ‬يستغرق‭ ‬الأمر‭ ‬نحو‭ ‬الساعة‭ ‬لنصل‭ ‬إلى‭ ‬مشارف‭ ‬‮«‬الخارجة‮»‬‭, ‬حيث‭ ‬تلوح‭ ‬الأشجار‭ ‬ونخيل‭ ‬التمر‭ ‬والدوم‭, ‬وبعض‭ ‬المباني‭ ‬الطينية‭.‬

‭ ‬تسع‭ ‬ساعات‭ ‬استغرقها‭ ‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬يمتد‭ ‬لحوالي‭ ‬ستمائة‭ ‬وخمسين‭ ‬كيلومتراً‭ ‬من‭ ‬القاهرة‭, ‬متضمنة‭ ‬فترة‭ ‬الاستراحة‭, ‬واجتياز‭ ‬النقب‭, ‬وقبيل‭ ‬مدينة‭ ‬الخارجة‭ ‬عاصمة‭ ‬محافظة‭ ‬الوادي‭ ‬الجديد‭ ‬بنحو‭ ‬خمسة‭ ‬كيلومترات‭ ‬يلوح‭ ‬معبد‭ ‬هيبس‭ ‬الشهير‭ ‬على‭ ‬اليمين‭, ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الزيارات‭ ‬السابقة‭ ‬تحت‭ ‬الترميم‭, ‬وهو‭ ‬معبد‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬نهاية‭ ‬العصور‭ ‬الفرعونية‭ ‬والبطلمية‭, ‬وخلفه‭ ‬توجد‭ ‬مقابر‭ ‬اليجوات‭, ‬أول‭ ‬لقاء‭ ‬لنا‭ ‬مع‭ ‬العمارة‭ ‬الطينية‭ ‬في‭ ‬الواحات‭. ‬

نحن‭ ‬أمام‭ ‬عمارة‭ ‬جنائزية‭, ‬ليست‭ ‬منبطحة‭, ‬ولا‭ ‬متوارية‭, ‬فهي‭ ‬تشبه‭ ‬البيوت‭ ‬بأبوابها‭ ‬وأسقفها‭ ‬المقببة‭. ‬الساحة‭ ‬كبيرة‭ ‬وممتلئة‭ ‬بأبنية‭ ‬طينية‭ ‬قديمة‭, ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬مقابر‭ ‬قبطية‭ ‬وكنيسة‭, ‬وأبنية‭ ‬ملحقة‭, ‬يرجع‭ ‬تاريخها‭ ‬إلى‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬إلى‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬الميلاديين‭. ‬واسمها‭ ‬هو‭ ‬تحريف‭ ‬لكلمة‭ ‬‮«‬قبوات‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تعود‭ ‬لشكل‭ ‬القباب‭ ‬والأقبية‭ ‬التي‭ ‬تشكل‭ ‬الملمح‭ ‬الأساسي‭ ‬للمباني‭, ‬التي‭ ‬صمدت‭ ‬طوال‭ ‬تلك‭ ‬القرون‭, ‬بل‭ ‬بقيت‭ ‬النقوش‭ ‬بداخلها‭ ‬زاهية‭, ‬بفضل‭ ‬الجفاف‭, ‬وانخفاض‭ ‬مستوى‭ ‬الرطوبة‭ ‬وعدم‭ ‬وجود‭ ‬أمطار‭.‬

‭ ‬مساحة‭ ‬المكان‭ ‬حوالي‭ ‬عشرة‭ ‬آلاف‭ ‬متر‭, ‬وبرغم‭ ‬تهدم‭ ‬بعض‭ ‬الأبنية‭, ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬يعطي‭ ‬صورة‭ ‬واضحة‭ ‬عن‭ ‬عمارة‭ ‬طينية‭ ‬فريدة‭. ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬كان‭ ‬المأوى‭ ‬لمعتنقي‭ ‬المسيحية‭ ‬من‭ ‬الاضطهاد‭ ‬الروماني‭ ‬الوثني‭, ‬فقد‭ ‬فر‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬القساوسة‭ ‬والرهبان‭, ‬ومعهم‭ ‬بعض‭ ‬المسيحيين‭ ‬إلى‭ ‬الصحراء‭, ‬حيث‭ ‬توجد‭ ‬آثار‭ ‬لتلك‭ ‬الفترة‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المناطق‭ ‬في‭ ‬الواحات‭ ‬المصرية‭. ‬هنا‭ ‬وإلى‭ ‬جوار‭ ‬المقابر‭, ‬كان‭ ‬الهاربون‭ ‬يقيمون‭, ‬وقد‭ ‬بنوا‭ ‬هذه‭ ‬الجبانات‭ ‬ومعها‭ ‬الكنيسة‭ ‬التي‭ ‬يرجح‭ ‬بعض‭ ‬الباحثين‭ ‬أنها‭ ‬ثاني‭ ‬أقدم‭ ‬كنائس‭ ‬مصر‭, ‬بعد‭ ‬الكنيسة‭ ‬المرقسية‭ ‬في‭ ‬الإسكندرية‭. ‬وفي‭ ‬مقابر‭ ‬البجوات‭ ‬كتابات‭ ‬قبطية‭ ‬ولاتينية‭ ‬وحتى‭ ‬عربية‭ ‬ترجع‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ألف‭ ‬عام‭, ‬وتحتوي‭ ‬على‭ ‬مائتين‭ ‬وثلاث‭ ‬وستين‭ ‬مقبرة‭ ‬وهيكلا‭. ‬

أول‭ ‬المباني‭ ‬التي‭ ‬نقابلها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نصعد‭ ‬عبر‭ ‬الطريق‭ ‬الترابي‭, ‬يسمى‭ ‬مزار‭ ‬السلام‭, ‬لوجود‭ ‬طيور‭ ‬الحمام‭ ‬وأغصان‭ ‬به‭, ‬ولكن‭ ‬الباحثين‭ ‬يطلقون‭ ‬عليه‭ ‬المقبرة‭ ‬البيزنطية‭, ‬لأنه‭ ‬يأخذ‭ ‬ذلك‭ ‬الطابع‭ ‬المعماري‭ ‬الوافد‭. ‬كما‭ ‬يوجد‭ ‬مبنى‭ ‬آخر‭ ‬يسمى‭ ‬مزار‭ ‬الخروج‭, ‬وهو‭ ‬مقبرة‭ ‬تصور‭ ‬خروج‭ ‬اليهود‭ ‬من‭ ‬مصر‭, ‬كما‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬القديم‭, ‬وتوجد‭ ‬رسوم‭ ‬لموضوعات‭ ‬دينية‭ ‬أخرى‭ ‬مثل‭ ‬قصص‭ ‬آدم‭ ‬وحواء‭ ‬وإبراهيم‭ ‬ونوح‭ ‬ويونس‭ ‬وغيرها‭ ‬مما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدس‭.‬

جميع‭ ‬الأبنية‭ ‬تم‭ ‬إنشاؤها‭ ‬بالطوب‭ ‬اللبن‭, ‬وبالداخل‭ ‬احتفظ‭ ‬بعضها‭ ‬بطبقة‭ ‬من‭ ‬الملاط‭, ‬فوقها‭ ‬طلاء‭ ‬جيري‭ ‬أبيض‭ ‬ونقوش‭ ‬بألوان‭ ‬عدة‭. ‬ومما‭ ‬يثير‭ ‬الاهتمام‭ ‬هو‭ ‬بقاء‭ ‬هذه‭ ‬الأبنية‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬اندثار‭ ‬الأبنية‭ ‬السكنية‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬المجاورة‭, ‬التي‭ ‬ترجع‭ ‬إلى‭ ‬الحقبة‭ ‬نفسها‭, ‬ولكن‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬سمة‭ ‬مصرية‭, ‬إذ‭ ‬عبر‭ ‬العصور‭ ‬بقيت‭ ‬الأبنية‭ ‬التي‭ ‬تخص‭ ‬العالم‭ ‬الآخر‭, ‬من‭ ‬معابد‭ ‬ومقابر‭, ‬بينما‭ ‬فنت‭ ‬قصور‭ ‬الفراعنة‭ ‬أنفسهم‭, ‬ولم‭ ‬نجد‭ ‬لها‭ ‬أثراً‭ ‬يذكر‭.‬

‭ ‬ترتكز‭ ‬الأبنية‭ ‬على‭ ‬أعمدة‭ ‬طينية‭ ‬بعضها‭ ‬مستدير‭, ‬وتنتهي‭ ‬إلى‭ ‬أقواس‭ ‬حاملة‭ ‬للقباب‭, ‬وتظهر‭ ‬حجرات‭ ‬الدفن‭ ‬في‭ ‬أرضية‭ ‬بعض‭ ‬الغرف‭. ‬أحد‭ ‬أوجه‭ ‬الأهمية‭ ‬للمعمار‭ ‬الطيني‭ ‬في‭ ‬البجوات‭, ‬هو‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬أحد‭ ‬رافدين‭ ‬رئيسين‭ ‬للمعماري‭ ‬الشهير‭ ‬حسن‭ ‬فتحي‭, ‬حيث‭ ‬إنه‭ ‬زار‭ ‬المكان‭, ‬ضمن‭ ‬جولاته‭ ‬في‭ ‬ربوع‭ ‬مصر‭, ‬خلال‭ ‬مرحلة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬هوية‭ ‬معمارية‭, ‬ومزج‭ ‬الطرازين‭ ‬القبطي‭ ‬والبيزنطي‭ ‬الوافد‭ ‬مع‭ ‬المعمار‭ ‬النوبي‭, ‬وكان‭ ‬النتاج‭ ‬هو‭ ‬أسلوبه‭ ‬الذي‭ ‬حقق‭ ‬شهرة‭ ‬عالمية‭, ‬وعرف‭ ‬بعمارة‭ ‬الفقراء‭, ‬وسنكون‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬معه‭ ‬خلال‭ ‬رحلتنا‭, ‬حيث‭ ‬إنه‭ ‬ترك‭ ‬بعضاً‭ ‬من‭ ‬أعماله‭ ‬في‭ ‬الواحات‭. ‬

