أمين الريحاني في قراءة جديدة

أمين الريحاني في قراءة جديدة

مرّت في العام الماضي مائة وأربعون سنة على ولادة أمين الريحاني (1876م - 1940م) المفكر النهضوي وأول اسم أدبي عربي تألق في أمريكا الشمالية في أواخر القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين. طاف في العواصم العربية ونادى بالحرية والوحدة، وصادق الملوك والأمراء وجاب الجزيرة العربية أكثر من مرة وكتب عنها في كتابه «ملوك العرب» وفي سواه. ولم يقتصر مشروعه على الدعوة إلى التغيير السياسي والقومي، بل دعا كذلك إلى تغيير آخر جذري في الأدب، وإليه تُنسب ريادة الشعر الحرّ في العربية. ويعتبره الباحثون واحداً من أهم الشخصيات الأدبية والفكرية في الوطن العربي في العقود الأربعة الأولى من هذا القرن.
وحوله تنشر «العربي» في هذا العدد مقالين، أولهما لابن شقيقه الدكتور أمين ألبرت الريحاني والثاني للدكتورة نجمة حجار، وهما باحثان وأكاديميان من لبنان.

بينما‭ ‬كنتُ‭ ‬مُنكَبّاً‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬أعمال‭ ‬أمين‭ ‬الرِّيحاني‭ ‬العربيّة‭ ‬الكاملة،‭ ‬وجدْتُ‭ ‬نفسي‭ ‬مُلزماً‭ ‬بقراءة‭ ‬نص‭ ‬معيّن‭ ‬كَنَصّ‭ ‬‮«‬المدينة‭ ‬العُظمى‮»‬،‭ ‬مثلاً،‭ ‬بصورة‭ ‬مستقلّة‭ ‬أوّلاً‭ ‬ثم‭ ‬قراءة‭ ‬مماثلة،‭ ‬أو‭ ‬مختلفة،‭ ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬كتاب‭ ‬الرِّيحانيّات‭ ‬الذي‭ ‬ينتمي‭ ‬إليه‭ ‬هذا‭ ‬النص،‭ ‬ثم‭ ‬قراءة‭ ‬ثالثة‭ ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬أعمال‭ ‬الرِّيحاني‭ ‬العربيّة‭ ‬الكاملة،‭ ‬وصولاً‭ ‬أحياناً‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬رابعة‭ ‬وأخيرة‭ ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬أعماله‭ ‬الإنجليزيّة‭ ‬ذات‭ ‬الصلة‭ ‬بالموضوع‭ ‬أو‭ ‬بالغرض‭ ‬الأدبي‭ ‬المماثل‭. ‬

وعليه‭ ‬وجدْتُ‭ ‬تدريجيًّا‭ ‬أنّني‭ ‬أمام‭ ‬جدرانية‭ ‬جديدة،‭ ‬متشكّلة‭ ‬من‭ ‬مجموعة‭ ‬لوحات‭ ‬ملوّنة،‭ ‬متآلفة‭ ‬حيناً‭ ‬ومتباينة‭ ‬حيناً،‭ ‬لكنّها‭ ‬متحاكية‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬حين‭. ‬صرتُ‭ ‬أرى‭ ‬معالم‭ ‬وجه‭ ‬المؤلّف‭ ‬من‭ ‬زوايا‭ ‬مختلفة،‭ ‬وأرى‭ ‬أسارير‭ ‬ذلك‭ ‬الوجه‭ ‬بعيون‭ ‬متعدّدة‭. ‬صرْت‭ ‬أقرأ‭ ‬ببصيرتي‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أقرأ‭ ‬ببصري‭. ‬صارت‭ ‬جدرانيّة‭ ‬الرِّيحاني‭ ‬مكتملة‭ ‬أمامي‭ ‬بتفاصيلها‭ ‬وأبعادها،‭ ‬صارت‭ ‬أسارير‭ ‬وجهه‭ ‬موحية‭ ‬أكثر‭ ‬منها‭ ‬مرئيّة‭. ‬وما‭ ‬أقدّمه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المقالة‭ ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الأمثلة‭ ‬من‭ ‬نماذج‭ ‬متعددة‭ ‬لما‭ ‬ذَكَرْت‭.‬

