الظاهرة الأدبية بين هواجس العلم وتيارات العـولمة

الظاهرة الأدبية  بين هواجس العلم وتيارات العـولمة

في‭ ‬خضم‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬المنبهر‭ ‬بما‭ ‬توصل‭ ‬إليه‭ ‬العقل‭ ‬البشري‭ ‬في‭ ‬حاضرنا‭ ‬الراهن‭ ‬من‭ ‬تطوير‭ ‬لآليات‭ ‬الحياة‭ ‬وتقنياتها‭ ‬والجوانب‭ ‬المادية‭ ‬فيها،‭ ‬وفي‭ ‬حمأة‭ ‬الصراع‭ ‬حول‭ ‬العولمة‭ ‬بأبعادها‭ ‬المادية‭ ‬والثقافية‭ ‬المختلفة،‭ ‬وما‭ ‬صحب‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬من‭ ‬تنازع‭ ‬للقيم‭ ‬والأفكار‭ ‬والأطماع،‭ ‬وتنامي‭ ‬الإحساس‭ ‬بالحيرة‭ ‬والشك‭ ‬والإحباط‭ ‬والقلق،‭ ‬تجهل‭ ‬أو‭ ‬تتجاهل‭ ‬طوائف‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬مجتمعنا‭ ‬ما‭ ‬للخطاب‭ ‬الوجداني‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬فاعل‭ ‬في‭ ‬سير‭ ‬الحياة‭ ‬وفي‭ ‬توجيه‭ ‬سلوكيات‭ ‬المجتمع‭ ‬ومراقبة‭ ‬تفاعلات‭ ‬أفراده‭. ‬بل‭ ‬الواقع‭ ‬أن‭ ‬مجال‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الخطاب‭ ‬قد‭ ‬ضاق‭ ‬عند‭ ‬البعض‭ ‬وضعف‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬جدواه‭ ‬أو‭ ‬الرجاء‭ ‬في‭ ‬تأثيره‭. ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬التقدم‭ ‬والتطور‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬إطاره‭ ‬المادي‭ ‬البحت‭: ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬المعبدة‭ ‬والمباني‭ ‬الشاهقة‭ ‬والترسانات‭ ‬العسكرية‭ ‬المعبأة‭ ‬بآلات‭ ‬الدمار،‭ ‬وفي‭ ‬عابرات‭ ‬القارات‭ ‬من‭ ‬الطائرات‭ ‬والصواريخ‭ ‬التي‭ ‬تعصف‭ ‬بالمدن‭ ‬وتحرق‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬البشر،‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬مما‭ ‬بين‭ ‬أيدينا‭ ‬من‭ ‬الأجهزة‭ ‬والآلات‭ ‬التي‭ ‬صنعتها‭ ‬طبيعة‭ ‬المادة‭ ‬والعقل‭ ‬الإنساني‭ ‬الكاسر‭.‬

هذا هو الغالب في معيار التقدم الإنساني الحاضر، أما كيف أصبحت دواخل النفوس ونوازع الوجدان، فحسابات ذلك متروكة للقدر أو الصدفة.

لم يعد من المهم أن تتصحر الأحاسيس أو تتحجر المشاعر وتقسو القلوب، وتسفك الدماء شهاراً ظهاراً على مدار الساعة، لأن ذلك لا علاقة له بالتطور كما يرون! وعلى هذا الأساس تبدو القيم الروحية والجمالية للأدب شبه مفقودة أو غائبة.

لم يعد الوضع مقتصراً على انصراف الناشئة أو الناس عامة عن قراءة النتاجات الأدبية. ولا على انحسار تلك الساحات العريضة الواسعة التي كان يحتلها الشعر العربي خلال فترات طويلة زاهرة من تاريخه، أو تحولها إلى دهاليز وأروقة محدودة ضيقة، وإنما بلغ الأمر أن يتساءل صنف من الناس في استنكار صريح عن أهمية الأدب وعن دوره في الحياة، أو عن فائدة الشعر وجدوى الاهتمام به، وأن تخشى دار للنشر من أن تغامر بطباعة ألف نسخة من ديوان شعر جميل، أو كتاب في القصة أو المسرح أو الأدب الخالص. 

