مسيرة الحركة العربية للنقل والترجمة
في الثلاثين من هذا الشهر يحتفل العالم باليوم العالمي للترجمة، لما لها من أهمية في نقل المعرفة بين الشعوب على مر الحضارات العالمية، التي هي سلسلة تتداخل حلقاتها وتترابط إنجازاتها، فتأخذ كل حضارة من سالفتها لإكمال مسيرة الإنسان في مهمته الكبرى في الحياة لإعمار الأرض والعيش في سلام. ولا نعرف أنّ هناك حضارة نشأت من غير لغة خاصة بها أو كتابة أو تدوين. ذلك التدوين الذي ساعد الحضارات اللاحقة على أن تستفيد من السابقة، وما كانت هذه الاستفادة لترشد لولا وجود الترجمة، لفهم الأصول التي أدت إلى الإبداع، سواء كان هذا الإبداع في العلوم أو الفكر أو الثقافة أو الأدب، لترى ميراث الحضارة واضحاً على كل شعب من الشعوب المتحضرة.
احتك العرب قديماً، بحكم العلاقات التجارية، بالفرس والروم والأحباش، وتعاملوا مع السريان والأنباط، الذين كانت لغتهم قريبة جداً إلى اللغة العربية.
وبعد الفتوحات الإسلامية واحتكاك العرب المسلمين بشعوب وثقافات جديدة، تبين لهم أنّ هناك ضرورة لمعرفة ثقافات تلك الشعوب من خلال الحاجة إلى طلب العلم من ناحية، ولاتساع المدارك الفكرية في العلوم الأساسية من ناحية أخرى، والتي كان أهمها عند العرب المسلمين آنذاك الطب والفلك.
كانت الحاجة إلى الطب قد أتت من منطلق معرفة علاج الأمراض والعناية بصحة البدن. أمّا الحاجة إلى علم الفلك فإنّها تتجلى في حرص المسلم على العبادة، من خلال ضبط مواقيت الصلاة ومعرفة شهور السنة لتحديد الأشهر الحُرم والصيام والحجّ.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فقد اعتقد العرب بالتنجيم، لدرجة الإيمان أحياناً بأنّ حركة النجوم تؤثر في حياة الناس وأقدارهم، إلى أن وصل الأمر إلى أن يصطحب خلفاء بني أمية وبني العباس أطباء ومنجمين في حلّهم وترحالهم، حتى كان الخليفة منهم لا يُسيّر جيشاً إلا بعد معرفة حال النجوم.
ومهما يكن من قول، فإنّ الحضارات الإنسانية بصورة عامة كانت تهدف إلى فك رمزين أو سريّن من أسرار الحياة: الرغد والخلود!
من أجل ذلك اعتقد الإنسان القديم بوجود «نبتة الحياة» التي تشفي من جميع الأمراض والأعراض، ومنها الموت.
أما الاعتقاد الثاني فكان «حجر المغناطيس» الذي يحوّل المواد الخسيسة إلى معادن نفيسة. هكذا الإنسان! لا يقهره إلا الفقر والموت.
ومنذ بداية التدوين في الحضارات السالفة، كالسومرية والفرعونية والأكدية والكلدانية والآشورية والبابلية والفينيقية والفارسية واليونانية والرومانية، وحتى الحضارة الإسلامية، كلها كانت تبحث في فك رموز الحياة الأبدية، فلا يهنأ الإنسان إلا بالصحة والمال.
طال البحث وغارت الأسرار، فزاد البثّ وتعقدت الأفكار، وبدأ الإنسان في سبر غور كتب وأسفار من مضى، لعله يجد مفاتيح أقفال خزائن الأبدية وكنوز الرفاهية.
تُجْمِع المصادر التي بين أيدينا على أنّ بداية النقل والترجمة في الحضارة العربية الإسلامية كانت على يد الخليفة الأموي المعزول خالد بن يزيد، الذي أنفق من ماله كثيراً على ترجمة الكتب اليونانية، لعله يجد فيها بغية الباحث عن السلطة، تلك التي لا تتأتى إلا بالقوة والمال.
غاص خالد بن يزيد في بحثه بين الحبر والورق، ولم يزده بحثه إلا العناء والأرق، فضاع عمره بالصبابات والحُرَق.
تطور حركة النقل
كانت اللغة العربية قبل العصر العباسي لغة أدب، فلم تكن لغة للعلم، بل إنّ لغات أخرى تصدرت هذه المكانة لتحظى بهذه المرتبة. وقد نقل المسلمون عن السريانية والفارسية والهندية مباشرة إلى العربية، وذلك لمعرفة العرب بلسان تلك الأقوام. ويبدو أنّ العرب تعثّروا في فهم اللغة اليونانية وقراءة الهيروغليفية الفرعونية، وقد كانتا من قبل لغتين للعلم والأدب، فنقلوا الحكمة والمعرفة اليونانية عن طريق السريان.
