سعيد الكفراوي وعبد الفتاح بدوي الكفراوي: القصة الشكل الأمثل للتعبير عن المهمشين

سعيد الكفراوي وعبد الفتاح بدوي الكفراوي: القصة الشكل الأمثل  للتعبير عن المهمشين

في‭ ‬مسيرة‭ ‬القاص‭ ‬المصري‭ ‬سعيد‭ ‬الكفراوي‭ (‬1939‭)‬،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬12‭ ‬مجموعة‭ ‬قصصية‭ ‬نالت‭ ‬شهرة‭ ‬واسعة،‭ ‬وتُرجمت‭ ‬إلى‭ ‬لغات‭ ‬عدة،‭ ‬هذه‭ ‬المجموعات‭ ‬حصد‭ ‬بها‭ ‬أخيراً‭ ‬جائزة‭ ‬الدولة‭ ‬التقديرية‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬لعام‭ ‬2016،‭ ‬الكفراوي‭ ‬مهموم‭ ‬في‭ ‬قصصه‭ ‬طوال‭ ‬هذه‭ ‬المسيرة‭ ‬بالقرية‭ ‬المصرية‭ ‬ورصد‭ ‬وتشخيص‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬غرائبي‭ ‬وأسطوري‭ ‬ومهمش،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬مهموم‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬ذاكرة‭ ‬يتهددها‭ ‬الفناء،‭ ‬سواء‭ ‬بالتغير‭ ‬أو‭ ‬الموت‮»‬‭. ‬

في‭ ‬مجموعته‭ ‬القصصية‭ ‬‮«‬يا‭ ‬قلب‭ ‬مين‭ ‬يشتريك‮»‬‭ ‬الصادرة‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬أخبار‭ ‬اليوم‭ ‬بالقاهرة،‭ ‬وهي‭ ‬أحدث‭ ‬نتاج‭ ‬له،‭ ‬يرصد‭ ‬الكفراوي‭ ‬تجربة‭ ‬عاشها‭ ‬عندما‭ ‬أصيب‭ ‬بأزمة‭ ‬قلبية‭ ‬مفاجئة،‭ ‬ويقول‭ ‬عنها‭ ‬‮«‬وقتها‭ ‬رأيت‭ ‬الموت‭ ‬ثم‭ ‬أفقت‭ ‬منه،‭ ‬فكتبت‭ ‬هذه‭ ‬التجربة،‭ ‬عن‭ ‬مجابهة‭ ‬الإنسان‭ ‬للفناء‭ ‬والرحيل‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬الأساطير‭ ‬ولا‭ ‬يعرف‭ ‬ما‭ ‬فوق‭ ‬الواقع‮»‬‭... ‬هنا‭ ‬نص‭ ‬حواره‭ ‬مع‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭:‬

‭< ‬هل‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬القصة‭ ‬المصرية‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬اجتياز‭ ‬محليتها؟‭ ‬

‭- ‬لا‭ ‬يشغلني‭ ‬كثيراً‭ ‬أمر‭ ‬خروج‭ ‬القصة‭ ‬إلى‭ ‬أفق‭ ‬عالمي،‭ ‬أو‭ ‬بقائها‭ ‬في‭ ‬أفق‭ ‬محلي،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬أسعى‭ ‬دائماً‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬نص‭ ‬يعبر‭ ‬عني‭ ‬وعن‭ ‬الجماعة‭ ‬التي‭ ‬أنتمي‭ ‬إليها،‭ ‬وإذا‭ ‬تكلمنا‭ ‬عن‭ ‬خروج‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬من‭ ‬محليتها‭ ‬إلى‭ ‬أفق‭ ‬آخر،‭ ‬فنستطيع‭ ‬باطمئنان‭ ‬أن‭ ‬نؤكد‭ ‬أن‭ ‬القصة‭ ‬شاركت‭ ‬في‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬تشغل‭ ‬بال‭ ‬الإنسان،‭ ‬وبالذات‭ ‬عندما‭ ‬تُرجم‭ ‬لكاتب‭ ‬‮«‬نوبل‮»‬‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬وكذلك‭ ‬القصص‭ ‬المهمة‭ ‬التي‭ ‬تُرجمت‭ ‬ليوسف‭ ‬إدريس‭ ‬إلى‭ ‬الروسية‭ ‬والإنجليزية‭ ‬والفرنسية،‭ ‬وإلى‭ ‬ما‭ ‬تُرجم‭ ‬لكتَّاب‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬الستينيات‭ ‬والسبعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وأيضاً‭ ‬قصص‭ ‬الكاتب‭ ‬العراقي‭ ‬محمد‭ ‬خضير،‭ ‬كما‭ ‬أنني‭ ‬تُرجمت‭ ‬لي‭ ‬مجموعة‭ ‬كاملة‭ ‬هي‭ ‬‮«‬تلة‭ ‬الغجر‮»‬،‭ ‬وعديد‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬المترجمة‭ ‬عندي‭ ‬وعند‭ ‬محمد‭ ‬المخزنجي‭ ‬وعند‭ ‬إبراهيم‭ ‬عبدالمجيد‭. ‬