 

استفتاء‭ ‬حول‭ ‬معنى‭ ‬الأدب

بعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل ظن أناس أن الزمن قد تحول لمصلحة القصة، وأن عصر إمارة الشعر قد ولى. وانصرفت أنظارهم إلى القصة، ولكنها سرعان ما عزفت عنها، وبقيت مشغولة بقصة الحياة التي تتلاحق أحداثها على أرض الواقع في ساحات المعارك الدامية وحلبات النزاع السياسي المرير. 

لقد أفاد استفتاء حول معنى الأدب وأهميته ودوره في حياتنا الراهنة وزعه كاتب المقال في فترة من الفترات القريبة على ثلاث مجموعات من طلاب إحدى الجامعات العلمية في المنطقة بلغ عدد أفرادها 140 طالباً في مراحل متقدمة، أفاد بأن معظم هؤلاء الطلاب لا يفهمون الإبداع الأدبي الذي يقول عنه غيورغي غاتشف: إنه النوع الراقي من العمل الاجتماعي على أنه كلام منمق ومزين بالكنايات وأنواع الجناس يقال في المناسبات المفرحة، أو على أنه حديث موقع مسجـوع يقال في خطب الوعــظ والإرشاد، أو إنه إنشاء نثري مكتنز بالكلمات الغريبة والتراكيب الفخمة يقرأ على الأسماع في المحافل والمناسبات والخطب الحماسية.

أما الشعر في نظر عدد كبير ممن أشرنا إليهم، فلا يتجاوز في أحسن الأحوال ما تعارفت عليه مقررات الأدب التي درسوها في مراحلهم التعليمية السابقة، من أنه الكلام الموزون المقفى الدال على معنى، يقال في المدح والرثاء والهجاء أو الغزل ووصف الأشياء والحروب والبطولات، بينما الرواية لا تتعدى في مفهوم هؤلاء كونها سرداً طويلاً مشوقاً لأحداث واقعية أو خيالية، يقرأ للتسلية وملء وقت الفراغ، أما المسرحيات فهي كما يرسمها التلفاز العربي في أذهانهم: حركات بهلوانية وأحداث حركية تساق للضحك وللترفيه عن النفوس، وقد تتخللها إسقاطات مثيرة تتضمن انتـقـاداً شكلياً لبعض العادات الاجتماعية أو القرارات السياسية والإدارية العارضة!

إن مثل هذا الفهم القاصر للأدب، شعره ونثره، وهذا الجهل بحقيقته وبقيمته ووظيفته، أصبحا يشكلان ظاهرة سلبية بارزة في مجتمعنا العربي الحاضر، نشأت ومازالت تأخذ طريقها في تزايد مستمر في أوساط المتقدمين من المتعلمين، فضلاً عن المبتدئين وعامة الناس، على الرغم مما يشهده هذا المجتمع من مظاهر المدنية المادية الباهرة. وهذه التصورات وهذا الجهل عامة لا يمكن تبريرهما بالانصراف الكلي إلى العلوم العقلية أو الانشغال بها، لأنهما يدلان على عدم الاستفادة حتى من هذه العلوم نفسها، وعدم القدرة على استغلال ما هيأت هذه العلوم لوجوده من تقنيات ووسائل المعرفة وطرقها الواسعة المتطورة. وإلا فهل يتصور وجود الوعي الثقافي أو الحضاري لدى إنسان يعيش في عصر يزخر بالمعلومات ويتحول فيه العالم بفضل الفضائيات ووسائل التواصل المتنوعة إلى قرية صغيرة يعلم فيها الداني ما يفكر فيه القاصي، ثم يعجز عن إدراك أبسط ظواهر العصر؟!