وكانت اللغة السريانية، وهي من أسرة اللغات السامية، التي تتحدر منها العربية والعبرية، حلقة الوصل بين اللغتين العربية واليونانية.
كما عرفوا بعض أسرار الفراعنة الطبية عن طريق الأقباط. وكان الاهتمام بترجمة العلوم ونقلها إلى العربية اهتماماً فردياً، ثم تبنته الدولة الإسلامية فيما بعد، وشجعته لمّا رأت انعكاس الفائدة على الدولة والسلطان.
ودأب العرب على ترجمة الكتب في البلاد المفتوحة. ولم يقتصر الأمر على كتب الفلك والطب فقط، بل زادوا في ترجمة الكتب التي تناولت مواضيعها علوماً أخرى.
لقد رعت الدولة العباسية حركة الترجمة منذ عهد أبي جعفر المنصور (ت. 158هـ /775م)، فسار الخلفاء من بعده على سنّته.
وقد بدأ التقدم بحركة النقل والترجمة عند إنشاء «خزانة الحكمة»، التي عمل بها علماء كبار اختلفت مشاربهم الفكرية والثقافية، من أمثال الفضل بن نوبخت، وهو فارسي الثقافة، ويوحنا بن ماسويه، وكان مسيحياً سريانياً عالماً بكتب اليونان. وكانت الكتب في تلك الخزانة، على ما يبدو، حكراً على رجال البلاط وخاصة السلطان. ولم تزدهر الحركة إلا في عصر المأمون، الذي كان يساوم أعداءه ضمن المعاهدات التي يبرمها معهم على اقتناء أو استنساخ كتب العلم.
ويذكر المؤرخون أنّ المأمون قام بذلك مع ملك الروم وصاحب جزيرة قبرص. وبهذا بدأ سيل الترجمات التي أثرت الحياة الفكرية في مجتمع الدولة الإسلامية، حيث بدأ نقل وترجمة كتب العلوم العملية والتجريبية.
طرق النقل والترجمة
الترجمة إمّا أن تكون حرْفية أو معنوية اصطلاحية. أمّا الترجمة الحرفية، فهي تعتمد أساساً على ترجمة مفردات الجملة ثم وضعها بصيغة لا تختلف عن المادة العلمية الأصلية التي كتب بها المؤلف كتابه.
وهذه الطريقة ذات عيوب جمّة، أهمها ركاكة تركيب الجمل، واختلافات الصور البلاغية والتعابير الجمالية من لغة لأخرى، وهنا يلتزم المترجم بترجمة كل مفردة على حدة، فإذا لم يكن للكلمة مرادف باللغة الأخرى، عجز المترجم عن صياغة الجملة بالدقة التي يتطلبها السياق اللفظي، فتكون الترجمة رديئة، والمعاني قلقة مضطربة.
أمّا الترجمة المعنوية الاصطلاحية، فهي التي تقوم على ترجمة معاني الجُمل دون الألفاظ. وبهذه الطريقة يستطيع المترجم مجاراة المعنيين العام والخاص، وتقديم الفكرة الأساسية للنص دون الإخلال بمقاصد المؤلف الأصلي للكتاب، خاصة أنّ كثيراً من المترجمين الذين ترجموا عن اليونانية، لا يعرفون اليونانية أصلاً وإن عرفها بعضهم، فقد كان أولئك لا يجيدون العربية بفصاحة. لذا، كانت الترجمة في تلك الأحوال تنقل إلى السريانية، ومنها تترجم مرة أخرى إلى العربية.
الترجمة والمترجمون
اشتهر عدد من العلماء بترجمة الكتب من الثقافات المختلفة إلى اللغة العربية. ويزودنا ابن النديم بقوائم لأسماء الناقلين والمترجمين من اللغات الأجنبية، اليونانية والفارسية والهندية والنبطية إلى العربية تحت عنوان «أسماء النقلة من اللغات إلى اللسان العربي». ثم ألحق ذلك بقوائم وشروحات عن كثير من الكتب المترجمة.
الكتب التي تُرجمت من اليونانية
ولعل أكثر الكتب التي ترجمت من اليونانية إلى العربية هي كتب الفلسفة والطب، وكانت تسمى «كتب الحكمة». ومن أشهر العلماء اليونانيين الذين تُرجم لهم أفلاطون وأرسطوطاليس من الفلاسفة، وجالينوس وأبقراط من الأطباء، وديموقريطس وفيثاغورث وأرخميدس من الرياضيين.
