اللغة العربية وأساليب البيان العربي

اللغة العربية  وأساليب البيان العربي

عرفت‭ ‬عملية‭ ‬حفظ‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬تطوراً‭ ‬ملحوظاً‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حياة‭ ‬حافلة‭ ‬بالتحولات‭ ‬والتغيرات‭ ‬التي‭ ‬عرفتها‭ ‬حياة‭ ‬اللغة‭ ‬عامة‭.‬

ويمكن‭ ‬ملاحظة‭ ‬خصوصية‭ ‬هذا‭ ‬التطور‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مستويات‭ ‬مختلفة،‭ ‬نذكر‭ ‬منها‭: ‬مستوى‭ ‬المادة‭ ‬اللغوية‭ ‬وتلك‭ ‬الرؤية‭ ‬التي‭ ‬أتت‭ ‬بها،‭ ‬ومستوى‭ ‬الإطارات‭ ‬النحوية‭ ‬وطبيعتها‭ ‬المنطقية،‭ ‬ومستوى‭ ‬أساليب‭ ‬البيان‭ ‬والبلاغة‭ ‬وطبيعتها‭ ‬الاستدلالية‭ ‬والدلالية،‭ ‬ومستوى‭ ‬مناهج‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬وطرائقه‭ ‬الفكرية‭ ‬المختلفة‭.‬

ولا شك في أن عملية جمع اللغة العربية، في عصر التدوين والكتابة، بعد أن ظهر اللَحن يتفشى في أوساط المجتمع العربي، نظراً لدخول عديد من غير العرب واستقرارهم فيه، وقد ساعد التفاعل مع القرآن من خلال تفسيره ومحاولة تدبره عملياً، في أن تصبح للغة العربية ثقافة واحدة قابلة للتعلم والتفكير والبحث.

وقد تم جمع اللغة العربية من خلال الاعتماد على الناس في البوادي والقبائل التي كانت منعزلة عن المدن والحواضر الإسلامية التي اختلط فيها العربي بغير العربي وصار اللحن شائعاً بينهم إلى درجة التخوف على اللغة من الضياع والاضمحلال.

ولعل عملية إحصاء كلمات اللغة لإنتاج قواميس لها ومعاجم خاصة، وتحديد قوالبها وإبداع قواعدها، بحيث يعتبرها ابن خلدون بمنزلة «صناعة»، تحتاج إلى وضع مقاييس وأنظمة وقوانين وقواعد، وقد كان ذلك مع بداية القرن الثاني للهجرة، حيث وُجد رجال تجندوا مادياً وفكرياً لتحقيق هذه الغاية العظمى، ونذكر من هؤلاء العلماء: أبو عمرو بن العلاء (توفي سنة 154هـ) وحماد الراوية (توفي سنة 155هـ) والخليل بن أحمد الفراهيدي (توفي سنة 170هـ). وقد توجهوا إلى البوادي والقبائل للحصول على الغريب والنادر في اللغة، لجعل عالم اللغة العربية عالماً محدوداً بحدود عالم أولئك الأعراب أنفسهم. فهذه اللغة تعايشت في عالم البادية الذي يتميز بالزمن الممتد، والمتكرر، والرتيب، والفارغ، والهادئ، والحسي الملموس... وبذلك ساد الأعرابي سيادة مطلقة من خلال لغته. ولا شك في أن هذا الأمر قد أثر في واضعي القواميس، حيث إنهم اعتبروا أن كل كلمة لا تعود إلى أصل حسي بدوي «دخيلة» مآلها الإهمال إذا كانت غير معربة.

ولعل معجم «لسان العرب» للسان الدين بن الخطيب، الذي يضم ثمانين ألف مادة لغوية، أفضل مثال على ذلك، حيث يصور حياة الأعرابي وثقافته.

ولعل خلو القواميس والمعاجم العربية من كل المواد اللغوية التي تصور حياة الإنسان العربي في المدينة والحاضرة والعلاقات المختلفة التي تربط بين أفرادهما، يدل قطعاً على تفضيل علماء اللغة الأوائل في جمعها وحفظها للسان البدوي الأعرابي «النقي».

