جولات في كتاب «رحلات داوتي في الجزيرة العربية»

جولات في كتاب  «رحلات داوتي في الجزيرة العربية»

لم يكد القرن السادس عشر يطل بظلاله، حتى بدأ ظهور ملحمة جديدة من العلاقات الثقافية والحضارية بين الشرق والغرب، تجسدت في ازدياد اتصال المغامرين الأوربيين الذين قصدوا المشرق إما بحثاً عن المغامرة أو الاستطلاع، وإما للتجارة أو لاستجلاء غموض الشرق المدهش، أو حتى لمجرد الخروج بمؤلفات إبداعية فريدة تحاول فك رموز خزائن الشرق الغامض.

نالت‭ ‬جزيرة‭ ‬العرب‭ - ‬معدن‭ ‬العروبة‭ ‬ومهبط‭ ‬الوحي‭ - ‬قدراً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬اهتمام‭ ‬هؤلاء‭ ‬الرحالة‭ ‬والمغامرين‭ ‬بجهودهم‭ ‬المضنية‭ ‬ومغامراتهم‭ ‬الشائقة‭ ‬عبر‭ ‬خمسة‭ ‬قرون‭ ‬اعتباراً‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬إلى‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬فجابوا‭ ‬بواديها‭ ‬وحواضرها‭ ‬ومجاهلها،‭ ‬مخلفين‭ ‬إرثاً‭ ‬إنسانياً‭ ‬وفكرياً‭ ‬هائلاً‭ ‬يحوي‭ ‬بين‭ ‬جنباته‭ ‬المئات‭ ‬من‭ ‬نصوص‭ ‬الرحلات‭ ‬والخرائط‭ ‬والصور‭ ‬النادرة‭ ‬التي‭ ‬استحقت‭ ‬تتبعها‭ ‬بالبحث‭ ‬والتحقيق،‭ ‬لتكون‭ ‬هدفاً‭ ‬ومقصداً‭ ‬للمثقف‭ ‬العربي‭ ‬ومراكز‭ ‬الأبحاث‭.‬

ومن‭ ‬أبرز‭ ‬هذه‭ ‬المغامرات‭ ‬وأكثرها‭ ‬ثراءً‭ ‬رحلة‭ ‬تعتبر‭ ‬من‭ ‬أفضل‭ ‬ما‭ ‬أضيف‭ ‬إلى‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات‭ ‬من‭ ‬مواد‭ ‬علمية،‭ ‬وكان‭ ‬بطلها‭ ‬الرحالة‭ ‬تشارلز‭ ‬داوتي‭ ‬Charles‭ ‬Doughty‭ ‬واسم‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬رحلات‭ ‬عبر‭ ‬الصحراء‭ ‬العربية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬ابتدأت‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1871‭ ‬وانتهت‭ ‬في‭ ‬1878،‭ ‬وكان‭ ‬داوتي‭ ‬من‭ ‬عائلة‭ ‬نبيلة‭ ‬أرستقراطية‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الدين،‭ ‬وقد‭ ‬عرف‭ ‬منذ‭ ‬مولده‭ ‬عام‭ ‬1843‭ ‬بمواقفه‭ ‬الوطنية‭ ‬المحافظة‭.‬

