المعهد الدومينيكي للدراسات الشرقية بالقاهرة.. قصة 64 عاماً في خدمة الثقافة العربية الإسلامية

المعهد الدومينيكي للدراسات الشرقية بالقاهرة..  قصة 64 عاماً  في خدمة الثقافة العربية الإسلامية

تحتضن‭ ‬مصر‭ ‬ثقافات‭ ‬مختلفة‭ ‬نابعة‭ ‬من‭ ‬حضارات‭ ‬متعاقبة‭ ‬تداولت‭ ‬على‭ ‬أرضها،‭ ‬وقد‭ ‬خلّفت‭ ‬كل‭ ‬حضارة‭ ‬منتوجاً‭ ‬تراثياً‭ ‬مادياً‭ ‬ومعنوياً،‭ ‬وكان‭ ‬التراث‭ ‬المصري‭ ‬المدون‭ ‬من‭ ‬الوفرة‭ ‬والأهمية‭ ‬والأصالة‭ ‬بمكان‭ ‬أن‭ ‬تحتضنه‭ ‬هيئات‭ ‬مؤسسية‭ ‬متعددة‭ ‬مهمتها‭ ‬الأساسية‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬المخطوط‭ ‬أو‭ ‬المطبوع،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬إتاحته‭ ‬للباحثين‭ ‬والدارسين‭ ‬لينتفعوا‭ ‬به،‭ ‬ويستكملوا‭ ‬ما‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬الأجداد‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬الحضارة‭ ‬الإنسانية‭.‬

من تلك المؤسسات البارزة في مصر هيئة أكاديمية مهمتها الرئيسة دراسة نصوص التراث العربي الإسلامي بالقاهرة؛ عن «معهد الدراسات الشرقية بالقاهرة التابع لدير الآباء الدومينيكان»، وقصته ومكتبته وخدماته البحثية نمضي في رحلة قصيرة. 

نشأ نظام «الرهبنة الدومينيكية» منذ القرن الثالث عشر الميلادي في جنوب فرنسا كأحد الأنظمة الدينية الكاثوليكية، نسبة إلى مؤسسها القديس دومينيك (1170-1221م)، وكان هذا النظام الرهباني قائماً على الحوار والتعليم والفلسفة، لذا كان اتصال النظام الرهباني الدومينيكي بالفكر الإسلامي جزءاً من أركانه الأصيلة. وما لبثت الرهبنة الدومينيكية أن وضعت لنفسها أقداماً في بلاد الشرق، لكنها قد وصلت إلى مصر في مرحلة متأخرة نسبياً في أوائل القرن العشرين الميلادي.

وقد كان مقرراً أن يتم تأسيس أول دير للدومينيكان في القاهرة عام 1928م، ونظراً للحرب العالمية التي كانت دائرة آنذاك فقد تم إرجاء هذا المشروع لوقت لاحق. وفي عام 1937م قرر ثلاثة رُهبان دومينيكان تكريس حياتهم لدراسة الإسلام، وبدت القاهرة من وجهة نظرهم الموضع المناسب لهذه الدراسة؛ نظراً لوجود جامعة الأزهر الشريف، فضلاً عن المكانة المتميزة للثقافة المصرية الإسلامية في أرجاء العالم العربي. 

وما لبث هؤلاء الثلاثة وهم: جورج قنواتي وجاك جومييه وسرج دي بوركي أن قاموا عقب نهاية الحرب العالمية الثانية بالعمل على تأسيس موضع لدراستهم الإسلامية في مطلع خمسينيّات القرن العشرين، وفي السابع من مارس عام 1953م تم افـــتتاح معهد الآباء الدومينيكان للدراسات الشرقية (IDEO) من أجل تعزيز معرفة مــــتبادلة أفــضل بين المسيحــــييــــن والمسلميــــن فــــي مصر، التي تقوم بدورها على تبادل المعارف والتراث والفكر. 

ويعد معهد الآباء الدومينيكان في القاهرة قبلة عالمية متخصصة في الدراسات التراثية والفكرية العربية الإسلامية، وأكثر ما يهم الباحثين في المعهد هو هي مكتبته العريقة الزاخرة بعيون التراث العربي الإسلامي ونتاج الفكر الإسلامي على مر العصور الإسلامية، وقد شرعت المكتبة منذ إنشائها في الدفاع عن حق المعرفة للباحثين والدارسين، ونشر روح التسامح والحوار في أرض مصر.

جدير بالذكر أن الفهرس الإلكتروني المرجعي لمكتبة المعهد الدومينيكي للدراسات الشرقية يحمل اسم «الكندي»؛ تكريماً واعترافاً بدور الفيلسوف العربي الأول يعقوب بن إسحاق الكندي (ت 252هـ) في مسيرة الفكر الإسلامي. وقد عكف المعهد على إنشاء هذا النظام الإلكتروني الجديد لفهرسة الإصدارات التراثية العربية الإسلامية بما يظهر عبقرية التراث الإسلامي للباحثين، كما أتاح أسلوباً أفضل للبحث والمقاربة بين مؤلفات الحضارة العربية الإسلامية والحضارات الأخرى، ويعمل المعهد جاهداً على رسم خريطة فكرية للتراث الإسلامي كمرحلة أولية، ومن المتوقع أن تضم لاحقاً خريطة فكرية شاملة للتراث الإنساني. ويسمح نظام الفهرسة الجديد «الكندي - الإصدار الرابع» بإدخال معلومات عن السياق التاريخي للأعمال والمؤلفيــــن بتناول دقيق ومتنوع للتراث العربي الإسلامي بصورة موضوعية. 

