الحساسية.. حصاد الشراهة البشرية وسيم مزيك

الحساسية.. حصاد الشراهة البشرية

نعيش في عالم اليوم محاطين بنوعين من البيئة. بيئة صنعية ناجمة عن فعاليات ونشاط الإنسان الهدف منها تأمين الشروط الملائمة لوجوده ورفاهيته، وبيئة طبيعية ليست من نتاج الإنسان وإن كانت تتأثر بشكل أو بآخر بفعالياته الحياتية، حيث يكون تأثيره فيها إيجابيا عندما يكون راقيا متحضرا متحررا من الطمع، ويكون تأثيره عليها مدمرا عند تعامله معها بشكل أخرق عشوائي ونفعي.

وبينما يتمتع معظمنا بالتسهيلات التي يمنحنا إياها التطور التكنولوجي وبجمال الطبيعة في آن، يعاني المصابون بالأمراض التحسسية والذين يتزايد عددهم يوما بعد يوم من التأثير السلبي لكلتا البيئتين عليه، وفي حالات فرط التحسس (التأتب) atopy يكون لمختلف العوامل المحيطة - طبيعية كانت أم صناعية - تأثير مدمر عليهم، لدرجة شعورهم بأنهم يعيشون في وسط معاد تماما لوجودهم ونشاطاتهم الحياتية.

وقد أصبح من المؤكد بالنسبة للباحثين أن المجتمع البشري يعيش اليوم حالة انفجار وبائي للأمراض التحسسية مرشح للتفاقم مستقبلا، سببه على الأغلب زيادة دخول المواد الصناعية (الكيميائية الطابع غالبا) في كل جزئيات الحياة، مما سبب ضغطا تكيفيا كبيرا على جهاز المناعة وبوقت قصير نسبيا مارسته عليه مختلف هذه المركبات التي أصبحت جزءا من حياتنا بشكل لم يسبق له مثيل.

هذا الضغط أدى على المدى الطويل وخاصة عند المستعدين وراثيا إلى انكسار قابلية جهاز المناعة على التنظيم الذاتي وبالتالي ظهور الأعراض التحسسية.

ولا شك أننا نشهد اليوم وباء تحسسيا حيث يتزايد تواتر ظهور الأمراض التحسسية لدرجة أنه يندر أن نجد في يومنا هذا عائلة يخلو فرد من أفرادها أو لم يصب أحد أعضائها بأعراض تحسسية في فترة ما من حياته.

فما هي الحساسية؟ وهل هي مرض واحد أم مجموعة من الأمراض؟ ما هي آليتها وخصائصها ومسبباتها؟ وهل من سبيل لتجنب ظواهرها؟

لمحة تاريخية

إن أول وصف لمرض تحسسي يرجع إلى جون بوستوك الذي قدم إلى الجمعية الملكية الطبية في لندن عام1819 وصفا لمرضه هو بالذات، وهو عبارة عن أعراض دورية في العين والأنف والصدر أطلق عليها اسم زكام الصيف.Summer catarrh وما لبثت هذه الحالة أن أخذت التسمية الشائعة حمى الكلأ (القش) Hay fever نظرا للاعتقاد الشائع آنذاك بكون المرض ناجما عن عامل ما موجود في العشب الحديث الجمع.

وبعد نصف قرن تقريبا بين شارلز بلاكلي بشكل قاطع أن طلع النباتات Pollen يلعب دورا مهما في تحريض أعراض حمى الكلأ ودون ملاحظاته هذه في كتاب حول هذا الموضوع نشره في العام 1873
وفي عام 1905 يلاحظ طبيبا الأطفال النمساوي كليمنس فون بيركيه والهنغاري المولد بيلا شيك أن الأطفال المتلقين لجرعات متعددة من المصل المضاد لذيفان الجراثيم العقدية عانوا ارتفاعا في الحرارة، وتضخما في العقد اللمفية، وظهور طفح جلدي منتشر، أي بمعنى آخر أعراض ما يعرف باسم مرض المصل
Serum Sickness وفي مقالة كتبها بيركيه عام 1906 اقترح كلمة الحساسية Allergy لوصف ظاهرة التغير في فعالية الجسم هذه، والتي شكلها من تجميع الكلمتين اليونانيتين allos وتعني آخر و ergon وتعني الفعل ويعني الاشتقاق فعلا مغايرا تجاه مادة أو عامل خارجي.