وقد تخصصت أسر كاملة، عمل أبناؤها على نقل وترجمة تلك العلوم إلى العربية، منها آل بختيشوع وآل حنين، وهم من المسيحيين، وآل ماسرجويه اليهود، وآل ثابت بن قرة الصابئة.
الترجمة عن الفارسية
تأثر العرب أكثر ما تأثروا بالأدب الفارسي، ثقافة وفناً. ويدخل ضمن إطار الثقافة العقائد الفكرية ونظم الحُكم والسياسة. أمّا الفنّ فقد انعكس على الحياة الاجتماعية في الغناء والموسيقى والمأكل والملبس.
ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل نرى تأثيراً كبيراً في فنون الشعر والقصص. وإن كان شعر الملاحم الفارسية الطويل لم يلقَ عناية عند العرب، فقد حظي النثر بمرتبة عالية رفيعة، لذا، نرى انتشار «كليلة ودمنة» في المجتمعات العربية، ولا نجد لشاهنامة الفردوسي مثل هذا الأثر، حيث كان تداولها مقصوراً على الخاصة من المثقفين.
ويورد ابن النديم في «فهرسه» جملة من أسماء المترجمين الذين ترجموا الفنون والأدب من الفارسية إلى العربية، من أشهرهم عبدالله بن المقفّع، والمؤرخ الشهير أحمد بن يحيى البلاذري.
ولم يقف الأمر عند ترجمة الكتب الفارسية الأدبية، بل سعى العلماء المسلمون، خاصة أولئك الذين كانوا من أصول فارسية، إلى ترجمة ما يقع تحت أيديهم من الكتب العلمية إلى اللغة العربية.
يقول ابن خلدون:
من الغريب الواقع أنّ حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم من العجم، وليس في العرب حملة علم، لا من العلوم الشرعية ولا من العلوم العقلية إلاّ في القليل النادر، وإن كان منهم العربي في نسبته فهو أعجمي في لغته ومرباه ومشيخته.
ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلّا الأعاجم، وظهر مصداق قوله : «لو تعلّق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس».
ورغم مبالغة ابن خلدون في ذلك، فإن رأيه كان يعكس مفهوم العالم المتحضر، الذي كان يكره الرجوع القهقرى إلى البداوة. ولأنّه مقاوم لذلك الرجوع أو الرجعية الحضارية، فقد ناصر في فكرته الفرس المتحضرين على بعض العرب البداة، خاصة أنّه غالباً ما يذكر كلمة «عرب»، ويعني بها «الأعراب». ولم يحسب أن من الأعراب من هم أصحاب علم وفضل، وقد ساهم بعض منهم في بناء الحضارة العربية الإسلامية.
الترجمة عن اللغة الهندية
أمّا الترجمة عن اللغة الهندية، فقد كانت تعنى جلّ ما عنت بالحساب والفلك والطب والصيدلة، خاصة فيما يتعلق بتركيب الأدوية التي كان معظمها يأتي تركيبه من النبات.
إلا أنّ بدايات الترجمة عن الهندية كانت في علم الفلك. تأتي تلك البدايات في الرغبة الجامحة لخلفاء بني العباس في معرفة الطالع وأسرار النجوم.
لقد كان العباسيون، والأمويون من قبلهم، يؤمنون بأنّ للنجوم أثراً على تصرف الإنسان وأفعاله. لذا كانت حاجتهم كبيرة إلى الفلكي العالم بالنجوم وحركاتها، وهو من يطلق عليه اسم المُنَجّم. فعندما حضر وفدٌ هندي قادم من السّند في زيارة إلى بغداد عام 154هـ /771م، كان يحمل معه نسخة مختصرة لكتاب قيّم في معرفة النجوم تم تأليفه في عام 628م، وعندما علم أبو جعفر المنصور بمحتوى الكتاب، أمر بنقله وترجمته إلى اللغة العربية.
وقد اشتهر هذا الكتاب باسم كتاب السندهند، وهو تحريف لاسم «سادهانتا» أي «المعرفة».
ويذكر الجاحظ في «البيان والتبيين» أنّ يحيى بن خالد البرمكي قد جلب أطباء هنوداً استخدمهم فيما بعد لعلاج الخلفاء والخاصة من شخصيات البلاط العباسي.
