سورابيـيْ عربيـة مدغشقـر الجليلـة

سورابيـيْ عربيـة مدغشقـر الجليلـة

برغم‭ ‬القرب‭ ‬الجغرافي‭ ‬الحالي‭ ‬لجزيرة‭ ‬مدغشقر‭ ‬من‭ ‬القارة‭ ‬الإفريقية،‭ ‬فإن‭ ‬لغتها‭ ‬الملغاشية‭ ‬لا‭ ‬تمت‭ ‬بصلة‭ ‬وراثية‭ ‬إلى‭ ‬اللغات‭ ‬الإفريقية،‭ ‬ولكنها‭ ‬تعد‭ ‬إحدى‭ ‬لغات‭ ‬المجموعة‭ ‬المالايْوية‭ ‬البولينيزية‭ ‬الغربية،‭ ‬ضمن‭ ‬أسرة‭ ‬اللغات‭ ‬الأُسترونيزية‭ ‬Austraunisian‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خمسمائة‭ ‬لغة،‭ ‬كالإندونيسية‭ ‬والجاوية‭ ‬والفلبينية‭ ‬والهَواوية‭ ‬والرابوناي‭ ‬ولغة‭ ‬تشامورو‭ ‬وابْروناي،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الألسن‭ ‬المتداولة‭ ‬في‭ ‬الجزر‭ ‬الممتدة‭ ‬ذ‭ ‬منفردة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬أرخبيلات‭ ‬ذ‭ ‬من‭ ‬جزيرة‭ ‬مدغشقر‭ ‬على‭ ‬الساحل‭ ‬الجنوبي‭ ‬الشرقي‭ ‬لإفريقيا،‭ ‬إلى‭ ‬جزيرة‭ ‬القيامة‭ ‬شرق‭ ‬المحيط‭ ‬الهادي،‭ ‬مروراً‭ ‬بجزر‭ ‬أقاصي‭ ‬جنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا‭.‬

إذا كانت الملغاشية تكتب حالياً بالحرف اللاتيني في صورته الصوتية الفرنسية والإنجليزية، بحكم الاحتلال الفرنسي الذي رست أولى بعثاته العسكرية التجارية بشواطئ البلاد منذ أربعينيات القرن الـ 17 مع «شركة الهند الشرقية»، ثم غزت فيالقه الأرض سنة 1881، وأطبق بأنيابه عليها رسمياً في 1895، برغم أن الطلائع الاستكشافية الأوربية والبعثات التنصيرية كانت قد سبقته بقرون ممهدة له الطريق، فإن الأثر العربي الإسلامي لايزال مستمراً في الجزيرة لأسباب دينية وجغرافية وإثنية وتاريخية وثقافية تحتاج إلى كثير من البحث والتقصي.

فعلى صعيد اللغة يندهش المرء مما سجله المستشرقون الدارسون للغة الملغاشية من استمرار وجود المعجم العربي فيها إلى اليوم، متجاوزاً لغة التعبد والتعاويذ والطلاسم والتنجيم والعِرافة، إلى لغة المعيش اليومي، كتحية السلام (سَلامة)، والترحيب (أَراحابة)، وتسميات أيام الأسبوع (الْاتْنيْنِي، تَلاتة، الْأرُبِعَة، الْكَميسِي، زُمعة، سَبوتْسِي، الْأهَدي)، وبعض القرى: مكة، أجاز (حجاز)، مِشْر (مصر)، وكهذه العينة من الألفاظ التي أحصى منها فيليب بُوجار
BEAUJARD 496 كلمة ذات أصل عربي، بعد دراسة ميدانية جمع خلالها 707 مصطلحات من أفواه الكتبة بـ«ماناكارا»: (اتْساموساحي: تمساح، زَهابي: ذهب، سِحابُو: سحاب، السَّفونِ: الصابون، مَريفي: مريض، بصوت «ﭭ» بدل «ف» في الكلمتين الأخيرتين، هِيدِي: عيد، زافاريهُو: ظُفر، أليباكارا: البقرة، فَرَسة: فرس، مُوزا: مَوز، اتْسَامايْ: سماء، كلامُو: كلمة، زُوع: جوع، جيرانِي: جيران، كاسيرا: كثير...)، وغيرُها كثير يمكن أن يكشفه خبير باللسان العربي مما قد يكون فات «بوجار» (1998)، كما كشف هو نفسُه ما فات كلا من باستور
 1953) H.F PASTOR) الذي لم يُحص في كتابه «بقاء التأثير العربي في مدغشقر» غير 110 لفظات عربية، والملغاشي ناريفيلو رَجاوُناريمانانا (1990)N.RAJAONARIMANANA، وهــــــــو صاحب أطروحة دكتوراه حول الوصفات السحرية الطبية في التقاليد الملغاشية انطلاقاً من مخطوطات سورابيي، وقد رفعها إلى 272 فقط. هذا، دون الحديث عن الآثار الصرفية والنحوية واللغوية الأخرى.

