عندما تمتزج قوة السلاح بجمال الفن

عندما تمتزج قوة السلاح بجمال الفن

السلاح‭... ‬كلمة‭ ‬رنانة،‭ ‬قوية،‭ ‬وحادة‭... ‬يتبادر‭ ‬لذهن‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يسمعها‭ ‬أهوال‭ ‬وتفاصيل‭ ‬معـدات‭ ‬الحرب‭ ‬والفتك‭ ‬بكل‭ ‬أنواعها‭ ‬قديماً‭ ‬وحديثاً،‭ ‬وكما‭ ‬كان‭ ‬يتراءى‭ ‬للمسامع‭ ‬أصوات‭ ‬سنابك‭ ‬الخيل‭ ‬وصليل‭ ‬السيوف‭ ‬وضربات‭ ‬العصي‭ ‬واختراق‭ ‬الأسهم،‭ ‬ويتراءى‭ ‬اليوم‭ ‬صرير‭ ‬الآلات‭ ‬ودوي‭ ‬الانفجارات‭ ‬وزخات‭ ‬الطلقات‭... ‬يظل‭ ‬الحرص‭ ‬والرهاب‭ ‬والخوف‭ ‬والعنف‭ ‬مشاعر‭ ‬أساسية‭ ‬مقرونة‭ ‬بذكر‭ ‬اسم‭ ‬السلاح‭ ‬دوماً‭ ‬وأبداً‭... ‬وعلى‭ ‬عكس‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬في‭ ‬الأسلحة‭ ‬المتطورة‭ ‬الحالية‭ ‬من‭ ‬جفاء‭ ‬الأشكال‭ ‬وتعقيد‭ ‬الأجزاء،‭ ‬كان‭ ‬للفن‭ ‬وجمالياته‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الماضية‭ ‬نصيب‭ ‬عظيم‭ ‬من‭ ‬تصميم‭ ‬أدوات‭ ‬القتل‭ ‬تلك‭... ‬فبرغم‭ ‬شدة‭ ‬الغرض‭ ‬الذي‭ ‬صنع‭ ‬من‭ ‬أجله‭ ‬العصا‭ ‬والخنجر‭ ‬والسيف‭ ‬والمسدس‭ ‬وغيرها،‭ ‬فإنها‭ ‬قطع‭ ‬حظيت‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬الإبداعات‭ ‬والتي‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬اعتبار‭ ‬العديد‭ ‬منها‭ ‬تحفاً‭ ‬فنية‭ ‬فريدة‭ ‬تخلب‭ ‬لب‭ ‬الفنان‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تنال‭ ‬رضا‭ ‬المقاتل‭.‬‭.. ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الصانع‭ ‬يقسم‭ ‬جهده‭ ‬وتفانينه‭ ‬بين‭ ‬قوة‭ ‬السلاح‭ ‬وجماله‭... ‬حدّته‭ ‬وحبكته‭... ‬قسوة‭ ‬نصله‭ ‬وفخامة‭ ‬مقبضه‭... ‬مقياس‭ ‬فتكه‭ ‬ومدى‭ ‬فتنته‭.‬

 ويحظى السلاح الشخصي حتى يومنا هذا بالخصوصية والرغبة في صناعته بتميز وتحت طلبات خاصة تجعل لكل قطعة شخصية مستقلة حتى ولو لم تنقش صراحة باسم صاحبها، بدءاً من المقامع والفؤوس قديماً، ومروراً بالخناجر والسيوف، ووصولاً إلى المسدسات والبنادق حالياً، ويتنوع الفن وجماله في صناعة الأسلحة بين النقوش الدقيقة واستخدام الذهب والفضة في تكسياتها، وتزيينها وترصيعها بالأخشاب المصقولة والأحجار الكريمة... وتذوقنا التاريخي هذه المرة مع أسلحة شخصية نسب اثنان منها لملكين من أعظم ملوك مصر القديمة، وهما مينا موحد القطرين، وأحمس طارد الهكسوس. 