إن الجهل بأهمية الأدب أو تجاهل دوره لا يبعد أن يعتبر دليلاً على قصور الإدراك أو ضيق الأفق المعرفي ومحدودية الوعي الثقافي لدينا. فلم يعد يخفى في هذا العصر مقدار احتفاء المجتمعات المتحضرة بأدبائها من شعراء وقاصين ومسرحيين وغيرهم، وتخصيصها الجوائز الكبيرة والعطايا السخية للمتفوقين منهم. ألم يسمع عن جائزة نوبل للآداب، ومهرجان الشعر في فرنسا، واحتفالات تكريم القاصين أو الروائيين في إسبانيا وأمريكا وإيطاليا وغيرها؟! ألم يطرق الأسماع ما يحصل من مبالغات الإنجليز في تعظيم أدبائهم وشعرائهم من قدامى ومحدثين من أمثال شكسبير وبيكون وملتن وسبنسر وبرناردشو وغيرهم، وعن تلك اللوحات الفنية الباهرة التي تخلد ذكر هؤلاء الأدباء في متاحف العالم؟! ألا نقرأ أو نسمع قَط عن المؤتمرات العالمية التي تعقد لدى هذه المجتمعات لمناقشة شؤون القصة والمسرح وغيرهما من فنون الأدب والفن وأشكالهما؟ 

 

ما‭ ‬سر‭ ‬احتفاء‭ ‬بعض‭ ‬الشعوب‭ ‬بأدبائها؟

إذا كان الأمر كذلك، فما هو سر احتفاء هذه الشعوب أو البلدان بأدبائها وشعرائها وتكريمها لهم على هذا النحو؟ هل يمكن أن نكون نحن أكثر منهم ذكاء وبصيرة واهتماما بالعلوم العقلية وتحمساً لها؟! ألا يمكن أن يدل كل هذا الاحتفاء والتكريم منهم على أن للأدب دوراً كبيراً في حياتهم؟ ولو كان هناك دور كبير، ألم يخطر ببالنا أن نسأل ما هو هذا الدور وما هو سر أهميته؟ 

إن نظرة تأملية سريعة في ما تنقله أو تبثه وسائل الإعلام المرئية والمسموعة في البلدان المتقدمة وفي بعض بلداننا أيضاً، كافية لتعريفنا بجانب كبير من أهمية الأدب ودوره في حياة الجماهير. فهذه الوسائل أو القنوات تخترق بيوت الناس وتسكن معهم وتستغرق كثيراً من أوقاتهم وتؤثر فيهم وفي نظام حياتهم من حيث شاءوا أو أبوا أحياناً، بما تحمله إليهم من تقارير وأخبار، وما تستعرضه أمامهم من أحداث درامية أو مسلسلات وأفلام أو أغانٍ وأناشيد أو خطب ومساجلات أو غيرها. وهذه كلها في حقيقتها نتاجات أدبية، لأنها قائمة في أصلها على السرد الأدبي وعلى الرواية أو القصة وعلى الشعر بكل ألوانه. وتغلب فيها كلها مخاطبة الوجدان أو الشعور على مخاطبة العقل. 

بغض النظر عن اختلاف وجوهها وتباين مستوياتها الفنية وتفاوت انعكاساتها وأهدافها وآثارها، فإننا نستجيب لها ونتفاعل مع مكوناتها وننقاد لتأثيراتها في أحيان كثيرة، طائعين أو صاغرين. فهل لأحد بعد ذلك أن يتجاهلها أو يتساءل مفتونا بما تلقن من زهيد علوم العقل عن دور الأدب أو قيمته، وكأنه هو الذي صنع المدنية بعقله؟! 

 

الانفصال‭ ‬التدريجي‭ ‬

عن‭ ‬الهوية‭ ‬القومية‭ ‬والحضارية

 إن الخطورة في الظاهرة المذكورة لا تكمن فقط في دلالتها على افتقار مجتمعنا في الحاضر لمزيد من الوعي الفكري والثقافي، أو على عدم إدراك طوائف من هذا المجتمع لمتطلبات التطور الحضاري الحقيقي، وإنما تكمن كذلك في ما يترتب على شيوع هذه الظاهرة نفسها من آثار سلبية خطيرة على مستقبل الأمة.