 

مخطوطات‭ ‬الكتابة‭ ‬الجليلة

سورابِييْ SORA-BE، عَلم مركب من الكلمتين الملغاشيتين: «سُوراتْرا» ومعناها «الكتابة»، و«بييْ» ومعناها: «العظيم» أو «الجليل» أو «الكبير». وعليه فـ «سورابيي» هي «الكتابة الجليلة أو العظيمة»، وليس «الكبيرة» من كِبَر حجم الخط، كما ذهب إلى ذلك بعضهم، مفترضاً بشكل مضحك وجود «كتابة أخرى صغيرة»! وقد مثلت المخطوطات المكتوبة بسورابيي صورة مجسدة لتفاعل اللسانين الملغاشي المحلي والعربي الوافد، صاهرةً إياهما في بوتقة واحدة، روحها ملغاشي اللغة، وجسدها عربي الأبجدية واللفظ (كما تبين الصور المرفقة)، ويرى باحثون أن رسم حروفها تأثر بالقيمة الصوتية للأبجدية العربية الجاوية التي كُتبت بها المالايْويية Melayu في كل من بروناي وماليزيا وسومطرة وسنغافورة والفلبين.

وبرغم أن تلك المخطوطات ذات قدسية تحيطها بالتحرز والسرية التي تحصرها بين النبلاء المتعلمين داخل العشيرة الواحدة من عشائر قبيلة الأنتيمور، كأنْتامْباهُوَاكا وأنتانوسي وماهاجانجا وأنتسيرانانا، ومناطق أخرى من شمال شرق وجنوب شرق رابع أكبر جزر العالم، ولا يُسمح للأجانب بالاطلاع عليها، فإن بسط اليد الكولونيالية الفرنسية على البلاد قد مكّن الدارسين والمستشرقين ولصوص المخطوطات من كثير منها، لينشر «غوتيي» و«فروادوفو» بعضاً منها للمرة الأولى عام 1907، في حين تفرقت نسخها الأخرى – كما يذكر ليون دوري Lèon DOREZ - بين فرنسا، في كل من المكتبة الوطنية، وديْر سان جرمان، ومدّخرات الكاردينال مازارين MAZARINE والكونت أنيسون ديبيرو Anisson-DUPÉRON، والمتحف البريطاني بلندن، وخزانتي أوسلو وستافانغير بالنرويج، وغيرها، مما جلب اهتمام عدد هائل من المستشرقين، بعضهم كان يشغل مهام تنصيرية أو عسكرية أو دبلوماسية لمصلحة الإدارة الفرنسية، من أهمهم بَعد الحاكم الفرنسي العام لمستوطنة «حِصن الدلفين» التي أقامتها فرنسا سنة 1643 في «طولانارو» أسفل جنوب مدغشقر: إتيان دو فلاكور  1660/1607 É. De Flacourt  صاحب كتاب «تاريخ الجزيرة الكبيرة مدغشقر»، يمكن أن نذكر كلاً من غوتيي E.F GAUTIER، وفروادوفوH. FROIDEVEAUX ومانث L. MUNTHE، وبوجار P. BEAUJARD، وفِرانG. FERRAND ، وكوبلي J. GAUBLÉE، وجوليان G. JULIEN، وباستور H.F PASTOR، وكوتا M. COTTA، وديز J. DEZ، وغيرهم كثير! 