في‭ ‬عام‭ ‬1871‭ ‬ابتدأ‭ ‬داوتي‭ ‬بالسفر‭ ‬خلال‭ ‬الأراضي‭ ‬الأوربية،‭ ‬متنقلاً‭ ‬من‭ ‬فلورنسا‭ ‬إلى‭ ‬روما،‭ ‬ثم‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬صقلية،‭ ‬وفي‭ ‬نهاية‭ ‬أكتوبر‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬نفسه‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬الجزائر،‭ ‬ثم‭ ‬بدأ‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬الصحارى‭ ‬العربية‭ ‬وبدو‭ ‬الصحراء‭ ‬يصبح‭ ‬هاجساً‭ ‬من‭ ‬هواجسه،‭ ‬جعله‭ ‬يقضي‭ ‬الشهر‭ ‬تلو‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬الصحراء،‭ ‬وفي‭ ‬نهاية‭ ‬السنة‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬وفي‭ ‬منتصف‭ ‬عام‭ ‬1875‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬شبه‭ ‬جزيرة‭ ‬سيناء،‭ ‬ومنها‭ ‬انتقل‭ ‬سريعاً‭ ‬إلى‭ ‬البتراء‭ ‬الأردنية‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬رائعة،‭ ‬وفي‭ ‬أثناء‭ ‬زيارته‭ ‬للبتراء‭ ‬سمع‭ ‬عن‭ ‬‮«‬مدائن‭ ‬صالح‮»‬‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬نقوش‭ ‬وكتابات‭ ‬لم‭ ‬يرها‭ ‬أوربي‭ ‬قبله،‭ ‬وتقع‭ ‬مدائن‭ ‬صالح‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الصحراء‭ ‬ولا‭ ‬تبعد‭ ‬كثيراً‭ ‬عن‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬مكة‭ ‬والمدينة،‭ ‬وهكذا‭ ‬قرر‭ ‬داوتي‭ ‬زيارة‭ ‬تلك‭ ‬المدينة،‭ ‬ليسجل‭ ‬مشاهداته‭ ‬عنها،‭ ‬ثم‭ ‬استقر‭ ‬برهة‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬في‭ ‬دمشق،‭ ‬وأخذ‭ ‬يعد‭ ‬نفسه‭ ‬لغوياً‭ ‬ونفسياً‭ ‬للمرحلة‭ ‬التالية‭. ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬1876‭ ‬انطلق‭ ‬مع‭ ‬قافلة‭ ‬للحجاج‭ ‬من‭ ‬سورية‭ ‬إلى‭ ‬الأراضي‭ ‬المقدسة‭ ‬ليعود‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬مع‭ ‬القافلة،‭ ‬لكنه‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬العودة‭ ‬مع‭ ‬الحجاج‭ ‬إلى‭ ‬دمشق‭ ‬بدأ‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬مذكراته‭ ‬عن‭ ‬الصحراء‭ ‬العربية،‭ ‬التي‭ ‬كتبت‭ ‬بلغة‭ ‬غريبة‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬الإنجليزية‭ ‬قبل‭ ‬شكسبير،‭ ‬وعند‭ ‬تعود‭ ‬القارئ‭ ‬عليها‭ ‬يجد‭ ‬فيها‭ ‬أسلوباً‭ ‬فخماً‭ ‬قوياً،‭ ‬وعند‭ ‬وصولهم‭ ‬إلى‭ ‬مدائن‭ ‬صالح‭ ‬عبَّر‭ ‬داوتي‭ ‬عن‭ ‬رغبته‭ ‬في‭ ‬الانفصال‭ ‬عن‭ ‬القافلة،‭ ‬وانخرط‭ ‬مع‭ ‬أحد‭ ‬مرافقيه‭ ‬مع‭ ‬جماعة‭ ‬من‭ ‬البدو،‭ ‬ثم‭ ‬بدأ‭ ‬في‭ ‬ممارسة‭ ‬معيشته‭ ‬معهم‭ ‬مع‭ ‬فارق‭ ‬واحد‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يتظاهر‭ ‬بالإسلام،‭ ‬بل‭ ‬أعلن‭ ‬أنه‭ ‬مسيحي‭ ‬وقد‭ ‬سمى‭ ‬نفسه‭ ‬‮«‬خليل‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬أقرب‭ ‬اسم‭ ‬عربي‭ ‬لـ«تشارلز‮»‬‭.‬

وتجده‭ ‬يصف‭ ‬ويلاحظ‭ ‬حياة‭ ‬البداوة‭ ‬ويسجل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يراه‭ ‬‮«‬فربات‭ ‬البيوت‭ ‬ينصبن‭ ‬الخيام،‭ ‬فتمسك‭ ‬الواحدة‭ ‬بالأطناب،‭ ‬تدق‭ ‬الخيمة‭ ‬بوساطة‭ ‬حجارة‭ ‬صلبة‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬المطارق،‭ ‬ثم‭ ‬ينصبن‭ ‬أعمدة‭ ‬الخيمة،‭ ‬ثم‭ ‬ينشرن‭ ‬القماش‭ ‬الصوفي‭ ‬فوق‭ ‬الأعمدة،‭ ‬وهكذا‭ ‬تنتصب‭ ‬السقيفة‭ ‬التي‭ ‬تدخل‭ ‬إليها‭ ‬الزوجة،‭ ‬وبعد‭ ‬إتمام‭ ‬العمل‭ ‬تجلب‭ ‬الفطور‭ ‬لزوجها‮»‬‭... ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬الدقة‭ ‬يصف‭ ‬داوتي‭ ‬العادات‭ ‬ومدى‭ ‬التناسق‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬البادية‭.‬

وفي‭ ‬حائل‭ ‬كان‭ ‬خليل‭ ‬النصراني‭ ‬محاطاً‭ ‬بالشك‭ ‬والريبة،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬حاكمها‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬الرشيد‭ ‬استقبله‭ ‬بمنتهى‭ ‬المجاملة‭ ‬والكرم‭ ‬ووفر‭ ‬له‭ ‬الحماية،‭ ‬لكن‭ ‬داوتي‭ ‬لم‭ ‬ينخدع‭ ‬بهذه‭ ‬المظاهر‭ ‬مادام‭ ‬أقارب‭ ‬الأمير‭ ‬ورجال‭ ‬البلاط‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬المودة‭ ‬ولطف‭ ‬المعاملة‭.‬

كان‭ ‬داوتي‭ ‬يتعرض‭ ‬لأسئلة‭ ‬عدة‭ ‬حول‭ ‬الأعاجيب‭ ‬التقنية‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بدأت‭ ‬أخبارها‭ ‬تصل‭ ‬وتؤثر‭ ‬على‭ ‬مناطق‭ ‬شمال‭ ‬بلاد‭ ‬العرب،‭ ‬فقد‭ ‬سألوه‭ ‬عن‭ ‬التلغراف‭ ‬وتركيب‭ ‬الزجاج‭ ‬وعن‭ ‬البترول،‭ ‬وعادة‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬ردوده‭ ‬تنم‭ ‬عن‭ ‬ذكاء‭ ‬وحصافة‭. ‬

ومن‭ ‬حائل‭ ‬سافر‭ ‬داوتي‭ ‬إلى‭ ‬خيبر‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬تصريح‭ ‬بالمرور‭ ‬من‭ ‬الأمير‭ ‬محمد‭ ‬الذي‭ ‬يصف‭ ‬داوتي‭ ‬لقاءه‭ ‬الأخير‭ ‬به‭ ‬بالجفاء،‭ ‬فيقول‭ ‬‮«‬سألت‭ ‬الأمير‭ ‬وهو‭ ‬ذاهب،‭ ‬متى‭ ‬سوف‭ ‬أرحل؟‭ ‬فقال‭: ‬في‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬تريد‭ ‬وليكن‭ ‬غداً،‭ ‬فقلت‭ ‬كلا‭ ‬بل‭ ‬اليوم،‭ ‬وكان‭ ‬الأمير‭ ‬قد‭ ‬أدار‭ ‬ظهره‭ ‬وغادر‭ ‬المكان‮»‬‭.‬

ومع‭ ‬ما‭ ‬تعرض‭ ‬له‭ ‬داوتي‭ ‬من‭ ‬متاعب‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬مروره‭ ‬بخيبر‭ ‬وتعرضه‭ ‬للاعتقال‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬حاكم‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬ومصادرة‭ ‬كتبه‭ ‬ومقتنياته‭ ‬لمدة‭ ‬شهرين‭ ‬لولا‭ ‬تدخل‭ ‬‮«‬الباشا‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬حاكم‭ ‬المدينة‭ ‬المنورة‭ ‬للإفراج‭ ‬عنه،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬تابع‭ ‬مسيرته‭ ‬حتى‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬بلدة‭ ‬كبيرة‭ ‬مبنية‭ ‬بالطوب‭ ‬تحيط‭ ‬بها‭ ‬أبراج‭ ‬وأسوار‭ ‬وبعض‭ ‬الأشجار،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬سوى‭ ‬‮«‬بريدة‮»‬،‭ ‬لكن‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬أحاط‭ ‬به‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬هاجموه‭ ‬ونهبوا‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬معه‭ ‬وعروه‭ ‬من‭ ‬ثيابه‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬ينزل‭ ‬في‭ ‬موضع‭ ‬خصصه‭ ‬الأمير‭ ‬لإقامة‭ ‬الغرباء،‭ ‬وخوفاً‭ ‬من‭ ‬بطش‭ ‬الأهالي‭ ‬الذين‭ ‬راحوا‭ ‬يقذفونه‭ ‬بالحجارة‭ ‬في‭ ‬الطرقات،‭ ‬فقد‭ ‬أُجبر‭ ‬داوتي‭ ‬على‭ ‬مغادرة‭ ‬البلدة‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬عنيزة‮»‬‭ ‬ويقول‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬حمل‭ ‬هذا‭ ‬الحمال‭ ‬حاجياتي‭ ‬على‭ ‬كتفه،‭ ‬ثم‭ ‬أوصلني‭ ‬من‭ ‬طريق‭ ‬جانبي‭ ‬موحش‭ ‬إلى‭ ‬جمل‭ ‬راقد‭ ‬أمام‭ ‬كوخه‭ ‬الموحش‭ ‬المصنوع‭ ‬من‭ ‬الغضار،‭ ‬ثم‭ ‬ركبنا‭ ‬وخرجنا‭ ‬من‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬طرق‭ ‬جانبية‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬عنيزة‭ ‬قابل‭ ‬رجلاً‭ ‬أظهر‭ ‬له‭ ‬بعض‭ ‬المودة‭ ‬وكان‭ ‬اسمه‭ ‬عبدالله،‭ ‬وكان‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬داوتي‭ ‬طبيب‭ ‬ماهر‭ ‬‮«‬إذ‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬اللقب‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬أنقذ‭ ‬أمثال‭ ‬داوتي‭ ‬من‭ ‬المخاطر‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬أخذه‭ ‬عبدالله‭ ‬لزيارته‭ ‬والدته‭ ‬المريضة،‭ ‬وبعد‭ ‬عناء‭ ‬اشترى‭ ‬له‭ ‬أخيراً‭ ‬صديقه‭ ‬عبدالله‭ ‬دابة‭ ‬للركوب،‭ ‬فاستطاع‭ ‬الالتحاق‭ ‬بالقافلة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحمل‭ ‬السمن‭ ‬والزبد‭ ‬والتموين‭ ‬إلى‭ ‬مكة،‭ ‬وكان‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يبتغيه‭ ‬داوتي‭ ‬هو‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬جدة‭ ‬ليجد‭ ‬سفينة‭ ‬تحمله‭ ‬إلى‭ ‬بر‭ ‬الأمان‭. ‬وكان‭ ‬يصيح‭ ‬من‭ ‬أعماق‭ ‬قلبه‭ ‬معبراً‭ ‬عن‭ ‬يأسه‭ ‬وكربه‭ ‬‮«‬لن‭ ‬يمضي‭ ‬شهر‭ ‬حتى‭ ‬أكون‭ ‬قد‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬السفن‭ ‬البريطانية‮»‬‭.‬

