الفنانة بسمة النمري الفن والحلم والواقع

الفنانة بسمة النمري الفن  والحلم والواقع

بين‭ ‬الفنانين‭ ‬ونقاد‭ ‬الفن‭ ‬من‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬عالم‭ ‬الواقع‭ ‬وعالم‭ ‬الفن‭ ‬متكاملان،‭ ‬ويضيف‭ ‬أصحاب‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭/‬الرأي‭ ‬ما‭ ‬يعززها،‭ ‬فيرون‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الواقع‭ ‬يؤلف‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬يضمنا‭ ‬ويحتوينا،‭ ‬فإن‭ ‬الفن‭ ‬يؤلّف‭ ‬عالماً‭ ‬ووجوداً‭ ‬آخرين‭ ‬للإنسان‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬نجده‭ ‬عند‭ ‬الفنانة‭ ‬بسمة‭ ‬النمري‭ ‬التي‭ ‬تجد،‭ ‬بدورها،‭ ‬أن‭ ‬الفن‭ ‬يشكل‭ ‬عالماً‭ ‬موازياً‭ ‬اللعالم‭ ‬الذي‭ ‬نمارس‭ ‬فيه‭ ‬فعل‭ ‬العيش‭ ‬على‭ ‬الأرضب،‭ ‬فهي‭ ‬ترى‭ ‬أننا‭ ‬إذ‭ ‬نرسم‭ ‬إنما‭ ‬انرسم‭ ‬ذواتنا،‭ ‬ونشكلها‭ ‬كما‭ ‬نريد،‭ ‬وبقوانيننا‭ ‬الخاصة‭ ‬بناب،‭ ‬بل‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬ربط‭ ‬الفن‭ ‬بالحلم،‭ ‬وتتيح‭ ‬للحالم‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬ما‭ ‬يرى‭ ‬مما‭ ‬سيصبح‭ ‬احقيقة‭ ‬واقعة‭ ‬يمثلها‭ ‬منجزنا‭ ‬الإبداعيب‭.‬

في مثل هذا التوجّه تؤكد أن لوحتها لا تنفصل عنها. وبهذا، فهي لا تختزل العمل الفني، وإنما تمنحه سعة الحياة التي في داخلها. «فإذا كانت الحياة تمضي لتنقضي، فإن اللوحة تتكوّن عملاً فنياً لتبقى» وهذا ما يجعلها تستجيب، في ما ترسم، لنداء الداخل (داخلها هي)، لتصبح «لوحتها مرآتها»، كما تقول.

«امرأةُ لوحتي حالة»، هكذا يتم التعيين من قبلها، هي الفنانة: «حالة إحساس مكثف وعميق تجتاحني لتتجلى في الوجه غالباً، وفي الجسد الذي يتحوّر فيتحول إلى وضع يخدم فيه الإحساس، ذلك الذي يحكيه الوجه».

وتربط حضورها في اللوحة التي ترسمها بما تصفه بأنه «لحظة تدفق عارمة لمكنونات الروح التي تضج وتصبو للانعتاق، فتفيض ألواناً على سطح اللوحة... تُثريه بالمعنى والدلالة».

هكذا هي حين ترسم:  «أقوم بذلك لأجلي»، كما تؤكد. أما الحالات المرافقة لعملية الإبداع عندها فـ«هناك الاتحاد والتوحد، وهما ما يتمان في عملية الخلق الفني الذي يكتمل بهما على وفق ما تكون هناك من رؤية تجمعنا، أنا والعمل».

أما حرّيتها فتتجلى، هي الأخرى، في الرسم، إنها تحيا حالة انعتاق كلية مطلقة. «أصير أنا الحلم الذي أصبو إليه، ليكون كي معه أكون. وحين تكتمل اللوحة عندي أعرف كيف يُعمّرُ الكون بيدي».