يميز فيليب بوجار في بحثه الموسوم بـ«الكلام السري في العربية الملغاشية» بين ثلاثة أنواع من مخطوطات سورابيي: مخطوطات دوّنت بالعربية، وأخرى بالملغاشية القديمة أو المحدثة، وثالثة تُدعى محليّاً «كلام التيتسيتيتسي» Kalamo Tètsitètsy الذي هو عبارة عن تعاويذ وطلاسم مشفرة. والذي يهمنا في هذا المقام هو الصنف الأول، والذي لا يُكتب إلا على ورق «الأنتيبون» المُوقَّر، وهو ورق مصنوع محلياً حصرًا لهذا الغرض من ألياف شجر «الهافوها»، بعد طبخها، ومعالجتها بكيفية مخصوصة. وقد ذُكر أن للقبائل المحلية كتاباً مقدّساً مكتوباً عليه بهذا الخط، يلفه الغموض بسبب ما ذكرناه من قبل عن طقوس القدسية والسرية القبَلية المنغلقة، وهو يحمل اسم الكتابة العربية الملغاشية «سورابيي» نفسها، ويقع في أجزاء، ويتضمن سوَراً وآيات من القرآن الكريم، تتراوح بين الصحة والتحريف، ضمن خليط آخر من الحروف والرسوم والجداول والطلاسم والزخارف المختلفة.

ويسجل فوبلي أن الطابع الغالب على المخطوطات التي اطلع عليها أو درسها منتصف القرن العشرين – خَلا الكتاب المقدس المزعوم – عبارة عن مقتطفات متفرقة، أكثر من كونها نصوصاً كاملة منسجمة، ويحصر أهم مضامينها في الآتي: صلوات وتسابيح وأدعية إسلامية، أسماء الله الحسنى وأسماء الملائكة، تعاويذ، تعابير فلكية، ترجمات من العربية إلى الملغاشية،  أنساب وأصول قبلية وتواريخها، مقتطفات بالفارسية. وأضيفُ إلى ما ذكره «فوبلي» اشتمالَ مقتطفات المخطوطة ذات الـ 126 صفحة التي أوردها فِران في بحثه «دراسات عن المخطوطات العربية الملغاشية» على معجم ملغاشي عربي، وكذا على أشعار وحِكم وأسماء متفرقة للأنبياء والخلفاء الراشدين والسِّبطين وبعض أئمة الفقه، كالشافعي وأبي حنيفة. 

وجدير بالذكر هنا ما أشار إليه فلوبي في محاضرة تقدم بها أمام الجمعية الفرنسية للتاريخ عام 1969 من أن سورابيي وإن كانت لاتزال متداولة بين عدد محصور من أشراف قبائل الجزيرة، فإن هؤلاء إنما يحفظون ما بالمخطوطات الموروثة عن ظهر قلب دونما فهم للمداليل، فهو حفظ أشبه بالتصوير الشمسي منه بالقراءة، كما أنهم حين يعيدون استنساخ ما في المخطوطات إنما يقلدون أشكال الحروف أثناء النقل، كما يفعل الرسام، لذا يعدُّ إطلاق وصف «الكتابة» على ما يفعلون من باب المجاز، فهو رسم وتصوير أكثر منه كتابة، ولعل هذا ما جعل بوجار يستنتج أن الغاية من سورابيي هي حفظ الهوية إزاء القبائل غير العربية الأخرى بالجزيرة، أكثر منها توخي التواصل أو نقل المعارف.