وكانت‭ ‬الطائف‭ ‬آخر‭ ‬محطات‭ ‬داوتي‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬حين‭ ‬سمح‭ ‬له‭ ‬بالسكن‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬البيوت‭ ‬داخل‭ ‬الطائف،‭ ‬وهكذا‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬حالته‭ ‬الصعبة،‭ ‬وإمكان‭ ‬بقائه‭ ‬أسيراً‭ ‬لسنوات‭ ‬عدة،‭ ‬احتفظ‭ ‬برباطة‭ ‬جأشه‭ ‬ودقة‭ ‬ملاحظته‭ ‬لتفاصيل‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬يحيط‭ ‬به،‭ ‬وقد‭ ‬لقي‭ ‬داوتي‭ ‬من‭ ‬‮«‬الشريف‮»‬‭ ‬معاملة‭ ‬حسنة،‭ ‬وكان‭ ‬يتكلم‭ ‬بصوت‭ ‬لطيف‭ ‬مشرق،‭ ‬وبهذا‭ ‬الصوت‭ ‬سئل‭ ‬داوتي‭ ‬عن‭ ‬شعوره‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عاش‭ ‬بين‭ ‬البدو،‭ ‬وتساءل‭ ‬عما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬البدو‭ ‬لايزالون‭ ‬محافظين‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الصفات‭ ‬الأسطورية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬معروفة‭ ‬عنهم‭. ‬واستطاع‭ ‬داوتي‭ ‬الإجابة‭ ‬بصبر‭ ‬وصفاء‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الأسئلة،‭ ‬لأن‭ ‬موقف‭ ‬الشريف‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬هدأ‭ ‬من‭ ‬روعه،‭ ‬وقال‭ ‬له‭ ‬الشريف‭ ‬‮«‬لا‭ ‬بأس‭ ‬عليك‭ ‬في‭ ‬الطائف،‭ ‬وعندما‭ ‬تشعر‭ ‬بالراحة‭ ‬سوف‭ ‬أرسلك‭ ‬للالتحاق‭ ‬بالقنصل‭ ‬الإنجليزي‭ ‬في‭ ‬جدة‮»‬،‭ ‬وهكذا‭ ‬أُرسل‭ ‬داوتي‭ ‬إلى‭ ‬جدة‭ ‬وهو‭ ‬تحت‭ ‬الحراسة،‭ ‬ومن‭ ‬هناك‭ ‬ركب‭ ‬إحدى‭ ‬السفن‭ ‬إلى‭ ‬الهند،‭ ‬فوصل‭ ‬إلى‭ ‬بومباي‭ ‬بعد‭ ‬عامين‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬مغادرته‭ ‬دمشق‭.‬