 

النحو‭ ‬العربي‭... ‬القواعد‭ ‬النحوية‭ ‬والمنطقية

إن السماع من البدوي (الأعرابي) لم يهدف إلى أخذ اللغة فقط، ولكنه كان يهدف إلى وضع افتراضات نظرية في النحو واللغة، ولعل الانطلاق من المعطى الذهني الذي عمل به علماء اللغة الأوائل كالخليل بن أحمد الفراهيدي، وتغييبه للمعطى اللغوي، الذي ساهم في صنع اللغة ضمن منظور ذهني خاص، قد وضع عملية جمع اللغة على المحك. فطريقته في وضع اللغة من خلال تركيب الحروف الهجائية بعضها مع بعض لصياغة الكلمات الممكنة، ثنائية، وثلاثية، ورباعية وخماسية، تعتبر طريقة واضحة لوضع اللغة لا جمعها.

وبذلك نتج عن هذه الطريقة عدم الفصل والتفريق بين المهمل والمستعمل في زمن كان الأعرابي يُولَع فيه بالغريب والعجيب في اللغة.

ويرى محمد عابد الجابري أنه لو تم تحكيم «القياس» بدل «السماع» لكان أفضل، لأن الأمر يفترض «جعل اللغة المعجمية لغة الإمكان لا لغة الواقع، فالكلمات صحيحة لأنها ممكنة وليس لأنها واقعية، وهي ممكنة مادام هناك أصل يمكن أن تُرَد إليه أو نظير تُقاس عليه، وهي ليست واقعية لأن الفرع هنا هو في الغالب فرض نظري وليس معطى من معطيات الاستقراء أو التجربة الاجتماعية».

وكان اعتماد «الاشتقاق الكبير» قد نتج عنه تكريس النظرة التي تنطلق من اللفظ إلى المعنى. فالأسماء المشتقة مثلاً لا تخضع في عملية اشتقاقها للسماع، بل تم وضع أوزان لها هي في الواقع قواعد منطقية. وهذا يدل على أن هذه الأسماء المشتقة، تختلف فيما بينها بالإصاتة، مثال: «فاعل» (الألف)، كقاتل، و«مفعول» (الواو) كمكتوب، و«فعيل» (الياء) كقريب، و«فعال» (الشدة والألف) للفعل مع الكثرة كرسام، وهكذا يظهر أن الصورة الصوتية هي التي تمنح لهذه المشتقات دلالتها المنطقية، أي إن المتلقي يشعر بهيكل المعنى حتى ولو كان يجهل معنى اللفظ نهائياً.

فالمشتقات العربية تخلو من مقابل لمقولات الوضع والملكية والإضافة، وذلك راجع لكون الأصل الذي وقع عنه الاشتقاق هو الفعل، والمقولات المذكورة لا تتعلق بالفعل ولا يمكن تعليقها به، وبالتالي فلا معنى لها إذا وُضع الاسم –الجوهر- كمعطى أول.

إضافة إلى هذا، فإن المصدر واسم الآلة يمكن اشتقاقهما من الفعل لكون اسم الآلة يدل على آلة الفعل والمصدر يدل على الحدث، أي الفعل من دون زمان، ولذلك فلا معنى لحملهما على الجوهر.

أما اسما الزمان والمكان، فيشير الفعل إلى ارتباطهما به، فالزمان زمان الفعل والمكان مكان وقوعه، وهما يقومان كالفعل تماماً على الانفصال لا على الاتصال. بينما الانطلاق من الفعل واشتقاق الأسماء منه يجعلان الجملة تبين من صَدَرَ الفعل منه وأقام به وارتبط معه نوعاً من الارتباط.

إن النحو العربي هو منطق اللغة العربية، كما ذهب إلى ذلك العديد من النحاة العرب، وهو مفهوم باللغة، كل هذا دفع عديداً من علماء العربية إلى استعمال المنطق الأرسطي في مصطلحاته ومقتضياته ومفاهيمه في اللغة العربية، من أجل إنتاج لغة داخل لغة مقررة بين أهلها. فيعتبر أبو سعيد السيرافي أن الكلام والنطق واللغة والإفصاح والإعراب واللفظ والإبانة والحديث والاستخبار والعرض والنهي والحض والتمني والدعاء والنداء والطلب... كلها في وادٍ واحد بالمماثلة والمشاكلة. ولذلك طالب بالفصل بين النحو والمنطق، لأن رجل المنطق يسكت ويحيل فكره في المعاني ويرتب ما يريد بالوهم السانح والخاطر العارض والحدس الطارئ، فأما وهو يريد أن يبرر ما صح له بالاعتبار والتصفح إلى المتعلم والمناظر، فلا بد له من اللفظ الذي يشتمل على مراده ويكون طباقاً لغرضه وموافقاً لقصده.