إن أمتنا العربية تمر عبر آفاق غائمة للعولمة التي تقودها هيمنة القطب الواحد، بحالة من الصراع القيمي والحضاري الطاحن الذي لا تؤمن عواقبه. ومن أبرز ما يمكن أن يترتب على تفشي هذه الظاهرة في خضم هذا الصراع، ضعف التواصل مع التراث ومع لغة هذا التراث وأداته الأولى والجزء الأساسي فيه، وهذا الضعف يمكن أن يقود بدوره إلى الانفصال التدريجي عن الهوية القومية والحضارية أو إلى فقدان الولاء لهذه الهوية أو قلة الارتباط بمكوناتها ومقوماتها. 

الأمر الذي قد يؤدي في النهاية إلى الانسلاخ عن المجتمع والانجراف نحو التبعية. وليس ببعيد أن يقود ذلك أيضاً إلى هجران كتاب الله الذي تتمثل فيه قمة الإبداع البلاغي والأدبي، بالإضافة إلى ما يتمثل فيه من التعبير عن القيم الإنسانية السامية التي ندين بها وننتمي إليها نحن المسلمين.

ومما يمكن أن يترتب على تفشي الظاهرة على المستوى الإنساني العام، بالإضافة إلى ما سبق ذكره، تراجع الاهتمام بالتواصل الروحي والتلاحم الوجداني الذي يعتبر الأساس في بناء الأسرة وبناء المجتمع على حد سواء، حيث تعتبر التجارب الأدبية الراقية مورداً مهماً للتعرف على المثل الأخلاقية والقيم الإنسانية والشعورية الرفيعة، أو استلهامها وتعزيز الإيمان بها وتقوية الإحساس بآثارها في تهذيب النفوس وتربية الأذواق وتقويم السلوك وتوثيق الروابط الروحية الحميمة بين الفرد والفرد من جانب وبين الفرد والجماعة من جانب آخر، من أجل بناء مجتمع قائم على التلاحم والتراحم والمحبة والوئام والسلام. إن ضعف التواصل مع هذه التجارب يعني تجفيف هذا المورد الخصب المهم أو تعريضه للجفاف وحرمان الأمة من فيض عطائه. 

 

عوامل‭ ‬تجاهل‭ ‬قيمة‭ ‬الأدب

النتائج سابقة الذكر تبعث على التأمل والحذر، وتدفع إلى التفتيش عن جذور الظاهرة المذكورة وتلمس مواضع الخلل الباعثة على شيوعها وتفشيها. ثم البحث عن ما يمكن أن يعالجها أو يحد من تأثيراتها على واقعنا الحاضر. إن ذلك يعني بطريقة أو بأخرى الكشف عن ما يمكن أن يوسع المجال أمام الإبداعات الأدبية الهادفـــة لأن تأخذ سبيلها إلى الجمهور في أوسع مساحاتها الممكنة؛ لتؤدي دورها الطبيعي الصحيح في ترسيخ القيم الروحية السامية والمثل الاجتماعية الصافية الأصيلة لديه، ولترتقي به في النهاية إلى أفق حضاري أرحب وتعزز انتمائه لدينه وللغته وتراثه ووطنه ولكل ما هو إنساني خالص بنّاء. 

فبذلك يمكن تجنب ما يعاني منه مجتمعنا من الفراغ الروحي والجفاء الوجداني الذي أشرنا إليه. غير أن ما نتطلع إليه من معالجة للظاهرة المذكورة لا يمكن أن يتحقق على الوجه المطلوب كما سبقت الإشارة إلا بعد معرفة الأسباب التي أدت إلى نشوئها أو ساعدت على تفشيها. 