من ناحية تقنية تؤكد أن «المعادلة الرياضية هي روح المنجز الفني»، عندها: «قوانين المنطق، النظرية والتطبيق، العمل الذي تجترحه كي تصل إلى البرهان - الاكتمال». فالرياضيات التي درسَتْها علمياً أرست في أعماقها «الأسس النظرية للعمل الفني» قبل أن تبدأ بتحقيقها فتجعل منها واقعاً ملموساً.

وهي كاتبة مبدعة لها أعمال في القصة والرواية. وفي هذا، تؤكد أن «اللوحة والنص قد يبدوان وجهين مختلفين في ظاهرهما، ولكن في حقيقة الأمر المخبوءة هما واحد. إنهما وسيلتان عن طريقهما تتحرر الروح من أثقالها كي تُردّ إلى جوهرها». وهذا ما يجعلها تعدّ لوحتها «سرداً باللون للأنا المختبئة في ثنايا النص، الذي هو،  هنا، لوحة مقروءة»، فترى أنهما، النص المكتوب والآخر المرسوم، يحكيان ذاتها الحقيقية... وهذا ما يجعل أسلوبها في رسم اللوحة أسلوباً تعبيرياً شعريّ الجوهر، محملاً بإيقاعات لونية... فلوحتها صافية الألوان، واضحة الخطوط، تتشكل من معالم رؤوية، معتمدة ما ترى فيه، هي الفنانة، «متواليات»، سواء في الموضوع (كما في مجموعة أعمالها: نسائي الجميلات المكتملات)، أو في الرؤية وتشكيلاتها. فهي كمن يذهب في عالم لا يرشد مسار السائر نحو الأشياء سوى اللون الذي تفاعلت معه بحسيّة عالية، فجاء يحمل دلالة معنى، وليس لوناً مجرّداً. كما تكشف لوحتها عن إيقاعات تُولّدها العلاقة بين «الذات» منها واللون، وهي ذات بمخيلة ثرية لها موروثها الجمالي الذي تُعيد به/ ومن خلاله صياغة ما لحواسها من استجابات وتداعيات، ما جعل لوحتها تبدو وكأنها «صورة شعرية» لما فيها من غنى اللون، ومن خطوط تُعيّن مساراتها الرؤوية. وإذا جاز القول بوجود «شكل» للمعنى الشعري، فإن هذا هو المتحقق في لوحتها التي مهما اقتربت بها من الواقع ظلّت في مصاف المخيلة، وهذا ما يجعلها ذات مسحة رومانسية واضحة. فهي فنانة تحتكم إلى عالمها الشخصي، وتؤكد حضورها الفني فيه من خلال ما لشخصيتها من مقومات موضوعية، وهي فنانة تمتلك نظرة واضحة إلى كل من الفن والحياة، ما يجعلها تؤكد أنها لا تجد نفسها خارج ما ترسم، وتكتب، فإن كان هناك انتقال منها بين العالمين، عالم الرسم وعالم الكتابة، فهو «انتقال تواشج» في ما للذات من تحولات في التعبير عن ذاتها هي، الرسامة والكاتبة.

 

عالم‭ ‬تنهض‭ ‬به‭ ‬الانطباعية‭ ‬

ويتسامى‭ ‬بالتعبيرية

قبل هذا، كان ينبغي أن ندخل العالم الفني للفنانة بسمة النمري، وفي هذه الحالة لابدّ من المرور باتجاهين في الفن التشكيلي، هما الانطباعية التي شكلت عماد الرؤية الفنية للفنانة في عملها الفني، والتعبيرية التي جعلت للوحتها خصائصها الأسلوبية. فهي فنانة بما ترسم وتحقق من منجز فني، وما ترسمه هو حضور بملامح واضحة (كما في الوجوه)، أو برؤى تتداعى وتتواشج لتتشكل في تكوينات يكون اللون العنصر البارز فيها. 