جهاز المناعة والحساسية

لكن ما علاقة جهاز المناعة بالحساسية؟
من المعروف أن لجهاز المناعة وظيفة محورية هي عملية الدفاع عن الجسم ضد مختلف العوامل الغازية، بكتيرية كانت أم فيروسية أم طفيلية، بالإضافة إلى عمله المهم في القضاء على الخلايا السرطانية، وباختصار فإن المهمة الأساسية لجهاز المناعة هي التمييز ما بين الذات
Self والسوى nonself حيث يقوم بتحمل نسج وجزيئات الذات، ويميز الضار من جزيئات السوى فيوجه ضدها استجابة فعالة. ويؤدي اختلال نظام التعرف والتنظيم المناعي هذا في حالة تعرف نسج الذات إلى توجيه استجابة مناعية ضدها وبالتالي ظهور أمراض المناعة الذاتية autoimmunity كالروماتيزم والذأب الحمامي المجموعي(SLE) أما الخلل في عملية تعرف جزيئات السوى وبالتالي توجيه استجابة مناعية ضد العوامل الخارجية غير المؤذية فيؤدي إلى ظهور الأمراض التحسسية كالشري Urticaria الناجم عن تناول مواد غذائية (بيض، حليب) غير ضارة في الأحوال العادية.

وسيقتصر حديثنا هنا على تفاعلات التحسس العاجلة أو السريعة والتي تلعب دورا رئيسيا في الآلية الأمراضية لالتهاب الأنف التحسسي والربو التحسسي، والتهاب الملتحمة التحسسي، والشري (الأرتيكاريا) والصدمة التأقية (التحسسية).

تفاعلات التحسس العاجل

يتواسط هذا النوع من التفاعلات نوع من الأجسام المضادة يدعى الضد IGE حيث يؤدي ارتباط المادة المحسسة (المستأرج) allergen بهذا الضد الموجود على نوع من الخلايا هي الخلايا البدينة mast cells إلى تحريض هذه الخلايا على إطلاق محتوياتها من الحبيبات التي تحتوي على وسائط فعالة بيولوجيا كالهيستامين، الذي يؤدي بدوره إلى ظهور التغيرات المشاهدة في التظاهرات التحسسية كالحكة والإنتباج والاحتقان والحرارة، أي باختصار التفاعل الإلتهابي التحسسي allergicinflammatory reaction الذي يعتبر الوحدة التشريحية المرضية لكل تظاهرات التحسس العاجل السريرية.

المستأرجات (المواد المحسسة)

يلعب طيف واسع جدا من المركبات الصناعية والطبيعية دور العوامل المسببة للتفاعلات الأرجية. ومع أن المحسسات الطبيعية كطلع النباتات pollen وسوس غبار المنزل dermatophagoides والفطور والخمائر منتشرة بكثرة في البيئة المحيطة بناء فإنها تبقى ثابتة نوعا ما بالمقارنة مع المواد الصنعية والتي تدخل حياتنا بإيقاع انفجاري وتكون مسئولة عن جزء كبير من التفاعلات التحسسية الطابع وعلى سبيل المثال نذكر منها: الأدوية. مستحضرات التجميل - المواد الحافظة للأطعمة - الملونات الغذائية. الأنزيمات المستعملة في مواد التنظيف - مادة اللاتكس Latex المستعملة في المنتجات المطاطية بكثرة وغيرها.

بالإضافة إلى ذلك فإن بعض المواد تبدي تفاعلات متصالبة فيما بينها حيث يبدي بعض الأفراد تفاعلات تحسسية الطابع عند تناولهم لبعض الأدوية كالمسكنات، وأيضا لدى تناولهم مادة صباغية صفراء تدعى بالتارترازين Tartrazine تستعمل بكثرة لتلوين المواد الغذائية، لذا يجب تحذير الأفراد الذين يبدون تفاعلات للأسبرين مثلا من تناولهم لمختلف الأطعمة الجاهزة إلا إذا خلت من هذه المادة، وهذا يدعونا بدوره لتأكيد ضرورة كتابة جميع المواد المستعملة في صناعة الأغذية الجاهزة على العلبة.

الوقاية من الحساسية

هناك في الواقع فئة معينة من الناس ذوي الاستعداد الوراثي القوي سيعاني أفرادها من الأمراض التحسسية شئنا أم أبينا خلال حياتهم، إلا أنه يمكن تخفيف حدة هذه التظاهرات حتى عند هؤلاء بإجراءات وقائية بسيطة.

ففي الطفولة الباكرة - وهي المرحلة الأهم بالنسبة لمستقبل ظهور الأمراض التحسسية خاصة عند وجود قصة عائلية تحسسية لدى الأبوين. يخفف الإرضاع الوالدي الأعراض التحسسية الهضمية عند الرضيع ويؤخر ظهورها. وأحيانا يستطاب منع الأم من الأغذية المحسسة بشدة كالبيض وحليب البقر والتي تفرز في حليب الإرضاع ويمكن أن تتسبب في تحريض الأعراض التحسسية عند الرضيع.

