الواحات.. بيوت الطين وظلال الحنين
نبدأ الرحلة من القاهرة، مخترقين الصحراء الغربية الشاسعة، حيث اختبأت الواحات قانعة بفضيلة الانعزال قروناً، عتَّقت خلالها على مهل تجارب الناس وفنونهم، مخلفة لنا تراثاً يتباين بين واحة وأخرى بإبهار. إنها ليست زيارتنا الأولى للواحات المصرية، لكن هذه المرة قررنا ألا نترك أنفسنا لغواية المكان، فقد حددنا مسبقاً هدفاً للرحلة، وهو اقتفاء أثر العمارة الطينية بفنونها واستطلاع أحوالها، ما بين روائعها الباقية منذ قرون، ومحاولات إحيائها، في وقت صار فيه تراث كامل مهدداً.
الدافع وراء هذه الرحلة إذن هو حنين ممتزج بالقلق, ذلك أن البيوت الطينية - لا شك - هي جزء من ذاكرة أجيال, نحن آخرها, حيث عاصرنا الطين بوصفه جسد جميع القرى المصرية, ومادة بنائها حتى السبعينيات من القرن الماضي. وكنا أطفالاً نركب القطار, وننظر من النافذة, فنرى البيوت الطينية وهي تهرول عكس اتجاهه, كقطعان تفر وسط مساحات شاسعة خضراء, وخلف أعمدة الهاتف الخشبية الغليظة, الملاصقة للخطوط الحديدية, التي كانت تجري أسرع.
كانت البيوت رمادية في الغالب, ملونة أحياناً, مكونة من طابق, وفي بعض الأحيان من طابقين, تعلوها أكوام من القش, كنا نراها بأعين الطفولة بمنزلة الشعر على رأس بشرية, أعينها النوافذ, وفمها بوابة الدار المفتوحة, وكان التجول في هذه القرى أحياناً, ومشاهدة تلك البيوت الطينية للفلاحين الفقراء والكرماء, مرتبطين بروائح خير ونماء, من منتجات ألبان تُصنع منزلياً, وتوضع في غرف الخزين الطينية المظلمة, وذات الفتحات الضيقة قرب السقف, إلى رائحة الحطب المحترق, ودخان أخشاب الكافور المعطرة, مختلطة بروائح الطعام المطهو على «الكوانين» والخبز الخارج من الأفران المقببة, وذات الفتحات نصف الدائرية, التي كانت تبتلع أرغفة العجين, وتلفظها بعد دقائق ساخنة وشهية, تلسع أيدي الأطفال المتعجلين. كانت الروائح التي تسري في الشوارع الطينية الضيقة هي حصيلة عرق الفلاحين, وأساس معاشهم.
اليوم اندثرت بيوت الطين في معظم القرى, وحل محلها الطوب الأحمر والأسمنت المسلَّح, حاد الأركان والزوايا, التي تمددت وزحفت بتوحش على المساحة الخضراء, التي انهزمت وتقلصت, آخذة معها روائح الماضي الجميل.
هذه الرحلة هي بحث عن الطين المبني بيوتاً, والمصفوف شوارع وأزقة, والمفرغ نوافذ وأبواباً تنفتح على روح الوجود, وتنغلق على حياة بمذاق الحنين.
طريق الواحات
الطريق إلى الواحات الخارجة, مقصدنا الأول, طويل, يمتد عبر الصحراء غرب النيل, إلى مشارف محافظة أسيوط أولاً, ولمسافة تزيد على أربعمائة كيلومتر, قبل أن نكمل إلى طريق الواحات, الذي يمتد لأكثر من مائتي كيلومتر. وبحكم الخبرة في السفر إلى الواحات, هذا هو أفضل الطرق البرية, مقارنة بالطريق الزراعي المزدحم, الذي يمر بمدن وقرى الصعيد الأدنى, من الجيزة فبني سويف والمنيا وأخيراً أسيوط, وحتى الطريق الشرقي.
قبيل أسيوط يكون من الضروري التوقف للراحة, البعض يستريح مرتين. وهنا الفرصة مواتية, لمراجعة برنامج الجولة, بحيث نستطيع الإلمام بأحوال العمارة الطينية, ورصد وتصوير جمالياتها, من دون الغرق في تفاصيل مكررة, ذلك أن الصحراء الغربية تضم بضع واحات, أهمها الخارجة والداخلة والفرافرة وباريس, وكلها ضمن نطاق محافظة الوادي الجديد الصحراوية, وتقل مساحتها عن نصف مساحة مصر قليلاً, بالإضافة للواحات البحرية, التي تتبع محافظة الجيزة, ثم واحة سيوة التي تتبع محافظة مطروح الساحلية. هذه الرحلة سنقطع خلالها حوالي ثلاثة آلاف وستمائة كيلومتر عبر الصحراء, والواحات الست المذكورة هي مقاصدنا في هذا الاستطلاع.
أسترجع زيارات عديدة قمت بها إلى الواحات, لتوثيق تراثها وتصوير كنوزها, وبرغم غناها بالمناظر الطبيعية وبالتراث الحرفي, فإن أبنيتها الطينية كانت دائماً أهم ملامح جمالها, فأبنية الطين النابتة من قلب الطبيعة القاسية تبدو طيبة, وهي تلقي بظلالها التي تربت بحنو على أهل المكان, هؤلاء الذين عاشوا فيها لآلاف السنين, قبل نشأة الحضارة المصرية. بل يرى جمال حمدان في كتابه «شخصية مصر» أن الإنسان المصري الأول نشأ هنا, حيث ترك آثار عصره الحجري التي ترجع إلى ثمانين ألف سنة, في واحة بلاط, وفي العوينات, وحول بحيرات عصر مطير, وودع المنطقة قبل اثني عشر ألف عام, ماأدى إلى هجرة سكان تلك الجنان وفيرة الماء والزاد, إلى وادي النيل, وفي اتجاهات أخرى, ليبدأ مرحلة الاعتماد على نفسه والمعاناة التي أجبرته على الانتماء إلى مجموعات, يتعاون معها, مدشناً أولى الحضارات المعروفة.