في‭ ‬رأيي‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الكم‭ ‬من‭ ‬الإبداع‭ ‬المصري‭ - ‬العربي‭ ‬يمثل‭ ‬وثبة‭ ‬مضادة‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة،‭ ‬وتستطيع‭ ‬أن‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬وفي‭ ‬خياله،‭ ‬واهتمامه،‭ ‬وشخوصه‭ ‬‮«‬تشيكوفاً‮»‬‭ ‬آخر،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة،‭ ‬وبالذات‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬الستينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬شاركت‭ ‬في‭ ‬ذائقة‭ ‬عالمية‭ ‬ومحلية‭ ‬أيضاً‭. ‬

‭ <  ‬ما‭ ‬قضيتك‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬الكتابة؟‭ ‬

‭- ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬لم‭ ‬أجرب‭ ‬شكلاً‭ ‬آخر‭ ‬سوى‭ ‬كتابة‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬فيما‭ ‬كتبته‭ ‬عبر‭ ‬12‭ ‬مجموعة‭ ‬قصصية،‭ ‬فأنا‭ ‬أنتمي‭ ‬إلى‭ ‬قرية‭ ‬مصرية،‭ ‬قرية‭ ‬قديمة،‭ ‬تزخر‭ ‬بالغرائبي‭ ‬والأسطوري،‭ ‬وكان‭ ‬همي‭ ‬الأول‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬ذاكرة‭ ‬هذا‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬كتبت‭ ‬عنه‭ ‬أغلب‭ ‬القصص،‭ ‬ومن‭ ‬المعروف‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬كاتب‭ ‬يكتب‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬الآخرون،‭ ‬ولكن‭ ‬بشكل‭ ‬مختلف،‭ ‬لا‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬ولكن‭ ‬الجديد‭ ‬هو‭ ‬الكاتب،‭ ‬فطوال‭ ‬مشواري‭ ‬مع‭ ‬الأدب‭ ‬أحاول‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬ذاتاً‭ ‬مستقلة،‭ ‬أنا‭ ‬أنتمي‭ ‬إلى‭ ‬القرية‭ ‬التي‭ ‬عشتها‭ ‬منذ‭ ‬أوائل‭ ‬الخمسينيات،‭ ‬وأنتمي‭ ‬إلى‭ ‬جماعتها‭ ‬المغمورة،‭ ‬تلك‭ ‬الجماعة‭ ‬التي‭ ‬تشبه‭ ‬الخدم‭ ‬والمزارعين‭ ‬والمرضى‭ ‬المسلولين‭ ‬عند‭ ‬تشيكوف،‭ ‬وتشبه‭ ‬الغواني‭ ‬عند‭ ‬موبيسان،‭ ‬أو‭ ‬هؤلاء‭ ‬المغامرين‭ ‬عند‭ ‬همنجواي،‭ ‬أو‭ ‬أصحاب‭ ‬الحكمة‭ ‬والرؤية‭ ‬المغايرة‭ ‬المناقضة‭ ‬التي‭ ‬تقترب‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬الصوفية‭ ‬عند‭ ‬بورخيس‭. ‬

لقد‭ ‬اقتربت‭ ‬من‭ ‬الفلاحين‭ ‬وفقراء‭ ‬المدن،‭ ‬وكانت‭ ‬القصة‭ ‬هي‭ ‬الشكل‭ ‬الأمثل‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الجماعات،‭ ‬وعبر‭ ‬معرفتي‭ ‬بزمن‭ ‬هؤلاء‭ ‬ومكانهم‭ ‬وحكاياتهم‭ ‬وأساطيرهم،‭ ‬وأعيادهم،‭ ‬وعلاقاتهم‭ ‬بجدلية‭ ‬الحياة‭ ‬والموت،‭ ‬كتبت‭ ‬12‭ ‬مجموعة،‭ ‬وكتب‭ ‬عنها‭ ‬أهم‭ ‬نقاد‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬أمثال‭ ‬شكري‭ ‬عياد‭ ‬وجابر‭ ‬عصفور‭ ‬وعبد‭ ‬القادر‭ ‬القط‭ ‬وصلاح‭ ‬فضل،‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬الخارج‭ ‬والداخل،‭ ‬وتُرجمت‭ ‬أغلب‭ ‬هذه‭ ‬القصص‭ ‬إلى‭ ‬لغات‭ ‬أخرى،‭ ‬وتكونت‭ ‬نتيجة‭ ‬لهذه‭ ‬الكتابة‭ ‬جدليات،‭ ‬مثل‭ ‬جدلية‭ ‬القرية‭ ‬والمدينة،‭ ‬وجدلية‭ ‬المكان‭ ‬والزمان،‭ ‬وجدلية‭ ‬الطفولة‭ ‬والكهولة،‭ ‬وجدلية‭ ‬الحياة‭ ‬والموت‭ ‬كما‭ ‬أسلفت،‭ ‬وكأن‭ ‬همّ‭ ‬تلك‭ ‬الكتابة‭ ‬مع‭ ‬همّ‭ ‬آخرين‭ ‬أمثال‭ ‬عبدالحكيم‭ ‬قاسم‭ ‬وخيري‭ ‬شلبي‭ ‬ومحمد‭ ‬البساطي‭ ‬وإبراهيم‭ ‬عبدالمجيد،‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬ذاكرة‭ ‬يتهددها‭ ‬الفناء،‭ ‬سواء‭ ‬بالتغير‭ ‬أو‭ ‬الموت‭.‬

