جامعات «العمر الثالث»

جامعات «العمر الثالث»

يؤكد‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الكبار‭ ‬الذين‭ ‬التحقوا‭ ‬ببرامج‭ ‬تعليم‭ ‬وتعلم‭ ‬في‭ ‬عمر‭ ‬متقدمة‭ ‬أنهم‭ ‬عاشوا‭ ‬شعوراً‭ ‬بالرضا‭ ‬والسعادة‭ ‬وأحرزوا‭ ‬تقدماً‭ ‬على‭ ‬الصعيدين‭ ‬الذهني‭ ‬والجسدي‭. ‬وهربوا‭ ‬من‭ ‬الشعور‭ ‬بالاكتئاب‭ ‬الناتج‭ ‬عن‭ ‬الوحدة،‭ ‬ولاسيما‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬الشتاء‭ ‬القارسة‭. ‬وتوضح‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬التي‭ ‬أجريت‭ ‬حول‭ ‬التعلم‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬التقاعد،‭ ‬كمثال،‭ ‬أهمية‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬العمرية،‭ ‬ودوره‭ ‬الداعم‭ ‬في‭ ‬تنمية‭ ‬المعارف‭ ‬والخبرات‭ ‬النفسية‭ ‬والصحية‭ ‬والتقليل‭ ‬من‭ ‬خطر‭ ‬الإصابة‭ ‬بالخرف‭. ‬

يساعد التعلم في العمر المتقدم - وفقاً لـ براين غرومبريج Groombridge - على تحفيز الاستقلالية، وفهم الذات والوعي بها والاعتماد عليها؛ ويعين على المواكبة والتوافق بسهولة مع المشكلات في عالم معقد؛ ويحسن التواصل مع الآخرين عبر ما يمكن أن يقدمه الكبار من مساهمات لدعم مجتمعاتهم، ولاسيما تلك المتعلقة بنقل الخبرات للأجيال التالية.

ومن هذا المنطلق ظهرت برامج تعليمية موجهة للكبار، لعل من أهمها جامعة العمر الثالث - (University of 3rd Age (U3A الآخذة في الانتشار حول العالم بصورة متزايدة.

 

الفكرة‭ ‬فرنسية

  خرجت فكرة جامعة العمر الثالث من فرنسا في نهاية ستينيات القرن الماضي، عندما صدر قانون يطالب الجامعات بخدمة المجتمع، ثم نفذت في مطلع السبعينيات من جانب جامعة تولوز للعلوم الاجتماعية التي طرحت مقررات موجهة للمتقاعدين من دون شروط مؤهل سابق وبلا امتحانات ونظير رسوم رمزية. وخلال سنوات قليلة تالية، انتشرت الفكرة بين الجامعات الفرنسية والسويسرية والبلجيكية والإسبانية والإيطالية والكندية والأمريكية.

 

ظهور‭ ‬‮«‬العمر‭ ‬الثالث‮»‬‭ ‬

  برز مصطلح «العمر الثالث» نتيجة تغيرات ديموغرافية واجتماعية شهدها العالم في النصف الثاني من القرن الماضي. وظهرت نظريات وكتب معنية بعمر الإنسان، أطرت مفاهيميا لمراحل الحياة. فقد تعرض بيتر لاسليت Laslett (2001-1915)، مثلاً، لمراحل الحياة في كتابه «خريطة طازجة للحياة، ظهور العمر الثالث» - الصادر عن جامعة هارفارد في نهاية الثمانينيات - واعتبر الطفولة العمر الأول حيث يكون الإنسان في مرحلة التعليم، غير ناضج، ومعتمداً على الآخرين. وفترة العمل والوالدية التي تتميز بالنضج والاستقلالية وتحمل مسؤولية العمل والكسب والادخار وتربية الأولاد هي العمر الثاني. ورأى العمر الثالث في عمر التحرر من الوظيفة واستكشاف الهوايات ومتابعة الاهتمامات. أما العمر الرابع فهو حيث يعود الإنسان إلى الاعتماد على الآخرين مرة أخرى. 

  وتجد بعض الأدبيات في هذا الموضوع أنه حتى النصف الثاني من القرن العشرين كان الناس ينتقلون من مرحلة تحمل المسؤولية - العمر الثاني - إلى العجز والوفاة - العمر الرابع - دون المرور بعمر الراحة ومتابعة الهوايات والاهتمامات؛ فلم يظهر العمر الثالث إلا مع زيادة الوعي وتوافر فرص الرعاية الصحية والاجتماعية التي أدت إلى ارتفاع معدل الأعمار حول العالم. 