ومنذ ذلك الحين, كان الطين هو الرفيق الذي جعل الحياة ممكنة بعد تغير المناخ, وفي مواجهة زحف الجفاف والتصحر. ولما فر الإنسان البدائي إلى ضفتي النهر, بقيت أعداد قليلة في المنخفضات التي احتفظت بالماء المخزون لفترات أطول, سواء على السطح في بحيرات صغيرة, أو في باطن الأرض غير بعيد, وهؤلاء هم سكان الواحات, الذين انعزلوا نسبياً لفترات طويلة, بلورت ثقافة خاصة بهم, ومنها معمارهم الطيني الفريد.
قباب ورسوم
نستأنف الرحلة من مشارف أسيوط, ونتجه يميناً إلى طريق الواحات, وهو طريق يدخل مباشرة في عمق الصحراء متجهاً إلى الجنوب الغربي, وصولاً إلى منطقة النقب, وهي حافة منخفض الواحات بعمق حوالي أربعمائة متر, والتي تبدو كأنما قطعت بآلة حادة عملاقة شكلت حواف شبه قائمة, وهو ما استدعى التحايل على الطبيعة ونحت طريق ثعباني, يروح ويجيء ليهبط في كل مرة درجة واحدة.
كان طريق النقب في الماضي خطرا, وسبب عديداً من الحوادث, لكن جرى تحديثه منذ فترة, وصار آمناً, ومع ذلك يضيع بعض الوقت لاعتبارات البطء اللازم للنزول الآمن. ومن بعد النقب يستغرق الأمر نحو الساعة لنصل إلى مشارف «الخارجة», حيث تلوح الأشجار ونخيل التمر والدوم, وبعض المباني الطينية.
تسع ساعات استغرقها الطريق الذي يمتد لحوالي ستمائة وخمسين كيلومتراً من القاهرة, متضمنة فترة الاستراحة, واجتياز النقب, وقبيل مدينة الخارجة عاصمة محافظة الوادي الجديد بنحو خمسة كيلومترات يلوح معبد هيبس الشهير على اليمين, الذي كان في الزيارات السابقة تحت الترميم, وهو معبد يرجع إلى نهاية العصور الفرعونية والبطلمية, وخلفه توجد مقابر اليجوات, أول لقاء لنا مع العمارة الطينية في الواحات.
نحن أمام عمارة جنائزية, ليست منبطحة, ولا متوارية, فهي تشبه البيوت بأبوابها وأسقفها المقببة. الساحة كبيرة وممتلئة بأبنية طينية قديمة, عبارة عن مقابر قبطية وكنيسة, وأبنية ملحقة, يرجع تاريخها إلى الفترة من القرن الثاني إلى القرن السابع الميلاديين. واسمها هو تحريف لكلمة «قبوات» التي تعود لشكل القباب والأقبية التي تشكل الملمح الأساسي للمباني, التي صمدت طوال تلك القرون, بل بقيت النقوش بداخلها زاهية, بفضل الجفاف, وانخفاض مستوى الرطوبة وعدم وجود أمطار.
مساحة المكان حوالي عشرة آلاف متر, وبرغم تهدم بعض الأبنية, فإن ما تبقى يعطي صورة واضحة عن عمارة طينية فريدة. هذا المكان كان المأوى لمعتنقي المسيحية من الاضطهاد الروماني الوثني, فقد فر عدد من القساوسة والرهبان, ومعهم بعض المسيحيين إلى الصحراء, حيث توجد آثار لتلك الفترة في عدد من المناطق في الواحات المصرية. هنا وإلى جوار المقابر, كان الهاربون يقيمون, وقد بنوا هذه الجبانات ومعها الكنيسة التي يرجح بعض الباحثين أنها ثاني أقدم كنائس مصر, بعد الكنيسة المرقسية في الإسكندرية. وفي مقابر البجوات كتابات قبطية ولاتينية وحتى عربية ترجع إلى أكثر من ألف عام, وتحتوي على مائتين وثلاث وستين مقبرة وهيكلا.
أول المباني التي نقابلها بعد أن نصعد عبر الطريق الترابي, يسمى مزار السلام, لوجود طيور الحمام وأغصان به, ولكن الباحثين يطلقون عليه المقبرة البيزنطية, لأنه يأخذ ذلك الطابع المعماري الوافد. كما يوجد مبنى آخر يسمى مزار الخروج, وهو مقبرة تصور خروج اليهود من مصر, كما جاءت في العهد القديم, وتوجد رسوم لموضوعات دينية أخرى مثل قصص آدم وحواء وإبراهيم ونوح ويونس وغيرها مما ورد في الكتاب المقدس.
جميع الأبنية تم إنشاؤها بالطوب اللبن, وبالداخل احتفظ بعضها بطبقة من الملاط, فوقها طلاء جيري أبيض ونقوش بألوان عدة. ومما يثير الاهتمام هو بقاء هذه الأبنية بالرغم من اندثار الأبنية السكنية في المنطقة المجاورة, التي ترجع إلى الحقبة نفسها, ولكن يبدو أن هذه سمة مصرية, إذ عبر العصور بقيت الأبنية التي تخص العالم الآخر, من معابد ومقابر, بينما فنت قصور الفراعنة أنفسهم, ولم نجد لها أثراً يذكر.