‭< ‬ماذا‭ ‬عن‭ ‬المجموعة‭ ‬التي‭ ‬تكتبها‭ ‬حالياً؟‭ ‬

‭- ‬أعكف‭ ‬حالياً‭ ‬على‭ ‬كتابة‭ ‬مجموعة‭ ‬‮«‬20‭ ‬قمراً‭ ‬في‭ ‬حجر‭ ‬الغلام‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬20‭ ‬نصاً‭ ‬عن‭ ‬صبي‭ ‬يعيش‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬علاقة‭ ‬مع‭ ‬الحياة،‭ ‬داخله‭ ‬وخارجه،‭ ‬في‭ ‬جدل‭ ‬كوني،‭ ‬وأسئلة‭ ‬بلا‭ ‬إجابة‭ ‬عن‭ ‬الواقع،‭ ‬والكهولة‭ ‬والطفولة‭ ‬والبشر‭ ‬والمتغيرات،‭ ‬وأخيراً‭ ‬عن‭ ‬الرحيل،‭ ‬وهي‭ ‬ليست‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية‭ ‬ولكنها‭ ‬عن‭ ‬أشخاص‭ ‬التقوا‭ ‬يوماً‭ ‬ومضوا،‭ ‬وأحاول‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬النصوص‭ ‬تحويلهم‭ ‬على‭ ‬الورق‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الإبداع‭ ‬والفنون،‭ ‬وأرى‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأشخاص‭ ‬سوف‭ ‬يبقون‭ ‬طويلا‭ ‬على‭ ‬الورق،‭ ‬وستصدر‭ ‬المجموعة‭ ‬عن‭ ‬الدار‭ ‬المصرية‭ ‬اللبنانية‭. ‬

‭< ...‬ومن‭ ‬تقصد‭ ‬بالغلام؟‭ ‬

‭- ‬الغلام‭ ‬هو‭ ‬السارد‭ ‬الذي‭ ‬يحكي‭ ‬العشرين‭ ‬نصاً،‭ ‬وقد‭ ‬تؤخذ‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬قصص،‭ ‬وقد‭ ‬تؤخذ‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬رواية‭. ‬

‭< ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرك،‭ ‬ما‭ ‬المعوقات‭ ‬التي‭ ‬يواجهها‭ ‬الأديب‭ ‬المصري،‭ ‬والعربي‭ ‬بوجه‭ ‬عام؟‭ ‬

‭- ‬يعيش‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬أزمته‭ ‬البنيوية‭ ‬الطاحنة،‭ ‬وهي‭ ‬ممتدة‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭ ‬بسبب‭ ‬زعامات‭ ‬استبدلت‭ ‬نفسها‭ ‬بالأمة،‭ ‬وبدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تتبنى‭ ‬تلك‭ ‬الزعامات‭ ‬مشروعات‭ ‬تقيم‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬والديمقراطية‭ ‬وحرية‭ ‬التعبير‭ ‬وتدافع‭ ‬عن‭ ‬تكوين‭ ‬الأحزاب،‭ ‬وتفصل‭ ‬الدين‭ ‬عن‭ ‬الدولة،‭ ‬وتهتم‭ ‬بجناحي‭ ‬نجاح‭ ‬أي‭ ‬مشروع،‭ ‬والانتقال‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬الضرورة‭ ‬إلى‭ ‬الحرية،‭ ‬وهما‭ ‬جناحا‭ ‬العلم‭ ‬والثقافة،‭ ‬اهتمت‭ ‬بأنفسها،‭ ‬سنوات‭ ‬مرت،‭ ‬فشلت‭ ‬خلالها‭ ‬جميع‭ ‬التجارب،‭ ‬واكتشفت‭ ‬الأمة‭ ‬فجأة‭ ‬أنها‭ ‬بين‭ ‬فكّي‭ ‬الرحى،‭ ‬الاستعمار‭ ‬وإسرائيل،‭ ‬وسقطت‭ ‬في‭ ‬قبضة‭ ‬المتغيرات‭ ‬وصعود‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي،‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬جماعاته‭ ‬الإرهابية،‭ ‬فالعالم‭ ‬العربي‭ ‬أصبح‭ ‬حالياً‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬الاستنارة،‭ ‬وإلى‭ ‬النقد‭ ‬الذاتي،‭ ‬ليخرج‭ ‬من‭ ‬أزماته،‭ ‬وإلى‭ ‬الوعي‭ ‬بأن‭ ‬الثقافة‭ ‬والتعليم‭ ‬هما‭ ‬الطريق‭ ‬الأمثل‭ ‬لبناء‭ ‬دولة‭ ‬حديثة‭ ‬تسودها‭ ‬الحرية،‭ ‬وكرامة‭ ‬الإنسان‭. ‬