لا شك في أن غياب الوعي بمفهوم الأدب وبأهدافه ومقاصده يعتبر من أهم العوامل المسببة لتجاهل قيمته، ثم العزوف عنه أو عدم الإقبال عليه. ذلك لأن وضوح مفهومه على النحو الدقيق وبيان ما يرتبط به من دلالات وحقائق وما ينجم عن احتضانه من آثار في تطوير واقع الحياة، يسهمان بلا ريب في بناء تصورات إيجابية عنه، ويبعثان بنحو أو بآخر على التقرب منه والتفاعل مع نماذجه الهادفة البناءة، مما يفسح المجال أمام هذه النماذج في النهاية لأن تؤدي دورها في الارتقاء بذوق المجتمع وبحسه وفكره أو تزيد من فاعلية هذا الدور. وتعمل على صقل المواهب وتهذيب الملكات وتفجير الطاقات الكامنة في طوائف من أفراد المجتمع لتتمكن بعدها من مواصلة الإبداع فيه والتفنن في ابتكار نماذج جديدة منه، وتشارك بالتالي في تحقيق مستوى أفضل من الوعي ونموذج أرقى من الحضارة. 

 

الترابط‭ ‬الوثيق‭ ‬بين‭ ‬اللغة‭ ‬والأدب

غير أن هذا الواقع الأدبي الذي نتطلع إليه لا يمكن أن يتحقق بمجرد تعريف حقيقة الأدب وتوضيح ما يرتكز عليه أو يرتبط به من مفاهيم واصطلاحات أو بتحليل هذه المفاهيم والاصطلاحات أو بلورتها من الناحية النظرية. وإنما لابد أن يتزامن ذلك كله مع معالجة الأسباب الأخرى التي شاركت وما تزال تشارك في سلب هذا الواقع أو في غيابه أو زعزعته. أي الأسباب التي شاركت في تحويل الجهل بحقيقة الأدب وبقيمته وبفاعلية دوره إلى ظاهرة ثقافية واجتماعية سلبية عامة، أو ساهمت بطريقة أو بأخرى في تفشي هذه الظاهرة واتساع نطاقها. 

هناك أسباب كثيرة أخرى متفرعة ومتشعبة، لابد من الكشف عنها والتوقف عندها أو عند بعضها، والتفكير فيها والسعي لتحديد الآثار المترتبة عليها، ثم محاولة إيجاد الحلول المناسبة لما يرتبط بها من إشكالات. وربما كان من أبرز وأهم هذه الأسباب ما نلمسه من الضعف اللغوي السائد في مجتمعنا، ومن الانصراف عن اللغة الأم وعن ثقافتها والانشغال عنهما بتعلم اللغة أو اللغات الأجنبية. فاللغة كما هو معلوم مادة الأدب وأداته، منها يستمد وجوده، وبها يستقيم ويتجدد كيانه. كما أن الأدب بدوره يعد الميدان الواسع الذي يتجلى فيه عمق اللغة وتبين فيه سعتها وتظهر حيويتها ويبدو جمالها وحسن تأثيرها. وهذا الترابط الوثيق بين اللغة والأدب يجعلنا نتخيل ما يمكن أن يكون عليه ناشئة المجتمع من ضعف في لغتهم أو قلة محصولهم من مفرداتها في حال جهلهم بقيمة الأدب أو انصرافهم عنه. وما يمكن أن يكون لديهم من جهل بقيمة الأدب نفسه أو تراجع في الإقبال عليه عندما تضعف لغتهم أو يقل رصيدهم منها. لذلك كان اهتمامهم بالأدب مرهوناً باهتمامهم باللغة وارتباطهم الوثيق بها، والعكس صحيح أيضاً. 

لا شك في أن للصراع أو التذبذب الفكري الذي يشهده عالمنا العربي في حاضرنا الراهن أثراً كبيراً في ضياع المقاييس واضطراب المعايير وعدم وضوح الرؤية في جوانب الفكر، وتراجع الإحساس في النهاية بدور الأدب أو الانشغال عنه وعن نتاجاته بمعطيات الحياة المادية الجديدة. 