ترتكز الأبنية على أعمدة طينية بعضها مستدير, وتنتهي إلى أقواس حاملة للقباب, وتظهر حجرات الدفن في أرضية بعض الغرف. أحد أوجه الأهمية للمعمار الطيني في البجوات, هو أنها كانت أحد رافدين رئيسين للمعماري الشهير حسن فتحي, حيث إنه زار المكان, ضمن جولاته في ربوع مصر, خلال مرحلة البحث عن هوية معمارية, ومزج الطرازين القبطي والبيزنطي الوافد مع المعمار النوبي, وكان النتاج هو أسلوبه الذي حقق شهرة عالمية, وعرف بعمارة الفقراء, وسنكون على موعد معه خلال رحلتنا, حيث إنه ترك بعضاً من أعماله في الواحات.
البجوات قرية للموتى مثيرة للتأمل, وخصوصاً قبيل الغروب, وهي عتيقة ولكنها ليست حجرية كمعظم الآثار القديمة, التي تشعرك بالعظمة, فهنا تستشعر تواضع الطين واستسلامه وإنسانيته. إنه مادة الأرض, التي نسير عليها, ونخرج منها أقواتنا, وصنعنا منها عبر التاريخ أوانينا, التي تجد في المنطقة قطعاً متناثرة منها, تلك التي كان القدماء يصوغونها على الدواليب, أو بأصابع اليد, مجوفة تشبهنا على نحو ما, ثم تُحرق لتصبح أواني الماء والزاد, عبر عصور سحيقة, ومازالت الواحات تشتهر بها, بل إن الطين مادة أجسادنا, لذلك فهو رابطة القربى التي جعلته يتكفل بنا عبر مئات الآلاف من السنين في المأكل والمشرب والمسكن. إنه الطين الذي بدأنا ننعزل عنه, فانحسر تدريجيا, ولم نعد نراه في مبانينا ولا آنيتنا, وحتى الأرض التي صارت في المدن مغطاة بالأسفلت, والأسمنت والحجر, وفي أحسن الأحوال ببساط أخضر مجلوب, ومهذب. ننتبه إلى الوقت فنغادر البجوات أقدم عمارة طينية في رحلتنا إلى مكن آخر في الواحة نفسها وهو درب السندادية.
درب السندادية
إنها القرية القديمة لسكان الخارجة, وهي كتلة من البيوت التي تلوذ ببعضها, ومعظم شوارعها مسقوفة, وكثير من أبنيتها كان ذا طابقين, لكن معظم القرية صار أنقاضاً, برغم استمرار وجود سكان في بعض المناطق منها, حيث رأينا نسوة عجائز يفترشن حصير السمار, ويجلسن قبيل الغروب أمام البيوت, بعضهن موشومات الوجوه, تعلوهن ابتسامة رضا, ينظرن للغرباء بترحاب, ويقبلن التصوير على استحياء.
كان هناك مشروع لإحياء منطقة درب السندادية, وترميم مبانيها الطينية, للحفاظ على تراثها المعماري, لكن الأهالي هدموا عديداً من المنازل, وبنوا منازل حديثة, ولأن المنطقة مخططة في الأساس بما يتوافق مع طبيعة البناء الطيني, فقد أخذت طابعاً عشوائياً, يتجاور مع شواهد وأطلال القرية القديمة.
حاولنا أن نبحث بينها ونتلمس بعضاً من الماضي, لأهم منطقة عمرانية في «الخارجة», التي ظلت مأهولة بالسكان منذ أواخر العصر الروماني, حيث كانت الكتلة السكنية تغلق على ساكنيها, بثلاثة أبواب مصنوعة من خشب الدوم, وبداخلها آبار المياه, التي تسمى «عين الدار». أما الخامات المستخدمة في البناء, فظلت على حالها لمئات السنين, وهي الطوب المصنوع من الطفلة, التي يتم جلبها من الجبل المجاور, ويتم عجنها ووضعها في قوالب ثم تركها لتجف, أما الأسقف فمن جذوع نخيل الدوم الذي ينتشر في المنطقة, وكذلك نخيل التمر وجريده. وما تبقى من بيوت يشبه كهوفاً, حيث بعض الغرف تحتوي بالكاد على فتحة لدخول الضوء قرب السقف, وذلك لزوم الاحتماء من الحرارة الشديدة في الصيف وبرودة الشتاء, أما بالنسبة للإضاءة, فإنها بطبيعتها قوية في الصحراء الجافة التي تكاد تخلو من السحب.
الليل في الواحات, سكون تام, في مدينة هادئة, وادعة. يبدو أن هناك اهتماماً من فترات سابقة في بعض الشوارع بإحياء التراث المعماري الطيني, بعض الأسوار هنا وهناك, وبعض الأبنية الحديثة, لكن الغالبية, بعيداً عن العيون, تتجه نحو الحداثة.
