الجمال سحر الحياة
الجمال، ذلك المفهوم الذي نختلف حوله بقدر سعينا وانجذابنا إليه. فهو قيمة مرتبطة بالغريزة والشعور الإيجابي تجاه الأشياء، والنفس البشرية تنجذب تلقائيا إلى كل ما يولّد فيها إحساسا بالمتعة والرضا والسرور، إذ الا شيء غير الجمال قادر على أن يجعل العالم بأسره سعيداب، على رأي فريدريك شيلر.
كلما ابتعدنا عن الجمال ابتعدت السعادة عنا، وخير دليل على ذلك عالم اليوم، إذ إنه في خضم لهاثه داخل عجلة الحياة النزقة بحاجة ماسة إلى الوقوف لحظة استغراق خالصة في الجمال؛ فالمدن الكبرى في زحمة أيامها المتسارعة ولياليها الساهرة نسيت كيف تستلقي وتسترخي تحت سماء مفتوحة أُعتمت تحتها الأنوار، وتألقت فيها ملايين القناديل المضاءة. فجمال الطبيعة الذي يريح العين ويصفي الذهن ويهدئ النفس، يرقّي الإحساس ويطلق قريحة الفنانين والشعراء للإبداع والتغني بكل ما هو جميل.
إن للجمال الطبيعي سحرا خاصا لا نجده في الصناعي وإن بلغ التطابق، فقد تتماثل وردة صناعية مع أخرى طبيعية في شكلها ولونها وقوامها أيضا، وقد تدوم الأولى إلى ما لا نهاية، عكس الثانية، لكنها أبداً لن تسرق منها ألقها وذلك الإحساس الجميل الذي تبثه في النفس. ومثله كل جمال عذري لم تمسه يد التزييف العابثة وتُحوّره عما جُبل عليه.
ليس للجمال مقياس ولا شكل ثابت؛ فهو يتبدل حسب المتلقي عبر الثقافات والزمان والجغرافيا. إذ ما نراه جميلاً قد يكون عند غيرنا مضرب البشاعة وقلة الذوق، مما جعل قيم الجمال متفاوتة، يتحكم في ذلك الموروث الثقافي والذوق العام والفردي، وفي كثير من الأحيان الجانب التجاري عبر الموضة والإشهار في عصرنا الراهن، ما جعل القيم الجمالية متغيرة ومحكومة بأباطرة الموضة وصيحاتهم المتجددة، ففرض الذوق الجماعي من قبلهم حتى صارت محافل الباحثين عن الجمال تمشي خلفهم أسيرة ما يقررون من خطوط عالمية تحدد الأشكال والألوان الموسمية للأناقة والجمال، كما يفرض مختصو التجميل قصّات الشعر وألوانه وكثافة الحواجب وألوان حمرة الشفاه، وأيضا شكل الأنف ولون الابتسامة ومدى كمالها لهذا الموسم أو ذاك.
لطالما أُحتفيَ بالجمال وقُدّس وعُبد، وشُيّدت له الصروح والمعابد وجعلت له آلهة. وآلهة الجمال هي النموذج الأعلى للجمال الأنثوي المقرون بالحب؛ فكانت أفروديت إلهة الجمال عند اليونان، وعشتروت عند البابليين، وإيزيس في مصر، وفينوس عند الرومان، أما العرب فقدّسوا «العزى» رمزا للحب والجمال. ومن التقديس والتأليه إلى منصات ملكات الجمال حيث منافسات اختيار الجميلات التي بدأها إيريك مورلي في المملكة المتحدة العام 1951، واستمرت في جذب ملايين المتابعين كل سنة عبر العالم، حيث تنال واحدة من المتباريات لقب ملكة الجمال رغم أن اعتبارات الحكم بالجمال متباينة، فعلى امتداد التاريخ نجد أن العرب اهتموا في تقييمهم للجمال بالجسد الممتلئ بتفاصيل متموجة انسيابية، كما يزيد العنق الطويل صاحبته بهاء وتدعى الميساء، وتغنوا بالعيون الواسعة السوداء ورموشها وحواجبها الغزيرة، والأنف الدقيق والشفتين المكتنزتين والشعر الحالك الطويل، وهي أبرز الصفات المخلدة في الشعر والمعلقات.