غير أن الخروج من دوامة الصراع والتذبذب التي يعيشها الإنسان العربي لا يمكن أن يتحقق على النحو المطلوب إلا بعودة الأدب نفسه إلى دوائره الطبيعية الصحيحة، لأن القلق النفسي والتذبذب الفكري الحاصل لا يستندان إلى قرارات عقلية مدروسة وقناعات ذهنية ثابتة، وإنما هما مبنيان في الغالب على مواقف شعورية وهواجس متلاحقة. 

وما دام دور الأدب الذي يصلح هذه المواقف ويهذب هذه الهواجس معطلاً أو غائباً أو ضعيفاً، فإن الخروج من الدوامة يبقى صعباً، ومن هنا تنشأ ضرورة البحث عن نقطة البداية، وعن السبل للعودة إليها. أو بعبارة أخرى بإعطاء الأدب حيزاً أكبر مما هو عليه في الساحة الثقافية الحاضرة، ليشارك بفاعليته المعهودة في عمليات التوعية الشعورية وفي إذكاء روح الانتماء إلى الهوية الاجتماعية والحضارية، وفي تنمية الحس بضرورة الارتباط بالدين واللغة والتراث وبالقيم والثوابت الروحية الأصيلة أو التمسك بها،  لتضعف بعد ذلك روح الانهزام والتبعية ويتحقق الاستقرار الفكري والنفسي والشعوري وتقوى إرادة الثبات في مواجهة التيارات الجارفة. 

 

تيارات‭ ‬العولمة‭ ‬وصراعات‭ ‬الفكر

من ناحية أخرى، فإن الأديب العربي المعاصر يعتبر إلى حد ما مسؤولاً عن تراجع الأدب أو عن تناقص شعبيته أو عن القصور في أبعاد تأثيره ومن ثم بروز الظاهرة المذكورة، ذلك لأن القلق الثـــقافي والهوس الحضاري شملا الأدباء، شعراءهم وناثريهم في ما يبدو، حيث تأثرت جماعات منهم بتيارات العولمة وتجاذبات الفكر وصراعاته التي عمت حياتنا الراهنة، ففقدت نتيجة لهذا التأثر بعضاً من ثوابتها، واضطربت بعض المقاييس في أذهان أفرادها، وكانت المحصلة أن تشرنقت هذه الجماعات والتفت حول نفسها وأضاعت طريقها نحو الجماهير. 

 

تيارات‭ ‬أدبية‭ ‬دخيلة

لقد انحرف بعض من أدباء العربية المعاصرين عن المسارات الموازية لطبيعة مجتمعهم ولثقافته الأدبية، وانساقوا وراء تيارات أدبية دخيلة غربية، وراحوا يحيكون أساليب من الشعر وأنماطاً من الكتابة لا تتناسب في أصلها وجنسها مع ذوق المجتمع ووعيه وطبيعة تفكيره، ولا تراعي قيمه وتركيبته الحضارية، فكان ذلك سبباً في انصراف فئات كثيرة من هذا المجتمع عنهم وعن أدبهم.

ومن ناحية أخرى، فإن النزاعات الأدبية القائمة على النفاق السياسي أو على طمس الحقائق وتضليل الأفكار تحت شعار الدين أو باسم التقدم والتحديث أو بدعوى الغيرة على التراث أو بدافع المصالح الشخصية والنزعات الشللية المختلفة، هذه كلها شاركت وما تزال تشارك في تشويه حقيقة الأدب أو في إعطاء صورة مشوشة مضطربة عن فاعلية دوره وبالتالي في التنفير منه ومن كل ما ينتمي إليه. 

ولا ننسى تلك الكتابات الهابطة التي تعتبر بلا شك سبباً مهماً في وجود الظاهرة التي نحن بصددها، كما تعد في الوقت نفسه مظهراً بارزاً لها، فالكتابات الهزيلة التي تقدم لاعتبارات سياسية أو شللية نفعية وتتصدر بعض الصحف والمجلات الثقافية العامة، أو تبرز في بعض المحافل الأدبية أو الثقافية وعبر أجهزة الإعلام الجماهيري في أطر مبهرجة على أنها نتاجات أدبية إبداعية مميزة، هذه تسيء إلى سمعة العمل الأدبي، وتترك في أذهان القراء والناشئة قليلي الخبرة منهم بنحو خاص انطباعات غير مشجعة على التواصل حتى مع النتاجات الأدبية الأخرى الجيدة، لاسيما أن عامة القراء في ضوء ما نشهده من صراعات فكرية متواترة منصرفون في الأساس عن القراءات الجادة على اختلافها.