«باريس» حسن فتحي
في الصباح الباكر بدأنا التحرك إلى واحة باريس, وهي تتبع إدارياً الواحات الخارجة, وتبعد عنها قرابة مائة كيلومتر, في اتجاه الجنوب, وتقع على درب الأربعين, وهو أحد الطرق التجارية القديمة, حيث كانت القوافل تعبر من خلاله إلى دارفور في السودان, ومنها إلى إفريقيا, وكان يتقاطع مع طريق المغرب العربي, الذي كانت القوافل التجارية, وبعض رحلات الحج, تمر عبره, وهو ما أكسب الواحة الصغيرة ملامح مختلفة, انعكست على طبيعة ناسها وثقافتهم المتأثرة بالجنوب. وقبيل الواحة ببضعة كيلومترات, ظهر مركز حسن فتحي إلى يمين الطريق, وهو بناء طيني, استخدم فيه الفنان كثيراً من ملامح مدرسته, التي تقوم على استخدام خامات البيئة, وعلى رأسها الطين, وجذوع الأشجار والنخيل, ويستخدم القباب والأقبية لعمل الأسقف. وقد قام ببناء هذا المكان منذ نصف قرن, وبالتحديد منذ العام سبعة وستين من القرن الماضي, وكان يطمح لأن يكون قرية متكاملة, لكن المشروع توقف قبل أن يكتمل, لأسباب بيروقراطية, وربما كان هذا هو نهاية حلم ترسيخ مشروعه المعماري المستوحى من التراث والقائم على خامة الطين, التي كان يتطلع إلى أن يجد فيها الفلاحون المصريون, والفقراء عموماً, حلاً لمشكلاتهم, بتوفير منازل جميلة وصحية وقليلة التكلفة, خصوصاً أن خبراته قد وصلت هنا إلى أوجها, فظهر اهتمامه بمراعاة حركة الهواء لتبريد المباني, كما قام بالبناء على قواعد حجرية تضمن تماسك الحوائط فوق الأرض الرملية, واستخدم وحدات زخرفية شعبية, على شكل مثلثات, لتملأ فراغ النوافذ نصف الدائرية, وكان فتحي قد أصيب بخيبات متتالية في مشروعه للبناء بالطين, كانت أولاها عدم توافر الإمكانات لاستكمال مشروع قرية القرنة الجديدة في البر الغربي بالأقصر أواخر الأربعينيات من القرن الماضي, ورفض عدد من سكان القرية القديمة الانتقال لمشروعه, لابتعاده عن بيوتهم التي كانت مبنية فوق مقابر النبلاء الفرعونية, التي كانت تدر دخلاً كبيراً من نبش المقابر واستخراج الآثار, وكذلك لم يجد الوعي الكافي بمميزات عمارته الجمالية والوظيفية, وها هو مشروهة يتعثر أيضاً هذه المرة, مع فارق أنه كان قد حصل على اعتراف واحتفاء دوليين عن نظرياته المعمارية التي تضمنتها كتبه بلغات عدة, ومنذ ذلك الحين ظل مركز حسن فتحي مهجوراً, وكانت هناك أفكار واقتراحات عدة لاستغلاله, كمرسم للفنانين التشكيليين, كمركز للحرف التقليدية, وأخيراً تم تنفيذ الفكرة الأولى, حيث يستقبل المركز الفنانين التشكيليين, الذين يقيمون معرضاً سنوياً لأعمالهم التي أنجزوها بالمركز, لكن هذا يحدث بشكل موسمي, ولا يعتبر استغلالاً كاملاً للمكان.
أما واحة باريس, التي يرجع اسمها على الأرجح إلى «بيريس» قائد جيش «قمبيز» الذي هلك في بحر الرمال العظيم بين الخارجة وسيوة, فإن بيوتها الطينية تبدو شبيهة إلى حد ما ببيوت الفلاحين في ريف الوادي, وإن كانت تهتم بطلاء الواجهات بألوان قوية, للتزيين, وأيضاً لمناسبة الحج والعمرة, وبعض البيوت تحتوي على نقوش في الداخل أيضاً, وهي ألوان لا نستطيع أن نتجاهل لمسة إفريقية فيها, شأنها في ذلك شأن بعض منتجاتها الحرفية الأخرى, كمشغولات السعف, التي تبدو أيضاً قريبة من مثيلاتها في النوبة والسودان.
«القصر» الإسلامية
المحطة التالية في رحلتنا هي واحة الداخلة, التي تبعد ثلاثمائة وخمسين كيلومتراً تقريباً عن واحة باريس, حيث العودة إلى الخارجة, ثم استكمال الطريق إلى الشمال, مروراً بمنطقة
«أبو طرطور» الشهيرة بمناجمها, ثم نصل إلى «موط», وهي المدينة المركزية في «الداخلة», ويرجع اسمها إلى الإله الفرعوني «موت», وهي ثاني أكبر الواحات في المحافظة الصحراوية, ولأهلها طبيعة خاصة, فهم مسالمون للغاية, حتى أن الجرائم عندهم كانت نادرة, وبعضها كان منعدماً, لقرون.
وفي «موط» توجد أنقاض للمدينة القديمة, وقليل من البيوت الطينية التي ما زالت مأهولة, وقد ذهبنا إلى قرية «الهنداو» المجاورة, التي تقع على بعد كيلومترات قليلة ومازال بها بعض الأبنية الطينية التقليدية, وتشبه في توزيعها القرى المصرية عموماً, لكن النوافذ هنا عالية وغالباً صغيرة, وبرغم زحف البناء الحديث, فإن بيوتاً قديمة مازالت صامدة, تحمل ملامح الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. ومن «الهنداو» إلى قرية الجديدة, وقد زرنا منزل العمدة الحاج شاذلي منصور, وهو من عائلة عريقة في الواحات, ولها تاريخ, ومازال محتفظاً ببيته الطيني, ذي الحديقة, ولديه أسيجة من شرائح الخشب المتقاطعة مع بعضها, بشكل مائل, بنمط يسمى «بغدادلي», وهو بيت يجمع بين خامة الطين وبعض ملامح الحداثة, في البناء والمعالجات, وبلاط الأرضيات, والأثاث, وهو حال بيوت أخرى, بنيت في الستينيات من القرن الماضي, بمادة الطين, لكن بها بعض مظاهر الحداثة, مثل بيت الحاج صبحي حسين, الذي شاهدناه في زيارة سابقة, لكن هذه المرة, تم إحلاله ببناية من الطوب الأحمر والأسمنت, وهو حال المباني الجديدة في القرية, التي تتوسع في اتجاه الكثبان الرملية التي كانت تهدد القرية, وكان الحل هو تثبيتها بالبناء فوقها.