 

الجامعة‭ ‬البريطانية

  مع حلول الثمانينيات من القرن الماضي صدرت فكرة جامعة العمر الثالث إلى بريطانيا بمساعدة لاسليت، الأكاديمي بجامعة كامبريدج في ذلك الوقت، حيث استضاف مؤتمراً في جامعته عام 1981 لمناقشة إمكان جلب هذا النوع من الجامعات إلى بريطانيا. 

  ونجح المؤتمر في جذب انتباه كثيرين على رأسهم رائد الأعمال البريطاني مايكل يونج صاحب عديد من المبادرات المهمة كالجامعة المفتوحة. وساهم لقاء إذاعي قصير على محطة BBC مع مدير مركز سياسة الشيخوخة في العام نفسه في لفت الانتباه إلى الموضوع، حيث تلقى البرنامج مئات الرسائل المشجعة والمستفسرة. وقررت سيدة مهتمة بشؤون الكبار تخصيص غرفة في منزلها للرد على الرسائل، وتدفقت بعد ذلك المنح من جهات مختلفة. 

 

نموذج‭ ‬مختلف

اختلف النموذج الإنجليزي من جامعة العمر الثالث عن نظيره الفرنسي في كونه لا يتبع جامعة محلية، بل هو كيان حر يدار بصورة ديمقراطية مستقلة ويفتح أبوابه لجميع الكبار حتى يتعلموا ما يهمهم، تحقيقاً لأهداف تعليمية واجتماعية واسعة النطاق. 

وبدلاً من وجود مدرسين، يُعين قائد لكل مجموعة من أجل التنســـــيق والمساعدة على تنظيم الجهود. ولا يرتبط تمويل الجامعة بالتمويل العام حتى تتحرر من أي توجهات سياسية. 

وهكذا نشطت حركة جامعات العمر الثالث، وتسارع تأسيسها في أنحاء بريطانيا. كان بعضها يتقاضى عشرين جنيهاً كرسوم عضوية سنوية تُحصَّل من مئات الأعضاء. واكتفى بعضها الآخر بمبلغ أقل من ذلك، كجامعة لندن للعمر الثالث التي قدرت رسومها بأربع جنيهات نظير محاضرة أسبوعية. ولمواجهة مشكلات التمويل المتزايدة، حددت بعض الجامعات عمر الخمسين كحد أدنى للقبول، ورفعت أخرى رسومها إلى خمسين جنيهاً أو أكثر. 

 وتواصل انتشار النموذج البريطاني من جامعة العمر الثالث في بلدان أخرى كأستراليا، ونيوزلندا، والهند، وسنغافورة وجنوب إفريقيا. وتراوحت أحجام الجامعات ما بين الكبيرة التي تضم آلاف الدارسين، والصغيرة ذات الأفراد المحدودين الذين يتناوبون على الحضور في بيوت بعضهم. كما ظهرت نسخ افتراضية من هذه الجامعات لمساعدة الكبار المعزولين حتى يستطيعوا الوصول إلى المعلومات والتواصل مع زملائهم وقتما يشاءون بتكاليف زهيدة. وبادرت جهات أخرى ومواقع بتقديم خدمات مجانية لهذا النوع من الدارسين ومن الجامعات، مثل المساعدة في تنظيم الاجتماعات والمؤتمرات الافتراضية، وإدارة المواقع، وتوزيع النشرات الدورية، ودعم أعمال أرشفة الوثائق؛ كما هي الحال في موقع worldu3a.org. 

 

أستراليا

شهدت أستراليا انتشاراً واسعاً لحركة جامعات العمر الثالث في تسعينيات القرن الماضي. وزاد الطلب على المقررات الدراسية المعرفية ومقررات الحرف اليدوية والأنشطة الاجتماعية لمقابلة حاجات آلاف الكبار في ما يزيد على مائة مؤسسة تقدم الخدمة في أنحاء البلاد. أما أقدم الجامعات الأسترالية على الإطلاق فهي جامعة مدينة ملبورن التي بدأت في 1984 كمنظمة تطوعية. وتضم اليوم أكثر من 1500 عضو من المتقاعدين أو شبه المتقاعدين الذين قد تجاوزوا الخمسة عقود من العمر. 