وتعد مكتبة المعهد الدومينيكي للدراسات الشرقية حالياً من أبرز المكتبات المعروفة في مجال الدراسات الإسلامية في العالم؛ إذ تضم في مجموع مقتنياتها، وفقاً لآخر إحصاءاتها المنشورة، أكثر من 155 ألف مجلد، تضم حوالي 20 ألف نص من التراث العربي الإسلامي تعود إلى القرون العشرة الأولى من الهجرة النبوية الشريفة، ونحو 8 آلاف عنوان لمجلات دورية غنيّة في مضمونها البحثي.

وتهدف المكتبة إلى تغطية مختلف المجالات في الدراسات الإسلامية؛ كاللغة العربية، والتفاسير القرآنية، وعلم الكلام، والشريعة الإسلامية، والفقه، والتاريخ الإسلامي، والفلسفة والتصوف وتاريخ العلوم الإسلامية، بالإضافة إلى الدراسات ذات الصلة باللغات العربية والأجنبية، والرسائل البحثية الجامعية في المجال ذاته، وجميع أوعية المعرفة السابقة متاحة من دون مقابل لباحثي الدراسات العليا في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية والبحثية سواء المصرية منها أو الأجنبية.

وتعطي مكتبة المعهد الشرقي الأولوية لأمهات الكتب العربية، في مجالات الفكر الديني الإسلامي، والفلسفة والعقيدة والتصوف على وجه الخصوص. كما يسعى القائمون عليها جاهدين إلى اقتناء المطبوعات الأولى في هذه المجالات من ربوع العالم الإسلامي على اتساعه، فضلاً عن تزويد المكتبة بإصدارات الهيئات الاستشراقية الأوربية، التي تجد مستقراً لها في مكتبة دير الآباء الدومينيكان.

وفي ما يختص بأعمال المؤلفين العرب المعاصرين؛ تحرص المكتبة على إمداد معهد الدراسات الشرقية بأعمال الفكر الديني المعاصر بكل نواحيه الاجتماعية والثقافية والسياسية. وإضافةً إلى ذلك فهناك تحديث مستمر في مجال كتب العقائد الأخرى لخدمة الباحثين في الدراسات الدينية الإسلامية المقارنة.

وفي باب «عموميات في الإسلام»، على سبيل المثال، توجد مجموعة مهمة من الإصدارات التراثية على رأسها بعض أعمال الأمير شكيب أرسلان، والكواكبي، والإمام جمال الدين الأفغــــاني، ومحمــــد عـــــبده، ورشيد رضا... والقائمة تطول كثيراً من مفكري القرن التاسع عشر والعشرين الميلاديين أصحاب الفكر الديني والإصلاحي الرائد.

واسـتكمالاً لدوره في دراسة وصون التراث العربي الإسلامي؛ يشجع المعهد الدومينيكي للدراسات الشرقية في القاهرة نشر الدراسات ذات الصلة في مجالات الفكر الإسلامي وفروعه، ودراسات الأديان المقارنة، والتراث العربي الإسلامي.

ويعقد المعهد حلقات دراسية أكاديمية بصورة منتظمة تهدف إلى التعريف بالتراث العربي الإسلامي، ومناقشة القضايا المتعلقة بالفكر الإسلامي، التراثية والمحدثة.

ونظراً إلى حاجة بعض الباحثين إلى الدراسة المتعمقة المتأنية فقد أسس المعهد «بيت الباحثين»، وهو مكان خاص يتيح للباحث الإقامة بالقرب من المكتبة للتمتع بخدماتها على نحو طويل وفقاً لنظير محدد للإقامة، كما يتيح هذا النظام البحثي المتكامل للباحثين الاشتراك في فعاليات المعهد البحثية، التي من شأنها توفير مناخ ملائم للباحثين على غرار برنامج «الباحث المقيم» الذي تتبناه بعض المؤسسات الأكاديمية البحثية.

ويقع بيت الباحثين داخل حديقة دير الآباء الدومينيكان، على بُعد دقائق من الأزهر الشريف والقاهرة الإسلامية.

وهكذا، على مدار ما يقرب من 64 عاماً، عمد المعهد الدومينيكي للدراسات الشرقية في القاهرة، ومن تعاقبوا على إدارته، على خدمة الثقافة العربــــية الإسلامية وتشجيع حوار الأديان والثقافات المختلفة، لذا، تستحق هذه المؤسسة العريقة الاحتفاء بها، والتعــريف بدورها الفاعل في حفظ نصوص التراث العربي الإسلامي .