أما بالنسبة للمواد المحسسة المنتقلة بواسطة الهواء، والتي تتسبب غالبا بظهور التهاب الأنف التحسسي - الربو التحسسي - التهاب الملتحمة التحسسي ونادرا ما تزيد من شدة حالة الأكزيما عند بعض الأطفال، فيمكن التقليل من التعرض لها بمكافحة الغبار في المنزل، وخاصة في غرف النوم، حيث يجب أن تخلو غرفة نوم الأطفال المتحسسين تجاه سوس غبار المنزل من الأثاث الثقيل (الأرائك السميكة) والسجاد والألبسة المكدسة ويفضل أن تكون الأسرة والوسائد مغطاة بطبقة عازلة من المشمع الخاص، ويكون لمكافحة الرطوبة تأثير كبير في خفض يحوي المنزل من الفطريات والخمائر وأيضا من سوس غبار المنزل، كما أن للتنظيف الدوري لمكيفات الهواء. وخاصة تلك التي تستعمل الماء. مفعولا جيدا في خفض البكتيريا والفطريات التي تعيش في هذه الأماكن وتتسبب في أعراض مزمنة في العين والأنف وجهاز التنفس والتي تشكل بمجموعها ما يعرف بمتلازمة البيوت السيئة التكييف Sick building syndrom الذي ينتشر خاصة في المجمعات السكنية ذات أنظمة التكييف والتدفئة المغلقين.

ويكون لإبعاد الحيوان الأليف كالقطط والطيور أثر إيجابي في زوال الأعراض التحسسية إذا كانت مكونات في وبر ومفرزات هذه الحيوانات هي المسبب للتحسس.

أما الأدوية - وهذا موضوع مهم جدا - فيجب الدعوة دائما إلى عدم ممارسة المعالجة الذاتية وخاصة بالمسكنات والفيتامينات التي لا يعدها الكثيرون من الأدوية، والتي تتسبب في الكثير من الأعراض التحسسية الطابع، التي قد تكون بالغة الخطورة ويجب الانتباه خاصة إلى البنسلين ومشتقاته، حيث يمكن أن تتسبب هذه المجموعة في تفاعلات مميتة أحيانا (صدمة تحسسية)، كما أنه لا يجوز للإنسان المتحسس للبنسلين تناول البنسلينات الصنعية (كالأمبيسلين) والسيفالوسبورينات، حيث لوحظ تفاعل متصالب فيما بين هذه المجموعة لاحتوائها جميعا على حلقة مشتركة.

المعالجة

هناك أدوية كثيرة تستعمل لمعالجة هذا الطيف من الأمراض التحسسية كمضادات الهيستامين antihistamines، والكرومولين الذي يستعمل وقائيا في التحسس الصدري عند الأطفال، كما تفيد الستيروئيدات القشرية في الحالات الشديدة. وإن إدخال المركبات الستيروئيدية ذات التأثير الموضعي (بشكل بخاخ) أحدث تغيرا ثوريا في علاج أمراض كالتهاب الأنف التحسسي والربو القصبي، إذ مكننا من الإفادة من تأثيراتها العلاجية القوية وقلل إلى حد كبير من آثارها الجانبية. وتستعمل المعالجة بإزالة التحسس (حقن المادة المحسسة بجرعات متزايدة) أو ما يسمى بالمعالجة المناعية Immunotherapy بنجاح في التهاب الأنف التحسسي والحساسية الناجمة عن عقص الحشرات،وتفيد في بعض حالات الربو التحسسي.

وأخيرا فإنه يجب علينا أن نعي أن التطور الحضاري الإنساني بما أدخله إلى حياتنا من مواد كيميائية جديدة فرض على جهازنا المناعي ضغوطا تلاؤمية شديدة أدت إلى انكسار معاوضته خاصة عند المتأهبين وراثيا.

وأن تسهيل الحياة وزيادة رفاهيتها الذي نشهده اليوم لا يخلو من السلبيات، ولا يجوز تصديق حتى إعلان الشركات الصانعة عن خلو منتجاتها من المواد المحسسة، فأية جزئية في الطبيعة حتى ولو كانت فائقة الصغر والبساطة يمكن أن تتحول إلى مادة محسسة شديدة الفعالية بارتباطها بأحد بروتينات الجسم.

إن المستقبل يحمل لنا مزيدا من المركبات الصنعية المصممة لرفع مستوى الرخاء البشري فهل يكون هذا دون ثمن..؟

 

وسيم مزيك

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




بخاخة يدوية للعلاج بواسطة السيتروتيدات





الأدوية بطريقة عشوائية يحدث الكثير من أمراض الحساسية





ليس هذا وحشا من أفلام الخيال العلمي ولكنه "سوس غبار المنزل