‭ < ‬تنوعت‭ ‬كتاباتك‭ ‬بين‭ ‬التأريخ‭ ‬للقرية‭ ‬والسياسة،‭ ‬أيهما‭ ‬تفضل،‭ ‬ولماذا؟‭ ‬

‭- ‬أرى‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬مسألة‭ ‬الكتابة‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬حب‭ ‬أو‭ ‬كُره،‭ ‬ولكن‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬موضوعياً،‭ ‬وأن‭ ‬تكتب‭ ‬بإتقان،‭ ‬وتأثرت‭ ‬بالسياسة‭ ‬وتفاعلت‭ ‬معها،‭ ‬لأنني‭ ‬أنتمي‭ ‬إلى‭ ‬جيل‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬هزيمة‭ ‬يونيو‭ ‬1967،‭ ‬وبعض‭ ‬كتَّاب‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬رأوا‭ ‬تلك‭ ‬الهزيمة‭ ‬وفهموا‭ ‬أبعادها‭ ‬وعرفوا‭ ‬مضامينها‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تحدث،‭ ‬وأرجعك‭ ‬إلى‭ ‬ديوان‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬‮«‬البكاء‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬زرقاء‭ ‬اليمامة‮»‬،‭ ‬ورواية‭ ‬صنع‭ ‬الله‭ ‬إبراهيم‭ ‬‮«‬تلك‭ ‬الرائحة‮»‬،‭ ‬وديوان‭ ‬محمد‭ ‬عفيفي‭ ‬مطر‭ ‬‮«‬النهر‭ ‬يلبس‭ ‬الأقنعة‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬لديّ‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬القصيرة‭ ‬عن‭ ‬السجون‭ ‬والامتهان‭ ‬وسطوة‭ ‬الشرطة،‭ ‬وقدرة‭ ‬‮«‬العمدة‮»‬‭ ‬على‭ ‬القهر‭ ‬والقمع،‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬ابن‭ ‬ثورة‭ ‬يوليو‭ ‬1952،‭ ‬كان‭ ‬ابن‭ ‬الثورة‭ ‬وناقدها،‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬رحيل‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬من‭ ‬يدافع‭ ‬عنه‭ ‬سوى‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬وضعهم‭ ‬في‭ ‬السجون،‭ ‬كنا‭ ‬كلنا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬نكتب‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة،‭ ‬وكنا‭ ‬حوالي‭ ‬30‭ ‬كاتباً‭ ‬نجلس‭ ‬حول‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬على‭ ‬مقهى‭ ‬ريش،‭ ‬مع‭ ‬صدور‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬جاليري‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1968،‭ ‬وكنا‭ ‬نكتب‭ ‬القصة‭ ‬مخطوطة‭ ‬ونعطيها‭ ‬له،‭ ‬فيأتي‭ ‬بعد‭ ‬أيام‭ ‬وقد‭ ‬قرأها‭ ‬ليبدي‭ ‬رأيه‭ ‬فيها‭. 

جئت‭ ‬أنا‭ ‬ورفقتي‭ ‬كتَّاب‭ ‬المحلة‭ ‬أمثال‭ ‬جابر‭ ‬عصفور‭ ‬ومحمد‭ ‬المنسي‭ ‬قنديل‭ ‬ومحمد‭ ‬المخزنجي‭ ‬والشاعر‭ ‬فريد‭ ‬أبو‭ ‬سعدة،‭ ‬والروائي‭ ‬جار‭ ‬النبي‭ ‬الحلو،‭ ‬والمفكر‭ ‬نصر‭ ‬حامد‭ ‬أبو‭ ‬زيد،‭ ‬وكل‭ ‬هؤلاء‭ ‬بدأوا‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬الستينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬في‭ ‬نادي‭ ‬الأدب‭ ‬بمدينة‭ ‬المحلة‭ ‬الكبرى،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬كتبت‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬المُهرة‮»‬‭ ‬ودخلت‭ ‬السجن‭ ‬على‭ ‬إثرها،‭ ‬وكنت‭ ‬أُتهم‭ ‬صباحاً‭ ‬بأنني‭ ‬إخواني،‭ ‬ومساء‭ ‬بأنني‭ ‬شيوعي،‭ ‬ومكثت‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬6‭ ‬أشهر،‭ ‬وحين‭ ‬خرجت‭ ‬منه‭ ‬كنت‭ ‬عضوا‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬ريش،‭ ‬وطلب‭ ‬مني‭ ‬أستاذي‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬أن‭ ‬أحكي‭ ‬له‭ ‬الحكاية‭ ‬بالتفاصيل‭ ‬المملة،‭ ‬وبعد‭ ‬مدة‭ ‬كتب‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬الكرنك‮»‬‭ ‬عن‭ ‬إسماعيل‭ ‬الشيخ،‭ ‬ووضع‭ ‬يده‭ ‬على‭ ‬كتفي‭ ‬وقال‭: ‬‮«‬يا‭ ‬كفراوي‭ ‬أنت‭ ‬إسماعيل‭ ‬الشيخ‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬الكرنك‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬شيء‭ ‬يُسعدني،‭ ‬ولكن‭ ‬أنا‭ ‬واحد‭ ‬ممن‭ ‬رأوا‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬فعل‭ ‬مقاومة،‭ ‬ومن‭ ‬رأوا‭ ‬فيها‭ ‬سعياً‭ ‬للمعرفة‭ ‬ودفاعا‭ ‬عن‭ ‬أهوال‭ ‬الحياة‭ ‬والموت،‭ ‬ورأيت‭ ‬في‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬أنها‭ ‬الشكل‭ ‬الأمثل‭ ‬الذي‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬استطعت‭ ‬أن‭ ‬أعبر‭ ‬عن‭ ‬تجربتي،‭ ‬وأنها‭ ‬الشكل‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬كتبت‭ ‬به‭ ‬تجربتي،‭ ‬التي‭ ‬قدروها‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬العمر‭ ‬وأعطوني‭ ‬عنها‭ ‬جائزة‭ ‬الدولة‭ ‬التقديرية‭ ‬في‭ ‬الآداب‭. ‬