وتوفر الجامعة ما يزيد على ثمانين مقرراً تقدم على مدار الأسبوع طوال العام الدراسي - من فبراير حتى نوفمبر - في محاضرات تمتد لساعة أو ساعتين، يعلن عنها في نشرة شهرية. وتتاح خدمة التسجيل على الخط وبالحضور الشخصي. وتفرض الجامعة بعض الشروط التنظيمية، مثل عدم السماح بالتسجيل في أكثر من مقررين لغة؛ أو التسجيل في مجموعتين من المقرر نفسه.  أما مدة العضوية فتحسب من بداية شهر أكتوبر حتى نهاية سبتمبر من السنة اللاحقة. ويمكن الحضور بعد ذلك حتى شهر ديسمبر مما يمد العضوية إلى 15 شهراً، ويتعين التجديد بعد ذلك. 

 

عضوية‭ ‬مدى‭ ‬الحياة

قدرت قيمة العضوية للعام الدراسي 2016/ 2017 في جامعة ملبورن بـ 65 دولارا, يحصل العضو بموجب المبلغ على حق التصويت والتسجيل للمقررات بلا قيود؛ بينما توجد شريحة أخرى أقل، عبارة عن 55 دولاراً للعضوية دون حق للتصويت مع مستوى أولوية أقل في التسجيل. هذا بالإضافة إلى عضوية مجانية تمنح لمنسقي المقررات أو اللجان من دون تصويت، ولا حضور للمقررات أو الفعاليات. 

ولا تُحصّل رسوم دراسية نظير المقررات، فيما عدا مقررات الكمبيوتر لمواجهة تكلفة غرفة التدريب المرتفعة. ورسوم رمزية تفرض أحياناً مقابل خدمات تصوير الورق، أو أي أنشطة اختيارية أخرى كالمنتديات الشهرية، والأنشطة الاجتماعية. ويمنح العضو بطاقة هوية تحمل رقمه الخاص. كما توجد عضوية مدى الحياة لمن يقدمون خدمات تطوعية مستمرة خلال الأعوام العشرة الأخيرة.

  وفيما يتعلق بالتطوع، توجد فرص متعددة من بينها التدريس وقيادة المجموعات المتخصصة، بشرط أن يكون من يقوم بالتدريس من ذوي الخبرة السابقة في الموضوع ومجتازاً لدراسة متخصصة في المجال. كما يقبل التطوع في أعمال التنظيم والإدارة والرد على الأسئلة، ومساعدة الناس على الالتحاق، أو في قسم البيانات أو البريد. هذا بالإضافة إلى اللجنة المتطوعة بمتابعة الشؤون القانونية ضمن إدارة تنتخب سنوياً. 

 

‭ ‬العمر‭ ‬الثالث‭... ‬حياة‭ ‬مبدعة

  تغطي مقررات جامعات العمر الثالث - عموماً - مدى واسعاً من الموضوعات العاكسة لاهتمامات الأعضاء، كالفنون واللغات والموسيقى والتاريخ وعلوم الحياة والفلسفة والكمبيوتر والأشغال اليدوية ولا تنتهي بامتحانات أو شهادات. ويمكن للجامعات أن تنظم مؤتمرات متنوعة تحمل أفكاراً رئيسة ذات علاقة بالعمر الثالث، مثل «العمر الثالث... حياة مبدعة وصحية» التي برزت كعنوان لمؤتمر عام 2017 بجامعة سيدني؛ على أن يتناول المؤتمر ما يمكن أن تتركه الفنون من آثار محسنة للصحة والسلامة المتعلقة بالحركة، ووظائف القلب والجهاز التنفسي، وتقدير الذات والثقة بالنفس، والعناية الشخصية والصحة الذهنية والمشاركة الاجتماعية.

 

علمني‭ ‬وسأعلمك

 تلهم مثل هذه التجارب التعليمية الثرية بفكرة التوسع في مقايضة المعرفة التي تعني مشاركة فرح التعلم ونشره، وقطف ثمار التعاون والتكافل والمساندة، ولاسيما مع تزايد أعداد المهمشين في العالم، وانحسار الموارد، وارتفاع معدلات التضخم وتكاليف التعليم التقليدي، حيث يمكن أن يتحول المعلم إلى تلميذ، ويرد التلميذ الجميل بتقديم خدمة أخرى، وتسود ثقافة الفوز المؤكد من دون صراع أو منافسة .