«شُرفات القَصَبة» لمحمد راسم

«شُرفات القَصَبة» لمحمد راسم

قبل‭ ‬أن‭ ‬يبلغ‭ ‬الفنان‭ ‬الجزائري‭ ‬محمد‭ ‬راسم‭ ‬الأربعين‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬كانت‭ ‬شهرته‭ ‬قد‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬الهند،‭ ‬وانتزع‭ ‬اعتراف‭ ‬العالم‭ ‬بأنه‭ ‬الأستاذ‭ ‬الذي‭ ‬نهض‭ ‬بفن‭ ‬رسم‭ ‬المنمنمات‭ ‬من‭ ‬كبوته‭.  ‬سيرته‭ ‬معروفة‭ ‬للكثيرين‭ ‬منذ‭ ‬ولادته‭ ‬في‭ ‬القصبة‭ ‬بالجزائر‭ ‬عام‭ ‬1896م،‭ ‬وحتى‭ ‬مقتله‭ ‬مع‭ ‬زوجته‭ ‬في‭ ‬الأبيار‭ ‬عام‭ ‬1975‭ ‬م‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬لصوص‭ ‬لوحات‭ ‬على‭ ‬الأرجح‭. ‬وما‭ ‬بين‭ ‬التاريخين‭ ‬حياة‭ ‬حافلة‭ ‬بالدراسة‭ ‬والتدريس‭ ‬والعطاء‭ ‬والإبداع،‭ ‬جعلت‭ ‬منه‭ ‬مؤسساً‭ ‬لمدرسة‭ ‬فنية‭ ‬جديدة‭ ‬هي‭ ‬المدرسة‭ ‬الجزائرية‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬المنمنمات‭.‬

أين أبدع محمد راسم؟ وما الذي ميّزه عن غيره من رسامي المنمنمات، وحتى عن غيره من الرسامين العرب المعاصرين؟

في لوحته «شرفات القصبة» التي نقف أمامها هنا، يتجلى بشكل مباشر أسلوب محمد راسم الفني، كما يمكننا أن نقرأ أيضاً الخطاب التاريخي الذي تتضمنه معظم أعماله والمستمد من عصره وقيمه وقناعاته.

فعلى المستويين الشكلي والجمالي، يلحظ المشاهد فوراً الحضور القوي لأبرز خصائص الرسم الإسلامي التقليدي، من خلال اعتماد الفنان الرسم بالخط أولاً، وبشكل يبقيه ظاهراً بقوة، ومن ثم تعبئة المساحات المختلفة بالألوان المناسبة، من دون اكتراث لقولبة الأحجام بالظلال التي تبقى هنا مجرد خطوط غليظة. فالرجل الذي كان قد اكتسب المهارات التقنية الأساسية في الرسم من مشغل العائلة أولاً، ثم من الدراسة في مدرسة الفنون الجميلة بالجزائر، وسّع اطلاعه على فن المنمنمات بأسفاره إلى باريس وقرطبة وغرناطة، ومن ثم إلى القاهرة وروما وفيينا وبوخارست ولندن وغيرها، وسمحت له هذه الرحلات بالاطلاع عن كثب ليس فقط على ما في مكتباتها ومتاحفها من منمنمات، بل أيضاً على أصول الرسم الأوربي. وهذا ما سمح له أن ينطلق بالمنمنمة الإسلامية إلى رحاب جديدة، وأن يضفي عليها عناصر شكلية كانت غائبة عنها آنذاك، أولها أخذ البعد الثالث بعين الاعتبار، كما نرى هنا في التدرج الدقيق من الشرفة القريبة من عين المشاهد، إلى البحر في الأفق البعيد. وثانيها، التعبير عن الوقت، وأي فترة من اليوم يجري فيها هذا الحدث، وهذا كان غير معروف في الرسم الإسلامي التقليدي. وهنا، نرى من اللون الذهبي في السماء، والصفرة الطاغية على اللوحة، أننا أمام مشهد وقت العصر تقريباً. 

هذا على صعيد الشكل الجمالي والتقني، أما على صعيد المضمون، فلم يحد يوماً الفنان، الذي بدأ مسيرته في زمن الاستعمار الفرنسي للجزائر، عن التشبث بهويته الوطنية والثقافية، وصولاً إلى معايشته لحرب الاستقلال، وما بعد الاستقلال.

 ولربما كان تخصيص كل حياته الفنية للمنمنمات الإسلامية ناجماً عن رفضه الانصهار في الثقافة التي حاول الاستعمار الفرنسي فرضها على الجزائر. ومواضيع الكثير من أعماله تؤكد تارة بشكل مباشر قيمه العليا مثل صور الشخصيات الوطنية التاريخية والمعارك الحربية، وتهمس تارة أخرى بهذا الخطاب همساً وبصيغة في غاية الأناقة، كما هي حال مشاهد الحياة اليومية، و«شرفات القصبة» واحدة منها.

في هذه اللوحة، نرى شرفات وسطوح القصبة كما كانت قبل أكثر من قرن على رسمها، أي قبل الاستعمار الفرنسي للجزائر، تدل على ذلك ملابس النساء والسفن الشراعية القديمة في الميناء، قبل «تحديثه» على أيدي الفرنسيين الذين حولوه إلى مجمّع للمستوعبات والمستودعات.

 ومن خلال رسم رغد العيش ورخائه في الجزائر قبل الاستعمار، كما يبدو واضحاً في هذه اللوحة، يدلي راسم بخطابه التاريخي المناصر للتحرر والاستقلال. وهو الخطاب الذي يؤكد أننا أمام فنان انتمى بفنه كلية إلى عصره وقضاياه، وعبّر عنه بلغة فائقة الحساسية والأناقة، استمدت مفرداتها من التراث الإسلامي بالدرجة الأولى، وأيضاً مما يخدمها ويفيدها من مفردات الفن الغربي، لتشكل مدرسة فنية جديدة صارت تعرف باسم «المدرسة الجزائرية» .