التجربة‭ ‬في‭ ‬العموم‭ ‬هي‭ ‬تجربة‭ ‬مرتبطة‭ ‬بما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬الوطن،‭ ‬شغلتنا‭ ‬هجرة‭ ‬المصريين‭ ‬إلى‭ ‬الخارج،‭ ‬وشغلنا‭ ‬صعود‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي،‭ ‬وشغلنا‭ ‬الانفتاح‭ ‬الاقتصادي‭ ‬‮«‬السداح‭ ‬مداح‮»‬،‭ ‬وشغلتنا‭ ‬مصادرة‭ ‬الحرية،‭ ‬والزعيم‭ ‬الذي‭ ‬فوق‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬وفي‭ ‬مواجهة‭ ‬هذا‭ ‬تعرضنا‭ ‬للتهميش‭ ‬والاستبعاد،‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬لا‭ ‬وظائف‭ ‬ولا‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬حركة‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬البلاد،‭ ‬لنا‭ ‬مقاهينا‭ ‬ومجاميعنا‭ ‬وتاريخنا،‭ ‬ورحل‭ ‬أغلب‭ ‬كتَّاب‭ ‬هذا‭ ‬الجيل،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تحقيق‭ ‬أي‭ ‬مكسب،‭ ‬إلا‭ ‬أنهم‭ ‬قدموا‭ ‬للثقافة‭ ‬العربية‭ ‬مشروعاً‭ ‬مهماً‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬والرواية‭ ‬والقصة،‭ ‬وسيظلون‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬الأدب‭ ‬حالة‭ ‬لا‭ ‬تنقضي‭ ‬بما‭ ‬تركوه،‭ ‬مع‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬ونجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬وإدوار‭ ‬الخراط‭ ‬وبدر‭ ‬الديب‭ ‬وعلاء‭ ‬الديب‭ ‬وغيرهم‭. ‬

هذا‭ ‬الجيل‭ ‬الذي‭ ‬أنتمي‭ ‬إليه‭ ‬ابن‭ ‬ظروف‭ ‬معينة‭ ‬ومتغيرات‭ ‬ومناخات،‭ ‬وكان‭ ‬قريباً‭ ‬من‭ ‬الحقبة‭ ‬الليبرالية‭ ‬قبل‭ ‬ثورة‭ ‬يوليو،‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬فاعلة‭ ‬حتى‭ ‬هزيمة‭ ‬يونيو‭ ‬1967،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬فاعلة‭ ‬في‭ ‬كتَّاب‭ ‬المسرح‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬الشرقاوي‭ ‬ونعمان‭ ‬عاشور‭ ‬ويوسف‭ ‬إدريس،‭ ‬وفي‭ ‬الفكر‭ ‬تجد‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭ ‬وعباس‭ ‬العقاد‭ ‬وطه‭ ‬حسين،‭ ‬وفي‭ ‬السينما‭ ‬يوسف‭ ‬وهبي‭ ‬ويوسف‭ ‬شاهين‭ ‬وفاتن‭ ‬حمامة،‭ ‬وفي‭ ‬الغناء‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬وأم‭ ‬كلثوم،‭ ‬ظلت‭ ‬هذه‭ ‬الحقبة‭ ‬فاعلة‭ ‬حتى‭ ‬الهزيمة،‭ ‬شرارة‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬الليبرالية‭ ‬‮«‬لطشتنا‮»‬،‭ ‬وتعلمنا‭ ‬عبرها‭ ‬وكتبنا‭ ‬ببعض‭ ‬معارفنا‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭. ‬

أما‭ ‬القرية‭ ‬في‭ ‬كتاباتي‭ ‬فهي‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يحوي‭ ‬البشر،‭ ‬الذين‭ ‬كتبت‭ ‬عنهم،‭ ‬وتمثل‭ ‬لي‭ ‬كماً‭ ‬هائلاً‭ ‬من‭ ‬التجارب‭ ‬والخبرات‭ ‬والمعارف،‭ ‬ولك‭ ‬أن‭ ‬تتخيل‭ ‬أنني‭ ‬نزلت‭ ‬إلى‭ ‬قريتي‭ ‬للسؤال‭ ‬عن‭ ‬أخي،‭ ‬فقالوا‭ ‬إن‭ ‬عائلتي‭ ‬يبنون‭ ‬قبراً،‭ ‬فذهبت‭ ‬لأجدهم‭ ‬قد‭ ‬استخرجوا‭ ‬العظام‭ ‬القديمة،‭ ‬ويسألني‭ ‬ابن‭ ‬عمي‭ ‬‮«‬لمن‭ ‬هذه‭ ‬العظام؟‮»‬‭ ‬فأقول‭ ‬له‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬عظام‭ ‬أمي‭ ‬لأنها‭ ‬ماتت‭ ‬ولديها‭ ‬5‭ ‬أسنان‭ ‬فقط،‭ ‬وهذه‭ ‬أختي،‭ ‬لأرى‭ ‬أهلي‭ ‬وأتعرف‭ ‬عليهم‭ ‬وهم‭ ‬عظام،‭ ‬لأكون‭ ‬الكاتب‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬رأى‭ ‬أهله‭ ‬بعد‭ ‬وفاتهم،‭ ‬فالواقع‭ ‬أعطاني‭ ‬هذا‭ ‬الكنز،‭ ‬فكتبت‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬شرف‭ ‬الدم‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬الإحساس‭ ‬أكتب‭ ‬به‭ ‬القصص‭. ‬

‭< ‬كيف‭ ‬تستلهم‭ ‬عوالم‭ ‬شخصياتك‭ ‬في‭ ‬القصص؟‭ ‬

‭- ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬قصصي‭ ‬هناك‭ ‬بطل‭ ‬يصرخ‭ ‬قائلاً‭: ‬‮«‬غايتي‭ ‬أن‭ ‬أستحوذ‭ ‬على‭ ‬زمن‭ ‬يضيع‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬صرخة‭ ‬في‭ ‬الضمير‭ ‬المصري،‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الزمن‭ ‬الفرعوني‭ ‬الذي‭ ‬يعتبر‭ ‬الموت‭ ‬ليس‭ ‬نهاية‭ ‬للحياة‭ ‬ولكنه‭ ‬استمرار‭ ‬لها،‭ ‬حيث‭ ‬الحساب‭ ‬والعقاب‭ ‬والأكل‭ ‬مع‭ ‬الميت،‭ ‬والبعث،‭ ‬جهد‭ ‬الفلاح‭ ‬وعلاقته‭ ‬بالفصول،‭ ‬وعلاقة‭ ‬الفصول‭ ‬بالزرع‭ ‬والحصاد،‭ ‬فكرة‭ ‬الموت‭ ‬الأبدية‭ ‬في‭ ‬القرية‭ ‬المصرية،‭ ‬وكأن‭ ‬الموت‭ ‬حادث‭ ‬يحرمنا‭ ‬من‭ ‬أحبابنا‭ ‬لكنه‭ ‬قدر،‭ ‬طقوس‭ ‬هذه‭ ‬العوالم،‭ ‬أناشيدها،‭ ‬‮«‬العديد‮»‬،‭ ‬وخروج‭ ‬الصواني‭ ‬في‭ ‬الموت،‭ ‬وفي‭ ‬الفرح،‭ ‬الموالد،‭ ‬علاقة‭ ‬الفلاحين‭ ‬بالحيوان‭ ‬ثم‭ ‬الانتقال‭ ‬للمدينة،‭ ‬والمهمشين‭ ‬الذين‭ ‬يسيرون‭ ‬على‭ ‬الطرق‭ ‬طالبين‭ ‬الستر،‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬العوالم‭ ‬خبرتها‭ ‬منذ‭ ‬الطفولة،‭ ‬ولديّ‭ ‬عشرات‭ ‬القصص‭ ‬عن‭ ‬علاقة‭ ‬الطفل‭ ‬بالجد،‭ ‬وعلاقة‭ ‬الطفل‭ ‬بالكُتَّاب‭ ‬وشيخه‭ ‬في‭ ‬الكُتَّاب،‭ ‬وعلاقة‭ ‬الطفل‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬أول‭ ‬تعرف‭ ‬على‭ ‬الموت،‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬كان‭ ‬يشكل‭ ‬القصص،‭ ‬وكل‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬ارتأيته‭ ‬ككاتب‭ ‬وحاولت‭ ‬أن‭ ‬أسجله‭ ‬على‭ ‬الورق،‭ ‬رحم‭ ‬الله‭ ‬أحدهم‭ ‬حينما‭ ‬قال‭ ‬‮«‬الكتابة‭ ‬مكوث‭ ‬في‭ ‬الوحدة،‭ ‬وعلى‭ ‬الكاتب‭ ‬الجيد‭ ‬أن‭ ‬يتعب‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬نزيف‭ ‬الدم‭ ‬لكي‭ ‬يأتي‭ ‬بشخصيات‭ ‬صادقة،‭ ‬بسبب‭ ‬صدقها‭ ‬تعيش‭ ‬طويلا‭ ‬على‭ ‬الورق‮»‬،‭ ‬وأيضاً‭ ‬من‭ ‬قال‭ ‬‮«‬تظل‭ ‬الكتابة‭ ‬هي‭ ‬الجرح‭ ‬ولكنه‭ ‬الجرح‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يُنسى‮»‬‭. ‬