فكلّما‭ ‬توغّل‭ ‬القارئ‭ ‬في‭ ‬مطالعة‭ ‬الرِّيحاني‭ ‬انتابه‭ ‬شعور‭ ‬بأن‭ ‬فَيلسُوفَ‭ ‬الفُرَيْكَة‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬بالعربيّة‭ ‬عن‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسيّة‭  ‬إلا‭ ‬ليكتب‭ ‬بالإنجليزيّة‭ ‬عن‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعرّي‭. ‬وما‭ ‬وَلَجَ‭ ‬النقد‭ ‬الفكريّ‭ ‬الاجتماعيّ‭ ‬والدينيّ‭ ‬بالعربيّة‭ ‬إلا‭ ‬ليستريح‭ ‬شعريّاً‭ ‬في‭ ‬رحاب‭ ‬القصيدة‭ ‬الإنجليزيّة‭. ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬دخل‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬المقالة‭ ‬الفلسفيّة‭ ‬والأدبيّة‭ ‬بالعربيّة‭ ‬بادَرَ‭ ‬إلى‭ ‬الرواية‭ ‬الفلسفيّة‭ ‬بالإنجليزيّة‭. ‬أَدرَكَ‭ ‬مبكراً‭ ‬أنّه‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬العالَمَين‭ ‬معاً،‭ ‬وأنّه‭ ‬يرِثُ‭ ‬الحضارتين‭ ‬معاً،‭ ‬وأنّ‭ ‬لغةَ‭ ‬كلٍّ‭ ‬منهما‭ ‬لغتُه،‭ ‬وفِكْرَ‭ ‬كلٍّ‭ ‬منهما‭ ‬فِكْرُه،‭ ‬وأدبَ‭ ‬كلٍّ‭ ‬منهما‭ ‬أدبُه‭.  ‬ألم‭ ‬يقل‭ ‬عن‭ ‬‮«‬هويّته‭ ‬الفكرية‮»‬‭ ‬إنّ‭ ‬لها‭ ‬‮«‬كُوخاً‭ ‬في‭ ‬الفُرَيْكَة‭ ‬ومسرحاً‭ ‬في‭ ‬العالم»؟‭ ‬ألم‭ ‬يحتدم‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬لغته‭ ‬العربيّة‭ ‬ولغته‭ ‬الإنجليزيّة‭ ‬على‭ ‬مداد‭ ‬قلَمِه،‭ ‬أدَباً،‭ ‬وفلسفةً،‭ ‬واجتماعاً،‭ ‬وسياسة؟‭ ‬ألم‭ ‬يُصَرح‭ ‬غيرَ‭ ‬مرّة‭ ‬بأنه‭ ‬يشعر‭ ‬وكأنّه‭ ‬بين‭ ‬ذَوِيه،‭ ‬سواء‭ ‬أكان‭ ‬مُقيماً‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬أم‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬أم‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬العربيّة؟‭ ‬ألم‭ ‬يصرح‭ ‬بأنه‭ ‬ما‭ ‬‮«‬كَتَبَ‭ ‬ليعيش‮»‬،‭ ‬وما‭ ‬‮«‬عاش‭ ‬ليكتب‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬‮«‬عاش‭ ‬وكَتَب‮»‬‭ ‬كما‭ ‬دَوَّنَ‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬مقالاته؟‭ ‬ومثلما‭ ‬تتداخل‭ ‬لدى‭ ‬أهل‭ ‬الفكر‭ ‬والقلم‭ ‬شؤون‭ ‬الأدب‭ ‬بشؤون‭ ‬السياسة‭ ‬والاجتماع‭ ‬والفلسفة،‭ ‬كذلك‭ ‬تداخلَتْ‭ ‬هذه‭ ‬الشؤون‭ ‬في‭ ‬كتابات‭ ‬الرِّيحاني‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أنّكَ‭ ‬تواكبه‭ ‬وتكاد‭ ‬تلمس،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬استعنْتَ‭ ‬لحظة‭ ‬بقلمه،‭ ‬أثرَ‭ ‬الفلسفة‭ ‬في‭ ‬كتاباته‭ ‬الاجتماعيّة،‭ ‬أو‭ ‬أثرَ‭ ‬السياسة‭ ‬في‭ ‬كتاباته‭ ‬الأدبيّة،‭ ‬كذلك‭ ‬تصادف‭ ‬أثرَ‭ ‬الشِّعر‭ ‬في‭ ‬نثره‭ ‬وأثرَ‭ ‬النثر‭ ‬في‭ ‬شِعره،‭ ‬كما‭ ‬ينجلِي‭ ‬لكَ‭ ‬أثرُ‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬كتاباته‭ ‬الإنجليزيّة،‭ ‬وأثرُ‭ ‬الإنجليزيّة‭ ‬في‭ ‬كتاباته‭ ‬العربيّة‭.  