أقدم هذه الأعمال سكين - طوله حوالي 25 سم - صنع نصله من حجر الصوان المهذب، ومقبضه من العاج المنقوش نقشاً بارزاً... وأكثر ما يستوقف النظر بشأنه دقة ورشاقة صنعه، وما يشد الانتباه أكثر هو العصر الذي جاء منه، وهو عصر ما قبل الأسر المتوسط، أي قبل قرنين وأكثر من توحيد الملك مينا لشطري مصر حوالي عام 3200 قبل الميلاد، وقد وجد هذا السكين عند جبل العرق بمنطقة نجع حمادي في صعيد مصر (محافظة قنا)، ومحفوظ الآن بمتحف اللوفر في باريس، وفي هذا العصر المبكر في تاريخ البشر عامة ومصر خاصة كانت الهوية الفنية في باكورتها وبداية طريق اتخاذها السمات التي طالما تميزت به فنون بلاد وادي النيل فيما بعد، وكانت الأعمال وقتها تنحصر في تهذيب الحجر وصنع الأدوات من العظام والفخار كما كانت أغلبية آثار هذه العهود تحمل بساطة في الصنع وسذاجة في النقش والرسم، بيد أن مقبض هذا السلاح الذي لا يتعدى طوله عشرة سنتيمترات أخرجه صانعه بروح فنية نابغة ومتميزة، حيث نرى على أحد وجهيه معركتين، إحداهما برية والأخرى بحرية... الأولى بها مجموعة من الأفراد يتصارعون، ويعتقد أنه سجال بين مصريين وبدو من الصحارى الغربية، أما المعركة البحرية فنراها قائمة بين ثلاث مراكب مصرية ومركبتين غريبتين، كما يتبين وجود بعض القتلى والغرقى... الوجه الآخر به بروز ناتئ لتثبيت السكين بحزام حامله... في الأعلى مشهد رجل يفصل بين أسدين جامحين، محاولاً السيطرة عليهما، ويحمل هذا الشخص ملامح وملابس أقرب للهيئة السومرية... الجزء السفلي يحتوي مشاهد حيوانات مختلفة أبرزها لبؤة تنقضُّ على ثور من الخلف... ولا شك في أن هذا الأثر المهم حمل تأثيراً واضحاً من الحضارات المجاورة لأرض وادي النيل، مثل بلاد ما بين النهرين شرقاً وليبيا غرباً، سواء بالهجرات أو التبادل التجاري.

 

قطعة‭ ‬باهرة‭ ‬من‭ ‬زمن‭ ‬غابر

كما تعتقد بعض النظريات أن هذا السلاح تم إهداؤه لملك مصر وقتها في صورة جزية أو غنيمة من تلك البقاع، ومع انعدام الكتابة فقد أبقانا هذا الكشف في حيرة من أمر وهوية صاحب السكين، واسم الحاكم أو الملك الذي كان يسيطر وقتها على تلك المناطق، ولكن تظل هذه القطعة باهرة بكل المقاييس، خاصة في زمنها الغابر ونقشها الساحر. 

في متحف «اشـموليان» في بريطانيا تقبع قطـعتان أثـريتان بالغـتا القـيمة، القطعة الأولى رأس دبـوس - طوله حوالي 32 سم - يخص الملك «العقرب»، وهو أحد ملوك مصر القديمة من عهد ما قبل الأسرات الحديث - الفترة التي تسبق عهد الملك مينا مباشرة - والذي وحَّد البلاد ولكن فترته لم تدم طويلاً، والدبوس أو «المقمعة» أداة قتال استخدمها الملوك الأقدمون في الحروب قبل انتشار «البلطة» ومكونة من رأس حجري بصلي الشكل ويد طويلة قد تصنع من الخشب أو العاج... تظهر على نقوش تلك القطعة الفريدة صفاً من الألوية التي ترمز للمقاطعات المصرية قديماً وبعض الأماكن المحيطة بوادي النيل، كما نرى الملك مرتدياً تاج الوجه القبلي ويمـــسك فأساً يشق به الأرض قرب حافة مجرى مائي يعمل عليه بعض الرجال، ويقف خلفه اثنان من حاملي المراوح... ويعتقد أن تلك النقوش تمثل الملك وهو يحتفل ببعض أعمال الري والزراعة، بعد أن فرغ من انتصاراته في توحيد البلاد وقهر القبائل المجاورة.

 

أميرة‭ ‬الوجه‭ ‬البحري

 أما القطعة الثانية فهي رأس دبوس الملك نارمر، وهو المعترف به لدى غالبية العلماء أنه مينا موحد القطرين - وتم اكتشافها مع القطعة السابقة ولوحته الشهيرة الموجودة بالمتحف المصري في موقع مقاطعة كانت تسمى قديماً «نخن» أو «هيراكنبوليس» جنوبي الأقصر عند مدينتي الكاب وإسنا عام 1898،  حيث نرى الملك مرتدياً تاج الوجه البحري جالساً على عرش بسيط ويتدثر بعباءة طويلة، وأسفله في حجم صغير رجلان من حاملي المراوح، ووراءه في صفين خمسة من الرجال التابعين له، أحدهم يحمل نعليه، وأمامه في الأعلى أفراد يحملون ألوية ذات شعارات، وأسفلهم ثلاثة رجال من الوجه البحري يجلس أمامهم شخص غامض داخل محفة، وفي الأسفل صورة أسير وغنائم حيوانات من الثيران والماعز مدون أسفلها الأعداد، كما نرى أنثى طائر العقاب (نخبيت) – معبودة الوجه القبلي - محلقة أعلى الملك وخلفها نقش باسم «نارمر» داخل إطار يحرسه الصقر «حورس». ولقد تباينت آراء العلماء في تحليل نقوش رأس الدبوس هذا، حيث فسرها فريق منهم على أنها إشارة لحفل زواج الملك بأميرة الوجه البحري توطيداً لحكم البلاد موحدة تحت لوائه، واعتبرها آخرون تسجيلاً لانتصار الملك على الوجه البحري وأمرائه، في حين يعتقد البعض أن هيئة الملك في هذا المنظر تمثل احتفالاً بعيد يسمى «حِـبْ سِـدْ الثلاثيني»، الذي يعـد أهم وأقدم الاحتفالات الخاصة بالجلوس على العرش في تاريخ مصر القديمة.