‭ < ‬هل‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬زمن‭ ‬القصة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬انصراف‭ ‬معظم‭ ‬الأدباء‭ ‬للرواية؟‭ ‬

‭- ‬أرى‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬زمن‭ ‬لفن،‭ ‬بدليل‭ ‬أن‭ ‬القاصين‭ ‬العظام‭ ‬مثل‭ ‬كافكا‭ ‬وكاترين‭ ‬مانسفيلد‭ ‬وفوجنر‭ ‬ونجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬ويوسف‭ ‬إدريس‭ ‬وإبراهيم‭ ‬أصلان،‭ ‬مازالوا‭ ‬يعيشون‭ ‬بيننا‭ ‬بأعمالهم،‭ ‬لكن‭ ‬هناك‭ ‬فناً‭ ‬يستجيب‭ ‬للمتغيرات،‭ ‬ولك‭ ‬أن‭ ‬تعرف‭ ‬أن‭ ‬أستاذنا‭ ‬الكبير‭ ‬عباس‭ ‬العقاد،‭ ‬انتقد‭ ‬فن‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬الأربعينينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬قائلاً‭: ‬‮«‬هذه‭ ‬الكتابة‭ ‬قنطار‭ ‬خشب‭ ‬ودرهم‭ ‬حلاوة‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬إنها‭ ‬كثيرة‭ ‬ولكن‭ ‬ليس‭ ‬فيها‭ ‬فائدة‭ ‬كبرى،‭ ‬وليست‭ ‬كالشعر،‭ ‬فتصدى‭ ‬له‭ ‬الأديب‭ ‬الشاب‭ -‬‭ ‬وقتذاك‭ - ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬قائلا‭ ‬إن‭ ‬لكل‭ ‬زمن‭ ‬فنا‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬متغيراته،‭ ‬ويثير‭ ‬دهشتنا‭ ‬وشوقنا‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬الحنان‭ ‬القديم،‭ ‬والرواية‭ ‬هي‭ ‬الشكل‭ ‬الأمثل‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬متغيرات‭ ‬الحياة‭ ‬حالياً،‭ ‬وبالتالي‭ ‬كان‭ ‬الشعر‭ ‬أقل‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬المتغيرات‭.‬

الرواية‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الزحمة‭ ‬والسرعة‭ ‬والأسئلة‭ ‬المطروحة‭ ‬وما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬العلم‭ ‬وفي‭ ‬التقنيات‭ ‬والسينما‭ ‬والإنترنت،‭ ‬أقدر‭ ‬الأشكال‭ ‬وأوسعها‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬العوالم،‭ ‬لكن‭ ‬ليست‭ ‬هي‭ ‬بنت‭ ‬الزمن‭ ‬الوحيدة،‭ ‬فيشاركها‭ ‬الشعر‭ ‬والفن‭ ‬التشكيلي‭ ‬والسينما،‭ ‬ويشارك‭ ‬الجميع‭ ‬أيضاً‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة،‭ ‬التي‭ ‬تستعيد‭ ‬عافيتها‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وتدهشك‭ ‬بالنماذج‭ ‬التي‭ ‬تقدمها‭. ‬لست‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬الزمن‭ ‬له‭ ‬فن‭ ‬واحد،‭ ‬ولكن‭ ‬كل‭ ‬الفنون‭ ‬الجيدة‭ ‬هي‭ ‬بنت‭ ‬زمانها‭. ‬

‭ < ‬ماذا‭ ‬كنت‭ ‬تقصد‭ ‬من‭ ‬عنوان‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬يا‭ ‬قلب‭ ‬مين‭ ‬يشتريك»؟‭ ‬

‭- ‬هي‭ ‬تجربة‭ ‬عشتها‭ ‬عندما‭ ‬أُصبت‭ ‬بأزمة‭ ‬قلبية،‭ ‬وشعرت‭ ‬بالموت‭ ‬ثم‭ ‬عدت‭ ‬منه‭ ‬قبل‭ ‬عملية‭ ‬القلب‭ ‬المفتوح،‭ ‬فهذه‭ ‬التجربة‭ ‬كتبتها‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬طويلة‭ ‬أو‭ ‬رواية‭ ‬قصيرة،‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬‮«‬يا‭ ‬قلبي‭ ‬مين‭ ‬يشتريك‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬قصة‭ ‬عن‭ ‬مجابهة‭ ‬الفناء‭ ‬والرحيل،‭ ‬وعن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬الأساطير‭ ‬ولا‭ ‬يعرف‭ ‬ما‭ ‬فوق‭ ‬الواقع‭ ‬‮«‬الباراسيكولوجي‮»‬‭ ‬وتجد‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬فوق‭ ‬الواقع،‭ ‬وكانت‭ ‬تجربة‭ ‬قُدرت‭ ‬وكُتب‭ ‬عنها‭ ‬الكثير‭.‬

‭ < ‬ما‭ ‬الفرق‭ ‬الذي‭ ‬تجده‭ ‬بين‭ ‬فترة‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬وما‭ ‬تعيشه‭ ‬مصر‭ ‬الآن؟‭ ‬