أخَذَ‭ ‬صاحب‭ ‬الرِّيحانِيّات‭ ‬بمدَنِيّة‭ ‬الحديد‭ ‬والمعادِن،‭ ‬حَذَّرَ‭ ‬من‭ ‬مخاطر‭ ‬التمادي‭ ‬فيها،‭ ‬أدركَ‭ ‬دَور‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬رفض‭ ‬الأشياء‭ ‬أو‭ ‬قبولها‭ ‬وتنفيذها‭. ‬استذْوَقَ‭ ‬طعم‭ ‬الحرّية،‭ ‬توقفَ‭ ‬عند‭ ‬فلسفة‭ ‬كانط‭ ‬وهيغل‭ ‬وهَكْسْلِي‭ ‬وَسْبِنْسِر،‭ ‬طالعَ‭ ‬تُولستُوي،‭ ‬تأثّرَ‭ ‬بِوُلْت‭ ‬وِتْمَن،‭ ‬عادَ‭ ‬إلى‭ ‬ابن‭ ‬سهل‭ ‬الأندلُسي،‭ ‬قارنَ‭ ‬بين‭ ‬القدّيس‭ ‬أوغسطينوس‭ ‬والغزالي،‭ ‬استهواه‭ ‬الصخَب‭ ‬والضجيج‭ ‬المتصاعد‭ ‬مِنْ‭ ‬أروِقَة‭ ‬نيويورك‭ ‬وجاداتها،‭ ‬ذَوَّبَ‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬هويَّته،‭ ‬وعادَ‭ ‬إلى‭ ‬الفُرَيكَة‭ ‬بوجهٍ‭ ‬آخر‭ ‬فبَدَتْ‭ ‬له‭ ‬بوجهِها‭ ‬الجديد‭. ‬رأى‭ ‬من‭ ‬نافذتها‭ ‬آلامَ‭ ‬الشرقِ‭ ‬وعذاباتِه،‭ ‬أحرقَهُ‭ ‬تخبُّط‭ ‬الشرقِيّين‭ ‬في‭ ‬معارج‭ ‬العبودية،‭ ‬أحزنَهُ‭ ‬تَفَشّي‭ ‬التعصّب‭ ‬بين‭ ‬أبناء‭ ‬وطنه،‭ ‬أدماه‭ ‬النِفاق‭ ‬السياسي،‭ ‬هرَعَ‭ ‬إلى‭ ‬الأودية‭ ‬والجبال‭ ‬متأمّلاً‭ ‬مُعْتزِلاً،‭ ‬وعاد‭ ‬بحُلْمه‭ ‬بـِ‭ ‬‮«‬الثورة‭ ‬الأدبية‮»‬،‭ ‬بـِ‭ ‬‮«‬رجل‭ ‬الشعب‮»‬،‭ ‬بـِ‭ ‬‮«‬مناهج‭ ‬الحياة‮»‬،‭ ‬بـِ‭ ‬‮«‬‭ ‬الثورة‭ ‬الخُلُقية‮»‬،‭ ‬بـِ‭ ‬‮«‬الأخلاق‮»‬‭ ... ‬بـِ‭ ‬‮«‬المدينة‭ ‬العُظْمَى‮»‬‭. ‬وعصَفَت‭ ‬في‭ ‬أعماقه‭ ‬‮«‬روحُ‭ ‬الثورة‮»‬‭ ‬و«روحُ‭ ‬اللغة‮»‬‭ ... ‬و«روحُ‭ ‬هذا‭ ‬الزمان‮»‬‭.‬

في‭ ‬مرحلة‭ ‬أولى،‭ ‬جمع‭ ‬عُصارة‭ ‬فكره‭ ‬في‭ ‬الرِّيحانيّات،‭ ‬وهتاف‭ ‬الأودية،‭ ‬وكتاب‭ ‬خالد،‭ ‬والقوميّات،‭ ‬ووجوه‭ ‬شرقيّة‭ ‬غربيّة،‭ ‬وأدب‭ ‬وفنّ،‭ ‬وبذور‭ ‬للزارعين‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النتاج‭ ‬يتَبَدّى‭ ‬العقلُ‭ ‬فاعلاً‭ ‬في‭ ‬‮«‬التساهل‭ ‬الدينيّ‮»‬،‭ ‬كشّافاً‭ ‬في‭ ‬‮«‬رجل‭ ‬الشعب‮»‬،‭ ‬رؤيوياً‭ ‬في‭ ‬‮«‬المدينة‭ ‬العُظْمَى‮»‬‭. ‬وتتّضح‭ ‬الحرّية‭ ‬نِبراساً‭ ‬‮«‬مِنْ‭ ‬على‭ ‬جسرِ‭ ‬برُوكْلين‮»‬،‭ ‬ودَيدَناً‭ ‬في‭ ‬‮«‬روح‭ ‬الثورة‮»‬‭ ‬و«الثورة‭ ‬الخُلُقية‮»‬‭. ‬وتنجلى‭ ‬الفلسفة‭ ‬المثالية‭ ‬واسطة‭ ‬العِقد‭ ‬في‭ ‬‮«‬الأخلاق‮»‬،‭ ‬وجوهر‭ ‬الكلام‭ ‬في‭ ‬‮«‬مناهج‭ ‬الحياة‮»‬،‭ ‬ومحوراً‭ ‬رئيساً‭ ‬من‭ ‬محاور‭ ‬‮«‬قيمة‭ ‬الحياة‮»‬‭. ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المُقتَرَب‭ ‬نفهم‭ ‬مقالته‭ ‬حول‭ ‬‮«‬الحرّية‭ ‬والتهذيب‮»‬،‭ ‬ونَعِي‭ ‬حقيقةَ‭ ‬رسالته‭ ‬‮«‬إلى‭ ‬إخوانِ‭ ‬التساهُل‮»‬‭. ‬هكذا‭ ‬نعى‭ ‬حُلمَه‭ ‬بـِ‭ ‬‮«‬الثورة‭ ‬الأدبيّة‮»‬‭ ‬المبنيّة‭ ‬على‭ ‬أركان‭ ‬العقل‭ ‬والحرّية‭ ‬والحداثة‭ ‬والفلسفة‭ ‬المثاليّة‭.‬

أثارت‭ ‬مواقف‭ ‬الرِّيحاني‭ ‬في‭ ‬العقدين‭ ‬الأوّلين‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬عاصفة‭ ‬من‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬المتواصل‭ ‬بين‭ ‬معارض‭ ‬ومؤيّد‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬الأدباء‭ ‬وأهل‭ ‬الصحافة‭ ‬ورجال‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬والعالم‭ ‬العربي،‭ ‬ووصلت‭ ‬أصداء‭ ‬تلك‭ ‬العاصفة‭ ‬بعض‭ ‬أطراف‭ ‬العالم،‭ ‬منها‭ ‬رأي‭ ‬للمستعرب‭ ‬الروسي‭ ‬إغناطيوس‭ ‬كراتشكوفسكي‭. ‬ويستنتج‭ ‬الباحث‭ ‬من‭ ‬النقاط‭ ‬التي‭ ‬سجّلها‭ ‬كراتشكوفسكي،‭ ‬للرّيحاني‭ ‬أو‭ ‬عليه،‭ ‬أنّه‭ ‬قد‭ ‬أدرك‭ ‬حقيقة‭ ‬الدور‭ ‬هو‭ ‬الفكريّ‭ ‬والأدبيّ‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬‮«‬فيلسوف‭ ‬الفُرَيْكَة‮»‬‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬وأبرز‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الدَور‭ ‬محاولة‭ ‬ردم‭ ‬الهوة‭ ‬النفسية‭ ‬العميقة‭ ‬بين‭ ‬شرق‭ ‬وغرب،‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬يبقى‭ ‬أحدهما‭ ‬وقفاً‭ ‬على‭ ‬أبنائه،‭ ‬بل‭ ‬يستحيل‭ ‬الاثنان‭ ‬معاً‭ ‬ملكاً‭ ‬للإنسانية‭ ‬وجزءاً‭ ‬لا‭ ‬يتجزّأ‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬الشخصيّ‭ ‬والجماعيّ‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬

وأهمية‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬النقديّ‭ ‬الذي‭ ‬يربط‭ ‬الأدب‭ ‬بالغرض‭ ‬الفلسفيّ‭ ‬والإنساني‭ ‬أنه‭ ‬يفسر‭ ‬أدب‭ ‬الرِّيحاني‭ ‬بِبُعده‭ ‬القومي‭ ‬العربي‭ ‬الملتزم،‭ ‬وبلُغتَيه‭ ‬العربية‭ ‬والإنجليزية،‭ ‬وبجميع‭ ‬فنونه‭ ‬الأدبية،‭ ‬ليجعل‭ ‬منه‭ ‬أدباً‭ ‬واقعياً‭ ‬عقلانياً‭ ‬روحيًّا،‭ ‬وأدباً‭ ‬وطنياً‭ ‬قوميًّا،‭ ‬وفلسفة‭ ‬مثاليّة‭ ‬إنسانيّة‭ ‬في‭ ‬آن،‭ ‬يجعل‭ ‬منه‭ ‬‮«‬وقرحيّة‮»‬‭ ‬عربيّة‭ ‬جديدة‭ (‬مستلّة‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬والروح‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬‮«‬صوفيّة‭ ‬الواقع‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬The‭ ‬Mysticism‭ ‬of‭ ‬Reality‮»‬‭ ‬كما‭ ‬يسمّيها‭ ‬الرِّيحاني‭ ‬بالإنجليزيّة‭). ‬هو‭ ‬أدبٌ‭ ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬الهُزال‭ ‬العاطفي‭ ‬المائع‭ ‬كما‭ ‬عن‭ ‬الزخرف‭ ‬اللفظي‭ ‬الأجوف،‭ ‬أدبٌ‭ ‬ينقلُ‭ ‬همومَ‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭ ‬إلى‭ ‬العالم،‭ ‬ويبث‭ ‬شجون‭ ‬الفكر‭ ‬الإنساني،‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يُسَمّيه‭ ‬بِـ‭ ‬‮«‬الروح‭ ‬الكوني‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬The‭ ‬Universal‭ ‬Spirit‮»‬،‭ ‬إلى‭ ‬البشرية‭ ‬جمعاء‭. ‬لذلك‭ ‬نجد‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الرِّيحاني‭ ‬في‭ ‬طليعة‭ ‬المحدثين‭ ‬والداعين‭ ‬إلى‭ ‬الحداثة‭ ‬العربيّة‭ ‬الفكرية‭ ‬والأدبية،‭ ‬شعراً‭ ‬ونثراً‭. ‬