 

البيان‭ ‬وأساليبه‭ ‬واستدلالاته

يعتبر السكاكي أبي يعقوب أنه من أتقن أصلاً واحداً من علم البيان كأصل التشبيه أو الكناية أو الاستعارة ووقف على كيفية نظم الدليل، وصاحب هذه الأصول يسلك في شأن متوخاه مسلك صاحب الاستدلال. فعلم البيان عنده مرجعه اعتبار الملازمات بين المعاني، من جهتين، جهة الانتقال من ملزوم إلى لازم، وهو المجاز، وجهة الانتقال من لازم إلى ملزوم، وهو الكناية. بينما جلال الدين السيوطي يعتبر أن أساليب البيان العربي هي البلاغة الموضوعية في اللغة العربية، التي تقوم في الخطاب العربي مقام البرهان في الخطاب المنطقي، وهذا ما كان يعيه البلاغيون العرب تمام الوعي.

لكن بعض الباحثين المعاصرين يؤاخذون على السكاكي عمله على مزجه الحديث عن البيان وهو فرع من علم البلاغة بالاستدلال الذي هو أحد أقسام المنطق. فالجابري مثلاً لا يرى لهذه المؤاخذة التي أخذوها على السكاكي، لأن المرء عندما ينظر إلى الخطاب المنطقي والخطاب البلاغي كما هو الشأن عند أرسطو، فإنه يرى أن السكاكي وغيره من البلاغيين المتأخرين قد قرأوا البلاغة العربية (أساليب البيان العربي) قراءة منطقية، لأنهم اكتشفوا طابعها المنطقي وليس لأنهم كانوا يقحمون المنطق في غير ميدانه. ويجمع علماء البلاغة العربية على أن أساليب البيان في اللغة العربية ترجع كلها إلى التشبيه، فهو جارٍ كثيراً في كلام العرب حتى لو قال قائل: هو أكثر كلامهم، لم يبعد، لأنه باب كأنه لا آخر له، على حد تعبير المبرد في الكامل.

ويقول العسكري في كتاب الصناعتين: «قد جاء من القدماء وأهل الجاهلية من كل جيل ما يستدل به على شرفه وفضله وموقعه من البلاغة بكل لسان». فالتشبيه، «من أشرف كلام العرب وفيه تكون الفطنة، وكلما كان المشِبه في تشبيهه ألطف كان بالشعر أعرف، وكلما كان بالمعنى أسبق كان بالحذق أليق». 

وتصل آلية البرهان في الخطاب العربي قمتها في القرآن الكريم، وفي السور المكية على الخصوص. وإذا كان المتكلمون قد التمسوا لإعجاز القرآن وجوهاً أخرى غير الوجه البلاغي قصد منحه طابعاً كلياً ينسحب على الناس عرباً أو غير عرب، وإذا كان الباحثون المعاصرون أيضاً يسلكون مسلك المتكلمين القدامى أنفسهم، من خلال استيحاء أمور وظواهر معاصرة تدخل في باب العلوم الكونية أو التشريع الجديد، فإن هذا الإعجاز القرآني، هو إعجاز بياني، وظاهرة لغوية، بالدرجة الأولى. والدليل على ذلك أن أولى الآيات والسور المنزلة جاءت لترد على الاتهامات التي كان المشركون يتهمون بها الرسول [ فالسمة الأولى للتعبير القرآني هي اتباع طريقة تصوير المعاني الذهنية والحالات النفسية وإبرازها في صورة حسية، والسير على طريقة تصوير المشاهد الطبيعية والحوادث الماضية والقصص المروية والأمثال القصصية ومشاهد القيامة وصور النعيم والعذاب والنماذج الإنسانية، كأنها كلها حاضرة شاهدة بالتخييل الحسي الذي يفعمها بحركة متخيلة.

