كُتَّاب يعبِّرُون ويتألّقُون بلغة اللجوء في بلد اللجوء

كُتَّاب يعبِّرُون ويتألّقُون  بلغة اللجوء في بلد اللجوء

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬المؤرخ‭ ‬الفرنسي‭ ‬باسكال‭ ‬أُوري‭ ‬حاول‭ ‬في‭ ‬امعجم‭ ‬الأجانب‭ ‬الذين‭ ‬صنعوا‭ ‬فرنساب،‭ ‬إعطاء‭ ‬تعريف‭ ‬لرجال‭ ‬ونساء‭ ‬وُلِدُوا‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬أخرى،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬آباء‭ ‬جاءوا‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬لكنهم‭ ‬أعطوا‭ ‬بمواهبهم‭ ‬وإبداعهم،‭ ‬القيمة‭ ‬المُضافة‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬المواطنين‭ ‬الفرنسيين،‭ ‬فإن‭ ‬لفظة‭ ‬اأجنبيب‭ ‬تظل‭ ‬قائمة‭ ‬ولو‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الموهوبين‭ ‬والمبدعين‭ ‬تجنّسُوا‭ ‬وأصبحوا‭ ‬فرنسيين‭. ‬نذكر‭ ‬هنا،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬الكاتب‭ ‬الشهير‭ ‬إيميل‭ ‬زولا،‭ ‬الذي‭ ‬تجنّس‭ ‬وعمره‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬الثانية‭ ‬والعشرين‭. ‬لكن‭ ‬اللافت‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬أغلب‭ ‬المبدعين‭ ‬الأجانب‭ ‬المجنَّسِين،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬نقل‭ ‬كلهم،‭ ‬ظلوا‭ ‬يحتفظون‭ ‬بأسمائهم‭ ‬الأصلية‭. ‬لذلك‭ ‬لم‭ ‬يتردد‭ ‬المؤرخ‭ ‬أُورِي‭ ‬في‭ ‬اعتبار‭ ‬الأجنبي‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬وُلِد‭ ‬بالخارج،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬تابعة‭ ‬للتراب‭ ‬الفرنسي‭ ‬أو‭ ‬لا‭.‬

 أما الكاتب برنار بِيفُو، فيرى أن الأجنبي هو من وُلِدَ في لغة وثقافة غير الفرنسيتين. لكن هذا لم يَحُل من أن تضم لائحة الكتّاب والمثقفين الناطقين بالفرنسية أسماء أجنبية وازنة على غرار أداموف، بيربيروفا، غاري، طرويات، ميلوسز، بوسكي، من روسيا، سيوران، يونيسكو، سيلان، تزارا من رومانيا، وكازانوفا، والأفغاني عتيق رحيمي، والكوبي خوصي - ماريا دو هيريديا، والتشيكي ميلان كونديرا، والمصري ألبير كوسري، والإسباني جورج سيمبراين، واليوناني فاسيليس أليكساكيس، إلى المغربي الطاهر بنجلون. وأغلب هؤلاء حاز أكبر وأشهر الجوائز الأدبية الفرنسية. بل إن الصيني غاو كسينغجيان حصل لفرنسا على جائزة نوبل للآداب. 

من الكتّاب والأدباء المغاربيين والأفارقة الذين كانوا وراء الإشعاع الأدبي الفرنسي، نجد: الأدباء المغاربة أحمد الصفريوي (1915-2004)، عبدالكبير الخطيبي (1938-2009)، محمد خير الدين (1941 - 1995)، إدريس الشرايبي (1926-2007)، الطاهر بنجلون (1944 -) والأدباء الجزائريون: كاتب ياسين (1929-1989)، رشيد ميموني (1954-1995)، محمد ديب (1920-2007) وغيرهم.

 أما الأدباء الأفارقة، أي من بلدان جنوب الصحراء، فهناك الشاعر والرئيس السنغالي ليبولد سيدار سنغور (1906-2001)، المالي بّا أمادو هامبايي (1901 - 1991)، الغيني لاي كامارا (1928 - 1980)، والكاميروني ألكسندر مونغو بيتي (1932-2001)، ولا يمكن لأيّ فرنسي أن ينكر أن هؤلاء وغيرهم ممّن لم نذكرهم ساهموا في الأنوار التي تضيء فضاء فرنسا.

 

الكتّاب‭ ‬المعاصرون‭ ‬المُجنَسُون

يمكن القول إن فرنسا تعيش اليوم على إيقاع وموازين كتَّاب وكاتبات أجانب وأجنبيات، لهم جنسية مزدوجة: جنسية بلدهم الأصلي وجنسية بلد الإقامة، ينتمون لآفاق أخرى، لكن تجمعهم اللغة الفرنسية التي بها يتكلمون، وبها يُعبِّرون ويكتبون، وبها تألَّقُوا وبرزوا في سماء الشهرة، وما يدل على هذا أن كتبهم تُباع بعشرات الآلاف من النسخ. إنهم الجيل الجديد من المهاجرين: من المغربية ليلى سليماني إلى الإيرانية نيغار جافادي إلى الروندي غاييل فاي... أسماء تفرض نفسها على الساحة الأدبية الفرنسية، وأًصبحت تتردد على كل لسان وفي مختلف وسائل الاتصال. ولا غرابة في ذلك وهم الذين يساهمون في إعلاء شأن وصورة واسم فرنسا.

 فليلى سليماني حازت جائزة الغونكور التي لا تُمنح لأيٍ كان، عن روايتها «أغنية هادئة»، وغاييل فاي حاز جائزة الغونكور على مستوى الثانويات، وعلي زمير جائزة سنغور، ونينا يارغيكوف جائزة فْلُور، ونيغار جافادي جائزة الأسلوب، ولينكا هورناكوفا - سيفادي جائزة رونودو، وناتاشا أباناه جائزة فيمينا، وجميعها جوائز ذات قيمة ومعنى.

هذا الجيل الجديد من الكتّاب هم الذين يُعَبِّرُون بما يسمونه «لغة الأرخبيل من بلد الأرخبيل» ليعطوا بذلك جواباً على الجدل الدائر حول الهوية والجنسية، حيث يجد البعض، من الفرنسيين، الفرصة مواتية للتعبير عن كراهيتهم لهؤلاء الأجانب، الذين هبُّوا على فرنسا وزاحموهم، ليس فقط في المراكز والمسؤوليات، بل أيضاً على مستوى التألق وإحراز الجوائز المهمة والاحترام والتقدير، سواء في الآداب والفنون أو السياسة أو الرياضة وغيرها من المجالات... وبلغة «الأرخبيل» تلك تقول الكاتبة ناتاشا أباناه، من جزر موريس، وصاحبة كتاب «مدار العنف» - وهي رواية عن أطفال مايوت - «كلنا متشبثون بجغرافيات»، أي لكل واحد منهم ومنهن لغته وجنسيته وبلده، تجمعهم اللغة والجنسية الفرنسية. لكن هذا لا يمنع من التعبير بشكل ما عن العالم «ونعطي لفرنسا هذا الذي ترفضه: لغة الأرخبيل من بلد الأرخبيل».

إذن، هناك ثقافتان، وليست ثقافة واحدة، تمثّلان بالنسبة لهؤلاء الكتّاب الأجانب الزاد الذي منه يتزودون بكل ما يسعفهم في الحديث أو تصوير حالة أو قضية ما في أعمالهم. وهذا ما يعطيهم تميّزاً وغنى إضافيين ربما لا يتوافر لغيرهم، وخاصة حين تكون هاتان الثقافتان مختلفتين إن لم نقل متناقضتين. هذا التميز يُعْفِيهم من أن يكونوا مجرد ناطقين باسم فرنسا وحاملين لغتها وعَلَمَها. ولعل ما يعبّر عن هذا التوجه الكاتبة المغربية ليلى سليماني (صاحبة جائزة غونكور 2006)، التي ترى أن المهم هو التمكن من الثقافتين - الوطنية الأصلية والفرنسية الأجنبية - والغوص بحرية في ثقافة تُسْتَعْمل كحصن. هنا تنتفي الجنسية، مغربية كانت أو إفريقية، لتفسح المجال للتعبير الإنساني الحر. وقد عبّرت ليلى سليماني في تصريح لموقع «إكسبريس» الفرنسي بالقول: «حين أكتب أشعر أني أكثر قُرْباً لدوستوفسكي من كوني مغربية أو فرنسية».

إن البحث عن مجال مناسب للتعبير هو الذي جعل، من دون شك، هذا الجيل من الكتّاب والكاتبات يختارون النفي لِلْبَوْح، بلغة أخرى غير لغتهم الأصلية، عربية كانت أو فارسية أو إفريقية. وذاك ما عبّرت عنه الإيرانية نيغار جافادي في روايتها «القنبلة» التي تحكي، بقساوة، عن نظامي الشاه والخميني، كما تحكي بقساوة أكثر عن معاناة أسرة شرقية تائهة بين النفي والهجرة والاندماج في فرنسا هرباً من القمع والاضطهاد، كما هو في روايتها التي هزت الفرنسيين قبل الإيرانيين بجرأتها وبوحها. التوجه نفسه نجده لدى الكاتبة التشيكية لينكا هورناكوفا - سيفادي التي اضطرت للتعبير بلغة أخرى غير لغتها لتتحدث عن مآسي تشيكوسلوفاكيا خلال القرن العشرين، التي يلتقي فيها الألم والفظاعة والحب، كما صرحت لوسائل الإعلام في براغ.

كلهم، كلهن، يبحثون عن لغة تعبير مناسبة تُزَاوِج بين الفكرة الأصلية والتعبير عنها بلغة موليير، تارة بالغمز وتارة أخرى باللمز كما لدى الكاتبة الهنغارية نينا يارغيكوف في روايتها «جنسية مزدوجة». إنهم في مسعاهم هذا يبحثون عن لغة أدبية نقية من كل الشوائب، وقد وجدوها في اللغة الفرنسية باعتبارها لغة لجوء في بلد لجوء منحهم جنسيته. الشيء نفسه فعله قبلهم - قبلهن الكاتب الشهير سلمان رشدي حين وجد ضالته في الإنجليزية كلغة لجوء وتعبير .

ليلى‭ ‬سليماني

نيغار‭ ‬جافادي