لقد أصبح من النادر أن يتجاوز قراء العربية من الناشئة وغيرهم حدود ما ينشر في الصحف المحلية والمجلات المشابهة لها من حيث النهج والمستوى، أو تتعدى ما تفرزه بعض شبكات «الإنترنت» ودهاليزها المضللة من خشاش الثقافة وحثالات المعرفة، ولذلك فهم لا يستطيعون لضعف لغتهم وضحالة رصيدهم الثقافي والمعرفي التمييز بين الغث والسمين مما ينسب إلى الأدب من نصوص ونماذج، ولا يخرجون في النهاية إلا بانطباعات عشوائية غير مشجعة لهم على مواصلة التجربة في قراءتها. ويزداد هذا الاحتمال بطبيعة الحال بما تشهده الساحة الأدبية العربية الراهنة من غياب النقد الموضوعي المنهجي البناء، المرتكز على الخبرة والفهم الواسع والذوق الرفيع والتوجيه النزيه السليم. 

 

المؤسسات‭ ‬الأدبية‭ ‬ومظاهر‭ ‬التخلف

وتتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية عن تفشي الظاهرة المذكورة بلا ريب، تلك المؤسسات التي أنشئت في الأصل لتطوير الأدب وتنميته ورعايته ونشره ونشر الثقافة عامة، ولكنها قصرت في ذلك أو قصرت عنه. وفي مقدمة هذه المؤسسات: الجمعيات والنوادي الأدبية المحلية التي يفترض أن تكون منارات للأدب والفكر وحصوناً لثقافة الأمة وحضارتها. ثم وسائل الإعلام الجماهيري بكل أجهزتها المحلية والفضائية. هذه التي باتت تخترق أوساط المجتمع وتطوقه بما يثيره ويرهقه ويبدد قدراته ويشتت فكره، بدلاً من أن تسعى للارتقاء بثقافته وأدبه. ثم دور النشر التي لم تعد تهتم بغير المصلحة المادية، ولا تعير للكلمة والفكرة النابضة النافعة قيمة أو وزناً، ومؤسسات النشر الأكاديمي التي أصابها الذهول والحيرة وعم الخدر جميع مفاصلها فترهلت وترهل عطاؤها. ثم تلك المؤسسات المعنية بالمؤتمرات والجوائز الأدبية، التي أصبحت تتنافس على بهرجة السلاطين، بالإضافة إلى المؤسسات التعليمية ومنهاجها وكتبها المتعلقة بتدريس اللغة والأدب، التي تتدخل السياسة أو تطرّف الأهواء في اختيار نصوصها وموضوعاتها في الغالب فتعكر صفاءها.

كل هذه المؤسسات تتحمل تبعات ما يحدث في واقعنا الأدبي، فهي التي يفترض أن تكون الجهات الفاعلة المؤثرة إيجاباً في هذا الواقع، ولكنها أصبحت متأثرة به، بل صارت من مظاهر تخلفه. فهل تتحرر هذه الجهات من هيمنة السياسات العقيمة التي تسيّرها أو تحد من حركتها، فتعي حقيقة مهامها، وتسعى على أساس من هذا الوعي للنهوض بواقعنا الأدبي، ليشارك الأدب الرفيع بدوره في تنمية العقول وتوعية الأفكار وتصفية النفوس وتهدئة الخواطر وترقيق القلوب وإرهاف الأذواق والأحاسيس، فيخفف ذلك مما يعانيه مجتمعنا من ويلات التنازع وتبعات الصراع؟ .