ويعتبر محمد عابد الجابري، أن الإعجاز البلاغي، أو البرهان البياني في الخطاب العربي، يقوم على نوع من القمع الإبستمولوجي قوامه التأليف بين المختلفات بوساطة مشاهد حسية ناطقة تخفي الاختلاف وتظهر الائتلاف وتترك للمخاطب مهمة استخلاص المعنى بنفسه بعد أن توحي له به إيحاء وتوجهه إليه توجيهاً مما يصرفه عن المناقشة والاعتراض. بل إن هذا القمع الإبستمولوجي يرتفع في بعض الأحيان إلى درجة «الإفحام»، وذلك عندما يقذف صاحب الخطاب سامعه أو قارئه بوابل من التشبيهات التي تعرض سلسلة متوالية من الصور والمشاهد الحسية التي تنتقل بالذهن من فكرة إلى أخرى، دون أن تترك له فرصة لوضع الفكرة موضع السؤال. إن هذا القمع الذي يقوم عليه برهان البيان العربي إنما يرجع في قسم كبير منه إلى طبيعة اللغة العربية ذاتها. فعلاوة على مادتها اللغوية المرتبطة بالحس ارتباطاً يقرن كل معنى مجرد بتجربة حسية، وعلاوة على القوالب النحوية التي تلعب الصورة الصوتية دوراً كبيراً في تحديد هيكلها المنطقي، فلابد من الإشارة إلى أن البلاغة العربية (القمع الإبستمولوجي الذي يعتمده البرهان البياني)، إنما تقوم على الإخلال بالتوازن بين الألفاظ والمعنى.

وسواء تعلق الأمر بأداء الكثير من المعنى القليل من اللفظ أو بشحن الكثير من الألفاظ من أجل أداء القليل من المعنى، فإن القارئ/السامع يجد نفسه أمام خطاب يصرفه عن التفكير المنطقي ويدفعه دفعاً إلى الانشغال بالعلاقة بين الألفاظ والمعنى، وبالتالي بالبيان اللغوي، ومن هنا كان الخطاب العربي ذا طبيعة لغوية بيانية وليس ذا طبيعة فكرية منطقية. فالطبيعة الاستدلالية لأساليب البيان لا تقل أهميتها في الجوانب التي ذكرناها سابقاً.

 

البحث‭ ‬المنهجي‭ ‬في‭ ‬اللغة

كان علم الكلام في مراحله الأولى علماً لغوياً، أي كلاماً في النصوص المؤلفة. ولذلك فإنه كان من المحال التوفيق بين النقل والعقل دون نص.

وفي هذا الإطار تمت ممارسة النحو، والأبحاث البلاغية بكيفية عامة، حيث أثرت تأثيراً كبيراً في طريقة المتكلمين. ومن خلال طريقة المتقدمين، والدليل على ذلك، مسألة الاستدلال بالشاهد على الغائب، أي البرهان الكلامي على الإطلاق عند المتقدمين، وهو يطابق قياس الغائب على الشاهد عند النحاة والفقهاء. ويقول ابن جني في «الخصائص» ما مفاده أن علل النحويين، ويعني بهم المتقنين لا المستضعفين، هي أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقهين، وذلك أنهم يحيلون إلى الحس ويحتجون فيه بثقل الحال أو خفتها على النفس، وليس كذلك حديث علل الفقهاء.

ولعل أسبقية البحث اللغوي، التي أشرنا لها في بداية هذه الدراسة، في تأسيس طريقة الفقهاء والمتكلمين، لا تعني أن التأثير كان من جانب واحد. فتأثير الفقهاء والمتكلمين على النحاة المتأخرين واضح جداً، والدليل على ذلك،  استنتاج علم أصول الفقه من لدن فلاسفة النحو (الذين ألفوا في أصول النحو)، حيث إنهم عملوا على تبني مفاهيمه الإبستمولوجية ونسجوا على منوال هيكله العام.

