بالقمحيلم.. محصول قديم جديد مازن الجراح

بالقمحيلم.. محصول قديم جديد

القمحيلم الذي طور قبل ما يزيد على 100 عام، هذا المحصول القديم والجديد بآن واحد هو هجين ناتج عن تزاوج نوعين من محاصيل الغذاء الأول هو القمح Wheat وقد استخدم كأم، أما الثاني فهو الشيلم Rye وقد استخدم كأب. لقد جمع الهجين الناتج الصفات الجيدة من كلا الأبوين، فلقد أخذ صفات جودة الحبوب من الأم (القمح) أما الأب فقد منحه المقاومة تجاه الأمراض كما منحه قوة النمو تحت الظروف المناخية القاسية من برودة وصقيع في الشتاء وجفاف في الصيف.

لقد بدأت الحكاية في تلك الحقول الشاسعة المزروعة بالقمح والشيلم والتي نادرا ما يحدث التلقيح الخلطي بينهما.

لقد حدث مثل هذا التلقيح ولكن من قبل الإنسان وبالتحديد في عام 1876 م عندما قام العالم ألكسندر ستيفان ويلسون Alexander Stephen Wilson داخل بيت زجاجي بنقل حبوب الطلع من نبات الشيلم واستخدمها لتلقيح أزهار القمح، وكان الهجين الناتج من هذين الأبوين مثار اهتمام العلماء البيولوجيين، بينما لم ينل أي اهتمام من قبل المزارعين، خاصة أن النبات الجديد لم تكن له القدرة على إكثار نفسه، فلقد كان نباتا عقيما. في عام 1891 م عاد التفاؤل من جديد عندما نجح العالم النباتي الألماني فيلهلم ريمبو Wilhelm Rimpaw في إنتاج هجين جديد من القمحيلم يتمتع بخصوبة جزئية.

ظل نبات القمحيلم غير معروف بشكل جيد حتى العقود الأولى من القرن العشرين، في ذلك الوقت بدأ علماء من بلدان مختلفة مثل الاتحاد السوفييتي السابق والسويد يكتشفون أهميته الاقتصادية ولكن جهودهم اصطدمت ببعض المعوقات وأهمها ضعف الخصوبة عند محصول القمحيلم والحبوب المتجعدة الناتجة فيما لو حدث الإخصاب، إضافة إلى استحالة إنتاج هجن كثيرة ما بين محصولي القمح والشيلم باستخدام الطرق التقليدية في عملية التهجين، فكان لا بد من البحث عن طرق وتقنيات جديدة للتغلب على هذه المشكلة.

تقنيات جديدة

حدثت القفزة العلمية الأولى في عملية إنتاج هجن القمحيلم في عام 1937م مع اكتشاف مادة الكولشيسين وهي مادة كيميائية طبيعية تستخرج من كورسومات نبات سورنجان الخريف Colchicum antumnale التي اكتشفها العالم الإيطالي B. Pernice في عام 1889 م،حيث تؤدي معاملة البادرات الناتجة عن تهجين القمح مع الشيلم بمادة الكولشيسين إلى تضاعف عدد الكروموسومات (الصبغيات) في الخلايا المنقسمة، ولدى تضاعف العدد الصبغي يتم التغلب على مشكلة العقم المتلازمة مع نبات القمحيلم. جاءت القفزة العلمية الثانية عام 1940 م مع تطوير تقنيات زراعة الأجنة تحت الظروف المخبرية، وتتلخص هذه التقنية بنزع الجنين من السويداء عند مراحل تطوره الأولى وقبل انهياره وراثيا، ومن ثم ينقل إلى وسط غذائي خاص ليكمل نموه، هذه التقنية كانت حيوية ومهمة خاصة عند إنتاج هجن القمحيلم سداسية المجموعة الصبغية (42 كروموسوما) وهي ناتجة عن تهجين نبات القمح الصلب Triticum Turgidum Var. durum مع نبات الشيلم Cecale Cereale وذلك بسبب عدم التوافق الوراثي ما بين هذين المحصولين نظرا لبعد أحدهما عن الآخر في سلم التصنيف النباتي.