البجوات‭ ‬قرية‭ ‬للموتى‭ ‬مثيرة‭ ‬للتأمل‭, ‬وخصوصاً‭ ‬قبيل‭ ‬الغروب‭, ‬وهي‭ ‬عتيقة‭ ‬ولكنها‭ ‬ليست‭ ‬حجرية‭ ‬كمعظم‭ ‬الآثار‭ ‬القديمة‭, ‬التي‭ ‬تشعرك‭ ‬بالعظمة‭, ‬فهنا‭ ‬تستشعر‭ ‬تواضع‭ ‬الطين‭ ‬واستسلامه‭ ‬وإنسانيته‭. ‬إنه‭ ‬مادة‭ ‬الأرض‭, ‬التي‭ ‬نسير‭ ‬عليها‭, ‬ونخرج‭ ‬منها‭ ‬أقواتنا‭, ‬وصنعنا‭ ‬منها‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭ ‬أوانينا‭, ‬التي‭ ‬تجد‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬قطعاً‭ ‬متناثرة‭ ‬منها‭, ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬القدماء‭ ‬يصوغونها‭ ‬على‭ ‬الدواليب‭, ‬أو‭ ‬بأصابع‭ ‬اليد‭, ‬مجوفة‭ ‬تشبهنا‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭, ‬ثم‭ ‬تُحرق‭ ‬لتصبح‭ ‬أواني‭ ‬الماء‭ ‬والزاد‭, ‬عبر‭ ‬عصور‭ ‬سحيقة‭, ‬ومازالت‭ ‬الواحات‭ ‬تشتهر‭ ‬بها‭, ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الطين‭ ‬مادة‭ ‬أجسادنا‭, ‬لذلك‭ ‬فهو‭ ‬رابطة‭ ‬القربى‭ ‬التي‭ ‬جعلته‭ ‬يتكفل‭ ‬بنا‭ ‬عبر‭ ‬مئات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬السنين‭ ‬في‭ ‬المأكل‭ ‬والمشرب‭ ‬والمسكن‭. ‬إنه‭ ‬الطين‭ ‬الذي‭ ‬بدأنا‭ ‬ننعزل‭ ‬عنه‭, ‬فانحسر‭ ‬تدريجيا‭, ‬ولم‭ ‬نعد‭ ‬نراه‭ ‬في‭ ‬مبانينا‭ ‬ولا‭ ‬آنيتنا‭, ‬وحتى‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬صارت‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬مغطاة‭ ‬بالأسفلت‭, ‬والأسمنت‭ ‬والحجر‭, ‬وفي‭ ‬أحسن‭ ‬الأحوال‭ ‬ببساط‭ ‬أخضر‭ ‬مجلوب‭, ‬ومهذب‭. ‬ننتبه‭ ‬إلى‭ ‬الوقت‭ ‬فنغادر‭ ‬البجوات‭ ‬أقدم‭ ‬عمارة‭ ‬طينية‭ ‬في‭ ‬رحلتنا‭ ‬إلى‭ ‬مكن‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬الواحة‭ ‬نفسها‭ ‬وهو‭ ‬درب‭ ‬السندادية‭.‬

 

درب‭ ‬السندادية

إنها‭ ‬القرية‭ ‬القديمة‭ ‬لسكان‭ ‬الخارجة‭, ‬وهي‭ ‬كتلة‭ ‬من‭ ‬البيوت‭ ‬التي‭ ‬تلوذ‭ ‬ببعضها‭, ‬ومعظم‭ ‬شوارعها‭ ‬مسقوفة‭, ‬وكثير‭ ‬من‭ ‬أبنيتها‭ ‬كان‭ ‬ذا‭ ‬طابقين‭, ‬لكن‭ ‬معظم‭ ‬القرية‭ ‬صار‭ ‬أنقاضاً‭, ‬برغم‭ ‬استمرار‭ ‬وجود‭ ‬سكان‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المناطق‭ ‬منها‭, ‬حيث‭ ‬رأينا‭ ‬نسوة‭ ‬عجائز‭ ‬يفترشن‭ ‬حصير‭ ‬السمار‭, ‬ويجلسن‭ ‬قبيل‭ ‬الغروب‭ ‬أمام‭ ‬البيوت‭, ‬بعضهن‭ ‬موشومات‭ ‬الوجوه‭, ‬تعلوهن‭ ‬ابتسامة‭ ‬رضا‭, ‬ينظرن‭ ‬للغرباء‭ ‬بترحاب‭, ‬ويقبلن‭ ‬التصوير‭ ‬على‭ ‬استحياء‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬مشروع‭ ‬لإحياء‭ ‬منطقة‭ ‬درب‭ ‬السندادية‭, ‬وترميم‭ ‬مبانيها‭ ‬الطينية‭, ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬تراثها‭ ‬المعماري‭, ‬لكن‭ ‬الأهالي‭ ‬هدموا‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬المنازل‭, ‬وبنوا‭ ‬منازل‭ ‬حديثة‭, ‬ولأن‭ ‬المنطقة‭ ‬مخططة‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬بما‭ ‬يتوافق‭ ‬مع‭ ‬طبيعة‭ ‬البناء‭ ‬الطيني‭, ‬فقد‭ ‬أخذت‭ ‬طابعاً‭ ‬عشوائياً‭, ‬يتجاور‭ ‬مع‭ ‬شواهد‭ ‬وأطلال‭ ‬القرية‭ ‬القديمة‭.‬

‭ ‬حاولنا‭ ‬أن‭ ‬نبحث‭ ‬بينها‭ ‬ونتلمس‭ ‬بعضاً‭ ‬من‭ ‬الماضي‭, ‬لأهم‭ ‬منطقة‭ ‬عمرانية‭ ‬في‭ ‬‮«‬الخارجة‮»‬‭, ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬مأهولة‭ ‬بالسكان‭ ‬منذ‭ ‬أواخر‭ ‬العصر‭ ‬الروماني‭,‬‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬الكتلة‭ ‬السكنية‭ ‬تغلق‭ ‬على‭ ‬ساكنيها‭, ‬بثلاثة‭ ‬أبواب‭ ‬مصنوعة‭ ‬من‭ ‬خشب‭ ‬الدوم‭, ‬وبداخلها‭ ‬آبار‭ ‬المياه‭, ‬التي‭ ‬تسمى‭ ‬‮«‬عين‭ ‬الدار‮»‬‭. ‬أما‭ ‬الخامات‭ ‬المستخدمة‭ ‬في‭ ‬البناء‭, ‬فظلت‭ ‬على‭ ‬حالها‭ ‬لمئات‭ ‬السنين‭, ‬وهي‭ ‬الطوب‭ ‬المصنوع‭ ‬من‭ ‬الطفلة‭, ‬التي‭ ‬يتم‭ ‬جلبها‭ ‬من‭ ‬الجبل‭ ‬المجاور‭, ‬ويتم‭ ‬عجنها‭ ‬ووضعها‭ ‬في‭ ‬قوالب‭ ‬ثم‭ ‬تركها‭ ‬لتجف‭, ‬أما‭ ‬الأسقف‭ ‬فمن‭ ‬جذوع‭ ‬نخيل‭ ‬الدوم‭ ‬الذي‭ ‬ينتشر‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭, ‬وكذلك‭ ‬نخيل‭ ‬التمر‭ ‬وجريده‭. ‬وما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬بيوت‭ ‬يشبه‭ ‬كهوفاً‭, ‬حيث‭ ‬بعض‭ ‬الغرف‭ ‬تحتوي‭ ‬بالكاد‭ ‬على‭ ‬فتحة‭ ‬لدخول‭ ‬الضوء‭ ‬قرب‭ ‬السقف‭, ‬وذلك‭ ‬لزوم‭ ‬الاحتماء‭ ‬من‭ ‬الحرارة‭ ‬الشديدة‭ ‬في‭ ‬الصيف‭ ‬وبرودة‭ ‬الشتاء‭, ‬أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬للإضاءة‭, ‬فإنها‭ ‬بطبيعتها‭ ‬قوية‭ ‬في‭ ‬الصحراء‭ ‬الجافة‭ ‬التي‭ ‬تكاد‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬السحب‭. ‬

الليل‭ ‬في‭ ‬الواحات‭, ‬سكون‭ ‬تام‭, ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬هادئة‭, ‬وادعة‭. ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬اهتماماً‭ ‬من‭ ‬فترات‭ ‬سابقة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الشوارع‭ ‬بإحياء‭ ‬التراث‭ ‬المعماري‭ ‬الطيني‭, ‬بعض‭ ‬الأسوار‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭, ‬وبعض‭ ‬الأبنية‭ ‬الحديثة‭, ‬لكن‭ ‬الغالبية‭, ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬العيون‭, ‬تتجه‭ ‬نحو‭ ‬الحداثة‭.‬

 