أما‭ ‬الالْتِزَامُ‭ ‬القَوْمِيّ‭ ‬وَفَلْسَفَتُه‭ ‬فيلحظ‭ ‬الباحث‭ ‬أنّ‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬قد‭ ‬التفتوا‭ ‬إلى‭ ‬كتاب‭ ‬ملوك‭ ‬العرب‭ ‬منفصلاً‭ ‬عن‭ ‬الكتاب‭ ‬الرديف،‭ ‬أي‭ ‬القوميّات؛‭ ‬كما‭ ‬أهمل‭ ‬قسم‭ ‬منهم‭ ‬فصولاً‭ ‬من‭ ‬ملوك‭ ‬العرب‭ ‬تتعلّق‭ ‬بالقوميّة‭ ‬العربيّة‭ ‬مفهوماً‭ ‬وهدفاً‭ ‬وسعياً‭ ‬تطبيقيّا‭ ‬وغايةً‭ ‬بذاتها‭ ‬من‭ ‬غايات‭ ‬الرِّيحاني‭ ‬السياسيّة‭ ‬المثاليّة‭. ‬ولم‭ ‬يعط‭ ‬بحث‭ ‬‮«‬روح‭ ‬العروبة‮»‬‭ ‬في‭ ‬القوميّات‭ ‬ومقدمتَا‭ ‬قلب‭ ‬العراق‭ ‬وفيصل‭ ‬الأول‭ ‬ما‭ ‬تستحقّه‭ ‬من‭ ‬الدراسة‭ ‬والمناقشة‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الالتزام‭ ‬القومي‭ ‬العربي‭ ‬عند‭ ‬فيلسوف‭ ‬الفريكة‭. ‬فإن‭ ‬كانت‭ ‬ثنائيّة‭ ‬‮«‬روح‭ ‬الشرق‭ ‬ذ‭ ‬عقل‭ ‬الغرب‮»‬‭  ‬جوهر‭ ‬الفلسفة‭ ‬‮«‬الوَقْرَحيّة‮»‬‭ ‬عند‭ ‬الرِّيحاني،‭ ‬فهذه‭ ‬الفلسفة‭ ‬بالذات‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬دفعته‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الوجه‭ ‬السياسيّ‭ ‬لتلك‭ ‬الفلسفة،‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬حثّته‭ ‬على‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬روح‭ ‬العروبة‮»‬‭ ‬النقيّة‭ ‬الصافية،‭ ‬الأخلاقيّة‭ ‬المثاليّة‭ ‬والواقعيّة‭ ‬العمليّة،‭ ‬وما‭ ‬تستوجبه‭ ‬هذه‭ ‬الخصال‭ ‬مِن‭ ‬التزام‭ ‬قوميّ‭. ‬حلم‭ ‬خالد‭ ‬يتحوّل‭ ‬تدريجيًّا‭ ‬إلى‭ ‬رسالة،‭ ‬والرسالة‭ ‬تستحيل‭ ‬ضرباً‭ ‬مِن‭ ‬الرؤية‭ ‬الفلسفيّة‭ ‬الداعية‭ ‬إلى‭ ‬نهضة‭ ‬قوميّة‭ ‬فيتحقّق‭ ‬‮«‬الربيع‭ ‬العربيّ‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬بشّر‭ ‬به‭ ‬خالد‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1911‭.  ‬جاء‭ ‬في‭ ‬مقدِّمة‭ ‬ملوك‭ ‬العرب‭: ‬‮«‬مِن‭ ‬الأحلام‭ ‬ما‭ ‬يصبحُ‭ ‬جزءاً‭ ‬مِن‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان‭ ‬فلا‭ ‬تنفكّ‭ ‬تزعجه‭ ‬وإن‭ ‬شاخت،‭ ‬فتحرضه‭ ‬وتستحثُّه‭ ‬حتّى‭ ‬يسعى‭ ‬في‭ ‬تحقيقها‮»‬‭. ‬وبعد‭ ‬‮«‬السعي‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬الأحلام‮»‬،‭ ‬بعد‭ ‬الرحلة‭ ‬العربيّة‭ ‬الشهيرة،‭ ‬بل‭ ‬الرحلات،‭ ‬وبعد‭ ‬المؤلّفات‭ ‬التي‭ ‬نتجت‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬ملوك‭ ‬العرب‭ ‬حتى‭ ‬المغرب‭ ‬الأقصى،‭ ‬مروراً‭ ‬بتاريخ‭ ‬نجد‭ ‬الحديث،‭ ‬وقلب‭ ‬العراق،‭ ‬وفيصل‭ ‬الأوّل،‭ ‬ظلّ‭ ‬الرِّيحاني‭ ‬منتبهاً‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يرافق‭ ‬ويطابق‭ ‬الفعل‭ ‬قول‭ ‬وتأويل‭ ‬وتنظير‭ ‬وفلسفة‭ ‬سياسيّة،‭ ‬فكانت‭ ‬‮«‬روح‭ ‬العروبة‮»‬‭ ‬لديه‭ ‬هي‭ ‬المحجّة؛‭ ‬وها‭ ‬نحن‭ ‬نوجزها‭ ‬بأربع‭ ‬خصال‭: ‬قدرةُ‭ ‬البقاء،‭ ‬الانتصارُ‭ ‬على‭ ‬الموت،‭ ‬مغالبةُ‭ ‬شظَف‭ ‬الحياة،‭ ‬دَيْدَنُ‭ ‬الشّمَمِ‭ ‬والإباء‭ ‬والشجاعةِ‭ ‬والوفاء‭... ‬والحرّيّة‭. ‬

غير‭ ‬أنّ‭ ‬عروبة‭ ‬الرِّيحاني‭ ‬ظلّت‭ ‬متميّزة‭ ‬بالعلمانيّة‭ ‬وبالانفتاح‭ ‬على‭ ‬سائر‭ ‬الشعوب‭ ‬والأمم‭ ‬بحيث‭ ‬تتشكّل‭ ‬فلسفته‭ ‬حول‭ ‬‮«‬المدينة‭ ‬العُظمى‮»‬‭ ‬الصالحة‭ ‬للعرب‭ ‬ولسائر‭ ‬الشعوب‭ ‬والأمم‭ ‬حول‭ ‬العالم،‭ ‬فتكتمل‭ ‬بها‭ ‬فلسفة‭ ‬الرِّيحاني‭ ‬البانية‭ ‬صرحها‭ ‬لمستقبل‭ ‬الإنسانيّة‭. ‬

وشهد‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬بداية‭ ‬الاهتمام‭ ‬بفلسفة‭ ‬أمين‭ ‬الرِّيحاني‭ ‬مع‭ ‬الفيلسوف‭  ‬اللّبنانيّ‭  ‬كمال‭ ‬يوسف‭ ‬الحاج،‭ ‬الذي‭ ‬قال‭ ‬إنّ‭ ‬تلك‭ ‬الفلسفة‭: ‬‮«‬لا‭ ‬أدريّة‭ ‬كفلسفة‭ ‬كانط‭. ‬وهي‭ ‬براجماتيّة‭ ‬كفلسفة‭ ‬جيمس‭. ‬وهي‭ ‬عقلانيّة‭ ‬كفلسفة‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭. ‬وهي‭ ‬اجتماعيّة‭ ‬كفلسفة‭ ‬كونت‭. ‬وهي‭ ‬حلوليّة‭ ‬كفلسفة‭ ‬سبينوزا‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ ‬يقول‭ ‬الحاج‭ ‬مستنتجاً‭: ‬‮«‬عاش‭ ‬الرِّيحاني‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬قِيَمٍ‭ ‬فلسفيّة‭ ‬كان‭ ‬الأدبُ‭ ‬لها‭ ‬أداة‭ ‬إيصال‭. ‬لذا‭ ‬يُعتبرُ‭ ‬مِن‭ ‬أفحلِ‭ ‬مُفكّرينا‭ ‬المحدثين‭ ‬وأرشحِهِم‭ ‬وأدسمِهِم‭ ‬وأعمقِهِم‭ ‬وأبقاهم‭. ‬الرِّيحانيّة‭... ‬تمثّل‭ ‬نُضجاً‭ ‬ذهنياً‭ ‬في‭ ‬مرتفعات‭ ‬العقل‭ ‬المحلل‭...