هذا المحصول الجديد في عائلة محاصيل الحبوب، الذي هو ليس بالقمح ولا بالشيلم استمد اسمه من التسمية اللاتينية لكلا أبويه، فالأم وهي القمح Triticum والأب هو الشيلم Cecale ولذلك أطلق عليه اسم Triticale أو قمحيلم وهو يختلف في مظهره عن الأبوين، ولكنه أقرب إلى القمح وعند الاقتراب منه نلاحظ وجود شعيرات كثيفة تغطي المنطقة أسفل السنبلة وتعطيه مظهرا مخمليا ناعما فضي اللون أماالسنبلة فهي طويلة ومنحنية وذات سفا طويلة.

القيمة الغذائية

إن القيمة الغذائية لمحصول القمحيلم مشابهة. إن لم تتفوق في بعض النواحي. للقمح، حيث تبلغ نسبة البروتين في حبوب القمحيلم ما بين 12 - 16% من مجمل وزن الحبوب، هذه النسبة العالية من المحتوى البروتيني زادت من أهمية محصول القمحيلم واعتبره البعض الغذاء المتفوق.

نوعية البروتين: إن العامل الذي يحدد نوعية البروتين هو نوع ونسبة الحموض الأمينية الأساسية الداخلة في تركيبه. هذه الحموض الأمينية هي البنى الأساسية التي لا يمكن تصنيعها من قبل جسم الإنسان وكذلك الكائنات غير المجترة، وبالتالي يتحتم على الجسم أن يحصل عليها مباشرة من الغذاء، ومقارنة مع المحاصيل الحبية الأخرى يعتبر القمحيلم غنيا بالحمض الأميني الأساسي اللا يسين، ففي القمح تبلغ نسبة الحمض الأميني لا يسين 2.8% من كمية البروتين الموجودة في الحبوب مقابل 3.8% في حبوب القمحيلم، لذلك فإن بروتين القمحيلم أغنى ب 25% بالنسبة للحمض الأميني اللا يسين، وكذلك الأمر بالنسبة للحمض الأميني الأساسي الثرونين حيث إن نسبة وجوده في القمحيلم أكثر ب 10% مما هي عليه في القمح.

إن محتوى حبوب القمحيلم من المعادن مثل البوتاسيوم والفوسفور هو أكثر بقليل مما هو عليه في كل من القمح والشيلم، كما أظهرت التحاليل أن المحتوى من عنصر الفوسفور كان بحدود 4.5 جرام لكل 1كج من المادة الجافة مقارنة مع 3.8 جرام لكل 1كج من المادة الجافة في القمح و4.1 جرام لكل كيلو جرام من المادة الجافة في الشيلم وهذا ما يجعل حبوب هذا المحصول عنصرا رئيسيا وفعالا في غذاء كل من الدواجن والماشية.

وإن القيمة البيولوجية تعتبر صفة مهمة جدا، حيث إنها تقيس مقدار النتروجين الممتص والمستفاد منه من قبل الجسم. وقد أظهرت التجارب التي أجريت على الحيوانات أن القمحيلم يمتلك قيمة بيولوجية أعلى مما هي عليه في القمح وبمقدار يتراوح ما بين ال 15 - 20%. إن تفوق القمحيلم في هذه الناحية قد يعود إلى محتواه العالي من الحمض الأميني اللا يسين والثيرونين.

العوامل المضادة للتغذية

وهي عبارة عن مركبات يؤدي وجودها في الحبوب إلى الحد من استفادة الجسم وبشكل كامل من العناصر والمركبات الغذائية. من هذه المركبات يمكن ذكر البنتوزات القابلة للانحلال، مثبطات الأنزيمات والتانينات والبكتين والمعقدات من البروتينات العديدة السكريات لقد وجدت هذه المواد بكميات قليلة في حبوب محصول القمحيلم ولكن من الجدير ذكره أن هذه المركبات تفقد تأثيرها المثبط عند حدوث عملية الطهي أو الخبز، ولذلك فإن اعتماد الإنسان على حبوب القمحيلم في غذائه لا يتأثر بوجود هذه العوامل.