ولكن يقتضي النظر في أعمال الفنانة الإحالة إلى جماليات الشكل عندها، فلوحاتها ذات أبعاد جمالية واضحة، ولكل لوحة من أعمالها جاذبيتها الخاصة، فهي تحتفي بعالم خاص بها، وتعمل على أن تجعل منه عالماً فنياً ذا خصوصية دالة على شخصيتها الفنية. وعلى هذا فهي تتعاطى مع الخط  واللون تعاطي من يعنيه الكشف عن الجوهر، أو من يهمه تكوين جوهر يرتقي بالرؤية الفنية إلى علياء المخيلة، فإذا نحن أمام عالم مُحتَفى به على نحو شعري.

وكما يبدو فإن ينابيع العمل الفني عندها لا تنضب بفعل مخزونها الشعري الذي يتبادل التعبير، تشكيلياً، مع أحاسيسها وهي تجمع، بدورها، بين الواقع والحلم، متتبعة تنامي أحلامها ورؤاها.

إلا أن علاقة الفنانة الأوثق هي مع ذاتها، بمهارة تقنية واضحة في عملها. وإذا كانت اكتشافاتها تبدو متحققة في ما يؤكد أهمية المستوى البَصَري فيها، فإن هذا المستوى، على أهميته، لا يقف بها عند مستوى المرئي في تحققاته المنظورة، وإنما نجدها، ومن خلال الخط واللون، تتوغل في أعماق الذات، ذاتها، لتتداعى إلى اللوحة بشاعرية واضحة يبدو أنها، كما تتمتع بها لغة في مستوى الكتابة، تتمتع بها خطاً ولوناً في مستوى الرسم، بكل ما يتجلى به من شحنات الإحساس منها.

 

الوعي‭ ‬الفني

تأسيساً على هذا يمكن القول إن الوعي الفني للفنانة النمري يتركز في الحرص، عملاً، على تكامل الناحيتين في لوحتها: الناحية التي يمثلها المضمون (موضوع العمل)، والأخرى التي يكتمل فيها الشكل، ذلك أن ما يهمها من العمل الفني هو «الإنجاز التشكيلي» فيه.

وإذا كانت طبيعة الوعي الفني تتمثّل، انعكاساً وتجسيداً،  في ما يمكن عدّه «بلاغة تشكيلية»، فإن «الخطاب الفني» للفنانة النمري يدفعها في توجهين متلازمين عندها ومتكاملين: الرسم، والكتابة. ولعل أكثر ما يهمها هو الكشف عن رؤية، والتأكيد على معنى. فإذا ما اتخذ هذا الكشف في الكتابة بُعد الإثارة موضوعاً، والتحليل مكونات موضوعية، فهو في الفن حيوية خط ولون تؤكد وجوداً حراً للرؤية التشكيلية التي تجسدها لوحتها. فهي في الوجوه تعبّر عن حالات من الانسجام والتوافق (لعلها تقابلها وجهاً بوجه). أما في أعمالها الأخرى، حيث الخط واللون والتكوين، فتمتد بما هو «عالم داخلي» إلى الخارج. وفي الحالتين نجد عملها محكوما بالحركة، وللون دوره البارز في ذلك. فبناء العالم الفني عندها يرتكز على عالم الواقع، والرؤية التي تتعاطى بها معه، لوناً في الأقل، بحسية عالية، يجعل الكلام في عالمها هذا لا يتوقف عند «حدود» ظاهرة لهذا العالم، وإنما هو «ذاتها»، هي الفنانة التي تمثّل عملية التلقي والاستجابة، وهي «ذات» بآفاق مفتوحة على ما أتيح لها من فضاء. أما طبيعة الامتداد/التواصل المتحقق في عملها هذا، فهي بين «الذات» في ما لها من عناصر الإحساس والعالم الذي يمثله المتلقي.