وبعد‭ ‬مضي‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ ‬ظهر‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬رحلات‭ ‬عبر‭ ‬صحارى‭ ‬العرب‮»‬‭ ‬مطبوعاً،‭ ‬واتسم‭ ‬برصانة‭ ‬الأسلوب‭ ‬والتشويق،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أربعة‭ ‬من‭ ‬الناشرين‭ ‬رفضوا‭ ‬طبعه‭ ‬لأسباب‭ ‬غامضة،‭ ‬وقد‭ ‬تعرض‭ ‬الكتاب‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬النقد‭ ‬والثناء،‭ ‬فقد‭ ‬اعتبر‭ ‬بورتن‭ ‬أن‭ ‬داوتي‭ ‬من‭ ‬الأبطال‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬الملاحظات‭ ‬التي‭ ‬وجهها‭ ‬إليه‭ ‬بالنسبة‭ ‬للدقة،‭ ‬وكذلك‭ ‬مدحه‭ ‬وليم‭ ‬موريس‭ ‬وهوجارث‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬مؤرخاً‭ ‬لسيرة‭ ‬داوتي،‭ ‬ومعلم‭ ‬لورانس‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭.‬

أما‭ ‬لورانس‭ ‬نفسه‭ ‬فكتب‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬هو‭ ‬أول‭ ‬عمل‭ ‬لا‭ ‬يستغني‭ ‬عنه‭ ‬أي‭ ‬إنسان‭ ‬يريد‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬العرب‭ ‬والصحراء‮»‬،‭ ‬وبرغم‭ ‬سمو‭ ‬وتميز‭ ‬أسلوب‭ ‬داوتي‭ ‬في‭ ‬السرد،‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬الحقد‭ ‬والضغينة‭ ‬الدينية،‭ ‬وربما‭ ‬مرد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬ضراوة‭ ‬ما‭ ‬تعرض‭ ‬له‭ ‬الرجل‭ ‬من‭ ‬صنوف‭ ‬المعاناة‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬ترحاله،‭ ‬فنراه‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬الكتاب‭ ‬‮«‬بغضِّ‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تعرضت‭ ‬له،‭ ‬فلقد‭ ‬جعلت‭ ‬الشمس‭ ‬مني‭ ‬رجلاً‭ ‬عربياً‭ ‬صميماً،‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تجعلني‭ ‬أنحرف‭ ‬باتجاه‭ ‬حب‭ ‬المشرق‮»‬‭.‬

ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تفسير‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬يأتي‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الروح‭ ‬العدائية‭ ‬التي‭ ‬واجهها‭ ‬داوتي‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬الناس،‭ ‬لكننا‭ ‬نجده‭ ‬لا‭ ‬يعطي‭ ‬مجالاً‭ ‬لذكر‭ ‬أوجه‭ ‬الصداقة‭ ‬والإحسان‭ ‬والاهتمام‭ ‬التي‭ ‬صادفها‭ ‬من‭ ‬بعضهم‭ ‬الآخر‭ ‬وانتفع‭ ‬بها،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فقد‭ ‬ظل‭ ‬صامداً‭ ‬يود‭ ‬تأكيد‭ ‬أفكاره‭ ‬ومعتقداته‭ ‬دون‭ ‬تنازلات،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬أنقذه‭ ‬البدو‭ ‬وتقاليد‭ ‬الإسلام‭ ‬عندما‭ ‬طلب‭ ‬الحماية‭ ‬والمساعدة‭.‬

والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬الكتاب‭ ‬يتجاوز‭ ‬ويسمو‭ ‬فوق‭ ‬الرحلة‭ ‬التي‭ ‬يصفها،‭ ‬والرجل‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬بها،‭ ‬فقد‭ ‬عاش‭ ‬داوتي‭ ‬حوالي‭ ‬أربعين‭ ‬عاماً‭ ‬بعد‭ ‬نشره‭ ‬كتاب‭ ‬الصحراء‭ ‬العربية،‭ ‬ومارس‭ ‬الكتابة‭ ‬وبعض‭ ‬الفنون‭ ‬الأدبية،‭ ‬ولكن‭ ‬الكتاب‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬خلَّد‭ ‬ذكره‭ ‬هو‭ ‬كتاب‭ ‬الصحراء‭ ‬ورحلته‭ ‬إليها،‭ ‬حيث‭ ‬أصبح‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬يقضون‭ ‬أياماً‭ ‬طويلة‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬بتفاصيل‭ ‬حياة‭ ‬داوتي‭ ‬وأعماله‭ ‬