وعلى بعد حوالي عشرين كيلومتراً من «موط» تقف أهم كتلة معمارية طينية مكتملة في الواحات المصرية, وهي قرية القصر الإسلامية, وهي موقع أثري فريد وشديد الأهمية, على خلفية جبلية, ومحاطة بمساحات خضراء ونخيل, وعلى مقربة منها بئر مياه ساخنة. وقد قمنا برحلة استكشافية إلى الجبل في خلفية القرية, واستغرق صعوده ساعات عدة لنكتشف المفاجأة, وهي أن ما بدا جبلاً ليس في الحقيقة سوى حافة المنخفض الذي يشكل أرض الواحات, وفور وصولنا إلى القمة اكتشفنا أننا فوق مسطح الصحراء المنبسطة. بينما يصل عمق المنخفض إلى حوالي أربعمائة متر. ويرجع تاريخ قرية القصر الإسلامية للعصر الأيوبي قبل نحو ثمانمائة عام, ومعظم أبنيتها ترجع للعصرين المملوكي والعثماني, وبها بقايا مسجد يرجع للقرن الأول الهجري, وهناك شواهد على أنها أقدم من ذلك.
عاشت أبنية قرية القصر الإسلامية الطينية مئات السنين, بفضل المناخ, ولأنها ظلت إلى اليوم مأهولة بالسكان, وبرغم أنه تم نقل بعضهم من البيوت الأثرية إلى بيوت مجاورة أحدث, فإن القرية بشكل عام مازالت حية, وهي واحدة من أهم المزارات في الداخلة, ويبدو أنها قد استمدت اسمها من بناء بنيت على أنقاضه, يعود للعصر الروماني, ربما كان قصراً, وقيل إنها كانت تضم قصر حاكم الواحات, وتنتشر بعض الأحجار بنقوشها الفرعونية, مطعمة ضمن الأبنية الطينية المميزة للقرية, خصوصاً في الأعمدة, والبوابات. بل إن أحد البيوت اتخذ بوابة من أحد المعابد إطاراً لبوابته, لكن تم تركيب أحجارها بشكل مقلوب. ويبدو أن هذه الأحجار قد جلبت من مكان قريب, وهذا ليس غريباً, ففي المنطقة بالفعل معالم أثرية عدة, أشهرها مقابر «المزوقة» الرومانية المنحوتة في الصخر, التي احتفظت بنقوشها زاهية إلى اليوم.
مئذنة وبرج مراقبة
جامع نصر الدين أشهر معالم القرية, ويرجع بناؤه إلى قرابة ثمانمائة عام, وهو مبني على الطراز الأيوبي, وتشبه مئذنته مئذنة الملك الصالح نجم الدين أيوب بالقاهرة, برغم بنائه في زمن المماليك, والسبب هو أن الصنعة استغرقت نحو مائة وخمسين عاماً لتصل إلى المكان النائي. وهي ذات قاعدة مربعة, يليها مثمن ثم بدن أسطواني وصولاً إلى الخوزة أو الجوسق, وارتفاعها واحد وعشرون متراً, وكان الحارس يجلس فيها لمراقبة أي اعتداء محتمل. لذلك تضم مئذنة المسجد فتحات للمراقبة, ترى ما يحيط بالقرية المبنية فوق تبة عالية, كنوع من التأمين, كما كان لكل حارة بوابتان تغلقان في العاشرة مساء, وتفتحان في الصباح بمعرفة شيخ الحارة. ويقول معمرو القرية إنها أقدم حتى من مبانيها الحالية التي تعود إلى ثمانية قرون, ذلك أن القبائل الأربع التي استوطنتها, قد أتت منذ القرن الأول الهجري, ومنها ثلاث قبائل من أسيوط, وهي خلف الله, والشهابية وأبوبكر, وواحدة أتت من الجزيرة العربية وهي الدينارية, وتعود إلى بني هلال, وكانت كل منها تختص وتبرع في أحد المجالات, كالزراعة وحفر الآبار والبناء والتعليم والفقه, كما توجد جماعة الأشراف, وعائلات مثل حمودة التي امتهنت الحدادة, وعائلة العمدة.
ومن السمات المعمارية في قرية القصر وجود عتبات خشبية محفورة أعلى أبواب البيوت, عليها اسم صاحب البيت, وتاريخ إنشائه واسم صانع العتبة, وأحياناً بعض الزخارف, وعدد ما هو موجود منها حتى الآن ثلاث وخمسون عتبة, أقدمها تعود لعام تسعمائة وأربعة عشر هجرية, وتحمل اسم صاحب البيت محمد خطب, وصنعها المعلم لطف الله, وأشهر العائلات التي قامت بصنع العتبات هي عائلة علام النجار. والأبواب الخشبية هنا تغلق بما يعرف بمعمار الفرافرة
تقع قرية الفرافرة على بعد ثلاثمائة وعشرين كيلومتراً شمال غرب «الداخلة», وهي أكثر الواحات المصرية عزلة عبر التاريخ, وكانت في العصر الفرعوني مشهورة بتربية الأبقار, وفي العصر الروماني كانت ضمن سلة الغلال لروما مع واحات أخرى, وغرب الواحة يوجد مبنى أثري من الطين, يرجع للعصر الروماني, ويقال إنه كان قلعة دفاعية على الطريق التجاري, وقيل إنه استخدم كمخزن للحبوب, لكن حالته بشكل عام سيئة, ويحتاج إلى ترميم ما تبقى منه.