‭- ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬الستينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬كانت‭ ‬ذات‭ ‬عافية،‭ ‬وأسئلة‭ ‬حقيقية‭ ‬بسبب‭ ‬بواقي‭ ‬الحقبة‭ ‬الليبرالية،‭ ‬وبسبب‭ ‬إقدام‭ ‬الكتَّاب‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬التجاوزات،‭ ‬وبسبب‭ ‬أن‭ ‬سلم‭ ‬القيم‭ ‬كان‭ ‬بعافية،‭ ‬وقادراً‭ ‬على‭ ‬الرؤية،‭ ‬وقادراً‭ ‬على‭ ‬الفعل،‭ ‬والآن‭ ‬هاجر‭ ‬المصريون،‭ ‬وأصبحت‭ ‬هناك‭ ‬أزمة‭ ‬اقتصادية،‭ ‬وانكسر‭ ‬سلم‭ ‬القيم،‭ ‬وعاش‭ ‬الناس‭ ‬أزمة‭ ‬روحية‭ ‬بعد‭ ‬انتصار‭ ‬1973،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬النتائج‭ ‬ضالة،‭ ‬ثم‭ ‬30‭ ‬عاماً‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬حسني‭ ‬مبارك‭ ‬كانت‭ ‬ضاغطة،‭ ‬وخاملة،‭ ‬ثم‭ ‬جاءت‭ ‬الثورة‭ ‬بالحلم‭ ‬في‭ ‬التغيير‭ ‬والأمل‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬ديمقراطي،‭ ‬وسياسة‭ ‬عادلة،‭ ‬ومجتمع‭ ‬مدني‭ ‬يتسم‭ ‬بالمعاصرة‭ ‬والحداثة،‭ ‬والمشاركة،‭ ‬فبدل‭ ‬أن‭ ‬يحدث‭ ‬ذلك‭ ‬انتهت‭ ‬الثورة‭ ‬إلى‭ ‬يد‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي،‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬العسكريين،‭ ‬وهذان‭ ‬العهدان‭ ‬يملك‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهما‭ ‬شروطه،‭ ‬شروط‭ ‬التحقق‭ ‬حتى‭ ‬هزيمة‭ ‬1967،‭ ‬وشروط‭ ‬الحلم‭ ‬المحبط‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭.‬

‭< ‬كيف‭ ‬تقيِّم‭ ‬كتابات‭ ‬الجيل‭ ‬الحالي‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬القصة‭ ‬والرواية؟‭ ‬

‭- ‬لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬كتابة‭ ‬جديدة‭ ‬جيدة‭ ‬مع‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬الشباب‭ ‬الذين‭ ‬جاءوا‭ ‬بعدنا،‭ ‬هم‭ ‬بالفعل‭ ‬ليسوا‭ ‬نحن،‭ ‬هم‭ ‬أبناء‭ ‬عالم‭ ‬لا‭ ‬نعرفه،‭ ‬وإذا‭ ‬كنا‭ ‬نحن‭ ‬نأتي‭ ‬من‭ ‬الماضي‭ ‬ولو‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬يوم،‭ ‬وباعتبار‭ ‬الماضي‭ ‬أصدق‭ ‬الأزمنة،‭ ‬لأن‭ ‬الحاضر‭ ‬والمستقبل‭ ‬يذهبان‭ ‬إليه،‭ ‬فإنهم‭ ‬يعيشون‭ ‬‮«‬جهنم‭ ‬الواقع‮»‬،‭ ‬فيكتبون‭ ‬عن‭ ‬العشوائيات‭ ‬ويكتبون‭ ‬عن‭ ‬الجنس‭ ‬وكذلك‭ ‬عن‭ ‬الدين،‭ ‬مخترقين‭ ‬المحرم،‭ ‬طبعا‭ ‬ليس‭ ‬كلهم‭ ‬جيدين،‭ ‬فهناك‭ ‬هراء‭ ‬لا‭ ‬أول‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬آخر،‭ ‬ولكن‭ ‬هناك‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬الأسماء‭ ‬يكتبون‭ ‬حباً‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬ومصر‭ ‬في‭ ‬عز‭ ‬أزمتها‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تبدع،‭ ‬لأن‭ ‬شعبها‭ ‬مبدع‭ ‬بالفطرة،‭ ‬قديما‭ ‬كان‭ ‬يحاربه‭ ‬الرومان‭ ‬والعرب‭ ‬والفرس‭ ‬والأتراك‭ ‬والشراكسة،‭ ‬وهو‭ ‬يبني‭ ‬مقابر‭ ‬ومساجد‭ ‬وكنائس‭ ‬وينقش‭ ‬على‭ ‬النحاس‭ ‬ويعلّم‭ ‬أولاده‭ ‬وأولاد‭ ‬الغزاة‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة،‭ ‬هم‭ ‬يحاربونه‭ ‬وهو‭ ‬يصنع‭ ‬الحضارة،‭ ‬الجديد‭ ‬فيه‭ ‬الجديد،‭ ‬وفيه‭ ‬أيضاً‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬سلبي‭ ‬ولا‭ ‬يرقى‭ ‬لأي‭ ‬مرتبة‭ .‬