الفِصـال

الفِصـال

سلطان‭ ‬الأسواق‭ ‬وأمير‭ ‬المفاوضات،‭ ‬والحاضر‭ ‬دائما‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬اتفاق،‭ ‬ثقافة‭ ‬عالمية‭ ‬،‭ ‬وتكتيك‭ ‬استراتيجي‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬صبر‭ ‬وطول‭ ‬بال،‭ ‬مبارزة‭ ‬كلامية‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬الهدف،‭ ‬ومكر‭ ‬شرائي‭ ‬ودهاء‭ ‬تسويقي،‭ ‬ومساومة‭ ‬فيها‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬التنظيم‭ ‬والتضييق‭ ‬والأسلحة،‭ ‬يقع‭ ‬بين‭ ‬منطقة‭ ‬الشد‭ ‬والجذب‭ ‬وأحياناً‭ ‬الممل،‭ ‬إرهاق‭ ‬وتعب‭ ‬للقلب،‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬يثير‭ ‬المشكلات‭ ‬التي‭ ‬تمتد‭ ‬للاشتباك‭ ‬بالأيدي‭ ‬والأسلحة‭.‬

إنه الفصال، وهو المساومة، أي  المجاذبة بين البائع والمشتري على السلعة وثمنها.

وهو ظاهرة قديمة قدم الإنسانية، أو بالأحرى هو موجود منذ بدء عمليات البيع والشراء، البعض يكرهه والبعض الآخر يعشقه ويعتبره هواية ذهنية ومبارزة كلامية للحصول على سلعته بسعر يرضيه.

والفصال لا يرتبط بفئة أو طبقة أو شعب معين، بل هو هواية وطاقة تسير في كل أشياء الحياة، فلا تستطيع إنجاز أي عملية بيع أو مفاوضات سياسية أو حتى ميعاد بين صديقين إلا وكان الفصال حاضراً، الجميع يفاصل ويساوم من أجل الحصول على شعور بالرضا أو الانتصار. 

وقد ارتبط الفصال بالنساء أكثر من الرجال، نظراً لأن ميزانية البيت تكون بحوزة النساء، وبالتالي، فالمرأة مُجبرة على الفصال، سواء في متطلبات البيت من خضراوات وبقالة وخلافه أو حتى ثمن الدرس الخصوصي، فالشعور بأنها قد فازت أو كسبت بعض قروش قليلة قد يجعلها تنام راضية. وربما يعود ذلك إلى أنها تكون مقيدة بميزانية محددة لديها، فتحاول قدر الإمكان شراء أكبر عدد ممكن من المستلزمات بأقل سعر ممكن.

وجميع النساء يعشقن الفصال، سواء الفقيرة منهن أو الثرية، لذا يستريح كثير من الباعة عند وجود رجل بصحبة زوجته أو ابنته، لأنه يشعر ببعض الإحراج من كثرة فصالها، أو قد يلقى الثمن المطلوب ويأخذ البضاعة ويغادر بعيداً عن الإحراج الذي يسببه الفصال. 

ولا أعرف السر في سبب عشق المرأة للفصال أكثر من الرجل، حتى ولو وضع سعر محدد على السلعة، مثلما يحدث في المحلات الكبرى، فنجد المرأة عند الدفع تحاول أن تفاصل، حتى ولو على سبيل المزاح، وكأنها تريد بذلك عند عودتها إلى البيت أن تحكي وتتفاخر بقدرتها، أو بالسعر الزهيد الذي اشترت به السلعة، والحكي هنا يزداد تشويقاً ومتعة بذكر فصالها وإظهار قدراتها الشرائية للحصول على السلعة بالسعر الذي تريده.

ولأن الفصال يرهق الكثير من الباعة، فنرى بعضهم، سواء في محل أو بائع متجول قد رفع بعض الشعارات ضد الفصال، التي تعتبر أسلحة للبائع في مواجهة المشتري وفصاله، فنجد من تلك الشعارات واللافتات «ممنوع الفصال» أو «كفى  مناهدة ووجع قلب» أو «البضاعة المباعة لا ترد  ولا تستبدل»  أو «الذي في بدايته شرط آخره نور» أي محدد منذ بدايته، أو «بين المشتري والبائع يفتح الله»، بل إن بعض الشعارات أخذت طابعاً ساخراً، مثلما وجدت في أحد محلات منطقة العتبة بالقاهرة شعار «الرجاء ممارسة هواية الفصال خارج المحل».

كل هذه الشعارات يضعها البائع كي يبتعد عن الفصال، ولكن مهما اتخذ من إجراءات، فسيظل الفصال موجوداً، حتى ولو من باب المداعبة وبعد أن تتم عملية البيع.

والفصال يحدث في كل شيء حولنا، وإن كانت الأسواق هي الأرض الخصبة له، إلا أنه يمتد في كل شيء، وأكثرها شيوعاً، الفصال في أثناء الاتفاق على الزواج، وخاصة على القائمة ومؤخر الصداق وتحديد ما على كل طرف من أعباء، وكثيراً ما تفشل بعض الزيجات نتيجة فشل الفصال.

والفصال لا يرتبط بشعب معين، لكننا نجد أنه قد ارتبط بالمصريين في الآونة الأخيرة، وربما يعود ذلك إلى عدم الاطمئنان وللفقر والغلاء الذي سيطر على كل شيء.