وبرغم أن كتابة سورابيي تبدو من خلال هذا الحصر والتحديد محدودة مجال الاستعمال والتداول، فإن المصادر التاريخية تذكر أن هذه الأبجدية انتشرت في كل الجزيرة في بدايات القرن الـ 19، بسبب تكليف ملك قبيلة مِرينا «أندريانا بواني مِرينا» (1745/1810) لكتَبة قبائل الأنتيمور بتعليم أطفال القصر الكتابة والقراءة، أصبحت معه سورابيي لغة المراسيم وشؤون الدولة. لذا فإن القصر الملكيَّ التاريخي (روفا) بالعاصمة «أنْتاناناريفو» الذي أصبح في العصر الحديث متحفاً وطنياً، كان يضم - قبل احتراقه عام 1955 – دفتراً به وثائق ومراسلات دبلوماسية بخط سورابيي لابنه الملك الشاب «راداما الأول» الذي خلفه بين عامي (1810/1828)، مما يشير إلى أن الحسم في طبيعة الكتابة المذكورة ومضامينها وحجم تداولها لايزال بعيداً، سيما أن نسبة مهمة من المخطوطات لاتزال مطمورة في بطون مدَّخرات العشائر المحلية، والمكتبات الأوربية المتفرقة، وأن إعادة النظر في ما توصل إليه الدارسون من قبل – ومن عجب أن أغلبهم مستشرقون – مفتوحة، بل مطلوبة، لتحقيق مزيد من ضبط الحقيقة العلمية والتاريخية، كمثل ما فعل صاحبا مُستدرَك «إعادة كتابة مخطوطة عربية ملغاشية منشورة من لدن غ. جوليان» إ. موريس I. MAURICE ولوغرو LEGROS، في مراجعتهما لبحث جوليان غوستاف: «صفحات عربية ملغاشية»، كاشفيْن عن بعض ما اعترى عمله من نقص مصدرُه إهمال حروف أو حركات، أو عدم معرفة راسخة بالدارجة الملغاشية... وتزداد ضرورة استئناف النظر في مخطوطات سورابيي التي لأمرٍ ما يعتبرها الأهالي كنزاً، تنقيباً وجمعاً وتحقيقاً ودراسة، حينما نتأمل ما ذكره الأنثروبولوجي برنار شامبيون B. CHAMPION من أنه ليست هناك مخطوطة واحدة تتحدث عن الوصول الأوربي إلى الجزيرة، ولا عن المنصّرين، ولا عن الحاكم فلاكور ومن خلَفه، ولا عن بناء مستوطنة حصن الدلفين Fort-Dauphin في منتصف القرن الـ 17، مما كان يمثل أحداثاً جساماً مرت بتاريخ الجزيرة الحديث، مع أن تاريخ التدوين بسورابيي يرجع – في أدنى تقدير – إلى القرن الـ 15م، إن قبِلنا جدلاً رفْض كثير من المستشرقين تصديق قِدم المخطوطة التي نشرها المنصّر النرويجي بمدغشقر أوطو كريستيان دال Otto CHRISTIAN DAHL، وهي المخطوطة التي تؤرخ لقدوم الوافد العربي أبي قبيلة الأنتيمور، المدعو محلياً راماكارارو، إلى الجزيرة سنة 542هـ، مما يزامن منتصف القرن الـ 12، وبالضبط سنة 1147 أو 1148 للميلاد.

 

عرب‭ ‬مدغشقـر

أثبتَ بحث علمي مختبري نشرته مجلة المكتبة العامة للعلوم PLOS عام 2013 تحت عنوان «تتبعُ الإرث العربي الإسلامي في مدغشقر»، لفريق بحث مكون من ميلاني كابردون Mèlanie CAPREDON وآخرين، الصلة الوراثية الوثيقة لأهالي جزيرة مدغشقر بالشرق الأوسط، بشكل يقيني لا يدع مجالا للشك. وقد أتت نتائج البحث لتؤكد ما يجيب به عوام الأنتيمور، وملوكهم، ومُلوك ملوكهم، حين يُسألون عن أصولهم، بأنهم - بافتخار واختصار - من مكة، أو من جدة، ويضيفون: «وقرب جدة مكة، وبمكة هذه وُجد رجل طيب اسمه محمد». غير أن المؤرخين والمهتمين لا يرون مكة أو جدة هنا غير إحالة جغرافية كبرى، لذا اتفق كثير منهم أن شبه الجزيرة العربية أصل لقبائل الأنتيمور والأنكار والتناري والأنتيروترا والكرنبيلو وذافيتسيموتو وغيرها، غير أنهم اختلفوا في التحديد الجغرافي للمنطقة الأصلية بين الحجاز واليمن وعُمان، كما اختلفوا في تاريخ الوفود العربي إلى ذلك الصقع النائي وأسبابه، بين من يُرجعه إلى القرن الهجري الثاني، ومن يؤخره إلى القرن السادس، ومن يؤخره أبعد من ذلك، والحقيقة أن الأمر يتعلق بهجرات متعددة، كما اختلفوا بين من يرى أن البحّارة والتجار العرب هم من قدِم عبر جزر القُمر المجاورة(‭*‬)، ومن يرى أن القادمين أتوا لأسباب سياسية خلافية؛ والمهم الواضح أن الأثر العربي الإسلامي في الجزيرة أعرق من الأثر المسيحي بقرون، برغم ما حاوله المستكشفون البرتغال وإدارة الاحتلال الفرنسي (مبكراً عبر «شركة الهند الشرقية» الفرنسية المستقرة في «رأس الرجاء الصالح»)، من مسخ للهوية المحلية للأهالي الذين كانت تراهم محمَّديين وثنيين، وهمجاً برابرة، عبر تمسيحهم و«فرنسة» الحياة العلمية والإدارية والعامة، بلغ بها تطرفها حد تغيير المستكشفين اسم الجزيرة نفسَه إلى جزيرة القديس لورانس São-Lourenço، وكذا أسماء الجزر المجاورة، كجزيرة إبراهيم التي أصبحت جزيرة القديسة مريم Santa-Maria، بل واستغلال أبجدية سورابيي نفسها لكتابة إنجيل باللسان الملغاشي المحلي، يحتفظ أرشيف مانث المذكور آنفاً بجزء منه يعود إلى عام 1820، من إنجاز طالب من بعثة ملغاشية إلى لندن يدعى إيفاريكا.