أما الغرب فيعتبرون الطول أهم معيار للجمال ثم الجسد النحيل وشقرة الشعر وألوان العيون، رغم أن الشعر الغامق الشرقي يستهويهم.
عند اليابانيين يختلف الأمر تماما، فهم يفضلون المرأة قصيرة القامة طويلة العنق صاحبة البشرة الصافية المائلة إلى الصفرة، أيضا تعتبر الأقدام الصغيرة مضرب الجمال لديهم إلى حد أنهم يضعون نطاقاً حديدياً في أرجل الفتيات للحد من نموها حتى سن البلوغ.
هام الفراعنة بالعيون الكحيلة، وأبدعوا في ابتكار أفضل أنواع الكحل ورسمات العيون التي ميزت المرأة المصرية القديمة، كما تلفتهم الوجنات العالية والفك العريض والخصر النحيل.
أما الأفارقة فاعتبروا قتامة سواد البشرة ولمعانها دليلا على صفاء العرق، ورفعوا من مهر المرأة كلما اسودت بشرتها وكانت أشد صفاء واعتبروها الأوفر جمالاً، وجاء الشعر في آخر اعتباراتهم الجمالية، حتى أن بعض القبائل الإفريقية حلقت شعر فتياتها لتبدو الواحدة منهن أكثر فتنة.
في دراسة من جامعة لايبتزج الألمانية لعالم النفس الحيوي توماس جاكوبسون عن الحكم بالجمال أو القبح بين عقل الرجل والمرأة، يقول إن عقل الرجل لا يحتاج إلى أكثر من جزء من الثانية ليصدر حكمه على جمال المرأة، بينما تستغرق هي وقتا أطول، فيما حددت الدراسة مظاهر جمال الرجل في عين المرأة وهي الذقن والذكورة الواضحة، بينما يرى الرجل المرأة النحيفة ذات البشرة الناعمة والعينين الواسعتين أشد جمالاً من بين أمور أخرى.
الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يصنع الجمال ويستشعره، فهذا الإحساس يمكن أن يسمو بالبشر إلى مصاف الإنسانية. وتأتي حاجته للجمال بعد الحاجات الانتفاعية، فهي حاجة عميقة ومنها جاء السعي إلى الفن وإنتاجه والطلب المُلح عليه.
انتبه العلماء والمفكرون منذ القدم لتأثير الجمال، وبالتالي الفن في النفس، فرأى فلاسفة الإغريق ومن بينهم أرسطو أن للفن يدا في تقدم المجتمع، وتربية الأجيال، وذلك بتوجيه غائية الأعمال الفنية. ولا يخالفه سقراط حين يؤكد ضرورة وضع الفن في خدمة الجمال والأخلاق شرط أن يؤدي إلى الخير لا إلى اللذة الحسية. كذلك أكد أفلاطون دور الموسيقى في التربية وتأثيرها الفعال في النفس التي تكتسب اتزاناً ورقّة لتحقيق الخير والجمال، كما فسر أنصار فيثاغورس الفن بصفته نتاجاً للفكر الإنساني بهدف تربوي.
يؤكد الباحثون في علم النفس والتربية أهمية الفن في تربية وتهذيب غرائز البشر، والسمو بها إلى أرقى درجات الإنسانية، فهو يهذب النفس، ويرقى بالإحساس بالجمال، فيصير متذوقه متشربّا ذا ذوق وإحساس تجاه كل جميل، كما يتمتع ممارسه بمتنفس لانفعالاته ومشاعره بطريقة مبدعة، إضافة إلى دوره في صقل شخصية متكاملة متزنة بعيداً عن العنف.
يقول الإمام الغزالي: «إن الجمال مرتبط بالمحـبّـة، فالجمال دافعٌ للحبّ، وسببٌ من أسبابه».