وتاريخياً، نجد اليهود أكثر الشعوب التي عشقت الفصال وتجيد تطبيقه، وهناك كثير من الحكايات التراثية التي قامت على الفصال، وأشهر مجادلاتهم وفصالهم، نراها واضحة مع سيدنا موسى ‭\‬، حيث كانت مجادلتهم عبارة عن فصال مستمر حتى يؤمنوا، وهذه السمة امتدت بهم إلى مباحثات السلام بعد حرب أكتوبر، وفصالهم المرير للخروج من سيناء بأي مكاسب، كاد يفشل كثيراً من المباحثات، إلا أن الأمر تغير في القضية الفلسطينية، حيث أصبح الفصال عبارة عن «تسول عربي» بعد أن أصبحنا في الموقف الأضعف.

كذلك نرى الفصال واضحاً في اتفاقية «سايكس بيكو» الشهيرة، وتقسيم الوطن العربي، بعدها امتد الفصال إلى أنه كان السبب الرئيس وغير المعلن في نشوء الحرب العالمية الثانية عندما فشلت كل المفاوضات الخاصة بموقعة فرساي الشهيرة التي  كانت تمثل إذلالاً للألمان. لذا فإن فشل الفصال يؤدي إلى كثير من الحروب والمشكلات.

كذلك الفصال الذي تم بين الإنجليز والفرنسيين، بعد موقعة أبي قير البحرية، حيث أخذ الإنجليز كثيراً من الآثار المصرية التي استولى عليها الفرنسيون في سبيل خروجهم من مصر وأشهرها «حجر رشيد» الذي يزيِّن متحف لندن الآن.

ونجد أن الفصال يحتاج إلى خطوات وتدريبات يجب أن نتسلح بها، قبل الإقدام على عملية شرائية أو مفاوضات سياسية، منها الحرص والحذر، والقدرة على الإقناع، والصبر، والتصرف بلباقة والتحدث بعبارات منتقاة بعناية، والثناء على البضاعة وصاحبها، وإظهار الرغبة في الاستمرار مع هذا المحل، والقدرة على تقديم حافز، كأن نخبر البائع بقدرتنا على جلب مزيد من المشترين من المعارف، والقدرة على الإلمام ببعض المعلومات عن أسعار السلع في السوق، ويجب إظهار تلك المعلومات وقت الشراء. ولأن كثيراً من التجار يخدعون الزبائن الجاهلين بنوعية وأسعار البضائع، لذلك يفضل أن يُلم المشتري ببعض المعلومات عن البضائع، ويناقش التاجر بطريقة تظهر أن لديه خبرة سابقة في هذا النوع من السلع وأسعارها، وأيضا القدرة على الدفع نقداً الذي بسببه نستطيع الحصول على خصم مناسب، كما أن اختيار الوقت المناسب يجعلنا نستطيع الحصول على السلعة بسعر أفضل، مثلما يحدث في أثناء التنزيلات أو نهاية العام للتخلص من البضائع القديمة أو التي لم تعد تسير على الموضة.

ومع ذلك، يحاول معظم التجار تحقيق أرباح كبيرة من خلال وضع هامش ربح مرتفع للسلع التي يعرضونها للبيع، ويلجأ المشتري للتفاوض في محاولة للحصول على أقل سعر ممكن، وفي جميع الأحوال يجني البائع أرباحاً لا بأس بها، حتى لو حصل الزبون على السلعة بالسعر الذي يرغب فيه.

وما يثبت أن الفصال «هواية» هو وجود كثير من الزبائن الذين لا يمتلكون أي نقود في جيوبهم، ويحاولون دخول أي محل وممارسة الفصال، مع أنهم لن يقوموا بشراء شيء، والمدهش أن تجد هؤلاء الأشخاص يدخلون في مناقشات وشد وجذب، لإظهار قدرتهم التفاوضية، وإشباع هوايتهم، حتى لو من باب التسلية.

سيظل الفصال جزءاً لا يتجزأ من ثقافتنا، نجده بين البشر والدول، فهو أسلوب حياة في الشارع والأسواق وممرات صندوق النقد الدولي والمؤتمرات الاقتصادية ونادي باريس والبنوك ومكاتب رجال الأعمال وتجار الأسلحة والمخدرات.

لكن أشهر مشهدين في ذاكرتي للفصال، عندما كانت أمي تخرج من الشرفة وتنادي على أحد باعة الخضار في الشارع، فيخبرها بسعر، فتصرخ وترفع من صوتها لتحدد له سعراً آخر وهي تخبره بأن سعر أمس كان أرخص، أو سعر البائع الفلاني كان أرخص منه، بعدها تضع النقود كما أرادت في «السَبت» أي القفص المدلى بالحبل، وتلقي به للبائع، فلا يجد أمامه إلا الإذعان لها وإعطاءها ما تريده بالسعر الذي حددته، لأجد بعد ذلك كثيراً من النساء يقفن في الشرفات ويشترين بالسعر الذي اشترت به أمي، ولا يستطيع البائع في تلك الحالة تغيير السعر الذي أعلنته أمي على الملأ.

والمشهد الثاني، كان يتم عصر كل يوم خميس من كل أسبوع، على «بسطة السلم» أمام باب شقتنا، حيث كانت تأتي «أم حسن» بجلبابها الأسود الممتلئ برائحة الجبن والحلبة، وهي تحمل على رأسها «طشت» كبيراً به الجبن القريش والفطير المشلتت، ويلتف حولها الجيران، وتبدأ عمليات البيع والشراء والفصال، إلى أن تفرغ جميع بضاعتها، ثم تمسح «الطشت» بطرحتها، وتعود وتضعه على رأسها راضية ومبتسمة، كما تعود كل امرأة من سكان البيت إلى شقتها راضية ومبتسمة أيضا، بعيداً عن وجع القلب الذي يسببه الفصال دائما .