ويبدو أنّ هؤلاء الأطباء قد درّبوا النجباء من طلبة علمهم وعلموهم بعض المصطلحات العلمية الهندية، فترجموا فيما بعد عن الهنود. كما تعلّم هؤلاء الأطباء بطول إقامتهم في الدولة الإسلامية اللغة العربية، وإن كانت بلكنة ومن دون فصاحة.
ومن أشهر أولئك الأطباء الهنود الذين ترجموا علومهم إلى العربية منكه بازيكر، وقليرقل، وسندباد، وابن دهن، وابن وحشية.
تراخٍ فكري
على مر عصور التاريخ الإسلامي لم نر ترجمات أسست للعلوم وأكملت مسيرة الحضارة، كتلك التي كانت في العصر العباسي الأول، لتصبح اللغة العربية هي لغة العلم في ذلك العصر.
ثم أتت فترة من التراخي الفكري، استمرت حتى القرن السادس الهجري، تصاعدت فيها صيحات الصحوة بين حين وآخر، لكنها خُنقت وأُسكتت بحجة الدين والإيمان.
وعندما سطع في الأندلس نجم ابن رشد، وتم تداول كتبه، بدأ التغيير في الفكر العالمي من خلال ترجماته لكتب أرسطوطاليس. لقد حافظ ابن رشد، ربما من دون أن يدري، على أفكار وكتب أرسطو من الضياع في مقبرة المجهول، وتأثر تأثراً كبيراً بالفيلسوف اليوناني ومصنفاته الموسوعية، فعكف على شرحها في الوقت الذي كانت فيه أوربا في عصور ظلامها لا تعرف عن أرسطو شيئاً.
وحين ترجمت كتب أرسطو إلى اللاتينية ثم الفرنسية ومنها إلى الإنجليزية، أخذ عنها المفكرون في عصر النهضة منظومتهم الفكرية في بناء الإنسان والدولة، ولم ينسوا فضل ابن رشد في ذلك. في الوقت نفسه، عارضت قوى الرجعية المتشددة في الأندلس فلسفة ابن رشد آنذاك، فكفروه وأحرقوا كثيراً من كتبه، وكان ذلك سبباً من أسباب تراجع المنظومة الفكرية للدولة العربية الإسلامية، ومن ثم انهيار الدولة.
إنّ المنهج الرشدي كان يقوم أساساً بالارتكاز على مخرجات الإبداع الإنساني العلمي والفكري، ومن ذلك الأساس يتم بناء المنظومة الفكرية للحاضر والمستقبل بما يتوافق وروح العصر الجديد.
منهج جديد
نرى أنّ علماء الغرب، مع الأسف، قد استفادوا من هذا المنهج الفكري، وبنوا عليه منهجاً جديداً يتواكب وروح العصر، فتطورت دولهم وتقدمت، واستمرت حضارتهم، بينما لا نزال نحن العرب، وابن رشد منّا وقد كان فينا، نتراجع حيناً ونتصارع حيناً، بسبب المحاولات غير المنقطعة في التشكيك بابن رشد وكل ما قدمه من فكر مؤسس على إعمال العقل.
ولا تزال محاولة تقويض المنظومة الرشدية قائمة إلى الآن، بهدف فرض ظلامية العصور الوسطى الأوربية على العرب والعالم الإسلامي، وما زادنا ذلك إلا رهقاً.
وها هم العرب اليوم، ينتبهون إلى أهمية الترجمة، لتنشط عملية ترجمة العلوم والثقافة والأدب في العصر الحديث والمعاصر. إنّ أوقع الترجمات العربية تلك التي قام بها ثلة من الباحثين العرب المخلصين.
وعلى الرغم من المحاولات الجادة من بعض الدول العربية في إنشاء مؤسسات خاصة للترجمة ونقل العلوم والثقافة من أمهات الكتب الأجنبية، نرى تحيزاً ما في اختيار ما يُترجم من كتب. ويأتي هذا الانحياز من جوانب عدة، سياسية أو دينية أو ثقافية، السبب الذي يجعل قوائم الكتب المترجمة تختنق بعناوين كتب غثة لا تحظى باهتمام القراء العرب، ولا حتى المثقفين منهم.
من هنا كانت الترجمة الفردية أوقع أثراً، لنرى يحيى الخشاب يترجم أعظم الكتب عن الفارسية، وزكي نجيب محمود ومحمد عبدالهادي أبوريدة ومحمد بدران ومحمد محمد عناني عن الإنجليزية، وعادل زعيتر وعبدالرحمن بدوي عن الألمانية والفرنسية، وكثيرون آخرون أغنوا المكتبة العربية، وملأوا فراغات المعرفة بين رفوفها ■