إنّ الوجوه التي رسمت - وقد جاء ما رسمته بأوضاع تعبيرية لها أبعاد الإحساس بالحالة والتمثيل لها - مثّلت بها رؤية إنسانية وفنية ذات عمق فنّي واضح في ما اتخذت من وجوه التعبير. فهي وجوه ليست ساكنة، وإنما تتجلى بما تتحرك به، أو يُحرّكها حركة تعبير عن حالة، أو موقف، وهما، الحالة والموقف، ليسا واحداً، وإنما هناك تعدد في الاستجابة، والتمثيل، كما أن بعض هذه الوجوه ذات ارتدادات أيقونية.

ونجدها تجعل لهذه الوجوه بُعداً تعبيرياً، فلكل وجه دلالته التي تكشف عنها «حالة التعبير» التي هو عليها: فوجوه الأشخاص تتماهى مع الرؤى والأفكار (هل هي صيرورة الذات في ما تتجلى به من تعدد؟). وهي وجوه ذات معطى حسّي، لا تكتفي بحضورها وحده، بل وبما «يُعبّر» عنه هذا الحضور متجسداً بسمات وخصائص تعبيرية تبدو كما لو أنها «تنويعات مرئية» لوجود الإنسان القريب من ذاته: انفعالاً، وحالات، وشواهد معاناة. فهي وجوه مفعمة بالمعاني/ الدلالات، ما جعل معالجاتها التشكيلية لها معالجات دالّة، يظهر فيها «الإنسان/الوجه» ليمثّل استجابة لوجود، وتعبيراً عن هذا الوجود، أو ردّ فعل عليه، غضباً أو خيبة. قد نجد الحيرة في وجه، والقلق مرتسماً في وجه آخر، والتساؤل منطلقاً من وجه ثالث، إلا أنها، جميعها، تُعبّر عن «حالة قوّة» أكثر منها حالة ضعف.

 

الجذر‭ ‬الذاتي

إن جذر هذه الفنانة ذاتي غير محدود الالتفات إلى العالم، وهي تُمسك بالحياة لتضعها «قيد التشكيل» من خلال إحساس شعري مكثّف بها. وإذا كانت لكل فنان طريقته في ذلك، فإن طريقة الفنانة بسمة النمري هي في التواصل مع «عالم مُدرك».  وفي هذا، تأخذ عملها بتقنية أسلوبية تتحرر من الأنساق السائدة والمألوفة، محققة ما يمكن التعبير عنه بـ«خفّة التعامل مع الفن»، بالمعنى/ البعد الإيجابي للعبارة. ولذلك نجدها أكثر تفاعلاً مع اللون، ما يجعل عملها يتردد، تشكيلاً وتكوينات، بين الانطباعية في ما لها من بساطة الخطوط والملامح، والتعبيرية التي تتماشى مع حرارة الألوان عندها.

ومن هنا فهي ترسم لوحةَ تجسيدٍ، والتجسيد تمثيل لحالة، وهذه الحالة عندها ليست مسالمة للواقع، بل غالباً ما تتجلى غاضبة منه أو خارجة عليه، وقد تأتي مجسِّدة «إحساساً بحلم بعيد المنال»، كما تؤكد، فهي ترسم في سياق إبداعي واضح، محدد الملامح والتكوين، مستشعرة الألوان، ومدركة التفاصيل التي يتشكل منها عملها الفني (لوحتها)، وإن كانت عليه ظلال رومانسية فإن تلك الظلال تتكشف لتتجلى وجوداً يتكامل رؤية بتكامل اللوحة في نطاق إطارها الخارجي. فالإبداع الفني للفنانة بسمة النمري يستند إلى غير عنصر محرّك لتشكيله، إذ نجد الحياة بزخم انعكاساتها، وبحيوية جوهرها الحي، كما نجد الحلم الذي يرتقي برؤيتها ليتجاوز بها، أسلوباً، العتبات التي قد تحد من طاقات الحلم، وهناك الرؤية التي تحكم فضاء اللوحة فتمنحه التمدد والامتداد، وفي الوقت ذاته تحول دون أن يطوله انفلات .