‮«‬باريس‮»‬‭ ‬حسن‭ ‬فتحي

في‭ ‬الصباح‭ ‬الباكر‭ ‬بدأنا‭ ‬التحرك‭ ‬إلى‭ ‬واحة‭ ‬باريس‭, ‬وهي‭ ‬تتبع‭ ‬إدارياً‭ ‬الواحات‭ ‬الخارجة‭, ‬وتبعد‭ ‬عنها‭ ‬قرابة‭ ‬مائة‭ ‬كيلومتر‭, ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬الجنوب‭, ‬وتقع‭ ‬على‭ ‬درب‭ ‬الأربعين‭, ‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬الطرق‭ ‬التجارية‭ ‬القديمة‭, ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬القوافل‭ ‬تعبر‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬إلى‭ ‬دارفور‭ ‬في‭ ‬السودان‭, ‬ومنها‭ ‬إلى‭ ‬إفريقيا‭, ‬وكان‭ ‬يتقاطع‭ ‬مع‭ ‬طريق‭ ‬المغرب‭ ‬العربي‭, ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬القوافل‭ ‬التجارية‭, ‬وبعض‭ ‬رحلات‭ ‬الحج‭, ‬تمر‭ ‬عبره‭, ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أكسب‭ ‬الواحة‭ ‬الصغيرة‭ ‬ملامح‭ ‬مختلفة‭, ‬انعكست‭ ‬على‭ ‬طبيعة‭ ‬ناسها‭ ‬وثقافتهم‭ ‬المتأثرة‭ ‬بالجنوب‭. ‬وقبيل‭ ‬الواحة‭ ‬ببضعة‭ ‬كيلومترات‭, ‬ظهر‭ ‬مركز‭ ‬حسن‭ ‬فتحي‭ ‬إلى‭ ‬يمين‭ ‬الطريق‭, ‬وهو‭ ‬بناء‭ ‬طيني‭, ‬استخدم‭ ‬فيه‭ ‬الفنان‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬ملامح‭ ‬مدرسته‭, ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬خامات‭ ‬البيئة‭, ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬الطين‭, ‬وجذوع‭ ‬الأشجار‭ ‬والنخيل‭, ‬ويستخدم‭ ‬القباب‭ ‬والأقبية‭ ‬لعمل‭ ‬الأسقف‭. ‬وقد‭ ‬قام‭ ‬ببناء‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬منذ‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭, ‬وبالتحديد‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ‬سبعة‭ ‬وستين‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭, ‬وكان‭ ‬يطمح‭ ‬لأن‭ ‬يكون‭ ‬قرية‭ ‬متكاملة‭, ‬لكن‭ ‬المشروع‭ ‬توقف‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يكتمل‭, ‬لأسباب‭ ‬بيروقراطية‭, ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬نهاية‭ ‬حلم‭ ‬ترسيخ‭ ‬مشروعه‭ ‬المعماري‭ ‬المستوحى‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬والقائم‭ ‬على‭ ‬خامة‭ ‬الطين‭, ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يتطلع‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬فيها‭ ‬الفلاحون‭ ‬المصريون‭, ‬والفقراء‭ ‬عموماً‭, ‬حلاً‭ ‬لمشكلاتهم‭, ‬بتوفير‭ ‬منازل‭ ‬جميلة‭ ‬وصحية‭ ‬وقليلة‭ ‬التكلفة‭, ‬خصوصاً‭ ‬أن‭ ‬خبراته‭ ‬قد‭ ‬وصلت‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬أوجها‭, ‬فظهر‭ ‬اهتمامه‭ ‬بمراعاة‭ ‬حركة‭ ‬الهواء‭ ‬لتبريد‭ ‬المباني‭, ‬كما‭ ‬قام‭ ‬بالبناء‭ ‬على‭ ‬قواعد‭ ‬حجرية‭ ‬تضمن‭ ‬تماسك‭ ‬الحوائط‭ ‬فوق‭ ‬الأرض‭ ‬الرملية‭, ‬واستخدم‭ ‬وحدات‭ ‬زخرفية‭ ‬شعبية‭, ‬على‭ ‬شكل‭ ‬مثلثات‭, ‬لتملأ‭ ‬فراغ‭ ‬النوافذ‭ ‬نصف‭ ‬الدائرية‭, ‬وكان‭ ‬فتحي‭ ‬قد‭ ‬أصيب‭ ‬بخيبات‭ ‬متتالية‭ ‬في‭ ‬مشروعه‭ ‬للبناء‭ ‬بالطين‭, ‬كانت‭ ‬أولاها‭ ‬عدم‭ ‬توافر‭ ‬الإمكانات‭ ‬لاستكمال‭ ‬مشروع‭ ‬قرية‭ ‬القرنة‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬البر‭ ‬الغربي‭ ‬بالأقصر‭ ‬أواخر‭ ‬الأربعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭, ‬ورفض‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬القرية‭ ‬القديمة‭ ‬الانتقال‭ ‬لمشروعه‭, ‬لابتعاده‭ ‬عن‭ ‬بيوتهم‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مبنية‭ ‬فوق‭ ‬مقابر‭ ‬النبلاء‭ ‬الفرعونية‭, ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تدر‭ ‬دخلاً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬نبش‭ ‬المقابر‭ ‬واستخراج‭ ‬الآثار‭, ‬وكذلك‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬الوعي‭ ‬الكافي‭ ‬بمميزات‭ ‬عمارته‭ ‬الجمالية‭ ‬والوظيفية‭, ‬وها‭ ‬هو‭ ‬مشروهة‭ ‬يتعثر‭ ‬أيضاً‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭, ‬مع‭ ‬فارق‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬اعتراف‭ ‬واحتفاء‭ ‬دوليين‭ ‬عن‭ ‬نظرياته‭ ‬المعمارية‭ ‬التي‭ ‬تضمنتها‭ ‬كتبه‭ ‬بلغات‭ ‬عدة‭, ‬ومنذ‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭ ‬ظل‭ ‬مركز‭ ‬حسن‭ ‬فتحي‭ ‬مهجوراً‭, ‬وكانت‭ ‬هناك‭ ‬أفكار‭ ‬واقتراحات‭ ‬عدة‭ ‬لاستغلاله‭, ‬كمرسم‭ ‬للفنانين‭ ‬التشكيليين‭, ‬كمركز‭ ‬للحرف‭ ‬التقليدية‭, ‬وأخيراً‭ ‬تم‭ ‬تنفيذ‭ ‬الفكرة‭ ‬الأولى‭, ‬حيث‭ ‬يستقبل‭ ‬المركز‭ ‬الفنانين‭ ‬التشكيليين‭, ‬الذين‭ ‬يقيمون‭ ‬معرضاً‭ ‬سنوياً‭ ‬لأعمالهم‭ ‬التي‭ ‬أنجزوها‭ ‬بالمركز‭, ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬يحدث‭ ‬بشكل‭ ‬موسمي‭, ‬ولا‭ ‬يعتبر‭ ‬استغلالاً‭ ‬كاملاً‭ ‬للمكان‭. ‬

أما‭ ‬واحة‭ ‬باريس‭, ‬التي‭ ‬يرجع‭ ‬اسمها‭ ‬على‭ ‬الأرجح‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬بيريس‮»‬‭ ‬قائد‭ ‬جيش‭ ‬‮«‬قمبيز‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬هلك‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬الرمال‭ ‬العظيم‭ ‬بين‭ ‬الخارجة‭ ‬وسيوة‭, ‬فإن‭ ‬بيوتها‭ ‬الطينية‭ ‬تبدو‭ ‬شبيهة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما‭ ‬ببيوت‭ ‬الفلاحين‭ ‬في‭ ‬ريف‭ ‬الوادي‭, ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تهتم‭ ‬بطلاء‭ ‬الواجهات‭ ‬بألوان‭ ‬قوية‭, ‬للتزيين‭, ‬وأيضاً‭ ‬لمناسبة‭ ‬الحج‭ ‬والعمرة‭, ‬وبعض‭ ‬البيوت‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬نقوش‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬أيضاً‭, ‬وهي‭ ‬ألوان‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نتجاهل‭ ‬لمسة‭ ‬إفريقية‭ ‬فيها‭, ‬شأنها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬شأن‭ ‬بعض‭ ‬منتجاتها‭ ‬الحرفية‭ ‬الأخرى‭, ‬كمشغولات‭ ‬السعف‭, ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬أيضاً‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬مثيلاتها‭ ‬في‭ ‬النوبة‭ ‬والسودان‭. ‬

 

‮«‬القصر‮»‬‭ ‬الإسلامية

المحطة‭ ‬التالية‭ ‬في‭ ‬رحلتنا‭ ‬هي‭ ‬واحة‭ ‬الداخلة‭, ‬التي‭ ‬تبعد‭ ‬ثلاثمائة‭ ‬وخمسين‭ ‬كيلومتراً‭ ‬تقريباً‭ ‬عن‭ ‬واحة‭ ‬باريس‭, ‬حيث‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الخارجة‭, ‬ثم‭ ‬استكمال‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬الشمال‭, ‬مروراً‭ ‬بمنطقة‭ ‬
‮«‬أبو‭ ‬طرطور‮»‬‭ ‬الشهيرة‭ ‬بمناجمها‭, ‬ثم‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬موط‮»‬‭, ‬وهي‭ ‬المدينة‭ ‬المركزية‭ ‬في‭ ‬‮«‬الداخلة‮»‬‭, ‬ويرجع‭ ‬اسمها‭ ‬إلى‭ ‬الإله‭ ‬الفرعوني‭ ‬‮«‬موت‮»‬‭, ‬وهي‭ ‬ثاني‭ ‬أكبر‭ ‬الواحات‭ ‬في‭ ‬المحافظة‭ ‬الصحراوية‭, ‬ولأهلها‭ ‬طبيعة‭ ‬خاصة‭, ‬فهم‭ ‬مسالمون‭ ‬للغاية‭, ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬الجرائم‭ ‬عندهم‭ ‬كانت‭ ‬نادرة‭, ‬وبعضها‭ ‬كان‭ ‬منعدماً‭, ‬لقرون‭.‬