في الحقيقة, لقد زرنا الفرافرة من أجل بناء طيني حديث, هو متحف بدر عبدالمغني, وهو فنان تلقائي من أبناء الواحة, له رسوم ومنحوتات من مواد الطبيعة, كما يعرض بعضاً من تراث الواحة, والمبنى نفسه, الذي صممه وبناه من الطين معتمداً التقنيات القديمة, يستحق تسليط الضوء عليه, ليس فقط لأهميته في تجميع وحفظ تراث الواحة وفنونها, ولكن لأنه كبناء يشبه بدرجة كبيرة البيوت القديمة في الواحة, التي اندثرت تقريباً أمام زحف العمارة الخرسانية, ويتكون المتحف من باحة, وأدراج عدة تصعد إلى الطابق الثاني, حيث يقسم متحفه إلى أقسام, وغرف تضم كل منها موضوعاً فنياً أو تراثياً, ويتميز المكان أيضاً بفتحات الإضاءة, التي تأتي أعلى الحوائط, ضيقة كعادة معمار الواحة, لكنها هنا موظفة بشكل دقيق للإضاءة على الأعمال المعروضة. وهي إضاءة ليست قوية, لكنها تصنع جواً خيالياً في المكان, في أثناء مشاهدة المنحوتات واللوحات. المبنى كله من الطين, والأسقف مصنوعة من جذوع النخيل وجريده.
وننهي جولتنا السريعة في الفرافرة, وقد دخل الليل, لنبيت وننطلق في الصباح إلى محطتنا التالية.
بيوت «الباويطي»
وصلنا إلى الواحات البحرية التي تتبع إدارياً محافظة الجيزة, عبر طريق يمتد إلى مائة وسبعين كيلومتراً, ويمر عند مدخل الصحراء البيضاء, وهي واحدة من أهم مناطق رحلات السفاري, ومررنا بقرى الحيز وببعض المعالم الطبيعية في الطريق مثل الصحراء السوداء, حتى وصلنا إلى مدينة «الباويطي» مركز الواحة.
تأخذ مدينة الباويطي اسمها من الشيخ حسن أبي يعقوب بن يحيى الباويطي, وهو أحد علماء الدين المغاربة, وقد آثر البقاء بين سكان الواحة خلال عودته من الحج, شأنه شأن عشرات من الشيوخ والمتصوفة المغاربة, الذين تزخر بهم المدن والقرى المصرية.
البحث عن المعمار الطيني في الباويطي يتطلب جهداً, فالمدينة تخلت عن طابعها, وفقط عند الأطراف والبلدة القديمة تجد ما تبقى, والكثير منه صار أطلالاً. البيت الواحاتي القديم, هو مبنى طيني, يحتوي على بئر مياه في باحته المفتوحة, ويقول كبار السن في الواحة إنها كانت أول ما يتم إنجازه عند الرغبة في بناء البيت, لأنها توفر الماء اللازم لعملية البناء, حيث يتم عجن الطين مع التبن وتخميره لأيام قبل صبه في القوالب الخشبية, ومن ثم القيام بعملية البناء, وكان أهل الواحة يتعاونون في بناء البيوت, بحيث تشارك كل أسرة برجل أو أكثر, على أن يكون ذلك بمنزلة دين على صاحب البيت, يرده أيضاً كأيام عمل لدى كل أسرة شاركت معه, ويعرف هذا النظام هنا بمتحف الطين
متحف محمود عيد للتراث, هو تجربة أخرى فريدة للفنان التلقائي الراحل, الذي قام ببناء المكان بنفسه ليضم أعماله الفنية, بالإضافة لتراث الواحة, الذي يتآكل بسرعة.
يرتفع المتحف الطيني بضعة أمتار عن مستوى الطريق, ويبدو كمعلم مميز, ربما استخدم فيه صاحبه مادة وتقنيات البناء في واحته, لكنه حلق بخياله, واعياً بأنه يخلق فضاء للإبداع, يمارس فيه عمله كفنان فطري, ويقدم فيه أيضاً تراث الواحة المادي من أزياء ومشغولات للسعف, وغيرها, ومن ثم يبرز البناء على جانب الطريق عملاً فنياً في ذاته, أشبه بمنحوتة من الطين, تحمل براءة رؤيته الفطرية, وتتقاطع مع صور أسطورية خيالية لمدن الأحلام, وبيوت الحواديت, ويترك الفنان مساحة للتأمل, ومسافة يقطعها الزائر وصولاً إلى بوابة المتحف, لنرصد خط السماء بتعرجاته التي تشكلها تنوعات بعضها مستقيم, تقطعها منحنيات هادئة, وأشكال أكثر تقوساً, وقباب فخارية مدببة أخذها من الفخار الشعبي المنتج في الواحة كالزير والجرار والقدور, في تكوين كلي أقرب للتماثل. إنه هنا على قدر ما ينطلق من تراث واحته, لكنه يصر على تنبيهنا إلى آفاق الطين كخامة, التي لم يبتدع الفنان أشكالها من لا شيء, ولكن من هضمه لوحدات وأشكال زخر بها المعمار التقليدي.
وعندما نقترب نحو بوابة المتحف نجد خط السماء قد تغير كلياً, ذلك أن السور الخارجي قليل الارتفاع, يحل بأقواسه الصريحة, التي يخرج من بعضها نتوءات تذكرنا بأشكال السواقي الخشبية القديمة في مدينة الفيوم, ومناطق أخرى من الريف المصري.
ويؤكد الفنان المستويات التي بنى عليها متحفه الذي احتل ربوة, منحدرة, من خلال بناء أدراج حجرية, معالجات لمستوى أول, يوحي شكله الخارجي بأنه جدار ونوافذ لطابق تحت الأرض, لكنه في الحقيقة لا يؤدي إلى شيء, بل يبدو أقرب لتكوين بيوت الدواجن في المنازل الريفية, ويتعامل مع سقفه بتزيينه أيضاً بالأواني الفخارية.