‬‮»‬‭. ‬إنّ‭ ‬هذا‭ ‬المقتَرَب،‭ ‬أي‭ ‬فهم‭ ‬الغرب‭ ‬للرِّيحاني،‭ ‬وفهم‭ ‬الرِّيحاني‭ ‬للشرق‭ ‬والغرب‭ ‬معاً،‭ ‬واختباره‭ ‬الفعليّ‭ ‬والعَمَليّ‭ ‬والنظريّ‭ ‬للعالمين‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء،‭ ‬قد‭ ‬حَمَلَ‭ ‬الفيلسوف‭ ‬المصري‭ ‬زكي‭ ‬نجيب‭ ‬محمود‭ ‬على‭ ‬القول‭ ‬إنِّ‭: ‬‮«‬أمين‭ ‬الرِّيحاني‭ ‬كان‭ ‬للأمة‭ ‬العربية،‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬طاغور‭ ‬لأبناء‭ ‬الهند،‭ ‬رسولاً‭... ‬بين‭ ‬الإنسان‭ ‬والطبيعة،‭  ‬وبين‭ ‬الإنسان‭ ‬والإنسان،‭  ‬وبين‭ ‬الإنسان‭ ‬والله‭...  ‬وكان‭ ‬الرِّيحاني‭ ‬للأمّة‭ ‬العربيّة‭... ‬ما‭ ‬كان‭ ‬إمرسون‭ ‬وثورو‭ ‬للولايات‭ ‬المتّحدة‭ ‬الأمريكيّة‭... ‬مثاليًّا‭ ‬يرى‭ ‬الكون‭ ‬وحدة‭ ‬عضويّة‭... ‬وحداً‭ ‬فاصلاً‭ ‬بين‭ ‬عهدين،‭ ‬عهد‭ ‬الفكر‭ ‬المنقول‭ ‬وعهد‭ ‬الفكر‭ ‬الأصيل‭... ‬وكان‭ ‬الرِّيحاني‭ ‬للأمّة‭ ‬العربيّة‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬جون‭ ‬لوك‭ ‬لإنجلترا،‭ ‬داعياً‭ ‬إلى‭ ‬التسامح‭ ‬الدينيّ‭... ‬وكان‭ ‬الرِّيحاني‭ ‬للأمّة‭ ‬العربيّة‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬روسو‭ ‬لفرنسا،‭ ‬داعياً‭ ‬إلى‭ ‬الوجدان‭ ‬الصادق،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رجّح‭ ‬كفّة‭ ‬العقل‭ ‬بمنطقه‭ ‬الحادّ‭ ‬في‭ ‬التعليل‭ ‬والتحليل‭...‬‮»‬‭.‬

وقد‭ ‬تفتح‭ ‬هذه‭ ‬القراءة‭ ‬الجديدة‭ ‬لأدب‭ ‬الرِّيحاني‭ ‬وفكره‭ ‬السياسي‭ ‬والفلسفيّ‭ ‬صفحة‭ ‬جديدة‭ ‬تُقَوم‭ ‬المفاهيم،‭ ‬وتصحّح‭ ‬وجهات‭ ‬النظر،‭ ‬وتسير‭ ‬بنتاج‭ ‬الرِّيحاني،‭ ‬أدباً‭ ‬وفكراً‭ ‬سياسياً‭ ‬وفلسفياً‭ ‬بلغتيه‭ ‬العربيّة‭ ‬والإنجليزيّة،‭ ‬باتجاهه‭ ‬الصحيح‭ ‬وبروحيّته‭ ‬الحقيقيّة‭ ‬التي‭ ‬تشكّل‭ ‬مدماكاً‭ ‬إضافيّا‭ ‬خالصاً‭ ‬في‭ ‬الصرح‭ ‬النهضوي‭ ‬‭>‬