‭ ‬وفي‭ ‬‮«‬موط‮»‬‭ ‬توجد‭ ‬أنقاض‭ ‬للمدينة‭ ‬القديمة‭, ‬وقليل‭ ‬من‭ ‬البيوت‭ ‬الطينية‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬مأهولة‭, ‬وقد‭ ‬ذهبنا‭ ‬إلى‭ ‬قرية‭ ‬‮«‬الهنداو‮»‬‭ ‬المجاورة‭, ‬التي‭ ‬تقع‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬كيلومترات‭ ‬قليلة‭ ‬ومازال‭ ‬بها‭ ‬بعض‭ ‬الأبنية‭ ‬الطينية‭ ‬التقليدية‭, ‬وتشبه‭ ‬في‭ ‬توزيعها‭ ‬القرى‭ ‬المصرية‭ ‬عموماً‭, ‬لكن‭ ‬النوافذ‭ ‬هنا‭ ‬عالية‭ ‬وغالباً‭ ‬صغيرة‭, ‬وبرغم‭ ‬زحف‭ ‬البناء‭ ‬الحديث‭, ‬فإن‭ ‬بيوتاً‭ ‬قديمة‭ ‬مازالت‭ ‬صامدة‭, ‬تحمل‭ ‬ملامح‭ ‬الخمسينيات‭ ‬والستينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭. ‬ومن‭ ‬‮«‬الهنداو‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬قرية‭ ‬الجديدة‭, ‬وقد‭ ‬زرنا‭ ‬منزل‭ ‬العمدة‭ ‬الحاج‭ ‬شاذلي‭ ‬منصور‭, ‬وهو‭ ‬من‭ ‬عائلة‭ ‬عريقة‭ ‬في‭ ‬الواحات‭, ‬ولها‭ ‬تاريخ‭, ‬ومازال‭ ‬محتفظاً‭ ‬ببيته‭ ‬الطيني‭, ‬ذي‭ ‬الحديقة‭, ‬ولديه‭ ‬أسيجة‭ ‬من‭ ‬شرائح‭ ‬الخشب‭ ‬المتقاطعة‭ ‬مع‭ ‬بعضها‭, ‬بشكل‭ ‬مائل‭, ‬بنمط‭ ‬يسمى‭ ‬‮«‬بغدادلي‮»‬‭, ‬وهو‭ ‬بيت‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬خامة‭ ‬الطين‭ ‬وبعض‭ ‬ملامح‭ ‬الحداثة‭, ‬في‭ ‬البناء‭ ‬والمعالجات‭, ‬وبلاط‭ ‬الأرضيات‭, ‬والأثاث‭, ‬وهو‭ ‬حال‭ ‬بيوت‭ ‬أخرى‭, ‬بنيت‭ ‬في‭ ‬الستينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭, ‬بمادة‭ ‬الطين‭, ‬لكن‭ ‬بها‭ ‬بعض‭ ‬مظاهر‭ ‬الحداثة‭, ‬مثل‭ ‬بيت‭ ‬الحاج‭ ‬صبحي‭ ‬حسين‭, ‬الذي‭ ‬شاهدناه‭ ‬في‭ ‬زيارة‭ ‬سابقة‭, ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭, ‬تم‭ ‬إحلاله‭ ‬ببناية‭ ‬من‭ ‬الطوب‭ ‬الأحمر‭ ‬والأسمنت‭, ‬وهو‭ ‬حال‭ ‬المباني‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬القرية‭, ‬التي‭ ‬تتوسع‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬الكثبان‭ ‬الرملية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تهدد‭ ‬القرية‭, ‬وكان‭ ‬الحل‭ ‬هو‭ ‬تثبيتها‭ ‬بالبناء‭ ‬فوقها‭.‬

وعلى‭ ‬بعد‭ ‬حوالي‭ ‬عشرين‭ ‬كيلومتراً‭ ‬من‭ ‬‮«‬موط‮»‬‭ ‬تقف‭ ‬أهم‭ ‬كتلة‭ ‬معمارية‭ ‬طينية‭ ‬مكتملة‭ ‬في‭ ‬الواحات‭ ‬المصرية‭, ‬وهي‭ ‬قرية‭ ‬القصر‭ ‬الإسلامية‭, ‬وهي‭ ‬موقع‭ ‬أثري‭ ‬فريد‭ ‬وشديد‭ ‬الأهمية‭, ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬جبلية‭, ‬ومحاطة‭ ‬بمساحات‭ ‬خضراء‭ ‬ونخيل‭, ‬وعلى‭ ‬مقربة‭ ‬منها‭ ‬بئر‭ ‬مياه‭ ‬ساخنة‭. ‬وقد‭ ‬قمنا‭ ‬برحلة‭ ‬استكشافية‭ ‬إلى‭ ‬الجبل‭ ‬في‭ ‬خلفية‭ ‬القرية‭, ‬واستغرق‭ ‬صعوده‭ ‬ساعات‭ ‬عدة‭ ‬لنكتشف‭ ‬المفاجأة‭, ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬بدا‭ ‬جبلاً‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬سوى‭ ‬حافة‭ ‬المنخفض‭ ‬الذي‭ ‬يشكل‭ ‬أرض‭ ‬الواحات‭, ‬وفور‭ ‬وصولنا‭ ‬إلى‭ ‬القمة‭ ‬اكتشفنا‭ ‬أننا‭ ‬فوق‭ ‬مسطح‭ ‬الصحراء‭ ‬المنبسطة‭. ‬بينما‭ ‬يصل‭ ‬عمق‭ ‬المنخفض‭ ‬إلى‭ ‬حوالي‭ ‬أربعمائة‭ ‬متر‭. ‬ويرجع‭ ‬تاريخ‭ ‬قرية‭ ‬القصر‭ ‬الإسلامية‭ ‬للعصر‭ ‬الأيوبي‭ ‬قبل‭ ‬نحو‭ ‬ثمانمائة‭ ‬عام‭, ‬ومعظم‭ ‬أبنيتها‭ ‬ترجع‭ ‬للعصرين‭ ‬المملوكي‭ ‬والعثماني‭, ‬وبها‭ ‬بقايا‭ ‬مسجد‭ ‬يرجع‭ ‬للقرن‭ ‬الأول‭ ‬الهجري‭, ‬وهناك‭ ‬شواهد‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬أقدم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭.‬

‭ ‬عاشت‭ ‬أبنية‭ ‬قرية‭ ‬القصر‭ ‬الإسلامية‭ ‬الطينية‭ ‬مئات‭ ‬السنين‭, ‬بفضل‭ ‬المناخ‭, ‬ولأنها‭ ‬ظلت‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬مأهولة‭ ‬بالسكان‭, ‬وبرغم‭ ‬أنه‭ ‬تم‭ ‬نقل‭ ‬بعضهم‭ ‬من‭ ‬البيوت‭ ‬الأثرية‭ ‬إلى‭ ‬بيوت‭ ‬مجاورة‭ ‬أحدث‭, ‬فإن‭ ‬القرية‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬مازالت‭ ‬حية‭, ‬وهي‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المزارات‭ ‬في‭ ‬الداخلة‭, ‬ويبدو‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬استمدت‭ ‬اسمها‭ ‬من‭ ‬بناء‭ ‬بنيت‭ ‬على‭ ‬أنقاضه‭, ‬يعود‭ ‬للعصر‭ ‬الروماني‭, ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬قصراً‭, ‬وقيل‭ ‬إنها‭ ‬كانت‭ ‬تضم‭ ‬قصر‭ ‬حاكم‭ ‬الواحات‭, ‬وتنتشر‭ ‬بعض‭ ‬الأحجار‭ ‬بنقوشها‭ ‬الفرعونية‭, ‬مطعمة‭ ‬ضمن‭ ‬الأبنية‭ ‬الطينية‭ ‬المميزة‭ ‬للقرية‭, ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬الأعمدة‭, ‬والبوابات‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬أحد‭ ‬البيوت‭ ‬اتخذ‭ ‬بوابة‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬المعابد‭ ‬إطاراً‭ ‬لبوابته‭, ‬لكن‭ ‬تم‭ ‬تركيب‭ ‬أحجارها‭ ‬بشكل‭ ‬مقلوب‭. ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأحجار‭ ‬قد‭ ‬جلبت‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬قريب‭, ‬وهذا‭ ‬ليس‭ ‬غريباً‭, ‬ففي‭ ‬المنطقة‭ ‬بالفعل‭ ‬معالم‭ ‬أثرية‭ ‬عدة‭, ‬أشهرها‭ ‬مقابر‭ ‬‮«‬المزوقة‮»‬‭ ‬الرومانية‭ ‬المنحوتة‭ ‬في‭ ‬الصخر‭, ‬التي‭ ‬احتفظت‭ ‬بنقوشها‭ ‬زاهية‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭.‬

 

مئذنة‭ ‬وبرج‭ ‬مراقبة

جامع‭ ‬نصر‭ ‬الدين‭ ‬أشهر‭ ‬معالم‭ ‬القرية‭, ‬ويرجع‭ ‬بناؤه‭ ‬إلى‭ ‬قرابة‭ ‬ثمانمائة‭ ‬عام‭, ‬وهو‭ ‬مبني‭ ‬على‭ ‬الطراز‭ ‬الأيوبي‭, ‬وتشبه‭ ‬مئذنته‭ ‬مئذنة‭ ‬الملك‭ ‬الصالح‭ ‬نجم‭ ‬الدين‭ ‬أيوب‭ ‬بالقاهرة‭, ‬برغم‭ ‬بنائه‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬المماليك‭, ‬والسبب‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الصنعة‭ ‬استغرقت‭ ‬نحو‭ ‬مائة‭ ‬وخمسين‭ ‬عاماً‭ ‬لتصل‭ ‬إلى‭ ‬المكان‭ ‬النائي‭. ‬وهي‭ ‬ذات‭ ‬قاعدة‭ ‬مربعة‭, ‬يليها‭ ‬مثمن‭ ‬ثم‭ ‬بدن‭ ‬أسطواني‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬الخوزة‭ ‬أو‭ ‬الجوسق‭, ‬وارتفاعها‭ ‬واحد‭ ‬وعشرون‭ ‬متراً‭, ‬وكان‭ ‬الحارس‭ ‬يجلس‭ ‬فيها‭ ‬لمراقبة‭ ‬أي‭ ‬اعتداء‭ ‬محتمل‭. ‬لذلك‭ ‬تضم‭ ‬مئذنة‭ ‬المسجد‭ ‬فتحات‭ ‬للمراقبة‭, ‬ترى‭ ‬ما‭ ‬يحيط‭ ‬بالقرية‭ ‬المبنية‭ ‬فوق‭ ‬تبة‭ ‬عالية‭, ‬كنوع‭ ‬من‭ ‬التأمين‭, ‬كما‭ ‬كان‭ ‬لكل‭ ‬حارة‭ ‬بوابتان‭ ‬تغلقان‭ ‬في‭ ‬العاشرة‭ ‬مساء‭, ‬وتفتحان‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬بمعرفة‭ ‬شيخ‭ ‬الحارة‭. ‬ويقول‭ ‬معمرو‭ ‬القرية‭ ‬إنها‭ ‬أقدم‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬مبانيها‭ ‬الحالية‭ ‬التي‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬ثمانية‭ ‬قرون‭, ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬القبائل‭ ‬الأربع‭ ‬التي‭ ‬استوطنتها‭, ‬قد‭ ‬أتت‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬الأول‭ ‬الهجري‭, ‬ومنها‭ ‬ثلاث‭ ‬قبائل‭ ‬من‭ ‬أسيوط‭,‬‭ ‬وهي‭ ‬خلف‭ ‬الله‭, ‬والشهابية‭ ‬وأبوبكر‭, ‬وواحدة‭ ‬أتت‭ ‬من‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬وهي‭ ‬الدينارية‭, ‬وتعود‭ ‬إلى‭ ‬بني‭ ‬هلال‭, ‬وكانت‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬تختص‭ ‬وتبرع‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬المجالات‭, ‬كالزراعة‭ ‬وحفر‭ ‬الآبار‭ ‬والبناء‭ ‬والتعليم‭ ‬والفقه‭, ‬كما‭ ‬توجد‭ ‬جماعة‭ ‬الأشراف‭, ‬وعائلات‭ ‬مثل‭ ‬حمودة‭ ‬التي‭ ‬امتهنت‭ ‬الحدادة‭, ‬وعائلة‭ ‬العمدة‭. ‬