وعندما نقترب صاعدين الدرجين الأول والثاني نكتشف أن التماثل الظاهر من بعيد غير حقيقي, وتظهر التباينات واضحة بقصد كسر الملل, وبوعي فطري بالتكوين, ويستخدم مع الطين خامات البيئة, أهمها جريد النخيل وجذوعه, في الأبواب والنوافذ والأماكن المسقوفة من البناء. وقد تعامل الفنان التلقائي مع مبنى متحفه ككائن حي ينمو يوماً بعد يوم, وظل يضيف له حتى رحيله شاباً على مشارف الأربعين قبل عامين.
سحر «شالي»
كان من المفروض أن نقطع الطريق إلى واحة سيوة بسيارة دفع رباعي, مروراً بواحات مهجورة, لكن الظروف حالت دون ذلك, فعدنا إلى القاهرة, عبر طريق يمتد إلى ثلاثمائة وستين كيلومتراً, وجهزنا لاستكمال الرحلة إلى سيوة, وهي واحدة من أجمل الواحات المصرية, وأقربها للحدود الغربية مع ليبيا, وتبعد عن القاهرة ثمانمائة كيلومتر, وعن مدينة مرسى مطروح على ساحل البحر المتوسط حوالي ثلاثمائة كيلومتر, وتتبع محافظة مطروح إدارياً, وهي واحة ذات خصوصية تاريخية وثقافية, ذلك أن معظم سكانها من أصول أمازيغية, ولا يوجد أمازيغ مصريون في مكان آخر سوى واحة صغيرة اسمها «جارة أم الصغير», ويطلقون عليها في الإعلام أصغر قرية في مصر, وهي تتبع إدارياً مدينة سيوة, وبسبب الثقافة الأمازيغية والبعد, تبلورت في سيوة عادات وتقاليد وتراث مادي وشفاهي مختلف ومتمايز حتى عن بقية الواحات المصرية, برغم نشاط حالة التبادل التجاري مع الوادي, بل واعتماد سيوة في إنتاج بعض عناصر ثقافتها على خامات من أماكن مثل كرداسة بالجيزة.
ومَن يزر الواحات يلحظ التباينات والاختلافات الطبيعية والثقافية, ويلحظ دون مواربة قمة هذا التمايز في هذه الواحة التي يراها كثيرون الأجمل على الإطلاق, ذلك أنها واحة خضراء في قلب الصحراء محاطة بغابات من النخيل وبحيرات من معظم الاتجاهات وسط الرمال, بالإضافة إلى أن مياهها الجوفية ذات طبيعة خاصة, حتى أنك ربما لا تلحظ فرقاً بينها وبين مياه نهر النيل من حيث درجة الملوحة. وبالنسبة للعمران, فإن سيوة تنقسم إلى مناطق عدة, تبعاً لقبائلها, الأمازيغية والعربية, وأشهر هذه التجمعات هو «شالي» وهي قلب الواحة, وتعني بالأمازيغية «البلد», وكانت في الماضي مبنية فوق هضبة عالية, ومحاطة تماماً بأسوار عالية, ولا يمكن الدخول لها إلا عبر بوابات ضيقة, وكانت تشبه الحصن, وكلها مبنية بالطين. ومن الواضح أنها كانت تتعرض لهجمات عدة, وغارات. ولذلك, فقد اهتمت بالتحصين, وقد انعكس ذلك على نواح كثيرة من ثقافتها, بداية من المعمار, وليس انتهاء برقصات الزجالة التي كان الشباب يسلون أنفسهم بها خلال الحراسة الليلية, عندما كانوا يربطون سيقانهم بعروق من الخشب, ويتدربون منذ طفولتهم على السير والركض والرقص بها, وكانت تمكنهم من أن يرتفعوا عن الأرض لمترين أو ثلاثة وربما أكثر ليروا أي قادم من بعيد.
وقد تحولت شالي الآن إلى أطلال, ولم يبق منها إلا البرج عند مدخلها, ولكنها مازالت تعتبر مزاراً, حيث يتجول الزائر بين ما بقي من حاراتها الضيقة وبيوتها, ويشاهد ما صنعته عوامل الطبيعة بمادتها الطينية من أشكال متعددة. وتضاء شالي القديمة في المساء لتصنع لوحة بديعة من بقايا وذاكرة قرية تطل من أعلى على الساحة الرئيسة, وعلى حافة المدينة تجد فندقاً طينياً, يعتبر أحد تجليات الحفاظ على المعمار الطيني في سيوة.
الكرشيف
الطين الذي يستخدم للبناء هنا يسمى «الكرشيف», وهو خليط من الطفلة والملح الصخري والرمال وأحياناً التبن, ويترك ليتخمر, ثم يتم البناء به, من خلال حوائط سميكة تبنى على مراحل, ويتم الانتظار بضعة أيام حتى تجف كل مرحلة, فيتم الانتقال إلى المرحلة التالية, وقد توقفنا عند بنَّائين يمارسون عملهم بالقرب من شالي القديمة, وهي الحرفة التي توارثوها عبر أجيال.
يوجد في سيوة عدد من الفنادق البيئية التي استوحت المعمار الشعبي, وهي مبنية بالكرشيف, وأسقفها من جذوع النخيل والجريد, كما يدخل الملح الصخري في صناعة بعض الأثاث, وهو كتل بيضاء نصف شفيفة, يجري تقطيعها إلى قوالب, وأحياناً يتم استعمالها كوحدات ضمن البناء لتدخل الضوء.