وفي المتحف المصري بالقـاهرة توجد تحـفة نادرة بطول 47.5 سم، وهي بلطـة الملك أحمس - مؤسس الأسرة 18 وبـــادئ عهد الدولة الحديثة - والمكونة من يد صنعت من خشب الأرز، ونصل عليه اسم الملك داخــل خرطوشيــــن ونقوش أخرى لعدة معبودات، بالإضافة إلى نقش للملك وهو يقضي على رجل من الهكسوس، في إشارة إلى انتصاره الساحق عليهم. وقد عثر على هذه البلطة ذات التكسيات الذهبية والمطعمة بالأحجار الكريمة بين مجموعة أسلحة ومجوهرات نفيسة داخل تابوت الملكة «أعح حتب» والدة الملك «أحمس»، والذي تم اكتشافه عام 1859 بمنطقة «ذراع أبوالنجا» بالأقصر، ويعتقد أن الملك قد أهدى تلك النفائس إلى أمه تقديراً لدورها الرائد في النضال ضد الهكسوس، حيث ساعدت زوجها الملك سقنن رع على تجييش الجنود حتى اغتيل الأخير في ساحة الحرب، فقدمت ابنها الملك كامس، الذي استعرت في عهده الحروب الحقيــــقية للــــخلاص من نير الهكسوس، ويرجح أنه اغتيل أيضاً مثل والده، حتى نجح ابنها الثاني الملك أحمس في طردهم نهائياً من البلاد. 

ولعل أعظم أثرٍ باقٍ من نتاج استخدام الأسلحة قديماً هو ما نراه في مومياء الملك سقنن رع المحفوظة بالمتحف المصري بالقاهرة، والتي تتضح بها جلياً عملية اغتيال هذا الملك العظيم أثناء نضاله ضد الهكسوس، حيث تصور العلماء أن سقنن رع قد سقط بغتة في ساحة الحرب ربما نتيجة إصابة – مع وجود نظريات أخرى تعتقد أن مقتله تم أثناء النوم وقت استراحته بالميدان - فتم العدوان عليه بطعنة خنجر تحت أذنه اليسرى وصلت إلى عنقه، ثم توالت الضربات على وجهه حيث نرى ضربة بلطة نافذة بجبهته وكسر بعظام الجمجمة أسفلها، وأثر طعنة غائرة بجانب عينه، وجرح قطعي أسفل عينه الأخرى، كما يلاحظ وضعية الضغط على أسنانه توجعاً وألماً أثناء الاحتضار المُشرّف. 

 

كيف‭ ‬هُزم‭ ‬الهكسوس؟

ومن الأمور المهمة أثناء دراسة الأسلحة هو بيان كيفية تأثيرها على الجيوش في الحروب وترجيح كفة جانب دون الآخر، وما يترتب على ذلك من تغيير القوى وهدم العروش وإعادة رسم الحدود وتوزيع الثروات ومن ثم كتابة التاريخ لصفحاته... ففي صراع مصر القديمة مع الهكسوس كانت الغلبة والاكتساح في البداية من نصيب الوافدين الآسيويين لأمـــرين لا ثالث لهما، ولم تكن الثروة البشرية أو كفاءة المحاربين إحداهما، بل كان تفوقهم الحربي يرجع إلى استخدامهم الخيل مع العربات وصنع أسلحة من البرونز. فالأمر الأول أضاف إليهم السرعة في تحريك الجنود والعتاد، والأمر الثاني أعطى لهم قوة السلاح ونــفاذية ضرباته، حيث إن ظهور البرونز في تلك الفترة قد أحدث تأثيراً غير تقليدي، لأن مقدار القصدير الذي يضاف إلى النحاس لصنع البرونز يعمل على إنتاج معدن أشد صلابة وأنقى في قوالبه، فضلاً عن انصهاره بدرجـــة حرارة منخفضة وإمكان معالجة سبيكتـــه وإخراج أشكال جديدة لم تظهر في صناعة النحاس أو نحت الحجر والعظام قبل ذلك, لذا فلـــــم يكـــتب للمصريين النصر على الهكسوس إلا عندما دشّنوا العربات التي تجرها الخيول وصنعوا أسلحة برونـــــزية، فكانت الغلبة من نصيبـــهم, بعد أن وحدوا قوتهم واستخدموا عقولهم ووقــــفوا خلف ملوك وطنييــــن تحـــــلوا بالعزيمة التي لا تقهر إلا بالموت.

لوحة‭ ‬الملك‭ ‬نارمر‭ ‬بالمتحف‭ ‬المصري‭ ‬بالقاهرة

رأس‭ ‬دبوس‭ ‬الملك‭ ‬نارمر‭ ‬ورسم‭ ‬النقوش،‭ ‬وفي‭ ‬أعلى‭ ‬اليمين‭ ‬نقش‭ ‬للملك‭ ‬في‭ ‬لوحته‭ ‬الشهيرة‭ ‬ممسكاً‭ ‬بدبوس‭ ‬حربه