ومن‭ ‬السمات‭ ‬المعمارية‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬القصر‭ ‬وجود‭ ‬عتبات‭ ‬خشبية‭ ‬محفورة‭ ‬أعلى‭ ‬أبواب‭ ‬البيوت‭, ‬عليها‭ ‬اسم‭ ‬صاحب‭ ‬البيت‭, ‬وتاريخ‭ ‬إنشائه‭ ‬واسم‭ ‬صانع‭ ‬العتبة‭, ‬وأحياناً‭ ‬بعض‭ ‬الزخارف‭, ‬وعدد‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬موجود‭ ‬منها‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬ثلاث‭ ‬وخمسون‭ ‬عتبة‭, ‬أقدمها‭ ‬تعود‭ ‬لعام‭ ‬تسعمائة‭ ‬وأربعة‭ ‬عشر‭ ‬هجرية‭, ‬وتحمل‭ ‬اسم‭ ‬صاحب‭ ‬البيت‭ ‬محمد‭ ‬خطب‭, ‬وصنعها‭ ‬المعلم‭ ‬لطف‭ ‬الله‭, ‬وأشهر‭ ‬العائلات‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬بصنع‭ ‬العتبات‭ ‬هي‭ ‬عائلة‭ ‬علام‭ ‬النجار‭. ‬والأبواب‭ ‬الخشبية‭ ‬هنا‭ ‬تغلق‭ ‬بما‭ ‬يعرف‭ ‬بمعمار‭ ‬الفرافرة

تقع‭ ‬قرية‭ ‬الفرافرة‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬ثلاثمائة‭ ‬وعشرين‭ ‬كيلومتراً‭ ‬شمال‭ ‬غرب‭ ‬‮«‬الداخلة‮»‬‭, ‬وهي‭ ‬أكثر‭ ‬الواحات‭ ‬المصرية‭ ‬عزلة‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭, ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الفرعوني‭ ‬مشهورة‭ ‬بتربية‭ ‬الأبقار‭, ‬وفي‭ ‬العصر‭ ‬الروماني‭ ‬كانت‭ ‬ضمن‭ ‬سلة‭ ‬الغلال‭ ‬لروما‭ ‬مع‭ ‬واحات‭ ‬أخرى‭, ‬وغرب‭ ‬الواحة‭ ‬يوجد‭ ‬مبنى‭ ‬أثري‭ ‬من‭ ‬الطين‭, ‬يرجع‭ ‬للعصر‭ ‬الروماني‭, ‬ويقال‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬قلعة‭ ‬دفاعية‭ ‬على‭ ‬الطريق‭ ‬التجاري‭, ‬وقيل‭ ‬إنه‭ ‬استخدم‭ ‬كمخزن‭ ‬للحبوب‭, ‬لكن‭ ‬حالته‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬سيئة‭, ‬ويحتاج‭ ‬إلى‭ ‬ترميم‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬منه‭.‬

‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭, ‬لقد‭ ‬زرنا‭ ‬الفرافرة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬بناء‭ ‬طيني‭ ‬حديث‭, ‬هو‭ ‬متحف‭ ‬بدر‭ ‬عبدالمغني‭, ‬وهو‭ ‬فنان‭ ‬تلقائي‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الواحة‭, ‬له‭ ‬رسوم‭ ‬ومنحوتات‭ ‬من‭ ‬مواد‭ ‬الطبيعة‭, ‬كما‭ ‬يعرض‭ ‬بعضاً‭ ‬من‭ ‬تراث‭ ‬الواحة‭, ‬والمبنى‭ ‬نفسه‭, ‬الذي‭ ‬صممه‭ ‬وبناه‭ ‬من‭ ‬الطين‭ ‬معتمداً‭ ‬التقنيات‭ ‬القديمة‭, ‬يستحق‭ ‬تسليط‭ ‬الضوء‭ ‬عليه‭, ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬لأهميته‭ ‬في‭ ‬تجميع‭ ‬وحفظ‭ ‬تراث‭ ‬الواحة‭ ‬وفنونها‭, ‬ولكن‭ ‬لأنه‭ ‬كبناء‭ ‬يشبه‭ ‬بدرجة‭ ‬كبيرة‭ ‬البيوت‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬الواحة‭, ‬التي‭ ‬اندثرت‭ ‬تقريباً‭ ‬أمام‭ ‬زحف‭ ‬العمارة‭ ‬الخرسانية‭, ‬ويتكون‭ ‬المتحف‭ ‬من‭ ‬باحة‭, ‬وأدراج‭ ‬عدة‭ ‬تصعد‭ ‬إلى‭ ‬الطابق‭ ‬الثاني‭, ‬حيث‭ ‬يقسم‭ ‬متحفه‭ ‬إلى‭ ‬أقسام‭, ‬وغرف‭ ‬تضم‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬موضوعاً‭ ‬فنياً‭ ‬أو‭ ‬تراثياً‭, ‬ويتميز‭ ‬المكان‭ ‬أيضاً‭ ‬بفتحات‭ ‬الإضاءة‭, ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬أعلى‭ ‬الحوائط‭, ‬ضيقة‭ ‬كعادة‭ ‬معمار‭ ‬الواحة‭, ‬لكنها‭ ‬هنا‭ ‬موظفة‭ ‬بشكل‭ ‬دقيق‭ ‬للإضاءة‭ ‬على‭ ‬الأعمال‭ ‬المعروضة‭. ‬وهي‭ ‬إضاءة‭ ‬ليست‭ ‬قوية‭, ‬لكنها‭ ‬تصنع‭ ‬جواً‭ ‬خيالياً‭ ‬في‭ ‬المكان‭, ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬مشاهدة‭ ‬المنحوتات‭ ‬واللوحات‭. ‬المبنى‭ ‬كله‭ ‬من‭ ‬الطين‭, ‬والأسقف‭ ‬مصنوعة‭ ‬من‭ ‬جذوع‭ ‬النخيل‭ ‬وجريده‭.‬

‭ ‬وننهي‭ ‬جولتنا‭ ‬السريعة‭ ‬في‭ ‬الفرافرة‭, ‬وقد‭ ‬دخل‭ ‬الليل‭, ‬لنبيت‭ ‬وننطلق‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬إلى‭ ‬محطتنا‭ ‬التالية‭.‬

 

بيوت‭ ‬‮«‬الباويطي‮»‬

وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬الواحات‭ ‬البحرية‭ ‬التي‭ ‬تتبع‭ ‬إدارياً‭ ‬محافظة‭ ‬الجيزة‭, ‬عبر‭ ‬طريق‭ ‬يمتد‭ ‬إلى‭ ‬مائة‭ ‬وسبعين‭ ‬كيلومتراً‭, ‬ويمر‭ ‬عند‭ ‬مدخل‭ ‬الصحراء‭ ‬البيضاء‭, ‬وهي‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬مناطق‭ ‬رحلات‭ ‬السفاري‭, ‬ومررنا‭ ‬بقرى‭ ‬الحيز‭ ‬وببعض‭ ‬المعالم‭ ‬الطبيعية‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬مثل‭ ‬الصحراء‭ ‬السوداء‭, ‬حتى‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬‮«‬الباويطي‮»‬‭ ‬مركز‭ ‬الواحة‭. ‬

تأخذ‭ ‬مدينة‭ ‬الباويطي‭ ‬اسمها‭ ‬من‭ ‬الشيخ‭ ‬حسن‭ ‬أبي‭ ‬يعقوب‭ ‬بن‭ ‬يحيى‭ ‬الباويطي‭, ‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬علماء‭ ‬الدين‭ ‬المغاربة‭, ‬وقد‭ ‬آثر‭ ‬البقاء‭ ‬بين‭ ‬سكان‭ ‬الواحة‭ ‬خلال‭ ‬عودته‭ ‬من‭ ‬الحج‭, ‬شأنه‭ ‬شأن‭ ‬عشرات‭ ‬من‭ ‬الشيوخ‭ ‬والمتصوفة‭ ‬المغاربة‭, ‬الذين‭ ‬تزخر‭ ‬بهم‭ ‬المدن‭ ‬والقرى‭ ‬المصرية‭. ‬

البحث‭ ‬عن‭ ‬المعمار‭ ‬الطيني‭ ‬في‭ ‬الباويطي‭ ‬يتطلب‭ ‬جهداً‭, ‬فالمدينة‭ ‬تخلت‭ ‬عن‭ ‬طابعها‭, ‬وفقط‭ ‬عند‭ ‬الأطراف‭ ‬والبلدة‭ ‬القديمة‭ ‬تجد‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭, ‬والكثير‭ ‬منه‭ ‬صار‭ ‬أطلالاً‭. ‬البيت‭ ‬الواحاتي‭ ‬القديم‭, ‬هو‭ ‬مبنى‭ ‬طيني‭, ‬يحتوي‭ ‬على‭ ‬بئر‭ ‬مياه‭ ‬في‭ ‬باحته‭ ‬المفتوحة‭, ‬ويقول‭ ‬كبار‭ ‬السن‭ ‬في‭ ‬الواحة‭ ‬إنها‭ ‬كانت‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬يتم‭ ‬إنجازه‭ ‬عند‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬البيت‭, ‬لأنها‭ ‬توفر‭ ‬الماء‭ ‬اللازم‭ ‬لعملية‭ ‬البناء‭, ‬حيث‭ ‬يتم‭ ‬عجن‭ ‬الطين‭ ‬مع‭ ‬التبن‭ ‬وتخميره‭ ‬لأيام‭ ‬قبل‭ ‬صبه‭ ‬في‭ ‬القوالب‭ ‬الخشبية‭, ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬القيام‭ ‬بعملية‭ ‬البناء‭, ‬وكان‭ ‬أهل‭ ‬الواحة‭ ‬يتعاونون‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬البيوت‭, ‬بحيث‭ ‬تشارك‭ ‬كل‭ ‬أسرة‭ ‬برجل‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭, ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ذلك‭ ‬بمنزلة‭ ‬دين‭ ‬على‭ ‬صاحب‭ ‬البيت‭, ‬يرده‭ ‬أيضاً‭ ‬كأيام‭ ‬عمل‭ ‬لدى‭ ‬كل‭ ‬أسرة‭ ‬شاركت‭ ‬معه‭, ‬ويعرف‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬هنا‭ ‬بمتحف‭ ‬الطين

متحف‭ ‬محمود‭ ‬عيد‭ ‬للتراث‭, ‬هو‭ ‬تجربة‭ ‬أخرى‭ ‬فريدة‭ ‬للفنان‭ ‬التلقائي‭ ‬الراحل‭, ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬ببناء‭ ‬المكان‭ ‬بنفسه‭ ‬ليضم‭ ‬أعماله‭ ‬الفنية‭, ‬بالإضافة‭ ‬لتراث‭ ‬الواحة‭, ‬الذي‭ ‬يتآكل‭ ‬بسرعة‭.‬

يرتفع‭ ‬المتحف‭ ‬الطيني‭ ‬بضعة‭ ‬أمتار‭ ‬عن‭ ‬مستوى‭ ‬الطريق‭, ‬ويبدو‭ ‬كمعلم‭ ‬مميز‭, ‬ربما‭ ‬استخدم‭ ‬فيه‭ ‬صاحبه‭ ‬مادة‭ ‬وتقنيات‭ ‬البناء‭ ‬في‭ ‬واحته‭, ‬لكنه‭ ‬حلق‭ ‬بخياله‭, ‬واعياً‭ ‬بأنه‭ ‬يخلق‭ ‬فضاء‭ ‬للإبداع‭, ‬يمارس‭ ‬فيه‭ ‬عمله‭ ‬كفنان‭ ‬فطري‭, ‬ويقدم‭ ‬فيه‭ ‬أيضاً‭ ‬تراث‭ ‬الواحة‭ ‬المادي‭ ‬من‭ ‬أزياء‭ ‬ومشغولات‭ ‬للسعف‭, ‬وغيرها‭, ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يبرز‭ ‬البناء‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬الطريق‭ ‬عملاً‭ ‬فنياً‭ ‬في‭ ‬ذاته‭, ‬أشبه‭ ‬بمنحوتة‭ ‬من‭ ‬الطين‭, ‬تحمل‭ ‬براءة‭ ‬رؤيته‭ ‬الفطرية‭, ‬وتتقاطع‭ ‬مع‭ ‬صور‭ ‬أسطورية‭ ‬خيالية‭ ‬لمدن‭ ‬الأحلام‭, ‬وبيوت‭ ‬الحواديت‭, ‬ويترك‭ ‬الفنان‭ ‬مساحة‭ ‬للتأمل‭, ‬ومسافة‭ ‬يقطعها‭ ‬الزائر‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬بوابة‭ ‬المتحف‭, ‬لنرصد‭ ‬خط‭ ‬السماء‭ ‬بتعرجاته‭ ‬التي‭ ‬تشكلها‭ ‬تنوعات‭ ‬بعضها‭ ‬مستقيم‭, ‬تقطعها‭ ‬منحنيات‭ ‬هادئة‭, ‬وأشكال‭ ‬أكثر‭ ‬تقوساً‭, ‬وقباب‭ ‬فخارية‭ ‬مدببة‭ ‬أخذها‭ ‬من‭ ‬الفخار‭ ‬الشعبي‭ ‬المنتج‭ ‬في‭ ‬الواحة‭ ‬كالزير‭ ‬والجرار‭ ‬والقدور‭, ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬كلي‭ ‬أقرب‭ ‬للتماثل‭. ‬إنه‭ ‬هنا‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬ما‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬تراث‭ ‬واحته‭, ‬لكنه‭ ‬يصر‭ ‬على‭ ‬تنبيهنا‭ ‬إلى‭ ‬آفاق‭ ‬الطين‭ ‬كخامة‭, ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يبتدع‭ ‬الفنان‭ ‬أشكالها‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬شيء‭, ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬هضمه‭ ‬لوحدات‭ ‬وأشكال‭ ‬زخر‭ ‬بها‭ ‬المعمار‭ ‬التقليدي‭.‬

‭ ‬وعندما‭ ‬نقترب‭ ‬نحو‭ ‬بوابة‭ ‬المتحف‭ ‬نجد‭ ‬خط‭ ‬السماء‭ ‬قد‭ ‬تغير‭ ‬كلياً‭, ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬السور‭ ‬الخارجي‭ ‬قليل‭ ‬الارتفاع‭, ‬يحل‭ ‬بأقواسه‭ ‬الصريحة‭, ‬التي‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬بعضها‭ ‬نتوءات‭ ‬تذكرنا‭ ‬بأشكال‭ ‬السواقي‭ ‬الخشبية‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬الفيوم‭, ‬ومناطق‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬الريف‭ ‬المصري‭.‬

‭ ‬ويؤكد‭ ‬الفنان‭ ‬المستويات‭ ‬التي‭ ‬بنى‭ ‬عليها‭ ‬متحفه‭ ‬الذي‭ ‬احتل‭ ‬ربوة‭, ‬منحدرة‭, ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بناء‭ ‬أدراج‭ ‬حجرية‭, ‬معالجات‭ ‬لمستوى‭ ‬أول‭, ‬يوحي‭ ‬شكله‭ ‬الخارجي‭ ‬بأنه‭ ‬جدار‭ ‬ونوافذ‭ ‬لطابق‭ ‬تحت‭ ‬الأرض‭, ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬لا‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬شيء‭, ‬بل‭ ‬يبدو‭ ‬أقرب‭ ‬لتكوين‭ ‬بيوت‭ ‬الدواجن‭ ‬في‭ ‬المنازل‭ ‬الريفية‭, ‬ويتعامل‭ ‬مع‭ ‬سقفه‭ ‬بتزيينه‭ ‬أيضاً‭ ‬بالأواني‭ ‬الفخارية‭.‬

‭ ‬وعندما‭ ‬نقترب‭ ‬صاعدين‭ ‬الدرجين‭ ‬الأول‭ ‬والثاني‭ ‬نكتشف‭ ‬أن‭ ‬التماثل‭ ‬الظاهر‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬غير‭ ‬حقيقي‭, ‬وتظهر‭ ‬التباينات‭ ‬واضحة‭ ‬بقصد‭ ‬كسر‭ ‬الملل‭, ‬وبوعي‭ ‬فطري‭ ‬بالتكوين‭, ‬ويستخدم‭ ‬مع‭ ‬الطين‭ ‬خامات‭ ‬البيئة‭, ‬أهمها‭ ‬جريد‭ ‬النخيل‭ ‬وجذوعه‭, ‬في‭ ‬الأبواب‭ ‬والنوافذ‭ ‬والأماكن‭ ‬المسقوفة‭ ‬من‭ ‬البناء‭. ‬وقد‭ ‬تعامل‭ ‬الفنان‭ ‬التلقائي‭ ‬مع‭ ‬مبنى‭ ‬متحفه‭ ‬ككائن‭ ‬حي‭ ‬ينمو‭ ‬يوماً‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭, ‬وظل‭ ‬يضيف‭ ‬له‭ ‬حتى‭ ‬رحيله‭ ‬شاباً‭ ‬على‭ ‬مشارف‭ ‬الأربعين‭ ‬قبل‭ ‬عامين‭.‬

 

سحر‭ ‬‮«‬شالي‮»‬

كان‭ ‬من‭ ‬المفروض‭ ‬أن‭ ‬نقطع‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬واحة‭ ‬سيوة‭ ‬بسيارة‭ ‬دفع‭ ‬رباعي‭, ‬مروراً‭ ‬بواحات‭ ‬مهجورة‭, ‬لكن‭ ‬الظروف‭ ‬حالت‭ ‬دون‭ ‬ذلك‭, ‬فعدنا‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭, ‬عبر‭ ‬طريق‭ ‬يمتد‭ ‬إلى‭ ‬ثلاثمائة‭ ‬وستين‭ ‬كيلومتراً‭, ‬وجهزنا‭ ‬لاستكمال‭ ‬الرحلة‭ ‬إلى‭ ‬سيوة‭, ‬وهي‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬الواحات‭ ‬المصرية‭, ‬وأقربها‭ ‬للحدود‭ ‬الغربية‭ ‬مع‭ ‬ليبيا‭, ‬وتبعد‭ ‬عن‭ ‬القاهرة‭ ‬ثمانمائة‭ ‬كيلومتر‭, ‬وعن‭ ‬مدينة‭ ‬مرسى‭ ‬مطروح‭ ‬على‭ ‬ساحل‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط‭ ‬حوالي‭ ‬ثلاثمائة‭ ‬كيلومتر‭, ‬وتتبع‭ ‬محافظة‭ ‬مطروح‭ ‬إدارياً‭, ‬وهي‭ ‬واحة‭ ‬ذات‭ ‬خصوصية‭ ‬تاريخية‭ ‬وثقافية‭, ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬سكانها‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬أمازيغية‭, ‬ولا‭ ‬يوجد‭ ‬أمازيغ‭ ‬مصريون‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ ‬سوى‭ ‬واحة‭ ‬صغيرة‭ ‬اسمها‭ ‬‮«‬جارة‭ ‬أم‭ ‬الصغير‮»‬‭, ‬ويطلقون‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬الإعلام‭ ‬أصغر‭ ‬قرية‭ ‬في‭ ‬مصر‭, ‬وهي‭ ‬تتبع‭ ‬إدارياً‭ ‬مدينة‭ ‬سيوة‭, ‬وبسبب‭ ‬الثقافة‭ ‬الأمازيغية‭ ‬والبعد‭, ‬تبلورت‭ ‬في‭ ‬سيوة‭ ‬عادات‭ ‬وتقاليد‭ ‬وتراث‭ ‬مادي‭ ‬وشفاهي‭ ‬مختلف‭ ‬ومتمايز‭ ‬حتى‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬الواحات‭ ‬المصرية‭, ‬برغم‭ ‬نشاط‭ ‬حالة‭ ‬التبادل‭ ‬التجاري‭ ‬مع‭ ‬الوادي‭, ‬بل‭ ‬واعتماد‭ ‬سيوة‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬بعض‭ ‬عناصر‭ ‬ثقافتها‭ ‬على‭ ‬خامات‭ ‬من‭ ‬أماكن‭ ‬مثل‭ ‬كرداسة‭ ‬بالجيزة‭.‬