بالنسبة إلى بعض أهالي سيوة, يبدو أن المعمار التقليدي لم يعد يناسبهم, فقد اتجه كثيرون إلى بناء بيوتهم بالطوب الأسمنتي والحجر الأبيض, والأسمنت المسلح, وفرض عليهم أن يغطوا الواجهات بالطين للحفاظ على الطابع المعماري للواحة. وقد قامت الدولة بعمل بعض المباني الخدمية بالطين, لتشجيع الناس على الاستمرار في البناء بالطريقة التراثية, ومنها موقف الحافلات الرئيس بالواحة, وجمعية البيت السيوي, وبعض البنوك, ومكتب البريد.
من التجمعات السكنية المهمة في سيوة أيضاً «أغورمي», وهي الملاصقة لمعبد الوحي للإله آمون, الذي زاره الإسكندر الأكبر, ليعمد به, وهو نفسه الذي قاوم الاحتلال الفارسي, فشن «قمبيز» حملة لتأديب كهنته, وكان مصيره وجيشه الغرق في بحر الرمال قبل الوصول إلى سيوة.
والقرية القديمة يبدو جزء منها كأطلال, لكن البيوت الحديثة في المنطقة تلتزم بدرجة كبيرة بالبناء الطيني. كما يحرص الأهالي ممن يرتبط نشاطهم بالسياحة على اتباع نمط البناء التقليدي, سواء بالنسبة للمطاعم أو المقاهي ومحال بيع المنتجات التراثية. ومن البيوت التي حافظت بشكل تلقائي على طابعها السيوي بيت الحاج علي, وهو على مساحة تزيد على ثلاثمائة متر, وارتفاعه حوالي أحد عشر متراً, ويتكون من طابقين يتصلان بدرج في وسط الدار, وفي منطقة غير مسقوفة توفر الإضاءة والتهوية, ويوجد مدخل يؤدي إلى القسم الخاص بالضيوف, الذي يوفر خصوصية كاملة لأهل البيت, أما غرف النوم فتقع في الطابق العلوي, ومنها ما هو مسقوف بحذوع النخيل والجريد مع طبقة من الطين وهي الغرف الشتوية, كما توجد غرف من دون سقف, ويقولون إنها غرف النوم الصيفية, وذلك لتتناسب مع الجو, حيث يوفر الطين طبقات عازلة, تحمي من الحرارة الشديدة في نهار الصيف, ومن البرودة في ليالي الشتاء.
والبيت مطلي من الخارج بلون أزرق فاتح, وهو ما يساهم في عكس أشعة الشمس لتقليل الحرارة المسلطة عليه. وتوجد مبادرات عدة لمحاولة إحياء تراث البناء السيوي, لكن قلة الإمكانات وانحسار السياحة, وتفضيل الأهالي للأنماط الحديثة, تهدد التراث المعماري السيوي بالاندثار.
ملامح
السمة العامة في العمارة الطينية بالواحات المصرية, على تبايناتها, أنها تبنى فوق تبة أو هضبة عالية, لتكون في مرمى التيارات الهوائية التي يتم اصطيادها عبر ملاقف الهواء, لتسري وتتوزع داخل الحارات والبيوت, فتلطف درجة الحرارة خصوصاً في الصيف شديد الحرارة, وربما أيضاً لأن هذه المرتفعات غالباً ما تكون تربتها متماسكة, فتصلح لحمل أساسات البيوت, وهي تبنى كتجمع من البيوت المتلاصقة, ذات البوابات التي تغلق في المساء للحماية, ولها جدران سميكة عازلة للحرارة, وغالباً ما تكون جدراناً مزدوجة لبيتين متجاورين.
كذلك تكون الطرقات والشوارع الداخلية ضيقة في الغالب ومنحنية أو متعرجة, لضمان أن يسود الظل معظم الوقت. أيضاً تتميز بقلة النوافذ التي تطل على الخارج وصغرها وارتفاعها, وعدم تقابلها, مما يعطي أكبر قدر ممكن من الخصوصية. وكثير من البيوت يكون لها بابان أحدهما لأهل البيت والآخر للضيوف, الذين يكون لهم نطاق محدد, منعزل عن الاطلاع على فضاء المعيشة, وعلى سبيل المثال المربوعة في سيوة, وهي مساحة مخصصة للضيوف. كذلك تكون التجمعات السكنية على قدر معقول من الاكتفاء الذاتي, من خلال وجود معظم الخدمات داخل القرية, وتكون الحقول بالقرب منها والآبار داخل البيوت غالباً.
البيوت هي الجلد الثالث للإنسان بعد جلده البيولوجي, وملابسه, وكل من جلوده الثلاثة يحدد هويته. هكذا نختتم رحلتنا بين الواحات المصرية, وقد اقتفينا آثار ظلال الطين, وإبداعاته, التي حملت روح وثقافة الناس والأماكن عبر التاريخ, آملين أن تجد دائماً من يدعم بقاءها, ويساعدها على مقاومة الذوبان, والانجراف أمام سيول الحداثة, التي تجتاح كل ما هو أصيل .
نافذة قديمة في متحف موط للتراث بالواحات الداخلة
بيت قديم في شالي بواحة سيوة، تحول إلى فندق
قرية القصر الإسلامية في الواحات الداخلة كما تظهر من أعلى مئذنة جامع نصر الدين، ويظهر نخيل وأشجار الواحة في خلفيتها
عتبة خشبية محفورة، أعلى أحد بيوت قرية القصر بالواحات الداخلة
معصرة الزيتون داخل قرية القصر بالواحات الداخلة
ممر مسقوف للحماية من الشمس في قرية درب السندادية القديمة في «الخارجة»