ويرى محمد عابد الجابري أن من الأمور المثيرة للانتباه لجوء فلاسفة النحو إلى إقحام كثير من مفاهيم علم الكلام في أبحاثهم النحوية، من مثل مفهوم «الحركة» و«العرض» و«العلة» و...، ومع ذلك كله فلقد ظل الطابع اللغوي مهيمناً على هذه العلوم جميعها، ليس فقط لأن البحث المنهجي في اللغة كان المؤسس لكل منهجية لاحقة أتت من بعد، ولأن موضوع البحث أيضاً، سواء في الفقه أو في الكلام كان دوماً هو النص.

إن العلوم العربية على اختلاف فروعها وتنوع أهدافها تبدو من الناحية الإبستمولوجية كعلم واحد مهمته استثمار النصوص. فالعلوم الدينية كالفقه والكلام والتفسير والحديث... والعلوم اللغوية كالصرف والبلاغة والنحو، مادة بحثها هي النصوص بصفة عامة.

ويعتبر الجابري أن النص/اللغة هو سلطة مرجعية لاشعورية ولكن قاهرة، للعقل العربي. لأن طبيعة الموضوع في البحث العلمي هي التي تحدد نوعية المنهج وبالتالي طريقة التفكير عند الباحث.

ففي البحث العلمي، يعتبر النظام المعرفي الذي تؤسسه اللغة العربية هو حدٌ من النظم المعرفية الثلاثة المؤسسة للثقافة العربية الإسلامية، فقد عمدت الاتجاهات التي تبحث في الفكر العربي الإسلامي ومنها الاتجاهات الفلسفية والصوفية والكلامية، إلى تبني نظم معرفية أجنبية منقولة إلى العربية نتج عنها إحداث لغة في لغة مقررة بين أهلها، حسب تعبير أبي سعيد السيرافي، بمعنى إدخال بنية فكرية في بنية فكرية أخرى لا تجمعهما أمور مشتركة وموحدة فحدث الاصطدام.

إن النحو العربي ليس شروحاً متأخرة، وألغازاً وأحاجي نحوية، وحواشي وتعليقات وشروحاً وهوامش في الكتب فقط،... إنه النحو الذي نشأ في الفترة الحركية من الفكر العربي الإسلامي، انطلاقاً من القرن الثاني الهجري، أي منذ كتاب سيبويه، لأن هذه الفترة تمثل لنا تصوراً حقيقياً لمنهج البحث العلمي عند العرب، ولذلك فإن النحو لا يمكن دراسته بمعزل عن الفكر أو الجو العقلي العام الذي كان موجوداً في هذه المرحلة، التي عرفت نشأة العلوم العربية، حسب تعبير عبده الراجحي. ولذلك فمن الواجب أن نتجنب الجمود الذي بُني على الموروث والتراث الثابت، ثم أن نبتعد عن خطر المسخ، الذي يتجلى فيه. فالبحث في النحو العربي يبتدأ في طرق الأسس الخلفية الإبستمولوجية والأنطلوجية وراء هذا النحو، أي في الفكر الإسلامي والعربي الشامل والكامل والتطور الداخلي فيه.

ويزعم عبده الراجحي أن فهم النحو العربي ينبغي أن يكون في المراحل المبكرة لأن كتاب سيبويه حقيقة هو الذي طبع النحو العربي كله تقريباً، وكل الزيادات عبارة عن تفصيلات جزئية، فليس هناك اختلاف في المنهج الحقيقي ومجرد دخول تأثيرات المنطق في التعريف أو في التعليل أو في غير ذلك لم تكن إدخال نظرية جديدة أو إدخال منهج جديد، لكن في فترة سيبويه، ونحن لا نجزم بشيء من الناحية التاريخية، ليست هناك مادة ملموسة يمكن أن نجزم بها عن فكرة أرسطية النحو العربي، المادة العلمية الموجودة أمامنا، لأن المنطق الأرسطي يهتم بالقضية التي تعتمد في القياس على مقدمات، وهي قضايا، والقضية جملة خبرية أي معها الحمل. وبذلك فالجملة الإنشائية غير داخلة في عمل أرسطو إطلاقاً، أي إن نوعاً من أنواع الجمل غير داخل. بل إن الجملة الخبرية في نمط معين وهو وجود الاسم الذي هو عبارة عن موضوع هي التي يمكنها أن تدخل في عمل أرسطو .