‭ ‬ومَن‭ ‬يزر‭ ‬الواحات‭ ‬يلحظ‭ ‬التباينات‭ ‬والاختلافات‭ ‬الطبيعية‭ ‬والثقافية‭, ‬ويلحظ‭ ‬دون‭ ‬مواربة‭ ‬قمة‭ ‬هذا‭ ‬التمايز‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الواحة‭ ‬التي‭ ‬يراها‭ ‬كثيرون‭ ‬الأجمل‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭, ‬ذلك‭ ‬أنها‭ ‬واحة‭ ‬خضراء‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الصحراء‭ ‬محاطة‭ ‬بغابات‭ ‬من‭ ‬النخيل‭ ‬وبحيرات‭ ‬من‭ ‬معظم‭ ‬الاتجاهات‭ ‬وسط‭ ‬الرمال‭, ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬مياهها‭ ‬الجوفية‭ ‬ذات‭ ‬طبيعة‭ ‬خاصة‭, ‬حتى‭ ‬أنك‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬تلحظ‭ ‬فرقاً‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬مياه‭ ‬نهر‭ ‬النيل‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬درجة‭ ‬الملوحة‭. ‬وبالنسبة‭ ‬للعمران‭,‬‭ ‬فإن‭ ‬سيوة‭ ‬تنقسم‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬عدة‭, ‬تبعاً‭ ‬لقبائلها‭, ‬الأمازيغية‭ ‬والعربية‭, ‬وأشهر‭ ‬هذه‭ ‬التجمعات‭ ‬هو‭ ‬‮«‬شالي‮»‬‭ ‬وهي‭ ‬قلب‭ ‬الواحة‭, ‬وتعني‭ ‬بالأمازيغية‭ ‬‮«‬البلد‮»‬‭, ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬مبنية‭ ‬فوق‭ ‬هضبة‭ ‬عالية‭, ‬ومحاطة‭ ‬تماماً‭ ‬بأسوار‭ ‬عالية‭, ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬الدخول‭ ‬لها‭ ‬إلا‭ ‬عبر‭ ‬بوابات‭ ‬ضيقة‭, ‬وكانت‭ ‬تشبه‭ ‬الحصن‭, ‬وكلها‭ ‬مبنية‭ ‬بالطين‭. ‬ومن‭ ‬الواضح‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تتعرض‭ ‬لهجمات‭ ‬عدة‭, ‬وغارات‭. ‬ولذلك‭, ‬فقد‭ ‬اهتمت‭ ‬بالتحصين‭, ‬وقد‭ ‬انعكس‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬نواح‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬ثقافتها‭, ‬بداية‭ ‬من‭ ‬المعمار‭, ‬وليس‭ ‬انتهاء‭ ‬برقصات‭ ‬الزجالة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬الشباب‭ ‬يسلون‭ ‬أنفسهم‭ ‬بها‭ ‬خلال‭ ‬الحراسة‭ ‬الليلية‭, ‬عندما‭ ‬كانوا‭ ‬يربطون‭ ‬سيقانهم‭ ‬بعروق‭ ‬من‭ ‬الخشب‭, ‬ويتدربون‭ ‬منذ‭ ‬طفولتهم‭ ‬على‭ ‬السير‭ ‬والركض‭ ‬والرقص‭ ‬بها‭, ‬وكانت‭ ‬تمكنهم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يرتفعوا‭ ‬عن‭ ‬الأرض‭ ‬لمترين‭ ‬أو‭ ‬ثلاثة‭ ‬وربما‭ ‬أكثر‭ ‬ليروا‭ ‬أي‭ ‬قادم‭ ‬من‭ ‬بعيد‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬تحولت‭ ‬شالي‭ ‬الآن‭ ‬إلى‭ ‬أطلال‭, ‬ولم‭ ‬يبق‭ ‬منها‭ ‬إلا‭ ‬البرج‭ ‬عند‭ ‬مدخلها‭, ‬ولكنها‭ ‬مازالت‭ ‬تعتبر‭ ‬مزاراً‭, ‬حيث‭ ‬يتجول‭ ‬الزائر‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬بقي‭ ‬من‭ ‬حاراتها‭ ‬الضيقة‭ ‬وبيوتها‭, ‬ويشاهد‭ ‬ما‭ ‬صنعته‭ ‬عوامل‭ ‬الطبيعة‭ ‬بمادتها‭ ‬الطينية‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬متعددة‭. ‬‭ ‬وتضاء‭ ‬شالي‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬المساء‭ ‬لتصنع‭ ‬لوحة‭ ‬بديعة‭ ‬من‭ ‬بقايا‭ ‬وذاكرة‭ ‬قرية‭ ‬تطل‭ ‬من‭ ‬أعلى‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬الرئيسة‭, ‬وعلى‭ ‬حافة‭ ‬المدينة‭ ‬تجد‭ ‬فندقاً‭ ‬طينياً‭, ‬يعتبر‭ ‬أحد‭ ‬تجليات‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬المعمار‭ ‬الطيني‭ ‬في‭ ‬سيوة‭.‬

 

الكرشيف

الطين‭ ‬الذي‭ ‬يستخدم‭ ‬للبناء‭ ‬هنا‭ ‬يسمى‭ ‬‮«‬الكرشيف‮»‬‭, ‬وهو‭ ‬خليط‭ ‬من‭ ‬الطفلة‭ ‬والملح‭ ‬الصخري‭ ‬والرمال‭ ‬وأحياناً‭ ‬التبن‭, ‬ويترك‭ ‬ليتخمر‭, ‬ثم‭ ‬يتم‭ ‬البناء‭ ‬به‭, ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حوائط‭ ‬سميكة‭ ‬تبنى‭ ‬على‭ ‬مراحل‭, ‬ويتم‭ ‬الانتظار‭ ‬بضعة‭ ‬أيام‭ ‬حتى‭ ‬تجف‭ ‬كل‭ ‬مرحلة‭, ‬فيتم‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬المرحلة‭ ‬التالية‭, ‬وقد‭ ‬توقفنا‭ ‬عند‭ ‬بنَّائين‭ ‬يمارسون‭ ‬عملهم‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬شالي‭ ‬القديمة‭, ‬وهي‭ ‬الحرفة‭ ‬التي‭ ‬توارثوها‭ ‬عبر‭ ‬أجيال‭. ‬

يوجد‭ ‬في‭ ‬سيوة‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الفنادق‭ ‬البيئية‭ ‬التي‭ ‬استوحت‭ ‬المعمار‭ ‬الشعبي‭, ‬وهي‭ ‬مبنية‭ ‬بالكرشيف‭, ‬وأسقفها‭ ‬من‭ ‬جذوع‭ ‬النخيل‭ ‬والجريد‭, ‬كما‭ ‬يدخل‭ ‬الملح‭ ‬الصخري‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬بعض‭ ‬الأثاث‭, ‬وهو‭ ‬كتل‭ ‬بيضاء‭ ‬نصف‭ ‬شفيفة‭, ‬يجري‭ ‬تقطيعها‭ ‬إلى‭ ‬قوالب‭, ‬وأحياناً‭ ‬يتم‭ ‬استعمالها‭ ‬كوحدات‭ ‬ضمن‭ ‬البناء‭ ‬لتدخل‭ ‬الضوء‭.‬

بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬أهالي‭ ‬سيوة‭, ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬المعمار‭ ‬التقليدي‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يناسبهم‭, ‬فقد‭ ‬اتجه‭ ‬كثيرون‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬بيوتهم‭ ‬بالطوب‭ ‬الأسمنتي‭ ‬والحجر‭ ‬الأبيض‭, ‬والأسمنت‭ ‬المسلح‭, ‬وفرض‭ ‬عليهم‭ ‬أن‭ ‬يغطوا‭ ‬الواجهات‭ ‬بالطين‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬الطابع‭ ‬المعماري‭ ‬للواحة‭. ‬وقد‭ ‬قامت‭ ‬الدولة‭ ‬بعمل‭ ‬بعض‭ ‬المباني‭ ‬الخدمية‭ ‬بالطين‭, ‬لتشجيع‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬البناء‭ ‬بالطريقة‭ ‬التراثية‭, ‬ومنها‭ ‬موقف‭ ‬الحافلات‭ ‬الرئيس‭ ‬بالواحة‭, ‬وجمعية‭ ‬البيت‭ ‬السيوي‭, ‬وبعض‭ ‬البنوك‭, ‬ومكتب‭ ‬البريد‭.‬

من‭ ‬التجمعات‭ ‬السكنية‭ ‬المهمة‭ ‬في‭ ‬سيوة‭ ‬أيضاً‭ ‬‮«‬أغورمي‮»‬‭, ‬وهي‭ ‬الملاصقة‭ ‬لمعبد‭ ‬الوحي‭ ‬للإله‭ ‬آمون‭, ‬الذي‭ ‬زاره‭ ‬الإسكندر‭ ‬الأكبر‭, ‬ليعمد‭ ‬به‭, ‬وهو‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬قاوم‭ ‬الاحتلال‭ ‬الفارسي‭, ‬فشن‭ ‬‮«‬قمبيز‮»‬‭ ‬حملة‭ ‬لتأديب‭ ‬كهنته‭, ‬وكان‭ ‬مصيره‭ ‬وجيشه‭ ‬الغرق‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬الرمال‭ ‬قبل‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬سيوة‭.‬

‭ ‬والقرية‭ ‬القديمة‭ ‬يبدو‭ ‬جزء‭ ‬منها‭ ‬كأطلال‭, ‬لكن‭ ‬البيوت‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬تلتزم‭ ‬بدرجة‭ ‬كبيرة‭ ‬بالبناء‭ ‬الطيني‭. ‬كما‭ ‬يحرص‭ ‬الأهالي‭ ‬ممن‭ ‬يرتبط‭ ‬نشاطهم‭ ‬بالسياحة‭ ‬على‭ ‬اتباع‭ ‬نمط‭ ‬البناء‭ ‬التقليدي‭, ‬سواء‭ ‬بالنسبة‭ ‬للمطاعم‭ ‬أو‭ ‬المقاهي‭ ‬ومحال‭ ‬بيع‭ ‬المنتجات‭ ‬التراثية‭.  ‬ومن‭ ‬البيوت‭ ‬التي‭ ‬حافظت‭ ‬بشكل‭ ‬تلقائي‭ ‬على‭ ‬طابعها‭ ‬السيوي‭ ‬بيت‭ ‬الحاج‭ ‬علي‭, ‬وهو‭ ‬على‭ ‬مساحة‭ ‬تزيد‭ ‬على‭  ‬ثلاثمائة‭ ‬متر‭, ‬وارتفاعه‭ ‬حوالي‭ ‬أحد‭ ‬عشر‭ ‬متراً‭, ‬ويتكون‭ ‬من‭ ‬طابقين‭ ‬يتصلان‭ ‬بدرج‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬الدار‭, ‬وفي‭ ‬منطقة‭ ‬غير‭ ‬مسقوفة‭ ‬توفر‭ ‬الإضاءة‭ ‬والتهوية‭, ‬ويوجد‭ ‬مدخل‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬القسم‭ ‬الخاص‭ ‬بالضيوف‭, ‬الذي‭ ‬يوفر‭ ‬خصوصية‭ ‬كاملة‭ ‬لأهل‭ ‬البيت‭, ‬أما‭ ‬غرف‭ ‬النوم‭ ‬فتقع‭ ‬في‭ ‬الطابق‭ ‬العلوي‭, ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مسقوف‭ ‬بحذوع‭ ‬النخيل‭ ‬والجريد‭ ‬مع‭ ‬طبقة‭ ‬من‭ ‬الطين‭ ‬وهي‭ ‬الغرف‭ ‬الشتوية‭, ‬كما‭ ‬توجد‭ ‬غرف‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬سقف‭, ‬ويقولون‭ ‬إنها‭ ‬غرف‭ ‬النوم‭ ‬الصيفية‭, ‬وذلك‭ ‬لتتناسب‭ ‬مع‭ ‬الجو‭, ‬حيث‭ ‬يوفر‭ ‬الطين‭ ‬طبقات‭ ‬عازلة‭, ‬تحمي‭ ‬من‭ ‬الحرارة‭ ‬الشديدة‭ ‬في‭ ‬نهار‭ ‬الصيف‭, ‬ومن‭ ‬البرودة‭ ‬في‭ ‬ليالي‭ ‬الشتاء‭.‬

‭ ‬والبيت‭ ‬مطلي‭ ‬من‭ ‬الخارج‭ ‬بلون‭ ‬أزرق‭ ‬فاتح‭, ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يساهم‭ ‬في‭ ‬عكس‭ ‬أشعة‭ ‬الشمس‭ ‬لتقليل‭ ‬الحرارة‭ ‬المسلطة‭ ‬عليه‭.  ‬وتوجد‭ ‬مبادرات‭ ‬عدة‭ ‬لمحاولة‭ ‬إحياء‭ ‬تراث‭ ‬البناء‭ ‬السيوي‭, ‬لكن‭ ‬قلة‭ ‬الإمكانات‭ ‬وانحسار‭ ‬السياحة‭, ‬وتفضيل‭ ‬الأهالي‭ ‬للأنماط‭ ‬الحديثة‭, ‬تهدد‭ ‬التراث‭ ‬المعماري‭ ‬السيوي‭ ‬بالاندثار‭.‬

 

ملامح

السمة‭ ‬العامة‭ ‬في‭ ‬العمارة‭ ‬الطينية‭ ‬بالواحات‭ ‬المصرية‭, ‬على‭ ‬تبايناتها‭, ‬أنها‭ ‬تبنى‭ ‬فوق‭ ‬تبة‭ ‬أو‭ ‬هضبة‭ ‬عالية‭, ‬لتكون‭ ‬في‭ ‬مرمى‭ ‬التيارات‭ ‬الهوائية‭ ‬التي‭ ‬يتم‭ ‬اصطيادها‭ ‬عبر‭ ‬ملاقف‭ ‬الهواء‭, ‬لتسري‭ ‬وتتوزع‭ ‬داخل‭ ‬الحارات‭ ‬والبيوت‭, ‬فتلطف‭ ‬درجة‭ ‬الحرارة‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬الصيف‭ ‬شديد‭ ‬الحرارة‭, ‬وربما‭ ‬أيضاً‭ ‬لأن‭ ‬هذه‭ ‬المرتفعات‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬تربتها‭ ‬متماسكة‭, ‬فتصلح‭ ‬لحمل‭ ‬أساسات‭ ‬البيوت‭, ‬وهي‭ ‬تبنى‭ ‬كتجمع‭ ‬من‭ ‬البيوت‭ ‬المتلاصقة‭, ‬ذات‭ ‬البوابات‭ ‬التي‭ ‬تغلق‭ ‬في‭ ‬المساء‭ ‬للحماية‭, ‬ولها‭ ‬جدران‭ ‬سميكة‭ ‬عازلة‭ ‬للحرارة‭, ‬وغالباً‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬جدراناً‭ ‬مزدوجة‭ ‬لبيتين‭ ‬متجاورين‭.‬

‭ ‬كذلك‭ ‬تكون‭ ‬الطرقات‭ ‬والشوارع‭ ‬الداخلية‭ ‬ضيقة‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬ومنحنية‭ ‬أو‭ ‬متعرجة‭, ‬لضمان‭ ‬أن‭ ‬يسود‭ ‬الظل‭ ‬معظم‭ ‬الوقت‭. ‬أيضاً‭ ‬تتميز‭ ‬بقلة‭ ‬النوافذ‭ ‬التي‭ ‬تطل‭ ‬على‭ ‬الخارج‭ ‬وصغرها‭ ‬وارتفاعها‭, ‬وعدم‭ ‬تقابلها‭, ‬مما‭ ‬يعطي‭ ‬أكبر‭ ‬قدر‭ ‬ممكن‭ ‬من‭ ‬الخصوصية‭. ‬وكثير‭ ‬من‭ ‬البيوت‭ ‬يكون‭ ‬لها‭ ‬بابان‭ ‬أحدهما‭ ‬لأهل‭ ‬البيت‭ ‬والآخر‭ ‬للضيوف‭, ‬الذين‭ ‬يكون‭ ‬لهم‭ ‬نطاق‭ ‬محدد‭, ‬منعزل‭ ‬عن‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬فضاء‭ ‬المعيشة‭, ‬وعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬المربوعة‭ ‬في‭ ‬سيوة‭, ‬وهي‭ ‬مساحة‭ ‬مخصصة‭ ‬للضيوف‭. ‬كذلك‭ ‬تكون‭ ‬التجمعات‭ ‬السكنية‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬معقول‭ ‬من‭ ‬الاكتفاء‭ ‬الذاتي‭, ‬من‭ ‬خلال‭ ‬وجود‭ ‬معظم‭ ‬الخدمات‭ ‬داخل‭ ‬القرية‭, ‬وتكون‭ ‬الحقول‭ ‬بالقرب‭ ‬منها‭ ‬والآبار‭ ‬داخل‭ ‬البيوت‭ ‬غالباً‭.‬

البيوت‭ ‬هي‭ ‬الجلد‭ ‬الثالث‭ ‬للإنسان‭ ‬بعد‭ ‬جلده‭ ‬البيولوجي‭, ‬وملابسه‭, ‬وكل‭ ‬من‭ ‬جلوده‭ ‬الثلاثة‭ ‬يحدد‭ ‬هويته‭.  ‬هكذا‭ ‬نختتم‭ ‬رحلتنا‭ ‬بين‭ ‬الواحات‭ ‬المصرية‭, ‬وقد‭ ‬اقتفينا‭ ‬آثار‭ ‬ظلال‭ ‬الطين‭, ‬وإبداعاته‭, ‬التي‭ ‬حملت‭ ‬روح‭ ‬وثقافة‭ ‬الناس‭ ‬والأماكن‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭, ‬آملين‭ ‬أن‭ ‬تجد‭ ‬دائماً‭ ‬من‭ ‬يدعم‭ ‬بقاءها‭, ‬ويساعدها‭ ‬على‭ ‬مقاومة‭ ‬الذوبان‭, ‬والانجراف‭ ‬أمام‭ ‬سيول‭ ‬الحداثة‭, ‬التي‭ ‬تجتاح‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أصيل‭ .

نافذة‭ ‬قديمة‭ ‬في‭ ‬متحف‭ ‬موط‭ ‬للتراث‭ ‬بالواحات‭ ‬الداخلة

بيت‭ ‬قديم في‭ ‬شالي‭ ‬بواحة‭ ‬سيوة،‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬فندق

قرية‭ ‬القصر‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬الواحات‭ ‬الداخلة‭ ‬كما‭ ‬تظهر‭ ‬من‭ ‬أعلى‭ ‬مئذنة‭ ‬جامع‭ ‬نصر‭ ‬الدين،‭ ‬ويظهر‭ ‬نخيل‭ ‬وأشجار‭ ‬الواحة‭ ‬في‭ ‬خلفيتها

عتبة‭ ‬خشبية‭ ‬محفورة،‭ ‬أعلى‭ ‬أحد‭ ‬بيوت‭ ‬قرية‭ ‬القصر‭ ‬بالواحات‭ ‬الداخلة

معصرة‭ ‬الزيتون‭ ‬داخل‭ ‬قرية‭ ‬القصر‭ ‬بالواحات‭ ‬الداخلة

ممر‭ ‬مسقوف‭ ‬للحماية‭ ‬من‭ ‬الشمس‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬درب‭ ‬السندادية‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬‮«‬الخارجة‮»‬