 

درس‭ ‬السُّميـط

عبدالرحمن حمود السُّميط (1947/2013) رجل خير استثنائي في تاريخ إفريقيا عامة، ومدغشقر خاصة؛ إنه حقاً فرد بأمّة. هو طبيب كويتي متخصص في أمراض الجهاز الهضمي، تفرغ لشؤون الدعوة والعمل الخيري في القارة السمراء، فعمل ضمن هيئات إغاثية عدة، منها لجنة الإغاثة الكويتية، وأنشأ جمعية العون المباشر (لجنة مسلمي إفريقيا سابقاً). ترك رفاهية العيش، وقضى – وسط مخاطر الأمراض والحروب والجوع - قرابة ثلاثين عاماً حاملاً هموم الدعوة والتنمية في بلدان إفريقية عدة، منها مدغشقر التي استقر بين دفء أحضان أهالي الأنتيمور فيها ثلاثة أعوام، في بيت متواضع، أنجز خلالها مشاريع اجتماعية وتنموية وصحية ودينية وعلمية مهمة، وألَّف عدداً من الكتب والأبحاث، مواجهاً وحده أمواج هيئات التنصير العاتية التي ضاقت بفعاليته الإيجابية ذرعاً، ولم يهدأ لها بال إلا عندما نجحت في حمل الحكومة الملغاشية على إخراجه من البلاد.

كان للسميط - رحمه الله - هدف واحد معلن: إعادة إفريقيا إلى هويتها العربية الإسلامية الضائعة، انطلاقاً من إحساس قوي بواجب أداء دَيْن الأخوة الإسلامية، وكان وعيه بالبُعد الهوياتي للحرف العربي القرآني قائماً، عبّر عنه في مثل قوله: «إلى عهد قريب جداً كان الحرف العربي هو الحرف الذي يُستخدم في الكتابة في إفريقيا من دون منافس، حتى جاء الاستعمار والتنصير الغربي في منتصف القرن الماضي، وأخذ يحارب الحرف العربي لأنه ينتمي إلى لغة القرآن الكريم، واستطاع أن يغير كثيراً من اللغات، ومن أواخر اللغات التي غيرت (كتابتها) من الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني لغة «الهاوسا» في شمال نيجيريا، واللغة الصومالية، وغيرهما... ومع الأسف الشديد، فإن العرب لا يقدمون شيئاً للدفاع عن لغتهم».

بهذه الكلمات الواضحة المباشرة يضع السميط الهيئات العربية الإسلامية المعنية، حكومية وغير حكومية، أمام مسؤولياتها التاريخية إزاء إخوة لهم جرفت أسلافَهم الأقدار وتيارات البحار إلى أقصى الجنوب الشرقي من إفريقيا، ثم طال عليهم أبد الزمان، والاحتلال، حتى لم يعودوا يتذكرون من أصولهم البعيدة تلك غير بقيّة باقية من آثار، إن كان كثير منها ذا طابع شفهي قابل للتحريف والزوال مع تعاقب الأجيال، فإن مخطوطات «سورابيي» أثرٌ خلّدته الكتابة ليبقى نقش هويّة عصية على النسيان. ويكفي تبكيتاً للتقصير العربي أن نذكر – على سبيل الختم –
أن المرسوم الملكي الملغاشي بتاريخ 23 مارس 1823، القاضي باعتماد الأبجدية اللاتينية، في صورتيْها الصوتيتيْن الفرنسية والإنجليزية، لم يكن إلا خضوعاً من الملك راداما الأول للأمر الواقع الذي جعله أمامه المبشرون الإنجليز وقد جلبوا إلى البلاد – لأول مرة - مطبعة حديثة، لم تكن حينئذ تشتمل إلا على الحروف اللاتينية! .