ويبدو أن محصول القمحيلم واحد من المحاصيل التي تكمن فيها القوة والأمل في زيادة إنتاج الحبوب في العالم 0 وذلك في المستقبل القريب وبشكل أكبر مما ساهم به في السابق وحتى الآن. هذا الاستنتاج يعود إلى المتغيرات الكثيرة التي تحدث في العالم، سواء المتغيرات الإيكولوجية (البيئية) منها أو البيولوجية والتكنولوجية والاقتصادية وأخيرا الاجتماعية، فالعالم يحتاج الآن - أكثر من أي وقت مضى - إلى محاصيل زراعية أكثر تأقلما مع هذه المتغيرات الكثيرة، وأهم صفة يجب توافرها في مثل هذه المحاصيل هي ثبات الإنتاجية الاقتصادية، رغم التذبذب الكبير في الظروف المناخية السائدة في مختلف مناطق العالم.

ويمكن أن نجمل أسباب التغيرات التي ذكرت فيما يلي:
1- زيادة السكان: إن أهم سبب يدفع إلى حدوث التغيرات سواء الاقتصادية منها أو الاجتماعية هي الزيادة في عدد السكان وخاصة في بلدان العالم الثالث، حيث يقدر سكان العالم حاليا ب 5.2 بليون نسمة وهذا العدد سوف يزيد بمعدل 25% مع نهاية هذا القرن.

إن أغلبية ال 1.2 بليون من السكان المتوقع زيادتهم ستضاف إلى سكان العالم الثالث وهذا الازدياد في عدد السكان يؤدي إلى استنزاف ما تبقى من الأراضي القابلة للزراعة، أما بعد نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين فالوضع سيكون أسوأ. فعلى سبيل المثال وفي عام 2025 سوف يزداد سكان العالم بمعدل 3 بلايين نسمة، وللمحافظة على نفس المستوى الغذائي للسكان يتوجب على الإنتاج الزراعي أن يزداد بنسبة 50%.

الحدود الزراعية: في العقود السابقة تمت زيادة الإنتاج عن طريق اختيار المناطق والأراضي المناسبة للمحاصيل المتنوعة والتي تمت زراعتها، فالأراضي الجافة تمت سقايتها، أما الأراضي غير الصالحة فقد تم استصلاحها، والأراضي غير الخصبة أضيفت إليها الأسمدة اللازمة والمناطق الموبوءة بالأمراض استخدمت فيها المبيدات الحشرية والفطرية وغيرها، ويضاف لما سبق ما تم تحقيقه عن طريق علوم تحسين النبات وإنتاج الأصناف المغلالة. كل ذلك أدى إلى أن تعطي المحاصيل مردودها الأعظم وبالتالي فإن الإنتاج العالمي من الغذاء قد ارتفع إلى مستوى مذهل، ولهذا السبب لم تحدث المجاعات التي كان متوقعا حدوثها في الستينيات من هذا القرن.

هذه الأمور التي حدثت خلال العقود الثلاثة السابقة تبدو كأنها وصلت إلى حدودها النهائية، وبدأت تسير بخطى بطيئة نوعا ما، ولهذا عدة أسباب أهمها هو استغلال معظم الأراضي القابلة للزراعة وبشكل مكثف إضافة إلى انخفاض إنتاجية مساحات كبيرة منها نتيجة الاستخدام الجائر لها. وهناك سبب آخر وهو زحف المدن نحو الأراضي الزراعية مما أدى إلى تقليص مساحات كبيرة كانت قابلة للزراعة والسبب الثالث هو التصحر وعملية التعرية والتي تؤدي إلى إزالة الطبقة السطحية والخصبة من الأراضي، أما السبب الرابع فهو حدوث ظاهرة الأمطار الحامضية مما يؤدي إلى زيادة درجة الحموضة في التربة، وبالتالي تحرير عنصر الألمنيوم الذي يعتبر عنصرا ساما لكثير من محاصيل الغذاء، وأخيرا فإن الاستخدام المكثف لمختلف المبيدات أدى إلى ظهور سلالات حشرية وفطرية مقاومة لهذه المبيدات.

التغيرات المناخية: إن الجفاف الذي أحكم قبضته على الولايات المتحدة والصين في صيف عام 1988 قد ركز الأنظار على ظاهرة تغير المناخ نحو الجفاف، كما أن الكثير من المؤشرات تنذر بارتفاع درجات الحرارة على سطح كوكب الأرض، حيث تعتبر الثمانينيات من هذا القرن الأعوام الأكثر حرارة في كثير من مناطق العالم بينما كان عام 1987 أكثرها حرارة.

واعتمادا على المعطيات المناخية الحديثة يمكن القول إن درجة حرارة كوكب الأرض سترتفع درجة مئوية واحدة في منتصف القرن الواحد والعشرين. وكنتيجة لما سبق يبدو أن كثيرا من بلدان العالم ستعاني من ظاهرة الأنظمة المناخية المضطربة وبشكل أكثر مما سبق وهذا سيؤثر بالتأكيد على إنتاج الغذاء، كما أن الكثير من المحاصيل التي تزرع حاليا في الأراضي المناسبة لها عليها أن تنتقل ونتيجة لضغط المتغيرات المناخية إلى مناطق هامشية وأقل خصوبة، وذلك لتغطية العجز المحتمل في إنتاج الغذاء.

محاصيل المستقبل

نتيجة لما ذكرنا من العوامل التي تساهم في حدوث المتغيرات، يمكن التأكيد على أن العالم يتطلب زيادة في الإنتاج الغذائي وهذه الزيادة لا يتوقع لها أن تتحقق من خلال الأراضي المستغلة حاليا، فالأعداد المتزايدة من السكان ستعتمد على مناطق وأراض كانت تعتبر حتى وقتنا هذا غير صالحة زراعيا، ولتفادي احتمال حدوث كارثة زراعية أو مجاعة كان على العالم أن يطور تقنيات جديدة تساعد على تحويل هذه الأراضي الهامشية إلى سلة غذاء إضافية، وإحدى هذه التقنيات هي تطوير محاصيل غذائية متأقلمة، ويمكن الاعتماد عليها اقتصاديا تحت هذه الظروف المناخية القاسية، كما أنها تستطيع الثبات في وجه المتغيرات المناخية المحتملة دون أن تتأثر الغلة.

لهذه الأسباب مجتمعة يمكن اعتبار محصول القمحيلم واحدا من هذه المحاصيل المهمة والتي تتحمل الظروف المناخية القاسية كما أنها تستطيع النمو في الأراضي القليلة الخصوبة كما أن احتياج هذا المحصول من المخصبات والمبيدات أقل من غيره.

القمحيلم عالميا

بعد مئات التجارب التي أجريت على محصول القمحيلم خلال الثمانينيات من هذا القرن، أصبح هذا المحصول معروفا من قبل الكثير من العاملين في المجال الزراعي في العالم. إن المساحات المزروعة من هذا المحصول تعتبر صعبة التقدير في الوقت الراهن وهي بحدود 1.5 مليون هكتار مزروعة في 32 بلدا في العالم. ونلاحظ من الجدول أن الإنتاج الكبير من القمحيلم يتركز في البلدان الصناعية، ولكن الاهتمام بهذا المحصول بدأ يتزايد في كل من قارتي آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، فالصين تزرع الآن ما مساحته 25 ألف هكتار سنويا أما في شمال إفريقيا فتعتبر تونس في مركز الصدارة بمساحة 25 ألف هكتار كما بدأ المغرب حديثا بإدخال زراعة محصول القمحيلم.

أخيرا فإن نجاح محصول القمحيلم عالميا قد شجع كثيرا من العلماء على خوض تجارب مماثلة مع محاصيل وأجناس نباتية متباعدة وراثيا، كما هو الحال مع النبات الجديد المسمى Agrotricum الناتج عن تهجين نبات القمح مع عشبة النجيل Agropyrun spp حيث تميزت الحبوب الناتجة من هذا المحصول بمحتواها العالي من الحمض الأميني الأساسي وهو (اللا يسين)

ونجاح آخر تجلى في تهجين نبات القمح Wheat مع نبات الرمال Elymus spp والذي أعطى نباتا مثيرا في حجم سنبلته التي احتوت على ما يقارب المائتي سنيبلة.

وننتهي أخيرا مع نجاحات علمية مثيرة لعلماء في استراليا وكندا، حيث نجحوا في الحصول على تهجينات خصبة ما بين محصولي الشعير والقمح على تعد بمستقبل زراعي مشرق.

 

مازن الجراح

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات